الدّيمقراطيّة الرّوحيّة: مراجعة لمقالة “الاجتهاد” عند محمّد إقبال

الدّيمقراطيّة الرّوحيّة: مراجعة لمقالة “الاجتهاد” عند محمّد إقبال

رضا حمدي[*]

 

الملخص

تبحث هذه الورقة في دعوة محمّد إقبال إلى إعادة الاعتبار لمبدأ الحركة في الفكر الإسلامي، بوصفه مبدأ قرآنيّاً أساسيّاً. ويعدّ الاجتهاد التجسيد الفعلي لمبدأ الحركة في مجال التفكير الفقهي. وقد لاحظ إقبال، في استعراضه لصفحات من تاريخ مفهوم الاجتهاد، أنّه كان الأداة المثلى لتجديد الفكر التشريعي الإسلامي. ويقتضي إحياء العمل بالاجتهاد اليوم إعادة النظر في مبادئ أصول الفقه وفروعه. وقد أدّاه النظر في فروع الأحكام الفقهية إلى الكشف عن ممكنات التجديد فيها، خاصّة في الجانبين السياسي والاجتماعي، وذهب في مراجعة الأصول إلى إبراز ما فيها من مرونة عالية، تؤهّلها لاستيعاب القضايا التي يواجهها المسلمون المعاصرون، والاجتهاد وحده كفيل بتحرير هذه الطاقات الإبداعية، لا لتجديد الفكر الإسلامي فحسب، بل لمعالجة أدواء الحضارة المعاصرة كذلك.

 

مقدّمة

مثّلت الدّعوة إلى إعادة تفعيل مبدأ الاجتهاد، محوراً مركزيّاً في تفكير محمّد إقبال، فقد رأى هذا المفكّر أنّ مهمّة تجديد الفكر الإسلامي لا تكتمل دون إحياء فكرة الاجتهاد، وتجد هذه الدّعوة سندها الأوّل في أصالة هذا المبدأ الذي أقرّه العقل الفقهي الإسلامي منذ تاريخه المبكّر، واليوم يكتسب القول بالاجتهاد كامل وجاهته من الحاجة الرّاهنة إلى الاستثمار في عقول الخلف؛ لمواجهة ما تحوج إليه ضرورات العصر، وفي ضوء هذا نفهم سرّ تعلّق محمّد إقبال بفكرة الاجتهاد وحرصه على بثّ روحها في صفوف المسلمين.

والتّعريف بمضامين الدّعوة إلى إعادة تفعيل الاجتهاد هو محاولة لاستيعاب الدّرس الإصلاحي الذي سطّره محمّد إقبال لعموم المسلمين في أواخر النّصف الأوّل من القرن العشرين، والذي يجعل من إقبال معاصراً لنا اليوم. إنّ مشروعه الفكري الطّموح، والقائم على تجذير النّقد، ومن ثمّ إعادة البناء على قواعد متينة، لا يزال في مقدّمة جدول أعمال المفكّرين المسلمين، ولا شكّ في أنّ ما يرشّح هذه المقاربة لتكون دليل عمل للمسلمين في المدى المنظور أنّها تجاوزت عقم التّفكير السّائد الغارق في الثّنائيّات العقيمة؛ إذ نجح إقبال في تأليف رؤية متكاملة ومنسجمة يتجاور فيها الحدس مع العقل والفلسفة مع الدّين والرّوح مع المادّة.

ويحوج الخوض في هذا الإشكال، إلى مراجعة إستراتيجيّة إقبال في تطويع مبدأ الاجتهاد لإثبات شرعيّة فعل التّجديد في الفكر التّشريعي، وتقتضي هذه المراجعة التّوقّف عند ثلاث محطّات أساسيّة: في أولّها يتمّ استعراض ملامح المحاجّة التي استخدمها هذا المفكّر لتأصيل فكرة الاجتهاد وبيان جانب من تاريخها، وما طرأ عليها من تحوّلات دلاليّة، تردّدت خلالها بين الإبداع حيناً والجمود في أغلب الأحيان. أمّا المحطّة الثانية؛ فنعرض فيها نماذج من رؤية إقبال للتّجديد الفقهي في مستوى الفروع، وتحديداً في بابي المسألة السّياسيّة والمسألة الاجتماعيّة. وفي المحطّة الأخيرة نلقي الضّوء على الإضافة النّوعيّة التي تقدّم بها إقبال لتجديد أصول الفقه، تلك الإضافة التي استقامت على كشف ما تنطوي عليه المبادئ الأصوليّة من ممكنات التّجديد.

أوّلاً: الاجتهاد في التّاريخ، من الحركة إلى السّكون

لما كان أكثر المهتمّين بتاريخ الفقه من أهل الاختصاص، فإنّ رواية الحوادث فيه كانت تأخذ، في الأغلب طابعاً تمجيديّاً، يظهر أساساً في الامتثال لسلطة الأوّلين: إمّا بتلخيص مبسوطاتهم أو بشرح مختصراتهم. وبعيداً عن هذه الصّورة النّاصعة، جاءت المراجعات النّقديّة لهذا التّاريخ لتميّز بين مرحلتين: مرحلة قصيرة، شهد فيها التّفكير الفقهي إبداعاً مشهوداً. ومرحلة طويلة، اتّسمت بالعقم والجمود. وكان إقبال ممّن صادقوا على هذا التّقويم النّقدي لتاريخ الفقه الإسلامي.

والإبداع في عمل فقهاء الأدوار الأولى يعود إلى التزامهم بـ”مبدأ الحركة”. وكان لهذا الالتزام عنوان محدّد هو: “الاجتهاد”. ويبدو أنّ تقدير إقبال للمكانة المركزيّة التي يفترض أن تحتلّها فكرة الاجتهاد، قد حمله على استعراض أهمّ منعرجات رحلة هذا المفهوم في تاريخ التّشريع الإسلامي، وكانت الغاية تتجاوز مجرّد الرّصد إلى التّقويم والنّقد، قصد الاستفادة من تجارب الأسلاف والاستعانة بها على تصحيح الموقف الحديث.

1. الاجتهاد بين غياب النصّ وحضوره:

حفلت كتب القدامى بتعريف لفظ الاجتهاد، وذهبت فيه مذاهب مختلفة بحسب زوايا النّظر المتعدّدة.[1] ويبدو أنّ القاسم المشترك بين أهمّها، هو إقرارها بأنّ الاجتهاد يقوم على “بذل الوسع” في استنباط الأحكام. وقد شبّه الغزالي استنباط الأحكام بالشّجرة التي تتطلّب العناية لطرح ثمارها. والأحكام الشّرعيّة هي بمثابة الثّمرة المنتظرة، ويحوج تحصيل الثّمر إلى مستثمر يهيّئ الأسباب اللاّزمة لبلوغ الغاية، وهذا المستثمر يأخذ في اصطلاح الفقهاء اسم المجتهد.[2] ومنـزلة المجتهد أعلى من منـزلة المقلّد، الذي لا يبذل وسعه في استخراج الأحكام، بل يكتفي باتّباع أقوال غيره من المجتهدين. وقد أحكم الفقهاء تسييج مقام الاجتهاد بشروط شتّى، حتى لا يتطاول عليه من ليس أهلاً له، وبلغ من تشدّدهم في تحصينه حدّ الإعلان عن غلق أبوابه، إشفاقاً على الدّين من أن يدخل فيه من الأحكام ما ليس منه.[3]

ويبدو أنّ معنى الاجتهاد، قد خضع لتعديلات تغيّرت بموجبها مضامينه، والأرجح أنّ دلالته لم تكن تتجاوز معنى القياس في البداية. ومقتضى هذا التّعريف، أنّ الاجتهاد كان مقصوراً على ما لم يرد فيه أثر من كتاب أو سنّة أو إجماع؛ أي في غياب النصّ.[4] وفي حال غيبة الدّليل من النصّ، يجوز الاستناد إلى العقل. وهذا الجواز ثابت بإقرار الرّسول الصّحابي معاذ بن جبل t على العمل برأيه، عند تعذّر الدّليل من الكتاب أو السنّة. وقد جاء في الخبر أنّ الرّسول الأكرم r سأل معاذاً: “كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنّة رسوله. قال: فإن لم يكن في سنّة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي.”[5] وأهمّ ما في هذا الحديث، توجيهه نحو فهم الاجتهاد على أنّه إعمال للرّأي عند الحاجة. ولئن قصر هذا الأثر الحاجة إلى الاجتهاد على حالة غياب النصّ، فإنّه قد أسّس للاعتراف بالرّأي. وسوف تتجلّى فائدة هذا التّأسيس، مع ظهور الحاجة إلى إعمال الرّأي في النّصوص ذاتها. وكان هذا المعنى الثّاني، القائل بعدم قصر الاجتهاد على حالة غياب النصّ، حاضراً في ذهن إقبال، وهو يراجع تاريخ التّشريع الإسلامي.

