زراعة النّور في كون منشور ..
اقتلاعُ نوابت الكذب في الخلق
بقلم: د. سعاد الحكيم
من المقولات التي سارت بين الناس، مقولة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: «لكل شيء آفة، وآفة العلم النسيان».. وننظر إلى الخُلُق في الإنسان لنتحرّى عن آفته فنرى أنها الكذب، ولذا نقول: إنّ آفة الخُلُق الكذب، فهو في جوانية الإنسان كالنوابت السامّة في الأرض التي تطغى على أي زرع طيب، أو هو كمَثَل حشرة الأَرَضَة (دابة الأرض) التي تأكل مادة الشيء وتجعله خواء.. وقد بيّن سيدنا رسول الله عليه صلوات الله؛ للمؤمن أنه أمام دربين: واحدهما إلى الجنة وينطلق من الصدق، وثانيهما إلى النار وينطلق من الكذب. يقول المعلّم الأعلم صلوات الله عليه: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنة (…) وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار). صدق سيدنا رسول الله عليه صلوات الله، فمن مشاهداتنا لأحوال عصرنا نرى أن الكذب إن كان ديدناً وعادةً لشخصٍ فإنه يقلّبه في نار الدنيا قبل الآخرة؛ وذلك بتصنيفه كذّاباً في أعين المحيطين به، وبحرص الأهل والمعارف على عدم عشرته إن استطاعوا، أو بالتوقي في عشرته إن اضطروا لذلك.. عن ابن مسعود رضي الله عنه عن سيدنا رسول الله عليه صلوات الله أنه قال: (لايزال العبد يكذب، ويتحرّى الكذب، حتى يُكتب عند الله كذّاباً).. ومتى كُتب الشخص عند الله كذّاباً، فإنّه – حُكماً – سيكتب بين الناس كذّاباً.
إن الناس أنواع شتى في التملُّص من الكذب وتحرّي الصدق: فمنهم من يصرّ على الصدق غير ملتفت لشيء أو لإنسان، ومنهم من يفتي لنفسه كذبات على قاعدة أنه لا يضر بها أحداً، ومنهم من يصدق معظم الوقت وفي مجال حياتي ولكنه يكذب في أوقات وفي مجال العمل والسوق.. باختصار، الناس أنواع كثيرة.. ونأمل أن نجمل خبرتنا البشرية المشتركة في الصدق والكذب في الفقرات الآتية:
1 – هل هناك كذبٌ مشروع؟
إنّ الكذب لا وَجْه له من الشرع مطلقاً، بل مَنْعه والتحذير منه هما القاعدة، وهو محرّم لأنه آفة أخلاقية تُضرّ الكاذب والمكذوب عليه.
وعلى الرغم من أن القاعدة في الكذب هي التحريم، إلا أن سيدنا رسول الله عليه صلوات الله عند تبيّنه للناس أمور دينهم، وتعليمهم تنزيل الأحكام الشرعية في حياتهم البشرية، أشار إلى موضعين [القتل والصلح] يُرخّص للمؤمن فيهما الكذب، ولكن بشروط. أهم هذه الشروط – في مفهومنا – شرطان لازمان: الأول، أن يكون كذب الإنسان لمصلحة الغير لا لمصلحة نفسه. فلا يوجد في النصوص التي ترخّص «قولة كذب»ما يشير إلى أنه يمكن للمرء أن يكذب لينجو بنفسه.. ولكن يرخص له بأن يكذب حتى لا يعرّض بقولة الصدق البيانية حياة إنسان آخر للخطر، أو يعرّض علاقة إنسانية بين طرفين للدمار.
الثاني، أن يعرف الإنسان أن موضع ترخيص الكذب يبيح له أن يقول كل ما ينمّي الخير بين الناس.. وذلك بحسن استخدام الكلام، وبتركيزه على ما هو إيجابي وصادق، دون اللجوء إلى الكذب الصريح والافتراء أي اختلاق أقوال وأفعال لم تصدر من الشخص المحميّ بالكذب. يقول سيدنا رسول الله عليه صلوات الله: (ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس، فينمّي خيراً، أو يقول خيراً). يدلّنا صلوات الله عليه بهذا الحديث الشريف على أن الكلام في الصلح الذي يُشرَّع أن يكون غير مطابق للواقع، هو واحد من اثنين: 1) قول ينمّي الخير الذي نعرفه عن المتخاصمين، أي يضخّمه ويؤكد عليه. 2) قول الخير الذي نعرفه عن الطرفين المتخاصمين والسكوت عما نعرف من الشر.
2 – التهرُّب من الكذب
يلجأ ـ عند الحاجة الملحّة ـ كثيرٌ من الناس، وخاصةً الصادقون والحريصون على الصدق في كل قول، إلى التهرّب من الكذب بالتصرُّف في الكلام، فينتقي ألفاظاً توهم المتلقّي بمعنى وهو يريد معنى آخر. يقول محمد بن سيرين رضي الله عنه: «الكلام أوسع من أن يكذب فيه ظريف».
