زراعة النّور في كون منشور
الصّدق في القول والعزيمة
بقلم: د. سعاد الحكيم
إنّ الصّدق هو الحجر الأساس في البنيان الأخلاقي الإنساني، فلو تحلّى شخصٌ – مثلاً – بالعديد من المآثر الاجتماعية المحبّبة للناس كالكرم والتّعاون والبشاشة والتسامح وغير ذلك، ولكنّه في المقابل إن ضغطت عليه ظروفٌ [مادية أو معنوية] كَذَبَ في حديثه، أو أخلفَ في وعده، أو ادّعى من ذاته ما تكذّبه الوقائع.. تُرى ماذا يبقى من تقدير النّاس لهذا الشخص؟! وهل يحرصون على معاشرته وصحبته وجعله جزءاً من حياتهم.. أم يوقفونه عند أعتاب حياتهم، يتفكّهون معه لحظات، ولا يعوّلون عليه في بناء صرح وجودهم؟!
ومن خطورة الصّدق، وشرطيته في التصديق والإيمان.. أخبرنا تعالى عن صفة كلامه، يقول عزّ وجلّ: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً﴾ [النساء 87]، ويقول عز وجل: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾ [النساء 122].
يقول الخليفة الراشد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه واصفاً الحبيب المصطفى صلوات الله عليه: كان رسول الله أجودَ الناسِ كفّاً، وأشجعَ الناس قلباً، وأصدقَ الناسِ لهجةً، وأوفى الناسِ بذِمَّةٍ، وأكرَمَهُم عشرةً، يقول ناعتُهُ صلوات الله عليه: لم أرَ قبلَه ولا بعدَهُ مثلَهُ.. كما أنّ صدق سيدنا رسول الله عليه صلوات الله أشرق بين أهل مكّة المكرّمة قبل ظهور الرّسالة المحمدية الخاتمة، حتى صار له اسماً ولقباً يُعرف به بين قومه: الصّادق الأمين. فإن قيل «الصّادق الأمين» [بالتعريف لا بالتنكير] لم يذهب الذّهن إلّا إلى شخص رسول الله عليه صلوات الله..
وقد أمر تعالى الإنسان المؤمن بأن يكون صادقاً وأن يعيش ضمن سِرْب الصّادقين، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة 119]. ونبّهنا سيدنا رسول الله عليه صلوات الله على أن الإيمان والكفر، وأيضاً الصدق والكذب، لا يجتمعان في قلب امرئٍ.. وأن المؤمن يُطبع على الخِلال كلِّها إلا الخيانة والكذب. يقول صلوات الله عليه معلّماً المؤمن حكمة الدنيا والدين: ((أربع إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظُ أمانةٍ، وصِدقُ حديثٍ، وحُسْن خَليقَةٍ، وعِفَّةٌ في طُعْمَة)).
ولكن هل يستطيع الإنسان، في هذا الزمان وفي كل زمان، أن لا يكذب أبداً منذ لحظة ولادة وعيه وعقله وحتى مفارقته لمعترك الحياة؟ يبدو أن الجواب هو: نعم يستطيع. وإن الصدق هو في مقدور البشر، وهو ما وصل إلينا من أخلاق آل البيت الطاهرين والصحابة المطهرين ومن لحق بهم من خواص المخلصين، يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز، وهو صادق: «ما كذبتُ كذبةً منذ شددتُ عليّ إزاري».
الآن، وبعد أن تقرّر أنّ الصّدق في مقدور البشر، نلتفت إلى هذا الخُلُق الشّامخ لنتعرّف على ماهيته ومواطن فعله.. وبالنظر إلى كل ما توافر لنا من إرثٍ ثريّ حيّ، نجد أن الصدق أكثر ما يتوجب في أربعة مواطن، ينظمها مساران: مسار الصدق في القول ويشمل موطنين (الخبر والدّعوى)، ومسار الصدق في العزيمة ويشمل موطنيْن (الوعد والعهد).. وفيما يأتي نرسم بإجمال هذه المواقف الأربعة التي ينظمها الصدق في مساري؛ القول والعزيمة:
1 – الصّدق في الإخبار
يهوى معظم النّاس رواية أخبار حياتهم ورحلاتهم ومغامراتهم وانتصاراتهم في العلاقات مع رؤسائهم وزملائهم؛ وربما لمزيد الإمتاع – أو لحاجاتٍ في نفوسهم – يبالغون أو يزيّنون أو يخترعون.. وفي أحسن الأحوال؛ وحتى وإن لم يعزموا على الكذب وإنما سرقتهم اللحظة وجلال السرد فبالغوا وزخرفوا القول، فإن رواياتهم وإخباراتهم – على براءَة النية أحياناً – هي من جنس الكذب، لأنها حديث لا يطابق الواقع.