ولقد شهد معنى الاجتهاد تطوّراً واضحاً، فقد خرجت دلالة هذا المفهوم عن دائرة النّيابة عن النصّ الغائب؛ ليصبح مقترناً بحضور النصّ. وهكذا غدا الاجتهاد “وسعاً يبذل” في النصّ، إذا انغلقت بعض معانيه على الأفهام. وعلى هذا المعنى، استقرّت دلالة الاجتهاد.

ولم يخرج إقبال عن سنّة من سبقوه في الحثّ على العمل بالاجتهاد. والذي ميّز كلامه على مكانته، محاولته إجلاء انسجامه مع الخصائص الكلّية الواسمة للثّقافة الإسلاميّة، فالاجتهاد يمثّل التّرجمة العمليّة لمبدأ الحركة في مجال التّشريع، وقد رفع إقبال من منـزلة الاجتهاد، حتّى جعله وريث النبوّة وعنوان ختمها.[6]

والذي ميّز مقاربة إقبال لمسألة الاجتهاد طابع التسهيل والتّلقائيّة، فقد اكتفى في بيان حدّه بإبراز عنصرين، أوّلاً: بذل الوسع، باعتباره قاعدة المفهوم الأساسيّة. وثانياً: إعمال الرّأي في استخراج الحكم، بصفته جوهر الاجتهاد، وهذا التّعريف؛ إذ يأخذ بمذهب القدامى، فإنّه يضع الإصبع على الدّلالة المميّزة في معنى الاجتهاد، وليس بذل الوسع سوى “استعمال الرّأي للوصول إلى الحكم الفقهي.”[7] وهذا اتّجاه يخالف الذين يقصرون بذل الوسع، على تقليب النّصوص وعرض بعضها على بعض.

ويبدو أنّ إقبال قد استشعر خطورة ما قرّره بخصوص ربط فعل الاجتهاد بإعمال العقل، فعمد إلى تأييد موقفه بحجج لا يرقى إليها الطّعن. وقد اختار من القرآن، الآية:(وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ )(العنكبوت: 69). واستدلّ من السنّة بتأييد النّبي لرأي معاذ. واللافت أنّ إقبال لم يلحّ كثيراً في الاحتجاج على ثبوت مبدأ الاجتهاد، وكأنّه كان يرى أنّ وضوح هذه المسألة يغني عن زيادة التّأكيد والبرهنة.[8] ولكنّ مجادلات المسلمين بخصوص تحديد المقصود بالاجتهاد أعقبتها ردود مطوّلة ترتاب في هذا المبدأ، معلنة أنّ سلامة العقيدة تقتضي “غلق باب الاجتهاد”.

2. الاجتهاد في التّاريخ بين القيد وفكّ القيد:

لا خلاف على أنّ الاجتهاد أصل ثابت في الإسلام عند أكثر المسلمين؛ إذ سلّموا به على الصّعيد النّظري وعملوا به على تفاوت بينهم. وقد كانت له عندهم ثلاث مراتب: أعلاها، الاجتهاد التامّ، وأوسطها الاجتهاد النّسبي، وأدناها الاجتهاد الخاصّ. أمّا الأوّل، فهو الذي اختصّ به أعلام المذاهب الكبرى من الأئمّة المؤسّسين، والاجتهاد الثّاني، مجاله أضيق لأنّه لا يكون إلاّ في دائرة المذهب الواحد، وليس له التفات إلى مسائل الخلاف القائمة بين المذاهب. والصّنف الثّالث لم يكن يزيد عن تناول القواعد الشّرعيّة في نطاق المذهب، وهذا الأخير يجسّد معنى الاتّباع والتّقليد تجسيداً تامّاً. ومن البدهي أن تتعلّق همّة مجدّد كإقبال بدرجة الاجتهاد الكامل الذي يمنح الحقّ التامّ في التّشريع.[9]

ومن موقع الانتساب إلى دائرة الاجتهاد الكامل، وجّه إقبال نقده للفقهاء القدامى، وكان من مآخذه عليهم أنّهم اعترفوا بالحقّ المطلق في الاجتهاد نظرياً، ولكنّهم عارضوا العمل به في الواقع، بما وضعوه من شروط عسيرة. وكانت حصيلة تقييدهم لحركة الاجتهاد، أن أصبحت الكلمة العليا للمقلّدين، وقد أدّى هذا المسار إلى حالة من الجمود، بعد إعلان إغلاق باب الاجتهاد.[10] ولئن ظلّت أحكام الأسرة والأحوال الشّخصيّة في قبضة الفقهاء، فإنّ باقي المجالات قد خرجت عن السّيطرة الفقهيّة تحت ضغط الحاجة إلى مجارة عالم حيّ ومتحرّك. ولكنّ مقاربة إقبال لتاريخ التّشريع الإسلامي، لم تقتصر على التّقويم وإصدار الأحكام، بل ذهبت إلى محاولة التّفسير والبحث في الأسباب التي أدّت إلى إغلاق باب الاجتهاد.

وفي تفسير أسباب انقطاع حركة الاجتهاد، ذكر إقبال ثلاثة عوامل أساسيّة، يتعلّق أوّلها بالأثر الذي أحدثه غلوّ الحركة العقليّة، بما أدّى إلى كثرة المجادلات في القضايا الدّينيّة، وألقى بظلاله على سلامة العقائد في نفوس العوامّ، وقد أفسح هذا الوضع الباب أمام التيّار المحافظ ليحدّ من مساحات حرّية التّفكير. ويعود العامل الثّاني إلى عدول التّصوّف عن مسايرة الحركة العقليّة، وإغراقه في الزّهد والرّوحانيّات، بعيداً عن الحياة الاجتماعيّة. أمّا العامل الثّالث، فيتّصل بما نشأ عن خراب بغداد على أيدي التّتار، من خوف على تفتّت الأمّة وضياع عقيدتها.[11] وهذا ما أعطى المحافظين الفرصة مجدّداً لأخذ المبادرة لفرض سياج كامل على حرّية التّفكير، عبر منع الاجتهاد.[12]

ولكنّ هذه العوامل لم تحلّ دون حدوث اختراقات في جدار منع الاجتهاد، وقد أرجع إقبال السّبق في هذا الاختراق إلى ابن حزم ثمّ ابن تيميّة؛ إذ استأنفا النّظر في عدد من الأصول، وسار السّيوطي على ذات النّهج. وشهد العصر الحديث استمرار محاولات التّجديد، كان أبرزها ما شهدته السّاحة التّركيّة من أفكار جديدة.

ولئن أشاد إقبال بجهود هؤلاء المجدّدين قديماً وحديثاً، فإنّه لم يتحدّث عن مضامين هذا التّجديد،[13] وكأنّ الأهمّ مبدئيّاً، هو تأصيل فكرة الاجتهاد وإثبات استمرارها. والغرض من هذا العرض السّريع لمسيرة الاجتهاد، هو التّمهيد لاستئناف مسيرة التّجديد. وفي المحاضرة الموسومة بـ”مبدأ الحركة في الإسلام”، أثار إقبال سؤالاً مركزيّاً يتعلّق بمدى قابليّة التّشريع الإسلامي للتطوّر،[14] وعند الإجابة عن هذا السّؤال، عرض الباحث مسألتين تتمّم إحداهما الأخرى: الأولى تناول فيها مراجعة الأصول التّشريعيّة المعتمدة عند المسلمين. أمّا الثّانية فقد عرض فيها ثمرة اجتهاده، اختباراً لصحّة مراجعته لتلك الأصول. وارتأى أن يعالج من مسائل الفروع، أكثرها إلحاحاً في التّاريخ الحديث، ونعني بذلك المسألة السّياسيّة والمسألة الاجتماعيّة.

ثانياً: الاجتهاد بما هو مهمّة عاجلة: تجديد الفروع الحاكمة

ترجع بعض الدّراسات بدء حركة التّجديد في مسائل الفروع الفقهيّة، إلى ظهور “مجلّة الأحكام العدليّة” في عهد الخلافة العثمانيّة، وضمّت هذه المجلّة موادّ الأحكام الفقهيّة المعتمدة عند أتباع المذهب الحنفي. أمّا من جهة المضمون؛ فأوّل ما اهتمّ هؤلاء الفقهاء بتجديده، كان أحكام المبادلات التّجاريّة، وذلك بسبب تأكّد الحاجة إليها في المعاملات الحيويّة.[15] واتّسعت حركة التّجديد الفقهي بالتّدريج، وكان تدوين الدّساتير في مقدّمة شواغل المهتمّين بالفكر القانوني، منذ منتصف القرن التّاسع عشر.[16] وكتابة الدّساتير، إضافة إلى كونها تعبّر عن مرحلة متقدّمة في نضج التّفكير التّشريعي، فإنّها تعكس أهمّ التّصوّرات السّياسيّة والاجتماعيّة التي تمثّل ثمرة التّطوّر الحضاري. واعتباراً للظرف الدّقيق الذي ينجز فيه مشروع التّجديد، فإنّ الاجتهاد ينبغي أن يتّجه إلى المسائل العاجلة التي تتوقّف عليها المصالح الحياتيّة للمسلمين. ومن الأولويّات الملحّة التي اهتمّ إقبال ببحثها قضية الحكم، بما هي أصل الفكر السّياسي.