ومن تاريخنا الإنساني الثري نقتطف رواية، قد تتكرر في بيوتنا بألوان مختلفة ودرجات متفاوتة.. روي أن الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، كان عاملاً للخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رجع إلى امرأته قالت له: ما جئتَ به، ممّا يأتي به العمّال إلى أهلهم؟ وما كان قد أتاها بشيء. فقال: كان عندي ضاغطاً [أي رقيباً]. قالت: كنت أميناً عند رسول الله عليه صلوات الله، وعند أبي بكر رضي الله عنه، فبعث عمر معك ضاغطاً؟! وقامت بين الناس تشتكي عمر (رضي الله عنه). فلما بلغه ذلك دعا معاذاً، وقال: بعثتُ معك ضاغطاً؟ قال معاذ رضي الله عنه: لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك. فضحك عمر رضي الله عنه وأعطاه شيئاً وقال: أرْضِها به. والشاهد: أن الصحابي الجليل معاذ رضي الله عنه عندما قال «ضاغطاً» بشكل مبهم دون تحديد، كان يريد الله تعالى، أما زوجته فقد فهمت من الضاغط: الرقيب من البشر.
إنّ التهرُّب من الكذب هو موضوع مطروح في أوراق سلفنا الصالح، ونحسب أنهم فيه على فريقين:
ـ فريق يبيح للمرء التهرُّب بشكلين: أن يكون كلامه مبهماً يوحي بشيء وهو يضمر شيئاً آخر. أو أن يحوي كلامه جزءاً من الواقع ويخفي الجزء الذي لا يريد أن يكذب فيه.
ـ فريق يصرّ على نقل الواقع بصدق وحرفياً، ومهما كانت النتائج. يقول الإمام الجنيد البغدادي: «وحقيقة الصدق أن تصدقَ في موطنٍ لا ينجّيك منه إلا الكذب».
وخلاصة الكلام هنا؛ أنه يتعين على المرء أن يعرف أن قول الصدق هو الواجب الشرعي والأخلاقي، وأن كل خروج على الصدق فهو بمثابة قرار شخصي يتحمّل مسؤوليته.. وهذا القرار هو من جنس: الاجتهاد والفتوى في الدّين.
3- الكذب على الذات
من الأشكال المحزنة للكذب هو الكذب على الذات. وربما نعترف، بأن كل إنسان – إلا ما ندر – يكذب على ذاته، فيجمّل صورته في عين نفسه وهو لا يشعر. ولعل وجود شيء من التجميل لصورة الذات في عين صاحبها، هو ضروري ومعين لمتابعة معركة الحياة. وكثيراً، ما نعجب من شخص يتكلم – في محضر الناس – عن ذاته ويضفي عليها كل الأوصاف المشتهاة، وقد نتساءَل: هل حقاً يرى نفسه كذلك؟ وقد نشفق ونقول: الحمد لله أنه يرى نفسه بهذه الصورة وإلا لما تمكّن من مواجهة الحياة والمجتمع وما بقي من العمر.. باختصار، إنّ مسألة الكذب على الذات هي مسألة شائكة، وكلٌّ منّا يتذوّق من هذا الكأس ولو رشفةً، لأن أحكام المرء على ذاته تختلف عن أحكامه على الآخر، وحنوّه على ذاته يختلف عن حنوّه على الآخر.
وفي سياق اكتشاف القدر الحقيقي للذات والواقع الحقيقي لها، أبدع سلفنا الصالح من الصوفية عملية: المراقبة. أي أن ينظر المرء في ذاته بعين الرقيب عليها، فيتحقق من كون أقوالها أو ادعاءاتها مطابقة لحقيقتها، ثمّ لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويتفحّصها، حتى تنعكس في عين رقابته الشخصيّة الصورة الحقيقية لذاته الإنسانية.
ويقدّم لنا التاريخ المعاصر، صورة غير مسبوقة لعملية إدراك الذات على ما هي عليه في حقيقتها. ولكن هذه المرة ليس الموضوع هو «الأنا» الفردية بل هو «نحن» الجمع. لقد أبدع الفكر الدندراوي آلية للتحقق من المطابقة بين الصورة المبثوثة للناس عن جمع الأسرة الدندراوية وبين الواقع لهذا الجمع والمتحقق على الأرض. ومن أجل ذلك تُفرد ليلةٌ كاملة في المؤتمر السنوي تتم فيها هذه المراجعات، وتسمّى: ليلة الوقفة مع الذات.
