زراعة النّور في كون منشور
الطرقات العامة مرآة للدولة وللإنسان
د.سعاد الحكيم
كنت بصحبة عالمٍ عارفٍ في مدينة عربية شقيقة، فالتفتَ إليّ وأشار إلى لافتة وضعتها الدولة في مكان بارز من الشّارع العام وتحمل العبارة الآتية: القيادة علمٌ وفنٌّ وذوق. ثم قال: كلامٌ حقّ، والأوفق تقديم الذّوق، فالقيادة ذوق وعلم وفنّ، لأنّ استخدام النّاس للطّرقات يحتاج إلى الذّوق قبل أيّ شيء آخر.
نَقَرَتْ كلماته خزانة ذاكرتي، فتوالت صور شرائطها، واسترجعتُ عباراتٍ سمعتها من ابنتي وأحياناً من زوجي أو صديقة لي، عبارات تعبّر عن الاستياء من شخص وإدانته بقلّة الذّوق لأنّه تخطّى – مثلاً – بسيّارته الصفّ الطويل في زحمة سير كنّا فيها عالقين، أو لأنّه أوقف سيّارته في مدخل الموقف المخصّص لسيّارات بنايتنا وذهب لقضاء حاجته دون أن يترك ورقة أو يخبر أحداً عن مكان وجوده، أو لأنّه أوقف سيّارته على طرف منعطف فضيّق الطّريق على النّاس… مواقف عديدة يعلّق عليها الرّائي أو المتضرّر معاً، على الغالب، بعبارة: إنسان قليل الذوق. والذوق هو كلمة تدلّ، في ذهن القائل، على حسن التصرّف وعقلانيّته، على جمال الفعل ومباينته للقباحة، على اللياقات المطلوبة في التعاملات بين الناس، على احترام ذات الآخر واحترام مساحته في المرافق المشتركة.. باختصار، يدلّ على كلّ ما هو جميل وغير أنانيّ.
إنّ العناية بالطرقات العامة هي واجب رسميّ ومدنيّ؛ لأنّها المرآة التي تنعكس فيها صورة الدّولة والنّاس فيراها كلّ داخل إلى البلد. إنّ “النّظرة الأولى” على أيّ بلد من بلدان العالم، هي نظرة يلقيها الدّاخل عبر نافذة سيّارة تجاه الطّرقات العامّة. فإن رأت العين شوارع واسعة معبّدة، لا حفر فيها ولا تموّجات، وإشارات السّير الضوئيّة منتظمة والنّاس يلتزمون بها، واللوحات الإرشاديّة تدلّ أصحاب السيّارات على وجهة السّير نحو المناطق داخل المدينة وخارجها، والأرصفة والمستديرات نظيفة، والأشجار موزّعة بجماليّة على حافتيّ الطّريق، وورود منثورة بيد حكيمة حوالي الأشجار وفي الأحواض، تعطي للطّريق بهجة بألوانها المتعدّدة.. إن رأت عين الداخل إلى البلد هذه الصور الجميلة، كانت نظرته الأولى بداية حب، وبداية علاقة تبشر بالدوام على الأرجح.
والدّليل على أهمية الطريقات العامة في تكوين الصورة الأولية عن الدولة والناس في بلد ما، هو أنّه عندما يسافر قريب أو صديق إلى بلد لا نعرفه، فإنّنا نسأله عنه، وفي الغالب يبدأ من البداية؛ من أول شيء رآه، وأعطاه لمحة عن اهتمام الدولة والتزام الناس، يبدأ من الطّرقات العامّة.
ونتشارك في التفكّر في واجبات الدولة وواجبات الناس لتكون طرقاتنا امتداداً لبيوتنا، في العناية والنظافة والجمال وطيب الروائح، ونجعل مشاركتنا على فقرتيْن ، هما الآتيتيْن:
1 – واجبات الدّولة تجاه الطّرقات العامّة:
إنّ اهتمام الدولة بالطرقات العامة هو وجه من اهتمامها بالمواطن، لأن الاهتمام بالطرقات؛ بحسن رصفها وردم حفراتها، وبتسويرها بحافةٍ في المناطق الجبلية، وبوضع اللوحات الإرشادية، كل ذلك يخفف مخاطر الطرقات، ويسهّل على المواطن الوصول إلى وجهته في وقت معقول. ولعل من أولى واجبات الدولة أربعة أمور:
1″- تأمين الطرقات: إن العديد من حوادث السيارات يمكن تفاديه لو كانت الطرقات جيدة الصيانة ومضاءة ليلاً. فكم من حادث يروي السائق أنه بسبب محاولة تفادي حفرة في الأرض، أو يقول أحد الركاب أنه كان بسبب نظرة مطوّلة من السائق إلى شاشة تعرض الإعلانات..
لا يكفي أن يؤمّن كلّ صاحب نفوذ الطّرقات المؤدّية إلى بيته أو منطقته، فإن هذا لا يُعمّر بلداً.. ولكن الذي يعمّر البلد هو المساواة والتّوازن وجعل المواطن هو الهمّ الأول للدّولة.