1. مسألة الحكم والنّموذج التّركي:

رأى إقبال أنّ من أهمّ القضايا التي تتوقّف عليها مصائر المسلمين في العصر الحديث، هي مسألة الحكم.[17] وإذا كانت أوروبا قد ارتقت بنظامها السّياسي، في ضوء مكتسبات فكر الأنوار، فإنّ المسلمين لم يكن أمامهم إلاّ تراث الفقه السّياسي الذي كان عبارة عن “أحكام سلطانيّة”، تعنى بمصلحة الحاكم أكثر ممّا تهتمّ بضرورات الحكم.

ولكنّ الشّروط التي خضع لها الماوردي وأمثاله قد تبدّلت، وأصبح من الضّروري إخراج التّفكير السّياسي الإسلامي من دائرة الفقه السّلطاني. ومن هذه الزّاوية استأنف إقبال النّظر في مسألة الحكم، بصفتها موضوعاً يقع ضمن ما يحتاج إلى تجديد، تبعاً لسنّة الحركة. ولئن اتّسم الفكر السّياسي التقليدي بمقاومة عوامل التّجديد، فإنّ إقبال لم يعدم وجود علامات مضيئة فيه يمكن الاهتداء بها، وفي هذا المعنى، أشار إلى إنكار الباقلاني وابن خلدون لشرط القرشيّة في منصب الإمامة.

ومنذ البداية أعلن إقبال، أنّ أبرز تجربة في تجديد التّصوّر السّياسي في بلاد المسلمين، تجسّدت في تركيا الحديثة. وقد قامت هذه التّجربة على التّخلي عن نمط الخلافة الموروث عن عهد الإمبراطوريّات، ومنوال دولة الخلافة؛ إذ أظهر فشله في مواجهة التّحدّيات الحديثة. وقد أكّد إقبال أنّ ملابسات العصر الحديث تقتضي من المسلمين أن يأخذوا بما سمّاه ابن خلدون الحكم الواجب بمقتضى العقل؛ أي الذي يحقّق المصلحة التي يشير إليها العقل.[18] وعلى هذا فإنّ مطلب الدّولة الدّينيّة لا مسوّغ له اليوم، إلاّ في الحدّ الذي تؤمّن فيه الدّولة التّوفيق بين بعدي المادّة والرّوح في نظام الحكم. أمّا الدّولة الدّينيّة التي يقصد منها، أن يكون على رأسها خليفة مفوّض من الله، على غرار ما سطّرته قواعد “الأحكام السّلطانيّة”؛ فقد غدا أمراً غير مناسب.[19]

ونظريّة الحكم المستمدّة من روح الإسلام، جاءت لتقطع مع التّجربة المسيحيّة التي كانت نظاماً من الرّهبنة في عالم مدنّس. أمّا الإسلام فيرى أنّ النّشاط الدّنيوي غير مدنّس، بل يعدّ المظهر الأبرز الذي تتجلّى فيه الحقائق الرّوحيّة. والدّولة هي أحد أهمّ الأجهزة القائمة على تنظيم هذا النّشاط، فهي الحامل للجوهر الرّوحي في شتّى نواحي الوجود الاجتماعي، وفي ضوء هذه المحدّدات، يتعيّن على المسلمين اليوم أن يسترشدوا بالتّجارب الحيّة القائمة من حولهم، وهذا ما تنبّه له الأتراك، عندما استبدلوا بدولة الخلافة دولتهم الوطنيّة واهتمّوا بتحديثها، وهي الفكرة التي عبّر عنها الشّاعر التركي ضياء بقوّة، عندما دعا إلى أن يبادر كلّ شعب مسلم إلى بناء دولته الوطنيّة، لتنشأ من ذلك رابطة أمم إسلاميّة قويّة بدلاً عن دولة الخلافة التي استنفدت إمكان وجودها.[20]

وإذ نظر إقبال بإعجاب إلى آراء هذا الشّاعر، وأيّده فيما ذهب إليه بخصوص عدم مناسبة فكرة الخلافة للأوضاع الرّاهنة، فإنّه حذّر من مخاطر الغلوّ في الأخذ بالفكرة القوميّة، التي كان يصدر عنها الأتراك في مشروعهم الإصلاحي، وقد بلغ من ريبته في النّـزعة القوميّة، أن ألقى عليها تبعات إفشال جهود حركة الإصلاح الدّيني في أوروبا، ومن المرجّح أن يكون واقع تعدّد القوميّات في الهند، وراء ارتياب إقبال في فكرة القوميّة، خاصّة وأنّ المسلمين في الهند يدخلون ضمن الأقليّات القوميّة التي كانت تعاني من سيطرة الهندوس وقوّة نفوذهم في البلاد.

وهكذا نهض تجديد التّفكير السّياسي عند محمّد إقبال، على معارضة مشروع إقامة الدّولة الدّينيّة، على غرار ما كان عليه الأمر قبل إسقاط نظام الخلافة، والذي يبدو من حماسه للتّجربة التّركيّة أنّه كان مؤيّداً لنمط الحكم الجديد الذي يحاكي النّموذج الغربي، ولكنّ هذا الاختيار الصّريح، لم يحل دون الاعتراض على موجة الغلوّ القومي، وكذا على مبدأ الفصل بين الدّين والدّولة، وقد اعتبر أنّ الأوّل يرشّح مشاعر الأثرة والتّعصّب، أمّا الثّاني فيعمل على فصم عرى الوحدة، التي أنشأ الإسلام على قاعدتها الكيان الإنساني.[21]

والملاحظ أنّ إقبال، إذ وازن بين تمجيده للنّموذج التّركي ونقده له، فإنّه كان خاضعاً لمؤثّرات اللّحظة التّاريخيّة التي كانت تمرّ بها المجتمعات الإسلاميّة في مطلع القرن الماضي،[22] وكان يجدر بمشروع التّجديد أن يتعالى عمّا هو ظرفي، وأن يتعلّق بمحاولة اكتشاف القواعد الثّابتة التي يمكن أن ينهض عليها إصلاح الحكم في بلاد المسلمين. والحقيقة أنّ هذا التردّد شكّل علامة على محاولة الإمساك بطرفين متباعدين هما: الانحياز لمشروعات التّجديد ذات الطّابع الكوني، والاحتفاظ بعناصر الهويّة الرّوحيّة للأمّة، وهذا مظهر صريح لفكرة المصالحة التي أسّس عليها إقبال الجانب الأهمّ من مقاربته التّجديديّة.

إنّ انخراط إقبال في الدّعوة بحماس إلى تجديد التّفكير السّياسي، لا يعني القطع مع كلّ عناصر المنوال القديم، ويثبت هذا الاختيار التّجديدي وفاء هذا المفكّر لمنطلقاته النّظريّة، التي تأخذ بمبدأ الحركة دون التّنكّر لحقيقة الثّبات، وقد لفت إقبال إلى هذا الأمر، حين وضع مقاربته التّجديديّة في المجال السّياسي تحت عنوان: “النّقد المحافظ السّديد”، وهو شعار يتجاور فيه النّقيضان،[23] والحقيقة أنّ الالتزام بهذه القاعدة تتجلّى علاماته أيضاً في معالجة موضوع المرأة.

2. المسألة الاجتماعيّة: قضية المرأة:

شغلت قضيّة المرأة جانباً من الخطاب الإصلاحي، منذ أواخر القرن التّاسع عشر. وقد اشتهر هذا الموضوع تحت اسم “تحرير المرأة”. وضمن هذا المبحث، تمّ تناول مسائل خلافيّة كثيرة ما تزال إلى اليوم موضوع سجال حادّ.[24] وتركزّ اهتمام إقبال على البحث في مسألة المساواة بين الجنسين، في ثلاثة جوانب أساسيّة هي: الزّواج والانفصال والميراث. وقد عرض رأيه في هذا الموضوع، في معرض إشادته بمواقف الشّاعر التّركي ضياء، الدّاعية إلى تجديد أحكام الأحوال الشّخصيّة في الإسلام. وكان منطلق هذا التّفكير، أنّ حركة الإصلاح ينبغي أن تبدأ بتحرير الأسرة من قيود العوائد البالية التي تكرّس ظلم المرأة.