وأقول؛ إنه من الخطورة بمكان أن تتم عملية الرقابة الذاتية أو الرقابة الجماعية بسلبية وقسوة، أو بتسليط الضوء على الإخفاقات والانتكاسات، أو بالإعراض عن الإيجابيات والإنجازات.. لأن ذلك يكون سيراً في الاتجاه المعاكس، بعيداً عن العدل المطلوب لإقامة الصورة الحقة للذات في عين الذات.
4- لماذا نكذب؟ وكيف نحمي أنفسنا من الكذب؟
إن الإنسان إذا عُرف بالصدق في محيطه، فإنّه يصدّقه الناس حتى في المواطن التي لا يكونون فيها شهداء على صدقه، أو عندهم دليل على ذلك. لكأن يقينهم من أنه رجل صادق يقوم مقام الشهود أو الدليل.. ومع ذلك، فقد يستكبر المرء – ويتحرّج شرعاً – من أن يشهد لمصلحة رجل يعتبره صادقاً، في حق من حقوق الناس. كأن يشهد لمصلحته – مثلاً – بأنه أرجع دَيْناً إلى فلان دون أن يتحقق بنفسه من إرجاع الدَيْن.
نورد هذا لنقول؛ إن هذه الشهادة لا تكون حقاً وشرعاً وعقلاً وخلقاً إلا لشخص رسول الله عليه صلوات الله. فهو صلوات الله عليه لا يقول إلا الحق، وبالتالي فإن قال شيئاً فهو الحق. ومن السيرة النبوية الطاهرة؛ نعرف أن سيدنا رسول الله عليه صلوات الله ابتاع فرساً من أعرابي، واسْتَتْبَعَه ليقضيه ثمن فرسه. أسرع رسول الله عليه صلوات الله المشي وأبطأ الأعرابي، فجعل رجالٌ يعترضون الأعرابي ويساومونه بالفرس لا يعلمون بأن رسول الله عليه صلوات الله ابتاعه. وربما طمع الأعرابي فأنكر بيعته الفرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: لا، والله ما بِعْتُكَهُ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى، قد ابتعته منك. فطفق الأعرابي يقول: هَلُمَّ شهيداً. هنا، قال الصحابي خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعتَهُ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما حملك على الشهادة ولم تكن معنا حاضراً؟)) فقال: صِدْقُكَ بما جئت به، وعلمتُ أنك لا تقول إلا حقاً.
ومن الآن وحتى نتحلّى بصدقٍ يجعل الصاحب والعشير يصدّقنا غيابياً.. نلتفت إلى أعماقنا ومواقف حياتنا، للبحث عن معوقات الصدق. وأجملها في موقفين هما أمهات الدوافع للكذب:
1- الخوف من العقاب.. ويظهر هذا الخوف الباعث على الكذب في صورته البدائية عند الأطفال، فيكذبون على الأهل ليتجنبوا التوبيخ أو القصاص. والأطفال درجات في اقتدارهم على الكذب وتنفيذه.
كما يظهر في صورٍ أكثر تعقيداً؛ في كذب الزوجين على بعضهم البعض (كذب أبيض أو أسود)، أو في كذب الأصدقاء أيضاً على بعضهم البعض. وكل ذلك يدلّ على أنّ المرء الكاذب هو خائف من تلقي نتيجة عمل قام به أو عمل أهمله.
والحل شبه الوحيد هو: الحوار للتأكد من أن العلاقة سليمة وليست مريضة. ثم مساعدة الذات والآخر على أداء الحقوق والواجبات، والتمكّن من تحمّل مسؤولية الأفعال.
2- الطمع في الربح المالي.. عديدٌ هم التجّار، الذين يصدقون في علاقاتهم الحياتية، الخاصة والعامة، ولكن ما إن يدخلوا السوق تتغير أخلاقهم. وهذه القطيعة بين الحياة وبين السوق موجودة منذ فجر البيع والشراء ولا يخلو منها مجتمع في كوكب الأرض، إلا قلة نادرة تظل هي هي؛ في بيتها، وفي محيطها البشري، وفي «دكّانها»، أو «كرسيّ» منصبها. يقول سيدنا رسول الله عليه صلوات الله: (إن التجّار هم الفجّار) فقيل: يا رسول الله، أليس قد أحلّ اللهُ البيع؟ قال: (نعم، ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدّثون فيكذبون).. ويُقاس على هذا الربح المالي.. كل كذب لمصلحة اقتصادية.
والحل شبه الوحيد ـ من منظورنا ـ لسدّ منابع هذا الكذب، هو أن يستقر في يقين المرء أنه لا مانع لما أعطى الله تعالى، ولا معطٍ لما منع الله تعالى؛ فالرزاق هو الله تعالى، والإنسان يعمل ويسعى دوماً دون أن يسلك في سعيه على الرزق دروب الكذب والغش. كما أننا نحثّ التاجر على النظر حوله في السوق، فهو حتماً سيرى أن التاجر الصادق ـ وعلى المدى البعيد ـ هو الذي يبقى وتنمو تجارته.