2″- نظافة الطرقات: مرّ على بلادنا حين من الدّهر، كانت فيه تلال “النفايات” حديث العالم.. ولم يخجل مرّة أحد معارفي الأجانب عندما كنت أقلّه من المطار، أن يطلب منّي أن أريه تلال “النفايات” التي سمع عنها.. طبعاً، ولم يرها يوماً.
واستغرب كيف أنّ الدّولة العربيّة الإسلاميّة في بداياتها زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب كانت تدرك أنه من أولويات مهامها: نظافة الطرقات. أما اليوم، وفي عديد من الأماكن، نراها تهمل هذا الواجب الوطني والحضاري.. رويَ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنّه قدِمَ البصرة والياً فقال للنّاس: “إنّ أمير المؤمنين عمر (بن الخطاب) – رضي الله عنه – بعثني إليكم، أعلّمُكُم كتابَ ربّكم عزّ وجلّ، وسُنّة نبيّكم محمّدٍ صلى الله عليه وسلّم، وأنظّفُ لكم طُرُقَكم”.
3″ – إصدار قوانين السير الموافقة وتنفيذها: يعجب الإنسان اللبنانيّ عندما يذهب إلى أيّ بلد – عربي أو أجنبي – ويجد النّاس كافّة فيه ملتزمين بقوانين السّير، فلا أحد يرمي نفاية من نافذة سيارة، ولا سائق يتجاوز إشارة حمراء، أو يدخل عكس السير في شارع، أو يتجاوز عن اليمين، أو يزيد السّرعة على الحدّ المسموح، أو يتكلّم على هاتف جوّال.. لا فرق في ذلك بين وزير وعامل صغير، ويسأل عن حجم الغرامات والمخالفات فيجد أنّ الدّولة جعلته ضخماً للرّدع. ولكنّه يتعجّب أكثر عندما يعرف أنّ قوانين السير اللبنانية المنشورة تكاد تكون كاملة ونموذجية وموافقة للحال اللبنانية تماماً، ولكن للأسف ما إن تُطبّق يوماً أو يومين، في منطقة أو منطقتين، وما إن يبدأ الناس بالالتزام بالقوانين والارتداع عن المخالفات، حتى تنحسر موجة التّطبيق في جَزْرٍ يغيّبها في أعماق الماء.
ولا أظنّ أنه يوجد مواطن في بلد اليوم، كما في لبنان، يطالب إنسانه الدولة بتطبيق قوانين السير، ليس على نفسه ومن هم مثله فقط،، بل على الجميع ودون استثناء.. إن كل شيء في البلد هو مرايا صغيرة تعكس الواقع، فإن اصطلح الواقع حقيقة فإن المواطن سيدرك ذلك من أقرب مرآة إلى بصره.
4″- تجميل الطرقات: إن تجميل الطرقات من قبل البلديات بالورود الجميلة يجعل الإنسان مهيئاً للتصالح مع الدولة لأنها قدّمت له وردة أو باقة ورود.. وهل أجمل من أن يخرج الإنسان من منزله ليرى أن الشارع يستقبله بالورود.. تجميل الطرقات هي رسالة محبة من الدولة إلى المواطن، وأجمل لغة تُكتب بها رسالة هي لغة الزهور.. وأتمنّى أن لا يجرح براءة رؤيتي شخص يحمل ملفات تشكّك بكل شيء في البلد، حتى بزراعة وردة.
2- الدّين يحمّل الإنسان مسؤوليّة عن الطرقات العامّة.
تستطيع الدّولة ان تشكّل رادعاً خارجيّاً للإنسان بما تنصّ عليه من قوانين ، ولكن معظم القوانين تتعلّق بضبط السّير ولا تكاد تقترب بجدّية من العلاقات بين النّاس في الطّرقات . أمّا الدِّين ، فهو يذهب إلى أبعد من قانون السّير ، يذهب إلى إنشاء علاقة بين الإنسان وبين الطّرقات العامّة، وإلى ضبط العلاقات بين النّاس في الشّوارع ، ويحمّل الإنسان مسؤوليّة تجاه الطرقات .. فهو ليس مجرّد مستخدم لها ، بل هو فاعلٌ في صيانتها ونظافتها وجمالها وسلامة بيئتها، وهو محاسبٌ عن كلّ نظرة سوء وعن كلّ قول سوء لإنسان في الشّارع.. لقد بيّن الإسلام أنّ للطّريق حقوقاً على الإنسان واجبة الرّعاية .