ويبدو تأييد إقبال لآراء الشّاعر التّركي، في إلحاحه على تأكيد الطّابع المدني لعقد الزّواج الذي يسمح للمرأة أن تشترط بقاء العصمة بيدها. وهكذا فإنّه مثلما يكون لها حقّ الدّخول في عقد الزّواج، فلها حقّ فسخه بالطّلاق. ومن أبلغ ما اعتبره إقبال دالّاً على انتهاك المساواة التي أقرّها الإسلام، أنّ بعض النّسوة يضطرّهن مقت أزواجهن والرّغبة في الخلاص منهم بالطّلاق، إلى الارتداد عن الدّين. والأدهى أن يعالج ردّ الفعل هذا، بتوقيع عقوبة حدّ الردّة على هؤلاء النّسوة، ليصبح الظّلم مضاعفاً.[25] ولا شيء أبعد من كلّ هذا عن روح الإسلام.

ولما كان منهج التّجديد عند إقبال يأخذ بمبدأ التغيّر، دون أن يتنكّر لقاعدة الثّبات، فقد امتنع عن مسايرة الشّاعر التّركي في كلّ ما ذهب إليه، وتحديداً في مسألة الميراث؛ إذ كان اعتراضه قائماً على مخالفة موقف ضياء لأحكام الإرث في الإسلام، معتبراً أنّ التعرّف على نصيب المرأة في الميراث، يقتضي الإلمام بكلّ أحكام الميراث، وإذا كانت أحكام القرآن تفيد صراحة مبدأ المساواة بين الجنسين، كما جاء في الآية:(وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ ) (البقرة: 228)، فإنّ سائر الأحكام الفرعيّة ينبغي أن تفهم ضمن هذا المبدأ العامّ.

والواضح أنّ إقبال كان يميل إلى الاقتصاد في إبداء آرائه، ومن ذلك أنّه لم يتطرّق إلى عديد القضايا الأخرى في هذا الباب، على غرار مسألة ولاية المرأة وزيّها وخروجها إلى العمل واختلاطها بالرّجال. وقد بدا هذا الاقتصاد أيضاً في الردّ على المشكّكين في عدالة نظام التّوريث في الإسلام. ويمكن ردّ هذا الاختزال إلى أنّ شموليّة مقاربة إقبال التي تضمّ مسائل فلسفيّة وعقديّة متنوّعة، لا يمكن أن تتّسع للتّفصيل في أبواب الفقه.

والثّابت أنّ دائرة الاجتهاد عند إقبال ظلّت محكومة بمحدّدين اثنين: محدّد فلسفي يرتبط برؤيته لطبيعة الثّقافة الإسلاميّة القائمة على الموازنة بين حالتي الحركة والثّبات، ومحدّد تاريخي، يتّصل بارتباك الحركة الاجتماعيّة في منعرجات التّحوّلات الحاسمة؛ إذ يمكن لجموح حركة التّجديد أن تقود إلى غير أهدافها المنشودة، مثلما هو الحال في بعض المواقف المخالفة لأحكام الإسلام، على غرار الموقف من الإرث. وفي الحالتين يتعيّن الانحياز إلى مبدأ الحركة والتّجديد دون التنكّر للثّوابت المقرّرة.

وإذ اكتفى إقبال بهذه الإشارات السّريعة، فإنّه أكّد أنّ إمكانيّات التّطوير الكامنة في المبادئ التّشريعيّة كبيرة، وهي لا تنتظر إلاّ من “يبذل وسعه” لكشف الغطاء عنها، لتسري في دفق الحياة الحديثة بما ينفع النّاس. والتّجديد متى كان مقصوراً على مسائل جزئيّة تفرضها إكراهات الواقع الرّاهن، لا يمكن أن يرتقي إلى مستوى تجسيد مبدأ الحركة في الإسلام. ومن أجل أن ينسجم التّجديد مع هذا المبدأ، يتعيّن أن يصبح الاجتهاد سنّة دائمة، يجري اعتمادها تلقائيّاً وبسلاسة في آليّات العقل التّشريعي الإسلامي، ومثل هذا يحوج إلى مراجعة جدّية للأصول التي يتأسّس عليها إنتاج الأحكام، وهكذا فإنّ الاجتهاد في فروع الأحكام مرتهن بمدى نجاح الاجتهاد في أصول الفقه، لنتحوّل من الاجتهاد الجزئي إلى ما هو شامل، ومن التّجديد الظّرفي إلى ما هو دائم. وهذا ما يتصدّى له إقبال، استكمالاً لشروط تفعيل مبدأ الحركة في الإسلام.

ثالثاً: الاجتهاد بما هو مهمّة دائمة: تجديد القاعدة

يتأسّس المشروع التّجديدي لإقبال ضمن الدّائرة الأوسع للاجتهاد، الهادف إلى استعادة الحقّ الكامل في التّشريع. وإذا كان القول بإغلاق باب الاجتهاد قد صادر حقّ الخلف في الخروج عن آراء السّلف، فإنّ أوّل شروط التّجديد اليوم أن يستعاد الحقّ في الاجتهاد، بما في ذلك مراجعة القوانين الضّابطة لآليّة الإنتاج التّشريعي، ونعني بذلك ما سمّاه القدامى: أصول التّشريع، وهي القرآن والحديث والإجماع والقياس. ويبدو أنّ تناول إقبال لهذه الأصول الأربعة كان موجّها نحو تحصيل ثمرتين اثنتين: أوّلهما، أن يتبيّن المسكوت عنه من خصائص التّشريع الإسلامي. وثانيهما، إبراز الآفاق التي تنفتح أمام المسلمين المحدثين، بتفعيل مساحات الممكن الاجتهادي في هذه الأصول. ومن الواضح أنّ غاية إقبال من هذه المراجعة، توسّع في أفق الانتظار الذي يصنعه إعادة تنصيب الاجتهاد حاكماً في حياة المسلمين.

1. الخصائص التّشريعيّة: المسكوت عنه في الأصول:

اقتضى الطّابع النّقدي لمقاربة إقبال، أن يقتصر الاهتمام على رصد النّواحي المرتبطة بمدى قابليّة التّشريع الإسلامي للتطوّر، ولذا بدأ إقبال ببيان خصائص التّشريع الإسلامي في بداية عهده. وقد انتهت به هذه المراجعة، إلى الاهتداء إلى وجود جملة من المميّزات التي ترشّح معنى الاجتهاد وتحثّ عليه، ويمكن إجمال هذه الخصائص في العنصرين الآتيين: روحانيّة التّشريع الإسلامي وطابعه الكوني من جهة، ومرونته ومسايرته لنبض الحياة وللتّجربة الإنسانيّة من جهة أخرى. ويقتضي التّجديد في الأصول كشف الغطاء عن هذه الخصائص، عبر الاجتهاد الكامل والمفضي إلى تفعيل مواطن الخصوبة في التّشريع الإسلامي.

أ. روحانيّة التّشريع وطابعه الكوني:

جاء في تقويم إقبال لتاريخ التّشريع الإسلامي، أنّه لم يكن للـمدوّنات الفقهيّة وجود سابق لقيام الخلافة العبّاسيّة. وطيلة المرحلة السّابقة، كان القرآن يعدّ المرجع التّشريعي للأجيال الأولى من المسلمين.[26] ولا شكّ في أنّ حركة التّشريع أثناء هذه المرحلة كانت تجري بتلقائيّة وسلاسة اقتضتها بساطة النّوازل وندرتها. وكان إقبال يطمح إلى استئناف سيرة الأسلاف الذين تعاملوا مع القرآن بلا واسطة. وقد أخبر عن نفسه أنّه ظلّ يقرأ القرآن لسنوات عديدة حتى جاءته هذه النّصيحة من والده “يا ولدي اقرأ القرآن كأنّما نـزل عليك.” وجاء في هذا الاعتراف أنّ حقائق جديدة بدأت تنكشف أمام عينه منذ التزم بهذا النّهج في قراءة القرآن.[27] وتبعاً لهذا الاختيار لاحظ إقبال أنّ القرآن لم يكن مدوّنة في القانون، وأكثر ما عالجته “آيات الأحكام” كان يتّصل بأحكام الأسرة، كونها النّواة الصّلبة للاجتماع البشري، والدّلالة الأبرز التي استخلصها من هذا الاقتصاد في المادّة التّشريعيّة، أنّ غاية القرآن روحيّة في المقام الأوّل. ومن ثمّ صرفت آياته اهتمامها عمّا هو عرضي ومادّي، إلى ما هو جوهري وروحي.[28]

وتشير أدلّة كثيرة إلى أنّ جوهر الدّعوة القرآنيّة، كانت تتعدّى سنّ الأحكام التّفصيليّة في العبادات والمعاملات إلى مجال أرحب، وضمن هذا الأفق يجري توثيق الرّوابط الواصلة بين الإنسان وخالقه، إلى جانب الكشف عن المنـزلة التي خصّها الله بالإنسان، بصفته مستخلفاً في الأرض.[29] والصّلات الرّوحيّة تنساب تلقائيّاً، حسب إقبال، ومن ثمّ فلا إكراه في القرآن على الاعتراف بهذه الصّلة، ولا توجد فيه أحكام ملزمة بالإيمان، خلافاً لما هو متداول عند الفقهاء تحتّ مسمّى حدّ الردّة. ولكنّ روحانيّة الإسلام القائمة على تثبيت وشائج الصّلة بين الفرد وخالقه، لا تصل إلى ما ذهبت إليه المسيحيّة من غلوّ بلغ حدّ الرّهبنة والعزوف عن الدّنيا. وفي القرآن حثّ صريح على مراعاة احتياجات الفرد المادّية، على الرغم كونها دون الحاجات الرّوحيّة مكانة.[30]