أما الأخبار الكاذبة التي تتناقلها الشائعات، فكذلك يُعتبر كل شخصٍ ناقلٍ لخبرٍ ناشراً له، وبالتالي فهو في زمرة الكاذبين.. وخطورة الأخبار الكاذبة عديدة ومعروفة للنّاس، لأنّه – تقريباً – لا يوجد شخص لم يتضرر بخبر كاذب عن صاحب أو صديق أو زوج أو رئيس وغير ذلك.
ومن الأمثلة القرآنية على الأخبار الكاذبة هو ما حدّث به أولاد يعقوب أباهم عليه السلام، حين رجعوا من نزهتهم دون يوسف عليه السلام. يقول تعالى ذاكراً إخبارهم الكاذب: ﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ* وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ [يوسف 17 – 18].
إن الكذب في الإخبار يتسبب أحياناً بدمار إنسان، وإن تفشى فإنه يتسبب بخراب مجتمع.
2 – الصّدق في الإدّعاء والزّعم
إنّ الادّعاء هو أيضاً من جنس الأقوال، وهو لا يحدّث عن خبرٍ جرى، ولكن عن شيء مكنون في النفس أو عن معلومة غائبة عن الناس. فنتلفت حولنا بحثاً عن أنواعٍ من الادّعاءات والمزاعم، فتقع في سمعنا عبارات يقولها واحد لواحد أو يقولها لجماعة؛ من مثال: أنا أحبك، أنا أريد لك الخير، أنا ناصح لك، أنا أَنْزَهُ الموظفين في عملي، أنا أفضل والد يمكن أن يحظى به ولد، أنا مقرّب من الله يحبني وسيغفر لي.. عبارات كثيرة تكشف عن وجود أحاسيس وقناعات لدى الناس. ولكن هل هذه الأحاسيس المعبّر عنها بالأقوال موجودة فعلاً في قلب الإنسان أم هي مجرد مزاعم، وهل هذه القناعات صادقة أم مجرد أوهام وأماني؟!
يخبرنا القرآن العظيم في عشرات من آياته الكريمات، عن فئات من الناس يزعمون قرباً من الله سبحانه، ليس مجرد قرب عام ولكنه قرب خاص وحصري، وأن هذا الزعم ليس صحيحاً وعاجز عن تقديم البرهان؛ ومنها: قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة 111 – 112]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الجمعة 6].. نلاحظ من هاتيْن الآيتيْن الكريمتيْن ومن مثيلاتهما في القرآن العزيز أنّ من يدّعي أمراً يُطالب بالبرهان.. إذن، إنّ الإحساس المكنون في صدر الإنسان أو القناعة القارّة في عقله ليسا من جنس الحقائق الثابتة ولكنهما يظلان في دائرة الادّعاء والزّعم والظنّ والوهم حتى تُسلّط عليهما نار الوقائع فيظهر معدنهما؛ ذهباً خالصاً أو غباراً لا قيمة له.
ومن الأمثلة القرآنية على الادّعاء الكاذب، يُلفتنا ادّعاء امرأة العزيز أن نبي الله يوسف عليه السلام أراد بها سوءاً، وردّ يوسف عليه السلام بأنها هي التي راودته عن نفسه.. إذن، إنّ السّامع أمام قوليْن متضادّيْن؛ فأيّهما الصّادق وأيّهما الكاذب؟ هذا ما كشف عنه ذاك الشخص الذي كان شاهداً من أهلها. يقول تعالى: ﴿وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف 25 – 27].
ومن طرائف الروايات عن السيدة رابعة رضي الله عنها، أنّ جماعة من أصحابها العبّاد والزهّاد تحدّثوا في مجلسها عن الصّدق في محبة الله، ومتى يكون من يدّعي محبة الله صادقاً. فقال أحدهم: ليس بصادقٍ في دعواه مَنْ لم يصبر على ضرب مولاه (أي محبوبه وهو الله تعالى)، فقالت السيدة رابعة: هذا غرور. وقال ثانيهم: ليس بصادق في دعواه من لم يشكر على ضرب مولاه. فقالت رابعة: هناك ما هو خيرٌ من هذا. فقال ثالثهم: ليس بصادقٍ في دعواه من لا يتلذّذ بضرب مولاه. فصاحت رابعة: هناك أفضل من هذا. فقالوا لها: تكلمي أنت إذن، فقالت: ليس بصادقٍ في دعواه من لم ينسَ الضرب في مشاهدة مولاه. وأقول؛ إن كلام السيدة رابعة يدلّنا على أنّ برهان المحب على صدق حبّه هو أنه لا ينشغل بما يفعل به محبوبه وبأثر ذلك على ذاتيته، لأنّه ترك نفسه وأقبل على ربّه، فسجدت عيون قلبه في محراب محبوبه، لا تشهد سواه.