ويبدو أنّ الجلوس في الطّرقات للحديث ، ليس اكتشافاً حديثاً تمظهر في مقاهي الأرصفة، بل هو غواية إنسانيّة تطلّ في كلّ زمان .. عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :((إيّاكم والجلوس في الطّرقات)). فقالوا:يا رسول الله ما لنا بدّ من مجالسنا نتحدّث فيها . قال:(( فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطّريق حقّه)). قالوا: وما حقّ الطّريق يا رسول الله ؟ قال:) (غضّ البصر،وكفّ الأذى، وردّ السّلام،وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر…)) وفي رواية ((غضّ البصر، وكفّ الأذى، وطيب الكلام)). هذا الحديث النبويّ الشّريف،وغيره الكثير في الموضوع نفسه ، يدلّنا على حقوق الطّريق على الإنسان ، وقد جمعها الإمام ابن حجر العسقلاني في أبيات شعريّة فبلغت أربعة عشر حقّاً، يقول :
جمعْتُ آدابَ من رامَ الجلوسَ على الطريقِ من قولِ خيرِ الخَلْقِ إنسانا
أَفْشِ السّلامَ، وأَحْسِنْ في الكلامِ، وشَمِّـتْ عاطساً، وسلاماً رُدَّ إحساناً
في الحَمْلِ عاونْ، ومظلوماً أَعِنْ، وأَغِثْ لهفانَ، إِهْدِ سبيلاً ، واهْدِ حيراناً
بالعُرْفِ مُرْ وانْهَ عن نكرٍ، وكُفَّ أذىً، وغُضَّ طرفاً، وأَكْثِرْ ذِكْرَ مولانا
هذه الحقوق للطّريق وهذه الآداب لا تبلغها القوانين الوضعيّة ، لأنّها لا تملك أن تأمرنا ـ مثلاً ـ بأن نعاون إنساناً في حَمْلٍ يحمله ، ولكن الدِّين يملك ذلك وقد أمرنا.. والحقوق التي يُطالب بها القاعد على الطّريق هي نفسها مطلوبة من السّائر والعابر. ونذكر منها:
1″- كفُّ الأذى عن الطريق :وهي تطالب الإنسان بأن يكفَّ أذاه عن الطّريق ، ويكفي الطّريق شرّه.. وهو يشمل كلّ أذى، صغيراً كان أو كبيراً ، من مثال : رمي الأوساخ ، استخدام بوق السيّارة بشكل مزعج وخاصّة في أوقات الرّاحة، إثارة الضجيج والضوضاء، وضع الآلات الكبيرة على طرف الشّارع ، التوقّف الفجائي ممّا يتسبّب بالحوادث.. وكلّ شيء يؤذي الآخرين في الشّارع .
2″ – إماطة الأذى عن الطّريق: إن وجد الإنسان شيئاً يتسبّب بالأذى في الشّارع سارع إلى إبعاده عن درب النّاس والسيّارات . من مثال : غصن شجرة في وسط الطريق ، أو علبة حديديّة ، أو أشياء وقعت من سيّارات محمّلة.
3″ – طيّب الكلام : إنّ طيّب الكلام في الشّارع هو أمر نبويّ ، ويشمل كلّ كلام بين اثنيْن. وهذا يعني ، أنّه إن تضايق السّائق خلفي من بُطئي في السّير مثلاً أو أرادني أن أخالف قانوناً ، وعبّر عن ضيقه بأن فتح نافذة سيّارته وأسمعني ما لا أحبّ ، فيتعيّن عليّ ألّا أغضب وألّا يتكوّن على لساني إلا طيّب الكلام..ونقول؛ كم الفرق شاسع بين ما تطالبنا به حضارة الإنسان من طيّب الكلام وبين ما نسمع في الشّوارع من أشخاص من طبقات إجتماعيّة متفاوتة من عبارات بذيئة ونابية ، ناهيك عن العنف إلى حدّ القتل الغضبيّ من أجل لا شيء.
4″ – معاونة النّاس : إنّ النّاس في الشّارع أغراب، عبارة عن وجوه لا أسماء لها ولا مراكز، ومع ذلك يطالبنا الدِّين بأن نهبّ لمعاونة من هو بحاجة للعون.. فإن وجدنا مثلاً شخصاً انقطعت به سيّارته في جانب الطّريق ، لا نهمله كأنّنا لم نره ، بل نفعل ما في وسعنا.. أقول هذا ، وأنا على علم بكلّ التحذيرات التي يتناقلها النّاس من عدم الوقوف لأحد يطلب مساعدة خوف أن يكون المشهد مزوّراً وفخّاً منصوباً.. ولا أملك إلّا أن أقول؛ رحم الله تعالى امرأً عربيّاً كان يقطع البادية بفرسه فرأى شخصاً يسير راجلاً ورآه يشير إليه طالباً أن يحمله إلى أقرب مكان فيه عمار، وافق صاحب الفرس. ولكن ما إن استقرّ الرّجل على الفرس حتى دفع بصاحبه عن ظهره ، ثمّ أراد الهرب. فقال له صاحب الفرس: رويدك،خذ الفرس ولكن لا تخبر أحداً بالقصّة حتى لا ترتفع المروءة من بين النّاس .
وأقول أخيراً ؛ إنّ الطّرقات العامّة هي مسؤوليّة كلّ إنسان في الوطن .. وهي مساحة لقاء بينه وبين مؤسّسات الدّولة ، فإن رأى مطلق خلل في الشّارع الذي أمام بيته أو في دربه إلى عمله ، فليكن إيجابيّاً ويتواصل مع البلديّة أو مع وزارة البيئة أو وزارة الأشغال العامّة، وليقوّم بيده ما يستطيع أن يقوّمه.