ومن البدهي أن يتقدّم الجانب الرّوحي، لأنّ السّؤال الوجودي يشمل البعد الاجتماعي ويضبط له اتّجاهه العامّ. وإذا كان الروحي متعالياً على التّاريخ، بما يجعل معالمه مكتملة منذ البدء، فإنّ الاجتماعي لا عمل له إلاّ في سياق الحركة الاجتماعيّة، وهذا ما تحدّدت به السّمة الثّانية للتّشريع القرآني، ونعني طابعه الكوني العامّ، وعلامة ذلك أنّ هذا التّشريع كان يكتفي برسم المبادئ العامّة للأحكام ويترك التّفاصيل للاجتهاد البشري، وقد وجد إقبال هذا المعنى في واحد من أهمّ المفاهيم الإسلاميّة، ونعني مفهوم “ختم النّبوّة”. ويؤشّر هذا المفهوم إلى أنّ الوجود لا ينبغي أن يظلّ دوماً في حاجة إلى من يقود؛ وعليه فـــ “الإنسان، كي يحصّل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النّهاية على رسائله هو.”[31] والدّور الموكول للإنسان في الوجود هو موضوع وظيفة الاستخلاف.

وفي الأصل الثّاني من أصول التّشريع الإسلامي؛ أي الحديث النّبوي ما يقيم الدّليل على هذه الحقيقة، ولئن كان ظاهر التّشريع النّبوي، أنّه يرتبط بوقائع محليّة -النّوازل التي حدثت للعرب في النّصف الثّاني من القرن السّابع للميلاد- فإنّ تلك الأحكام ليست سوى تطبيقات على واقع محدّد، وهي قابلة للتّجرّد من إقليميّتها كي يقع الاهتداء بمنهجها في وقائع غير متناهية. ويرتّب إقبال عن هذا الأمر نتيجة، مؤدّاها أنّ الأحكام المقرّرة بالأحاديث النّبويّة، لا ينبغي أن تفرض بحرفيّتها على الأجيال اللاحقة، بل يكفي الاستئناس بالرّوح التي حكمت طريقتها في فصل النّوازل.[32] وهذا الطّابع العامّ للتّشريع يتضمّن اعترافاً بحقّ الخلَف في التّجديد، وهو مرتبط كذلك بالطّابع العالمي لدعوة الإسلام. ويظهر أثر هذا الحرص على التّوحيد والتّأليف، في استيعاب أحكام الإسلام لبعض الأعراف التي لا ضرر فيها، كأعراف الأكل والشّرب والطّهارة والنّجاسة وغيرها.[33] والغاية من استيعاب هذه الأعراف، تحقيق قدر من الانسجام بين الجماعات المتنافرة والمتنافسة.

وقد كان الوعي بأنّ الإسلام دين غير إقليمي، وراء ميل أبي حنيفة إلى الأخذ بمبدأ الاستحسان، لما فيه من مراعاة للحالات الواقعيّة في التّشريع.[34] وهكذا خلص إقبال إلى إعلان تهافت أطروحة المحافظين الذين لا يزالون أسرى الأفق المعرفي للتراث. والفكر التّقليدي يذهل عن كثير من الخصائص الأساسيّة للتّشريع الإسلامي، فقد أهدر ضيق أفقه، ميزة المرونة الكامنة في أصول التّشريع، وهذا ما أفقده القدرة على الحركة والتّطوّر.

ب. مرونة التّشريع وارتباطه بالتّجربة:

عند مراجعة أصول التّشريع، لاحظ إقبال أنّ العجز عن التّجديد في صياغة الأحكام لا يعود إلى فقر النّصوص، وإنّما إلى عدم كفاءة المتعاملين معها، ورأى أنّ من أهمّ العلامات الدّالة على قابليّة التّشريع الإسلامي للتّطوّر، مرونته التي يشهد بها تاريخ الفقه. وما تعدّد المذاهب وتعايشها، على الرّغم من اختلافاتها الكثيرة، إلا دليل على استيعاب المكوّن التّشريعي لكثرة الآراء وتنوّعها. ولهذه المرونة أصل ثابت في المبادئ القرآنيّة العامّة التي لا تعادي مبدأ التّطوّر، على اعتبار إقرارها بأنّ الكون نفسه متغيّر باستمرار، وما دام “حكم القرآن على الوجود بأنّه خلق يزداد ويترقّى بالتّدريج”، فهذا “يقتضي أن يكون لكلّ جيل الحقّ في أن يهتدي بما ورثه من أسلافه، من غير أن يعوقه ذلك التّراث في تفكيره وحكمه وحلّ مشكلاته الخاصّة.”[35] وانسجاماً مع هذا التّصوّر العامّ للكون وللوجود، أكّد إقبال أنّ المبادئ التّشريعيّة في القرآن تعمل “كمنبّه للفكر الإنساني.”[36] بما يجعل منها طاقة توليديّة لا مجرّد معطيات جاهزة. وهذا ما يضمن استمرار عمليّة الاجتهاد من أجل توليد الأحكام وتطويرها، في نطاق الضّوابط الثّابتة في الإسلام. 

والقول بأنّ الأحكام الواردة في الأحاديث النّبويّة، هي نماذج لطرائق الاجتهاد في وضع الأحكام، وأنّ منطوقها غير ملزم بحرفيّته، يمثّل وجهاً آخر لمرونة التّشريع الإسلامي. وإذا كان الأخذ بهذا القول خاضعاً لتأثير اتّجاهات النّقد التّاريخي التي اعتمدها المستشرقون في دراستهم للحديث النّبوي، فإنّ إقبال آثر أنّ يردّ هذا المذهب إلى أحد المجتهدين المسلمين، والمقصود بذلك شاه ولي الله الذي ألحّ على ضرورة العناية بالطّابع المزدوج في التّشريع النّبوي، والمتمثّل في ثنائيّة الحادثة الخاصّة، والمغزى العامّ.[37] ولا شكّ في أنّ ثبوت هذه الخاصّية يرشّح معنى الاجتهاد من أجل وضع الأحكام المناسبة لكلّ حال. 

ومن علامات المرونة أيضاً، القول بأنّ إجماع الصّحابة غير ملزم لمن يأتي بعدهم.[38] وهذه المرونة ثابتة أيضاً بالأصل الرّابع للتّشريع، ونعني القياس. ولئن اختلف الفقهاء الأوائل في طريقة العمل بالقياس، فرآه العراقيّون إعمالاً للرّأي، وقصره أهل الحديث على “السّابقات” من “عمل أهل المدينة”، فإنّ الجدل بشأنه قد انتهى إلى تثمين دوره حتّى غدا “مصدر حياة وحركة في التّشريع الإسلامي.”[39] وبذلك صار القياس مرادفاً للاجتهاد. وقد عرّف إقبال القياس، على وجه يضمن ديمومة فاعليّة الاجتهاد؛ إذ قال: “والأصل الرّابع من أصول الفقه هو القياس: وهو استخدام التّعليل القائم على تشابه بين الحالات، في التّشريع.”[40] والقياس بهذا المعنى، متاح لكلّ من يؤتى القدرة على ملاحظة “التّشابه” بين النّازلة الحاضرة، ومثيلتها الغائبة و”تعليله”.

ومن العلامات البارزة أيضاً على المرونة التي وسمت الفكر التّشريعي عند إقبال، ارتباطه الوثيق بالتّجربة الإنسانيّة. وقد قامت الثّقافة الإسلاميّة عامّة على تثمين التّجربة وعدّها المرجع الأوّل في إنتاج المعرفة، وكان ذلك من آثار توجيهات القرآن التي جاءت تحثّ على النّظر في الوجود وتدبّر أسراره. وفي مقابل هذا الانشغال بالواقع، كانت الثّقافة اليونانيّة، لا تحتفي إلاّ بما هو تجريدي.[41] وقد هوّن إقبال ممّا يقال عن وقوع المتكلّمين والفلاسفة المسلمين تحت تأثير النّـزعة النّظريّة للثّقافة اليونانيّة، معتبراً أنّ تأثيرها كان محدوداً. أمّا الاتّجاه الغالب في الثّقافة الإسلاميّة؛ فقد كان يميل إلى اعتماد التّجربة، وما التّصوّف إلاّ وجه لهذا الميل.[42] وفي ميدان الفقه بدت آثار هذا الميل، في عدول الفقهاء عن منهج الاستنباط القائم على ملاءمة النّصوص للفروض الذّهنيّة إلى اعتماد منهج الاستقراء، في مراحل نضج التّفكر التّشريعي.[43] ولا يعطي إقبال نماذج من هذا التّحوّل الإيجابي. وإذا كان هذا الموقف يناقض ما سبق تأكيده بخصوص جمود الفقه، فالمرجّح أنه كان يقصد بالتّحوّل إلى منهج الاستقراء، تلك المراحل التي تمّ فيها العمل بالاجتهاد، بمعناه الكامل.

