فاعليات التحديث الاجتماعيّ في الطريقة الصوفيّة

فاعليات التحديث الاجتماعيّ في الطريقة الصوفيّة

فاعليات التحديث الاجتماعي

في الطريقة الشاذلية اليشرطية

د. وفاء أحمد السوافطة

 

يقول أبو الوفا التفتازاني: إن الطرق الصوفية المعاصرة لم تستطع أن تكون غير تقليدية، فشيوخ التصوف لم يخرجوا عن مفهوم الطريق الذي رسمه الغزالي في الإحياء([1]). والتفتازاني، إذ يؤكد التزام الطرق بالأسس والتقاليد التي رسمها شيوخ التصوف، في القرون الأولى، يلمّح إلى تقليدية الطرق الصوفية المتأخرة، أو عدم تحديثها وتقدّمها. فهاهو يقول، أيضاً، إن هذه الطرق تدهورت، في القرون المتأخرة، وبخاصة منذ عصر العثمانيين، فانصرف أهلها إلى الشكليات والرسوم، حتى أصبحت لفظة طريقة، عند متأخري الصوفية، تطلق على “مجموعة أفراد من الصوفية ينتسبون إلى شيخ معين، ويخضعون لنظام دقيق في السلوك الروحي، ويحيون حياة جماعية في الزوايا والرُبُط ” ([2]). وعلى الرغم من أن التفتازاني كان يميل، في ملاحظاته تلك، إلى إعطاء القيمة العليا للأصول التي وضعها شيوخ التصوف ما قبل القرن الرابع الهجري، إلا أنه حاول، بأسلوب غير مباشر، التقليل من القيمة الفكرية للطرق المتأخرة.

وقد تلقى هذه الفكرة المفكرون والباحثون المحدثون بالقبول، فوُصم التصوف الطرقي بصفات شتى منها: الانحطاط بالفكر الصوفي، والتقليد، والطقوسية؛ والأهم من ذلك كله، وصول أولئك الباحثين إلى نتيجة معادية للتصوف، تتلخص في أن الطرقية أضحت تقف في مواجهة التحديث. فهذه لطيفة الأخضر – مع أنها ابنة مجتمع يدين للطرق الصوفية بتحرره من ربقة الاستعمار – تصف الطرق الصوفية بقولها إن “الإسلام الطرقي قد استقال، تماماً، أمام القضية الوطنية، مخيّراً التحالف مع هذا العنصر الدخيل”([3]).

والخطأ، في وجهة نظر هذا الضرب من المفكرين، أنهم يعطون القيمة العليا في المجتمع للفكر الفلسفي، فقط، ويتناسون الفكر الاجتماعي، والفكر الديني، كما يتجاهلون القيمة التي أضفتها الطرقية على علوم: النفس، والفلسفة، والموسيقى، والأدب. كما أن التعميم بوقوف الطرقية الصوفية في مواجهة التحديث يعتبر خطأ منهجياً، إذ هناك تفاوت كبير بين الطرق الصوفية في استجابتها للتحديات الحضارية. فهناك طرق ظلت منغلقة على الأسس السلفية القديمة، وحافظت حتى على طريقة اللباس والالتحاء وطريقة الذكر، بينما نجد طرقاً أخرى لا يكاد المراقب العادي يدرك في وجوه أتباعها أنهم أتباع طرق صوفية، من حيث الأخذ بأسباب المدنية في اللباس والشكل، وطريقة السلوك الاجتماعي والأذكار. 

الشيخ علي نور الدين اليشرطي (1794/1898م) كان يستند إلى قاعدة الشرع، في انطلاقته التحديثية لطريقته الشاذلية اليشرطية. فكان يردد دائماً: ((الطريقة هي الكتاب والسنة))([4]).  ويمكننا أن نعتبر هذا الحديث أحد أهم الأسس التي قامت عليها الطريقة الشاذلية اليشرطية. إذ إن فيه تأكيد على أن الطريقة التي هي فرع من الطريقة الشاذلية، التي تعتبر من الطرق الصوفية الأكثر اعتدالاً، ترتبط بشكل أساسي بالشرع المحمدي، وتتخذه محوراً لعلاقات الفرد مع الأشياء من حولـه([5]).

وليست اليشرطية وحدها، من بين الطرق الصوفية، هي التي كانت ملزمة بهذا الإقرار والتأكيد على الارتباط بين الشرع والتصوف. إذ كانت العلاقة الجدلية بين التصوف والشرع مفصلاً حيوياً من مفاصل السلوك الصوفي، وكانت تلك العلاقة تتوطّد وتتدعّم بعامل أصولية تلك الطرق. أضف إلى ذلك أنه في ضوء تشديد النكير على الطرق الصوفية، من قِبَل المتشددين من الفقهاء، والدهماء من العامة، كان على جميع شيوخ الطرق الصوفية إثبات تمسكهم بالشريعة، وعدم انخراطهم في الشطحات التي جاهر بها بعض متفلسفي المتصوفة. 

