الصوفية المولوية.. نظرة مغايرة للنساء
خلاصة من بحث توفيق بن عامر ‘نظرة الرومي إلى المرأة’، ضمن الكتاب 120 (ديسمبر 2015) ‘المولوية والتصوف التاريخ والآفاق’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.
يصرح مولانا جلال الدين الرومي بأن ليس كل مخلوق بشري قادراً على فهم حقيقة المرأة؛ التي هي سر من أسرار الله. والوحيد القادر على استكناه تلك الحقيقة وإدراك ذلك السر هو ذلك الكائن الذي يستحق أن يوصف بكونه إنسانا على الحقيقة. هذا الكائن لا يتوافر دائما. فعدد البشر لا يحصى، ولكن وجود الإنسان بينهم نادر. ويقتبس الرومي في هذا السياق قصة الفيلسوف الإغريقي “ديوجين” Diogène الذي رآه معاصروه يتجول بمصباح في وضح النهار، ويخترق جموع البشر مستغربين مما يفعل، وعندما سألوه عن ذلك السلوك أجابهم بأنه يبحث عن “إنسان” لكنه لم يجده بعد.
فما هي حقيقة هذا “الإنسان” الذي يبحث عنه الرومي؟ إن لإنسان الرومي حقيقة علوية أولية منذ زمن الخلق، ومظهراً دنيوياً في واقع الوجود، وهو يميز بينهما كل تمييز لما نشأ بينهما من اختلاف منذ عملية التجسد. فجوهر الإنسان هو الروح، لأنه قبس أو نفخة من الروح الإلهي، لكنه بعملية التجسد قد انطمس وقام الجسد حجابا دونه، وأضفى عليه بغرائزه وأهوائه وميولاته النفسية غشاوة من النسيان، ففقد الكائن البشري بذلك إنسانيته. فلا عبرة –إذن- بمظهر هذا الكائن البشري، وبما يكتسيه من جلد ولحم وعظم إذا كانت الروح في غياب:
«فأرواح البشر كانت قبل أن تخلق الأيدي والأرجل
تحلق بوفائها في جو الصفاء
وعندما قيدت الأرواح بأمره تعالى: “اهبطوا” صارت أسيرة الغضب والحرص والرضا…».
تمجيد الخلق الأول إذا كان مولانا جلال الدين الرُّومي في حديثه عن المرأة (الكائن الدنيوي) قد «سلم بالمقيد» فإنه ما فتئ في غضون ذلك الحديث «ممجدا للمطلق»، فتصوره لجوهر المرأة ولمصدره العلوي قد كان دوما بمثابة المعيار الذي يزن به الوجود الحسي لذلك الكائن، سواء في ذاته أم في علاقاته مع آخره الجندري.
فالباطن في فكر مولانا مقياس للظاهر، ومنه يستمد حقيقته ومعناه. وكذلك الشأن بالنسبة إلى المرأة التي لا يتاح تقديرها واعتبارها إلا بالنظر إلى جوهرها. وهنا يسعى الرومي إلى استكناه معنى ذلك الجوهر ورصد ملامحه. فإذا المرأة هي في تقديره روح قبل أن تكون جسدا، وإذا هي نور من نور الله، ولعلها تمثل في نظره قطعة من ذلك الكنز المخفي الذي خلق العالم مرآة ليتجلى فيه. فهي تتميز في نظره عن سائر الكائنات بما لها من «حضور خفي» وهي في الجملة سر من أسرار الله، بل يذهب إلى أنها ربما كانت خلاقة وليست مخلوقة: «للمرأة حضور خفي… لا يراه ويهتدي به إلا رجل متفتح عارف!