والتّجربة كامنة في أغلب الأصول حسب إقبال، فإذا كان القرآن يضع ضوابط لسيرة الأفراد في الوجود ويقدّم خلاصة تجارب الأمم السّابقة وما فيها من عبر ودروس، فإنّ الحديث النّبوي يعكس صوراً مهمة من تجربة أمّة الإسلام في مرحلة تشكّلها الأولى. وللإجماع في التّجربة الإسلاميّة الحديثة دور إيجابي في إنجاح التّحوّل من أنماط الحكم التّقليدي والاستبدادي، نحو أشكال أخرى جوهرها المشاركة والدّيمقراطيّة، ولا معنى للقياس إلاّ بوصفه تعاملاً مباشراً مع تجارب لم يسبق لها وجود.

إنّ الخلاصة التي سعى إقبال إلى بلورتها، تتمثّل في تأكيد قابليّة التّشريع الإسلامي للتطوّر المطّرد بما يناسب واقع الأحوال المتبدّلة، ويكفي التّأمّل في الإمكانيّات الكامنة في الأصول الأربعة للتّشريع الإسلامي، لندرك أنّها كلّها ترشّح معنى بذل الوسع وتحثّ على الاجتهاد، وفي واقع المسلمين اليوم، يفتح الاجتهاد في الأصول للتّشريع الإسلامي آفاقاً رحبة، ليكون معاصراً لزمنه.

2. نحو آفاق الديمقراطيّة الرّوحيّة:

جاءت خلاصة فحص إقبال لممكنات التّجديد في الأصول الأربعة، لتؤكّد أنّها لا تخرج عن الانضباط بمبدأ الحركة انسجاماً مع قوانين الوجود عامّة. ولكن يبدو أنّ نيّة إقبال كانت تتعدّى مجرّد الملاءمة بين الرّؤية الفلسفيّة للتصوّر الإسلامي ومنهج الاستنباط الفقهي؛ إذ كان يهدف إلى كشف آفاق جديدة، تتّخذ فيها مسألة الاجتهاد في التّشريع شكل هيئة دائمة، تكون بمثابة اختيار استراتيجي يؤمّن اطّراد التّقدّم. ويبدو أنّ الاجتهاد المنشود عند إقبال، يفتح آفاقاً رحبة من الانتظارات التي لا يقف مداها عند حدود العالم الإسلامي فحسب، بل يتجاوزها ليشمل الإنسانيّة قاطبة.

أ. الإجماع .. ذلك الأمل:

أثبت إقبال الحقّ في الاجتهاد بطريقين اثنين: طريق الأصوليين؛ إذ بيّن أنّ الأصول الأربعة للتّشريع تنطوي على ممكنات كثيرة لتطوير الأحكام. وطريق المؤرّخين؛ إذ أقرّ بأنّ أجيالاً من الفقهاء قد اضطلعوا بدورهم في الاجتهاد منذ زمن مبكّر، ولم تتوقّف حركة الاجتهاد حتّى بعد شيوع القول بغلق باب الاجتهاد. ومن ثمّ صار الاجتهاد بدوره، أصلاً من أصول الإسلام، وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ حالة الانحلال الرّوحي التي وقعت فيها أجيال المسلمين، قد أدّت إلى ترسيخ ظاهرة الكسل العقلي، وكانت ثمرة هذا الخمول اختلاق مقالة “غلق باب الاجتهاد”، وبذلك تمأسس التّقليد وحلّ الاتّباع محلّ التّفكير والتّدبّر.

وإذ يواجه المسلمون في هذا العصر تحدّيات الانتقال من العالم القديم، فإنّهم بحاجة ماسّة إلى اصطناع الاجتهاد في مواجهة مشكلات عصرهم، وفي هذا السّياق يمكن الإفادة من مرونة أصول التّشريع وقابليّتها للتّلاؤم مع التّجربة الحديثة. وقد رأى إقبال في الإجماع ميزة خاصّة، تؤهّله للاضطلاع بدور حاسم في الحياة السّياسيّة المعاصرة. وإذا كان الأسلاف قد غفلوا عن الاستفادة من الإجماع، لتعارضه مع مصالح الحكم المطلق، فإنّه لا حجّة للمحدثين في ترك العمل بهذا الأصل الذي يمثّل “أهمّ الأفكار التّشريعيّة في الإسلام.”[44]

وعندما يتابع هذا المفكّر التّحوّلات النّاشئة في أنظمة الحكم حديثاً سواء في الغرب أو ما تسرّب منها إلى بلاد المسلمين، فإنّه يتفطّن إلى الدّور العظيم الذي يمكن أن يضطلع به الإجماع في إعادة بناء تصوّر السّلطة السّياسيّة، على قاعدة الإنصاف والمشاركة. وفعاليّة الإجماع تكشف عنها تجارب الأمم الحديثة المتطوّرة، في مجال الحياة السّياسيّة، وقد عملت أوروبا بمبدأ “الفصل بين السّلطات”، وتخصّصت “المجالس النّيابيّة” فيها بوضع القوانين المختلفة لضبط قواعد تسيير هياكل الدّولة القوميّة، وقد بدأت هيئات مماثلة في الظّهور بالتّدريج في البلاد الإسلاميّة، ولا يرى إقبال أفضل من هذه الهيئات التّشريعيّة الحديثة، لتفعيل فكرة الإجماع واستثمارها، وبوسع هذه الصّيغة أن تستوعب الخلافات بين أتباع المذاهب والآراء المختلفة، بما يحقّق معنى الاجتهاد و”بذل الوسع” في هذا التّشريع. وإذا كانت المجالس النّيابيّة في الغرب تتألّف من نوّاب منتخبين، بصرف النّظر عن مؤهلاتهم العلميّة، فإنّ شرط إقبال في الانتساب إلى هذه الهيئة أن يكون أعضاؤها من العلماء بمسائل الدّين، إلى جانب طائفة من الخبراء “ممّن يكون لهم بصر نافذ في شؤون الحياة.”[45] وإذا اجتمع رأي الخبير برؤية الفقيه، يتقدّم الفكر التّشريعي دون الخروج عن ضوابطه الرّوحيّة الثّابتة.

ويبدو أنّ حماس إقبال للهيئات التّشريعيّة النّاشئة حديثاً في بعض البلدان الإسلاميّة، وتحديداً في تركيا الكماليّة، قد جعله لا يلقي بالاً إلى الفروق المهمة بين الإجماع، بصفته مفهوماً يقتضي التّوافق الكلّي، ومقرّرات الهيئات التّشريعيّة التي تقبل الاختلاف وتحسم قراراتها بالأغلبيّة، وقد يعود قلّة احتفاء إقبال بهذه الفروق إلى رغبته الشّديدة في مأسسة الاجتهاد، عبر التّوسيع في معنى الإجماع، بحيث يستوعب الاختلاف ولا ينفيه. وهذا جوهر الدّيمقراطيّة التي تنشدها المجتمعات الحديثة: حسن إدارة الاختلاف وتحويله إلى طاقة دفع دائم نحو الأفضل. وتجدر الإشارة إلى أنّ إقبال قد استحدث، بهذا التّوسّع معنىً جديداً في مفهوم الإجماع، وهو ذات الأثر الذي أحدثه، على درجات متفاوتة في باقي الأصول، ويقودنا تواتر العمل بتوسيع مجالات الأصول، إلى أنّ الاجتهاد عند إقبال، هو المدخل إلى كسب مساحات جديدة من المعنى المعاصر لزمنه، وهو جوهر فعل التّجديد.

إنّ هذا التّوسّع في توليد ممكنات الأصول، لَيقيم الدّليل على عمق التّجديد الذي ينطوي عليه مشروع إقبال. ويتأكّد هذا الاتّجاه نحو التّجديد في طموحه، إلى تجاوز حدود العالم الإسلامي، ودفع الاجتهاد نحو أفق إنساني عامّ، بغاية إنقاذ الحضارة الحديثة كلّها من أدوائها القاتلة.