وعلى ضوء ذلك، حافظت طرق كثيرة على تقليدية مناهجها وأصولها، إلى جانب تعاملها مع الفكر الصوفي في فلسفتها. وقد مثـّل الغزالي، في القرن الخامس الهجري، هذه الثنائية في الفكر والسلوك، عند المتصوفة، عندما قسّم علوم التصوف إلى قسمين: قسم علم المعاملة، وهو ما دوّنه في الإحياء، ورسم فيه للمسلم الطريقة الصوفية السلفية في التفكير والسلوك بأدق تفاصيلها؛ أما القسم الثاني، فهو علم المكاشفة الذي اعتبر أنه لا رخصة في إيداعه الكتب([6]).

وفي بداية القرن الثامن الهجري، عايش شيوخ الطرق الصوفية هذا التحدي، عندما رغب هؤلاء الشيوخ في المحافظة على الأصول الصافية النقية للتصوف السلفي، بالمحافظة على هذين العلمين: علم المعاملة وعلم المكاشفة؛ ولكنهم في الوقت نفسه رغبوا في الاستجابة للتحديات التي تعايشها الطرق، في العصر الحاضر، بالمحافظة على هيكلية أو سلوكية خاصة، تضمن لهذا الفكر الصوفي الاستمرار في أداء دوره الاجتماعي. وقد ركز فريق من هؤلاء على العلم الأول، فأنتجوا لنا فكراً اجتماعياً؛ كما ركز فريق آخر على العلم الثاني، فأنتجوا لنا فكراً فلسفياً؛ بينما نجد فريقاً ثالثاً جمع بين العلمين بطريقة توفيقية.

نعم. لقد طغت على بعض الطرق الصوفية جوانب دون أخرى، فغرقت بعضها في التقليدية، وطغت على الأخرى النزعة الفلسفية، كما تمسكت جماعة منهم بشكليات المقامات الصوفية، في حين تحررت جماعة أخرى من الالتزام الشكلي بمثل هذه المقامات… لكن قلة من المعاصرين، كاليشرطية، استطاعت المزاوجة بنجاح، بين الاتجاهات المتقابلة. فهذا عبد القادر عطا، يقارن ما بين منهجين صوفيين معاصرين، تمسك أحدهما بضوابط المقامات الصوفية، فبدأ السير الصوفي من نقطة البداية، حتى وصل إلى المعرفة، أي ” سَلَكَ فمَلَك ” (مجاهدة النفس)؛ فيما اختار الآخر أن يبدأ من الأعلى وذلك بـ(تفريغ النفس) من حظوظها، استعداداً لنزولها إلى الخلق، تربية وتهذيباً، أي “مَلَكَ فسَلَك”. يقول: إنه فيما كانت الطريقة الخلوتية تركّز على طريق صعودي، يبدأ المريد فيه بقطع عقبات النفس، لتطهيرها من آفاتها حتى تصبح محلاً لتلقي المعرفة. فإن الطريقة الشاذلية أخذت بطريق نزولي يبدأ فيها المريد بإفناء حظوظ النفس، وتهيئتها لتلقي الفيض، ثم تنزل بصاحبها، مرحلة بعد مرحلة، إلى أن تصل به إلى عالم الخلق([7]). أما الشيخ محمد المدني، وهو شاذلي في أصل طريقته المدنية، فيصف مبدأ طريقته، فيقول: ” لا يحرز شرف هذه المقامات إلا من جاهد نفسه، وفَطَمَها عن المألوفات “([8]) .

وهذا يعني أن طرقاً صوفية بدأت في إحداث تغييرات جذرية في معايير السلوك الصوفي، وفي طبيعة العلاقات التي تنظمها الطرق بين الإنسان وما حوله. ففي حين كانت معظم الطرق، تركز ثقلها على وضع المزيد من العقبات والمقامات، في طريق المريد، أثناء سلوكه إلى الله، في الطريق الصعودي، وبالتالي تجعل الطريق، في أغلبه مشقة وعناء، وُجدت طرق استجابت لمتغيرات المرحلة الحضارية، أو لتيار التحديث، فاعتبرت أن القضية ليست قضية إيصال أفراد إلى السماوات، وإنما قضية تحويل الحياة الأرضية إلى انسجام سماوي “حرث الأرض بمزرعة الآخرة” على حد تعبير الغزالي، أيضاً ([9]).

