ذلك الطائر الطوّاف
بقلم: فوزية العلوي – تونس
وأنت تقرأ هذا المصنّف تجد نفسك منجذبا إلى سماوات وأرضين .. هائما في دروب وسهوب .. مطوّفا بين بحار وجبال وصحاري .. عابرا مدنا وقرى.. متوقفا عند محطّات.. مصغيا إلى أناس يتحاورون ويتجادلون.. متأمّلا الكاتب وهو يعتب مرّة وينصح أخرى يحتجّ مرّة ويشفق مرّة يدنو رحيما حينا وينأى مستاء حينا آخر ولعلّ هذا يعود إلى النظرة الكونية الكوسموبولوتيّة والرؤية الشمولية التي تحكمه .. فالكاتب تقوده عين بصيرة وقلب أكثر إبصارا حتى لكأنّه لا يستطيع أن يرى جسما أو ظاهرة.. أو تعبر بباله فكرة دون أن يعبّر عنها، لذلك يمكن اعتبار ما دوّن على تداخله وتشابكه وتتابعه وتقاطعه وتنائيه وتدانيه خلاصة تجربته مع الأنسان وأحواله والكون وتجلّياته والله وعظمته وقدرته جلّ جلاله.
ألم يستعر عبارة مولاي جلال الدين الرّومي ليمهر بها الكتاب وإن كان بيّن في بداية كتابه إنما استعارته للعبارة هي على سبيل الحلم لا على الحقيقة “كنت نيّئا فنضجت واحترقت“. فهو لا يدّعي أنّه بلغ مرحلة الاحتراق المضيء والذي تستصفى فيه الشعلة من الجمرة والنّور من الشّهاب، ولكنّه حتمًا تجاوز مرحلة الرّعونة والاندفاع والهوى والتقليد إلى مرحلة أكثر نضجًا ورصانة وحصافة وقدرة على التمحيص والتدبّر والتريّث والوقوف على الرّبوة حيث يرى القطيع دون أن يكون ضمنه .
لكأنّي بخالد الحلاّج كما أسمّيه دائما أو خالد محمد عبده كما يرسم اسمه في المراسيم أشبه في مسيرته هذه وفي سيرته الإنسانية والعلميّة والوجودية والذوقيّة بذاك الطّائر الذي تأتّت له من فرط ما طاف وجال وغاص وسمع ورأى وأصغى وأبصر وخلا بنفسه بعد أن اختلط بالنّاس قدرة ربّانية رهيبة جعلته يحلّق أبعد من المدى وأشهق من المسافة ليقف على قمّة وهميّة في نقطة كونيّ نورانية ومن خلالها طفق يتأمّل ويقيّم ويراجع ويتدبّر فرأى ما أراد أو أراد ما يريد رأى ما لا يحصى ولا يعدّ من الناس الرفيع والوضيع العاقل والجاهل المثقّف والأمّي الفصيح والعييّ الذكيّ والأحمق الصادق الطيّب والكذّاب الأشر ورأى من السلوكات ما يروق وما يخنق، رأى ذلك في أمصار شتى ومدن مختلفة وعادات متباينة ونوايا متنوّعة ولعلّ مدّة التأمّل تلك وإن كانت في عمر الإنسان لا تعدّ الا اعواما لكنّها بنور العقل والوجدان والذوق تعدّ سنوات ضوئية قادرة على اختزال الزمان والمكان .
عاد الطائر وقد امتلأت حوصلته بالدرّ والحصى بالتمر والجمر بالرّمل والتّبر وطفق يستخلص ويرتّب ويبوّب لذلك ما يمكن ملاحظته في هذا المصنّف هو طغيان الأنا ولسنا نعني بذلك كبرها وزهوها وخيلاؤها بل لأنّها تمثل الخيط الذي يخترق هذا الوجود فهو الذي يطوف وهو الذي يحلّل ويستصفي وهو الذي يشعرك أنّه لا يجد نفسه كثيرا في هذا الخضمّ البشري المتلاطم الذي يخلبه النور فيعميه دون أن يستفيد منه والذي يستوعبه العرضي ويعمى عن الجوهر والذي أمضى عمره في اللهث وراء السّراب دون أن يستفيد من حكمة الوجود وهو لئن قام بالشعائر والطقوس وتصوّر نفسه إنّما يؤدّي واجبه نحو الله وينجز المهمّة التي من أجلها بعث فإنه في واقع الأمر يأكل القشرة ويرمي اللبّ ويمسك بالحصاة ويعشى عن الجوهر .
إنسان يرى في الحجّ شعيرة وجاره يئنّ من مرضه وحاجته فلا يلتفت إليه ويصعّر خدّه لأخيه وصديقه ويمشي في الأرض مرحا وأكباد على قاب قبرين أو أدنى منه تتفطّر من الألم إن هذه السلوكات المعلّبة البعيدة كلّ البعد عن إيقاع الطبيعة الأولى ببساطتها وعمقها وقناعتها وقنوتها ورضاها هو ما جعل الأنا الكاتبة والعالمة والحالمة والشاعرة والتائقة إلى الاحتراق تتعالى أحيانا عن هذا الخضمّ المتلاطم الذي غلب زبده ما ينبغي أن يمكث في الأرض لينفع الناس نفعا.. تفهمهم أنّهم عابرون لذلك وجب أن يتركوا في الأرض ما يدلّ عليهم من أقباس النور وأعذاق الرّحمة وتفهمهم أنّه ليس من الحكمة بناء القصور على الجسور وإقامة الدّور على مقربة من القبور .شكرا لخالد الحلاّج لأنّه جعلني أحلم بطيران كونيّ يمكّنني من إدراك ما في نفسي من رعونة ورطوبة طينية مسنونة عسى المسافة تجعلني أجفّ أنضج بانتظار احتراق ولو في الحلم .