ب. الاجتهاد شفاء لروح الحضارة:

علّق إقبال بلوغ الحكم السّياسي الصّالح في بلاد الإسلام، على شرط تفعيل الإجماع وتصريف مضامينه في الصّيغ التّشريعيّة الجديدة، وأراد أن يخطو بالاجتهاد خطوة أخرى تدخله إلى ساحة لم يسبق توجيهه إليها، ونعني بذلك الفضاء الإنساني الواسع، وإذا كان سؤال البداية عند إقبال، يبحث في مدى قابليّة أصول التّشريع للتّطوّر، فالظّاهر أنّ سؤال ختام بحثه هو: هل يمكن للفكر الإسلامي أن يساهم في إنقاذ الحضارة الإنسانيّة الحديثة، إذا أطلقت طاقات الاجتهاد فيه؟

ومثل هذا السّؤال يفترض أمرين متقابلين: الارتياب في الحضارة الحديثة، في مقابل الثّقة في طاقات الاجتهاد المولّدة للحلول المناسبة. ومثلما كان الاجتهاد أداة تجديد التّفكير عند المسلمين، فإنّه بالإمكان أن يضطلع بدور مشابه في علاقته بالحضارة الحديثة التي يمثّل الغرب صورتها النّاصعة. ولكنّ مضمون التّجديد المطلوب للحضارة الإنسانيّة الحديثة لا يطابق بالضّرورة ما يحتاجه الفكر الإسلامي، فالتّجديد ليس وصفة جاهزة، بل هو منهج لمواجهة حالات العطالة في صيرورة الحضارات والثّقافات.

نادى إقبال بتفعيل مبدأ الحركة، لبعث الحياة في الفكر الإسلامي الذي أصابه الجمود طيلة قرون متعاقبة، وهو ما اقتضى توجيه الاجتهاد نحو إقحام مبدأ التّغيير والتّبديل المستمرّ ضمن دائرة هذا الفكر، ومثل هذا التّوجيه لا يناسب الثّقافة الغربيّة التي لا تفتقر إلى مبدأ الحركة، بل تحتاج الأخذ بمبدأ الثّبات. وهكذا يرى إقبال أنّ تجربة أوروبا الحديثة، قد نجحت في تحقيق تقدّم مادّي هائل، ولكنّها لم تنتج غير “ذات ضالّة” أصبحت اليوم تشكّل عائقاً “في سبيل الرّقي الأخلاقي للإنسان.”[46] وإذ يعلن إقبال هذا الموقف الذي ينعى على أوروبا إفلاسها الأخلاقي، فلا شكّ في أنّه يستحضر ما عانته شعوب الشّرق من ظلم حركة الاستعمار، التي قادتها أوروبا ضدّ الشّعوب المستضعفة، ويعود هذا الإخفاق الأخلاقي إلى ذاك التّفكير المادّي الذي ساد الثّقافة الأوروبيّة، فعزلها عن روافدها المثاليّة، وأفضى بها إلى فقر روحي مريع، لم يفلح النّجاح التّقني الباهر في معالجته.

وفي ضوء هذا التّشخيص، يبرز وجه الإضافة التي يمكن أن تقدّمها التّجربة الإسلاميّة للغرب وللحضارة الإنسانيّة الحديثة عامّة، وليست هذه الإضافة سوى الجرعة الرّوحيّة التي كشف التّجديد عن ألقها ومعاصرتها للّحظة التّاريخيّة الرّاهنة، فإنّ الشّرط الأوّل لشفاء الحضارة الحديثة من أدوائها المتعدّدة، لا يكون إلاّ بـ”تأويل الكون تأويلاً روحيّا” وبوضع مبادئ عالميّة “توجّه تطوّر المجتمع الإنساني على أساس روحي.”[47] وسوف تكون هذه الخطوات بمثابة كسر لقيود الرقّ الرّوحي، الذي طالما كتم أنفاس الحضارة المعاصرة، لتفتح لنفسها طريقاً نحو الدّيمقراطيّة الحقّ، تلك التي وسمها إقبال بـ”الدّيمقراطيّة الرّوحيّة”.[48]

والخلاصة التي انتهي إليها إقبال، لا تخرج عن ضوابط مبتدأ بحثه، ونعني محاولة المصالحة بين عناصر الدّين والرّوح من جهة، ومقوّمات الفلسفة والمادّة من جهة أخرى، وإذا كان اختياره المنهجي قد قام على محاولة التّقريب بين الفلسفة والدّين في مستوى الرّؤية، فإنّ طموحه النّهائي كان يتركّز على استثمار مبادئ الإسلام، وفي مقدّمتها مبدأ الاجتهاد، من أجل تدارك الوضع الإسلامي وإصلاح أوجه الفساد في الحضارة الحديثة، وهو ما يقود، في نهاية المطاف إلى ضرب من المصالحة بين الإسلام والعالم الحديث، ولعلّ هذا ما يشكّل مناط فرادة الفكر الإصلاحي عند إقبال.

ولكنّ نجاح إقبال في تخطّي عقبة التّمركز على الذّات من أجل معانقة ما هو كوني، لا ينبغي أن يحجب عن الأعين تواضع بعض النّتائج التي انتهى إليها في مقاربته التّجديديّة، ويكفي أن نذكّر ببعض ما ألمحنا إليه بخصوص اختزال قضيّة المرأة، حيث أمسك الرّجل عن الخوض في قضايا كان الجدل حولها محتدماً. وكذا، فإنّ تقديره لدور الإجماع في حسم المسألة الدّيمقراطيّة في أنظمة الحكم لم يكن يستند إلى تصوّر سليم، وقد أثبتت التّجارب أنّ المجالس النّيابيّة المخوّلة بالاجتهاد في التّشريع لم تفلح دائماً في تحقيق الهدف المنشود في الإصلاح السّياسي، ولا أدلّ على ذلك من أنّ إقبال نفسه، قد رجع عن إشادته بالتّجربة الكماليّة في تركيا، لما رأى حيفها في حقّ البعد الدّيني.[49] ولا تسلم مقترحات إقبال المتّصلة بتجديد الأصول التّشريعيّة من المآخذ؛ إذ اكتفى فيها بتأكيد قابليّة الأصول الأربعة لتوليد أحكام جديدة عن طريق الاجتهاد، وأعفى بذلك نفسه من الخوض في القضايا الشّائكة التي تناولها الأصوليّون، على غرار ما يتّصل منها بالقراءات والنّسخ وأسباب النّـزول وغيرها. وكان تعامله مع الحديث النّبوي عارياً عن الإضافة النّوعيّة، فقد خضع فيه إلى تأثيرات الدّراسات الاستشراقيّة. ولعلّ أهمّ إضافة حقيقيّة لإقبال جاءت في كلامه على الإجماع، وإعادة تأويل معناه بحيث يتحوّل إلى آليّة قارّة لممارسة الاجتهاد التّشريعي، هذا فضلاً عن توظيفه الذّكي لمبدأ الحركة.

ومؤدّى كلّ هذا أنّ براعة إقبال في البرهنة على أهمّية الاجتهاد وتنـزيله ضمن دائرة “المعلوم من الدّين بالضّرورة”، لم توفّق دائماً في تقديم نماذج تجديديّة ناضجة ومكتملة تقيم الدّليل على صحّة المنطلقات. والحقيقة أنّ هذا قد يخرج عن دائرة اهتمام هذا المفكّر الكبير، فشأنه في هذا المقام أن يعيّن “اتّجاه السّهم” وأن يرسم الخطوط العامّة التي يتولّى استكمالها العلماء المجتهدون، كلّ في اختصاصه. ولا شكّ في أنّ من أجلّ الخدمات التي أسداها إقبال للفكر الإسلامي أنّه أعاد الاعتبار لمبدأ الاجتهاد، كقاعدة شرعيّة تزكّي تحيين المعارف وتجديدها. ولعل ما شهدته السّاحة الإسلاميّة من محاولات في التّجديد الفكري خلال العقود الأخيرة، إنّما يعود الفضل فيها إلى الجهد الصّادق الذي بذله إقبال وأمثاله من المجدّدين.

 

خاتمة:

في مغامرة التّجديد، اختار إقبال تأليف رؤية شاملة لبلورة ملامح أفق إسلامي بديل، يكون مدخلاً للإصلاح. وقد وجد في مفهوم الاجتهاد، واحداً من المفاتيح الأساسيّة للتجديد. والاجتهاد عند إقبال، راسخ الأصل في روح الثّقافة الإسلاميّة، وإن طمست معالمه في مراحل تاريخيّة معيّنة؛ ولذا وجّه عنايته إلى البحث عن القرائن المؤيّدة للعمل بالاجتهاد، وقد وجد في مبدأ الحركة الذي يميّز رؤية القرآن للوجود العنوان الأبرز على انحياز الثّقافة الإسلاميّة إلى فكرة التّجديد.

وكان مدار الاجتهاد عند إقبال على الاجتهاد ذاته: وهو ما يعني إطلاق فعاليّته وبيان إمكانيّاته في تطوير التّفكير التّشريعي وتجديد موادّه. وقد كان طموح التّجديد واسعاً؛ إذ ضمّ إلى مسائل الفروع، قضايا مهمة تتّصل بالأصول. ولئن اكتفى إقبال بعرض نماذج محدّدة من ثمار التّجديد، فإنّ جوهر عمله، قد استقام على إظهار قابليّة الفكر التّشريعي الإسلامي للتّطوّر ومواكبة النّوازل المتبدّلة.