وقد بدأ أبو الحسن الشاذلي بهذا النهج، من خلال أقواله وتصرفاته التي اتسمت، خروجاً على كل القواعد المألوفة عند من سبقوه، بالمزاوجة بين الفكر السماوي والاجتماع الأرضي، فاشتهر عنه الاهتمام بالزي والطيب… ألخ . ومن هنا جاءت عبارة الشيخ أبي الحسن الشاذلي: ” لا تسرف بترك الدنيا، فتغشاك ظلمتها، وتنحلّ أعضاؤك، فترجع لمعانقتها بعد الخروج منها بالهمّة أو بالفكرة أو بالإرادة أو بالحركة”([10]). وعموماً، فقد اتسمت الشاذلية بفاعلية في الحياة، فدعا شيوخها إلى العمل والسعي، وكرهوا التعطل، كما اهتموا بالعلم والحض عليه، إضافة إلى الاهتمام بالمظهر الاجتماعي للمريدين، والاهتمام بالمشاركة في الحياة العامة([11]). كما غيّر الشاذلي أساس “التخلية والتزكية ” الذي كان يعني الانقطاع عن الحياة وخرق العادات، ليعطي مفهوم ” التحرر من المواقف النظرية المجردة للفلاسفة والنزعات الإشراقية “، لجعل التصوف يقترب أكثر من حس الجماعة والناس([12]).

وعندما نأتي للحديث عن الشيخ اليشرطي، نجده قد اعتمد على تراث أسلافه، فأكّد على مرجعية القرآن والسنة لكافة علاقات الطريق. وهو بذلك يؤكد قضية أخرى، تتعدى مجرد تأكيد هوية الطريقة الجديدة إلى قضية أكثر إلحاحاً، وهي إقامة منظومة العلاقات داخل الطريق على أسس واضحة ومحددة، وفي نفس الوقت مستمرة. فالقضية التي وجد شيوخ التصوف أنفسهم ملزمين بالتعامل معها هي قضية (العلاقات) داخل المنظومة الصوفية. ففي حين يمكن النظر، من الخارج، للطريقة الصوفية بأنها تمثل أحد ضروب الطائفية المغلقة، أو التعصب المذهبي المنغلق، كان لابد لشيوخ التصوف من تحديد مسار العلاقات ما بين العقيدة والمريد ـ العقيدة بشقيها:

الأول، المرتبط بالذات الإلهية؛ والثاني، المرتبط بالمبدأ أو الطريقة .

وقد نجمت عن الشق الأول، المرتبط بالذات الإلهية، قضايا متفرعة، كطبيعة الارتباط الذي يجب أن يكون بين المريد والوجود أو الحياة . وانعكست عن الشق الثاني، المرتبط بالمبدأ، شبكة من العلاقات، التي تبدأ من علاقات المريد بالطريقة وأفرادها المتفاوتين، اجتماعياً وعلمياً وتحصيلاً معرفياً؛ وانتهاء بالعلاقة بالشيخ الذي يمثل قطب الدائرة الصوفية .

لقد وجد الشيخ اليشرطي أن شبكة العلاقات السابقة، قد تمت معالجتها، من قبل السلف، بطرق متفاوتة؛ ففي حين بنى الصوفية العلاقة ما بين الله والإنسان على قاعدة الذِكْر، وما بين الإنسان والوجود على قاعدة الفكر، فإنهم وقفوا مواقف متفاوتة من الوجود؛ فبعضهم، كابن سبعين والششتري، أهمل دور الوجود، بل اعتبره وهماً لا قيمة له؛ وبعضهم الآخر، كابن عربي والشاذلي، اعتبره ظلاً ثانوياً للوجود الإلهي، أو صورة قائمة بالوجود الإلهي، وبالتالي، يتطلب الأمر دفع النفس إلى تجاوزه وغضّ النظر عنه.

ومن خلال الأسس التي اعتمدها الشيخ اليشرطي للطريقة (الكتاب والسنة)، نجده يعيد لعلاقات المريد مع الأشياء من حولـه رصانتها ومتانتها. فالقرآن يعطي لهذه العلاقات أصوليتها دون مواربة أو غموض. والسنة تغذّي التجربة العملية للفرد من خلال مجموعة من القيم والسلوكات. إذ إن الكتاب والسنة ليسا مجرد تراث قديم، بل هما فاعلية متجددة في الزمان والمكان.

ولتحقيق ذلك الارتباط، يدعو الشيخ اليشرطي إلى أربع فاعليات مستمدة من الكتاب والسنة. ويعتبرها أركاناً للطريقة، وهذه الفاعليات هي: المحبة، والذكر، والفكر، والتسليم . مؤكداً أن المحبة قطب تدور عليه الدوائر. ((فمتى أحببته ذكرته. ومتى ذكرته فكّرت فيه، وسلمت أمرك إليه))([13]). مستشهداً بقوله تعالى: } {([14]) .