3 – الصّدق في الوعد
سهلٌ على معظم الناس توزيع الوعود على الآخرين، وغالباً ما نعدُ شخصاً وعداً وننوي أن نفي به ولكن تأخذنا أمواج الحياة عالياً وبعيداً وننسى في لجّة الالتزامات ما كان من وعد.. وهذا يحدث مع جلّ النّاس؛ فهذا مفكّر يعد صديقاً بأنه سيرسل إليه بحثاً أو كتاباً، وينسى.. وذاك والدٌ أو والدةٌ تعد طفلها بشيء وتنسى، إن لم يذكرها الطفل ويطالبها بالوفاء بوعدها.. وغير ذلك من أمثلة موجودة حولنا.
هذه الوعود البريئة الآيلة للنسيان، وإن لم تكن خطيرة وضارة ومع سبق النية بالإخلاف، إلا أنها من جنس الكذب، وتعرّض صاحبها لأن يكون من الذين لا يفون بوعودهم.. لذا، يتعين على الإنسان عندما يعطي وعداً لآخر، خصوصا إن كان في نيته الوفاء به، أن يُشْرِك هذا الآخر في مسؤولية الوفاء بالوعد، فيطلب منه أن يذكره إن نسي، برسالة مكتوبة أو صوتية.. وهذا سهل اليوم.
ومن الروايات التي توقظ القلب وتتركه واقفاً في ميدان التفكُّر، ما رواه الصحابي عبد الله بن عامر، قال: «جاء رسول الله عليه صلوات الله إلى بيتنا وأنا صبي صغير، فذهبتُ لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعالَ حتى أعطيك. فقال صلوات الله عليه: ما أردتِ أن تعطيه. قالت: تمراً. فقال صلوات الله عليه: أما أنك لو لم تفعلي لكُتبتْ عليك كذبة».. رواية مجدولة بالعبر؛ امرأة تحرص على أن يقعد ولدها معها في حضرة الحبيب الأعظم صلوات الله عليه ليستقبل قلبه الصغير فيض الأنوار ودفق الرّحمات، فتغريه بالعطاء.. ومع ذلك، ورغم نبل المقصد إلا أنّ كلّ وعد نعطيه وكلّ كلمة نقولها، هي في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعمالنا.
ومن أخطر الأمور الناتجة عن عدم الوفاء بالوعد، أن الآخر الموعود قد يكون في حال انتظار وترقُّب، مع ما يصحبه هذا الحال من قلق وضيق وأمل وخيبة.. وقد أثنى تعالى على رسوله إسماعيل عليه السلام بأنه صادق الوعد، وهو الذي وعد أباه إبراهيم عليه السلام بأنه سيكون من الصابرين عندما يفعل ما أُمر به من ذبح ولده. يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ [مريم 54].
4 – الصّدق في العهد
إن كانت الوعود مرسلةً بين الناس، تجري على ألسنتهم بسرعة أحياناً ودون وقفة تفكُّر وتفكير، إلا أن العهود تأخذ في الغالب رتبة الوثائق المكتوبة أو الشفاهية. ومن هنا نرى العهود والمواثيق العالمية بين الأمم في السلام والحرب، وفي العلاقات الدولية، وفي إرساء منظومات حقوق خصوصا للضعفاء والمهمشين. ونرى أيضاً المواثيق الاقليمية والمحلية.. كما أن كل إنسان له الحق في أن يبرم عهداً بينه وبين إنسان آخر، ويكون هذا العهد كتابة أو شفاهية.. كالعهود بين الأزواج وبين الأصدقاء وبين المتآخين في قضية. وقد حذّر الإسلام الإنسان من عدم الوفاء بالعهد الذي يعطيه على نفسه، وعَدّ فاعل ذلك: غادراً. يقول تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء 34]. ويقول سيدنا رسول الله عليه صلوات الله: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)). وينبّه صلّى الله عليه وسلّم المسلم من أنّ الغدر بالعهد هو خصلة من النّفاق، يقول صلوات الله عليه: ((أربع خِلال من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً: من إذا حدّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أخلف، وإذا عاهَدَ غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَر…)). كما أوضح الصّادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم أنّ العهد واجب الرعاية من زمن إبرامه إلى انتهاء مدّته أو إعلان نبذه، يقول صلوات الله عليه: ((من كان بينه وبين قوم عهدٌ، فلا يَشُدَّ عقدةً ولا يَحُلُّها حتى ينقضي أمَدُها أو ينبذ إليهم على سواء)).
وختاماً أقول:
إن الكلام على الصدق لا يكتمل معناه حتى نضعه في موازاة ضدّه وهو: الكذب. وحتى نتفكّر في ثلاثة أسئلة ملزمة منطقياً وهي: هل يأذن الشرع بالكذب؟ هل هناك كذب أبيض وكذب أسود؟ ولماذا يكذب الإنسان؟
أسئلة ثلاثة ننثر حروفها في فضاء التفكّر، على أمل أن نجمعها في لقائنا غداً بإذن الله.