ولم يكن نجاح الاجتهاد في تطوير التّشريعات في الثّقافة الإسلاميّة مطلوباً لذاته؛ إذ الغاية الكبرى، أن تتجدّد طرائق التّفكير ومضامينه، كمقدّمة لإصلاح أوضاع المجتمعات الإسلاميّة. وبتأثير من الطّابع العالمي للإسلام، يتعاظم الحلم الإصلاحي عند إقبال؛ ليفيض على البشريّة كلّها، فيطمح إلى معالجة أدوائها المستفحلة، ولا شفاء للحضارة الحديثة، بعد إخفاقها في إسعاد أبنائها، إلاّ في الأخذ بالتّجربة الرّوحيّة التي يمدّها بها الإسلام. ولا شكّ في أنّ من أهمّ مواطن التّميّز في المشروع الإصلاحي لإقبال، نجاحه في إكساب فعاليّة الاجتهاد ذي المنشأ الإسلامي طابعاً كونياً، يصير معها عنواناً لتطوّر الإنسان وتقدّمه، حيثما ما كان، وفي أيّ عصر كان.

وإنّ من أسرار بلاغة الدّعوة الإصلاحيّة لدى إقبال أنّ اتّجاه السّهم فيها يشير إلى المستقبل؛ لذا فإنّه يقع على عاتق الهيئات العلميّة والنّخب الإسلاميّة واجب التّعريف بهذا التّراث الفكري المضيء؛ من أجل أن يتردّد صداه في آفاق العالم الإسلامي، عسى أن يتحقّق حلم إقبال في نهضة هذه الأمّة وتحقّق سؤددها وتقدّمها.


[*] أستاذ بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة- جامعة سوسة/ تونس. البريد اإلكتروني: hamdiridha2007@yahoo.fr

تم تسلم البحث بتاريخ 10/3/2015م، وقُبل للنشر بتاريخ 15/11/2015م.

[1] انظر: الجرجاني، علي بن محمّد. التّعريفات، بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1405ﻫ/1985م.

[2] الغزالي، أبو حامد. المستصفى من علم الأصول: تحقيق: محمّد سليمان الأشقر، بيروت: مؤسّسة الرّسالة، 1417ﻫ/1997م، ج1، ص39 وما بعدها.

[3] انظر:

– Wael B . Hallaq, “Was the gate of Ijtihad closed”, International Journal of Middle East Studies, vol. 16, N. 1, March 1984.

[4] راجع مطابقة الشّافعي بين القياس والاجتهاد في:

– الشّافعي، محمّد بن إدريس. الرّسالة، شرح وتعليق: عبد الفتّاح بن ظافر كبّارة، بيروت: دار النّفائس للطّباعة والنّشر والتّوزيع، د.ت، ص242، 243.

[5] إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، مصر: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1968م، 176.

[6] إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص150.

[7] المرجع السّابق، ص175.

[8] يلاحظ عدم استدلال إقبال بحديث: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر”. انظر الاهتمام البالغ بهذا الحديث عند:

– الرّيسوني، أحمد. الاجتهاد: النصّ، الواقع، المصلحة، بيروت: الشّبكة العربيّة للأبحاث والنّشر، ط1، 2012م، ص9.

[9] إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص176.

[10] في سياق نقد المحافظين، قارن إقبال بينهم وبين قارون الذي لا ينتفع بكنوزه. انظر:

– النّدوي، أبو الحسن. “العوامل التي كوّنت شخصيّة محمّد إقبال”، مجلة إقباليّات، عدد4، 2003م، ص11.

[11] الحرص على وحدة الدولة من التفتّت كان واضحاً عند الماوردي. انظر:

– العلوي، سعيد بن سعيد. الفقه والسّياسة، دراسة في التّفكير السّياسي عند الماوردي، بيروت: دار الحداثة، 1982م ص88 وما بعدها.

[12] إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص 177 وما بعدها.

[13] اكتفى إقبال بالإشارة إلى بعض خصائص الفكر التّجديدي، على غرار ما لاحظه من إصرار ابن عبد الوهّاب على الحقّ في الاجتهاد. انظر:

– المرجع السّابق، ص181.

[14] المحاضرة الخامسة ضمن محاضرات كتاب إقبال “تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام”.

[15] انظر ما ذكره جوزيف شاخت في هذا المعنى، خاصّة في وسم قوانينها بالعلمانيّة:

– ” L’expérience de la Mejelle fut tentée sous l’influence d’idées européennes, et à proprement parler, c’est un code laïc et non islamique”, Joseph Schacht, Introduction au droit musulman, G.P. Maisonneuve et Larose, 1983, p 81.

[16] في حدود منتصف القرن التّاسع عشر، ترجم الطّهطاوي فصولاً من القوانين الفرنسية، التي سمّاها “الشرطة”. وفي عام 1861م شهدت تونس كتابة أوّل دستور في بلاد المسلمين، ضم 114 فصلاً موزّعة على 13 باباً.

[17] حظيت مسألة الحكم باهتمام أكثر رجال الإصلاح كالطّهطاوي وخير الدين التّونسي والكواكبي وعلي عبد الرّازق وغيرهم. وبخصوص أولوية العامل السياسي. انظر:

– التّونسي، خير الدّين. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك: تحقيق: المنصف الشنوفي، تونس-الجزائر: الدّار التّونسيّة للنّشر، المؤسّسة الوطنيّة للكتاب، ط2، 1986م، ص89.

[18] ابن خلدون، عبد الرحمن. المقدّمة، المطبعة الأزهريّة، 1348ﻫ/1930م، ص159.

[19] إقبال، محمّد. تجديد التفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص183.

[20] ألب، ضياء كوك (1875/1924). شاعر تركي عرف بنـزعته القوميّة والتحديثيّة.

[21] اعتبر إقبال أنّ المادّة هي الرّوح مضافة إلى الزّمان والمكان. انظر:

– إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص182، 183.

[22] انعطاف تركيا كلّياً نحو الغرب لم يجعل منها نموذجاً عند عامّة المسلمين. أمّا اتّهام النّـزعة القوميّة بتقوية نوازع الفرقة؛ فمحلّ نظر.

[23] إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص 181.

[24] من أوائل الذين بحثوا في هذا الموضوع قاسم أمين في مصر والطّاهر الحدّاد في تونس.

[25] إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص199، 200.

[26] المرجع السابق، ص195.

[27] النّدوي، العوامل التي كوّنت شخصيّة محمّد إقبال، مرجع سابق، ص14.

[28] إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص 196.

[29] بلعيد، الصّادق. القرآن والتّشريع: قراءة جديدة في آيات الأحكام، تونس: مركز النّشر الجامعي، 2000م، ص51، 52.

[30] انظر مثلاً قوله تعالى:(وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ )(القصص: 77).

[31] إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص 149.

[32] المرجع السّابق، ص203.

[33] استوعبت الأحكام الإسلاميّة عدداً من الأعراف الجاهليّة كالقصاص مثلاً. وقد أخذ الفقهاء بقاعدة “شرع من قبلنا شرع لنا”.

[34] إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص203.

[35] المرجع السابق، ص199.

[36] المرجع السّابق، ص198.

[37] “النّبي يعلّم أمّة معيّنة ليتّخذ منها نواة لبناء شريعة عالميّة.” انظر:

– إقبال، محمّد. تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام، مرجع سابق، ص203.

[38] استند إقبال في هذا الرّأي إلى مذهب أبي الحسن الكرخي الحنفي. انظر:

– المرجع السّابق، ص207، 208.

[39] المرجع السابق، ص210.

[40] المرجع السابق، ص209.

[41] “الفلسفة نظريّات، أمّا الدّين فتجربة حيّة، ومشاركة واتّصال وثيق.” انظر:

– المرجع السّابق، ص77.

[42] انظر فصل: “روح الثّقافة الإسلاميّة”. انظر:

– المرجع السّابق، ص152 وما بعدها.

[43] المرجع سابق، ص210.

[44] المرجع السابق، ص205.

[45] المرجع السّابق، ص206.

[46] المرجع السابق، ص212، 213.

[47] المرجع السّابق، ص212.

[48] المرجع السّابق، ص 213.

[49] انظر قول إقبال:

ما الحقّ مخف عن فؤادي سرّه

فسياسة اللاّدين عندي خسّة

  فلقد حباني الله قلبا مبـصر

مات الضّمير بها وإبليس افترى

انظر: الكيلاني، نجيب. “إقبال الشّاعر الثّائر”، مجلة إقباليّات، عدد5، 2004م، ص51 وما بعدها.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!