ربما كانت المرأة نورا من نور الله ربما كانت خلاقة وليست مخلوقة! ربما هي ليست مجرد ذلك الشكل الأنثوي الناعم الذي تراه» إن النبيه أو العاقل والعارف هو الذي يسعى إلى استرجاع إنسانيته المفقودة بالتحرر من إسار الجسد، ومجاهدة النفس بصقلها حتى تغدو بذلك التطهر شفافة عن الروح ومجلية لصفائها. والناس في ذلك أصناف؛ فهناك من بينهم الإنسان الحيواني أسير شهوات اللحم والدم، وفاقد للإنسانية بالكلية. وهناك من بينهم الإنسان العادي الذي يتأرجح بين دواعي الروح ونداءات الجسد، وهو في منزلة وسطى في سلم الإنسانية، وهنالك الإنسان الملائكي، وهو غاية القصد وأعلى درجات السلم، بتساميه إلى عالم الروح، وطرح غشاوة النفس، وإزاحة حجاب الجسد، فيغدو بذلك إنسانا كامل الإنسانية، وهو مقام الأنبياء وورثتهم من الأولياء. ونورد في هذا السياق نصا بليغا لمولانا من كتاب «فيه ما فيه» يصنف فيه الخلق إلى ثلاثة أصناف حيث يقول: «الخلق ثلاثة أصناف: الأول: الملائكة الذين هم عقل محض، والطاعة والعبادة والذكر طبع فيهم، وغذاء يتغذون به، وبه يحيون. مثل السمك في الماء حياته بالماء وفراشه ووسادته الماء. والملك ليس في حقه تكليف؛ لأنه مجرد من الشهوة ومطهر منها. فأية منة هذه إذا لم يدفع شهوة ولم يعالج أهواء النفس؟ لأنه طاهر من هذه وليس لديه مجاهدة. وإذا أطاع إرادة الله، فإن ذلك لا يعد طاعة؛ لأن ذلك هو طبعه وليس في وسعه أن يتخلى عنه». وثمة صنف آخر هو: البهائم التي هي شهوة محضة، وليس لديها عقل زاجر، وليس عليها تكليف. ويبقى أخيرا: الإنسان المسكين الذي هو مركب من عقل وشهوة، نصفه ملك ونصفه الآخر حيوان. نصف حية ونصف سمكة. سمكته تسحبه نحو الماء، وحيته تسحبه نحو التراب. هو دائما في صراع واحتراب: “من غلب عقله شهوته، فهو أعلى من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو أدنى من البهائم”. نجت الملائكة بالعلم، ونجت البهائم بالجهل، ويظل متنازعا بين الاثنين ابن ادم. وهكذا فإن بعض الآدميين قد تابعوا العقل إلى الحد الذي غدوا فيه ملائكة ونورا محضا. وهؤلاء هم الأنبياء والأولياء، وقد تحرروا من الخوف والرجاء؛ إذ “فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”، وعند بعضهم غلبت الشهوة على العقل حتى أخذوا تماما حكم الحيوان. وقد بقي بعضهم في التنازع. وأولئك هم تلك الطائفة التي تشعر في داخلها بالغم والألم والأسى والحسرة ولا ترضى بحياتها. وهؤلاء هم المؤمنون الذين ينتظرهم الأولياء ليحلوهم في منزلتهم ويجعلوهم مثلهم. وينتظرهم الشياطين أيضا لينزلوا بهم إلى أسفل سافلين ونحو أنفسهم. نحن نريد والآخرون يريدون. فمن يفلح؟ من يجعله الحظ حبيبا له؟. فالإنسان الروحاني بما يتوافر عليه من صفات التروحن، وأهمها طهر النوايا وسمو الخلق، ورقة الإحساس وسماحة الطبع، وصدق المحبة وانفتاح البصيرة، ومجانبة التعصب وسعة العرفان، هو وحده الأقدر على فهم حقيقة المرأة، واستكناه جوهرها، والوقوف على سرها، وتقدير منزلتها بالقياس إلى غيرها من سائر البشر ذوي الإنسانية المشوبة أو المنقوصة. أما الإنسان الذي هو أسير الشهوة والغضب، فيظل عاجزا عن تقدير حقيقة المرأة، فتراه يعاملها بصلف وحمق وحمية لغلبة النزعة الحيوانية عليه: «فهناك نوع آخر من الرجال… بداخلهم حيوان محبوس ليت هؤلاء يقومون أنفسهم أولا! ليتهم يعرفون أن المحبة والتفهم هي ما تجعلنا بشرا أما الشهوة والحمية فلا!…». المرأة الغالبة بناء على ذلك، يرى مولانا أن أصحاب العقول وأرباب القلوب تغلبهم المرأة، أما الجاهلون فإنهم يغلبون المرأة؛ لما فيهم من جفاء ولجاج. وذلك لأن أولئك الجهال تنقصهم الرقة واللطف والوداد للصفة الحيوانية الغالبة على طبعهم. فالحب والرقة من الصفات الإنسانية، والغضب والشهوة من الصفات الحيوانية. وهو يستشهد على هذه الحقيقة ببيان للخبر الذي ينسب إلى الرسول أنه قال: «إنهن يغلبن العاقل ويغلبهن الجاهل» وإليك قطعة من شعره مستوحاة من هذا الحديث النبوي: «قال الرسول: إن النساء يغلبن العقلاء وأصحاب القلوب أما الجهلاء فإنهم يغلبون المرأة؛ لأن حدة الحيوان قد احتبست فيهم إنهم خالون من الرقة واللطف والوداد؛ لأن الحيوانية غالبة على طبيعتهم فالمحبة والرقة هما صفة الإنسانية وأما الغضب والشهوة، فهما صفة الحيوانية إن المرأة ليست بمعشوقة، بل هي نور الحق، فقل إنها خالقة أو قل إنها ليست بمخلوقة…»