إن تلك الفاعليات ترتبط، في منظور الشيخ اليشرطي، بأسس الطريقة (الكتاب والسنة). فالذكر هو لبّ القرآن، بما هو متعبد بتلاوة كل حرف فيه؛ والفكر هو محتوى السنة، بما هي تفسير وتعميق لمفاهيم الشرع؛ والمحبة هي جماع الروابط، ولُحمة العلاقات التي تجمع المريد بكل ما حوله؛ أما التسليم فهو الوجه الآخر للطريقة الصوفية، إذ هو ببسيط العبارة تسليم لله أولاً، وللشيخ، بما هو دليل ومرشد إلى الله، ثانياً. وهنا، يفسر لنا الشيخ هذا الارتباط، فيقول في أحد أحاديثه: ((الطريق ذكر الله ومحبة الشيخ))([15]).

لقد اهتم الشيخ اليشرطي، في هذا الجانب، بمفهوم المحبة، لتوسيع وتعميق دائرة العلاقات في الطريقة، فشملت إضافة للعلاقة ما بين المريد وشيخه، ومعتقده، والوجود من حوله، علاقة المريد بإخوانه؛ وهي مقدمة ضرورية، كما سنرى لاحقاً، لإضفاء البعد الاجتماعي على الطريقة الصوفية، وذلك لإثراء المشاركة الوجدانية للمتصوف في مجتمعه. يقول الشيخ اليشرطي عن أقسام المحبة: ((الحب على ثلاثة أقسام: حب طبيعي، ينفصل في عالَم المُلك، وحب روحاني، ينفصل في عالَم الملكوت، وحب حقيقي، لا ينفصل في عالَم المُلْك ولا في عالَم الملكوت))([16]) . وهو، كما سنرى، من خلال هذا الحديث، وغيره، يرى أن الأنماط الثلاثة للمحبة ضرورية داخل المجتمع الطرقي، لأن الأدنى منها يقود إلى الأعلى والأسمى. ولذا، نراه يروي لمريديه قصة مغزاها أن محبة أهل الله تنفع ولو لعلة؛ إذ يمكن للمحب أن يرتقي من محبة شهوانية دنيا، إلى محبة إلهــية سامية ([17]).

وقد اهتمت مدارس صوفية كثيرة بمبدأ المحبة كقاعدة جوهرية في العلاقات الصوفية، وخاصة عند تأسيس العلاقة مع الذات الإلهية على قاعدة المحبة . وتوسع الشيخ اليشرطي في التركيز على هذا النمط من العلاقات، فقرن ما بين أدائين على المريد القيام بهما: ذكر الله، ومحبة الشيخ، باعتبار الشيخ وارثاً، أو نائباً عن النبي، بحسب عقيدة المتصوف . وهذان الأداءان مهمان بالنسبة للمرحلة الطرقية التي كان يمر بها التصوف، وخاصة عندما أخذت الطرق على عاتقها الدور الاجتماعي في المجتمع، في ظل غياب النقابات المهنية والجمعيات الخيرية. وقد احتل الشيخ الدور الرئيس في علاقة المحبة؛ باعتباره القطب الذي تدور عليه الدوائر، والسبب في تجميع أشتات المريدين حوله. ولذا، فالشيخ هو صاحب الطريقة، وهو الواسطة التي يحصل بها الاجتهاد والإمداد، وهو قطب ومحور للعلاقات جميعها. يقول الشيخ اليشرطي: ((الطريق طريقتنا، والنور نورنا، إن شئنا نمده للفقير، وإن شئنا نطويه عنه))([18]). لكن ما هي الأدوات التي أقام الشيخ اليشرطي عليها تلك الأسس، أو بمعنى آخر، ما هي الأركان، أو الأحكام، التي أقام عليها الشيخ تلك المنظومة من العلاقات داخل الطريقة الصوفية؟ وكيف خدمت هذه الأحكام منظومة العلاقات داخل الطريقة ؟

 يجعل الشيخ اليشرطي للطريق أربعة أحكام هي: الجمع، والتوحيد، والإيمان، والتسليم([19]). لقد ربط الشيخ كل واحدٍ من الأركان ـ الفعاليات، التي ذكرناها، بحكم من الأحكام، حتى تبدو كأنها ثمرات، أو نتائج منطقية، لتلك الفعاليات. فركن الذكر يولّد حكم التوحيد، وركن الفكر يولد حكم الإيمان، والمحبة تولد حكم الجمع، والتسليم ركناً هو التسليم حكماً. وما يؤكد هذه المقاربة أنه، في حديث آخر، يقول: ((اذكروا الله بالتوحيد، يذكرْكم بالتأييد))([20]). أما كيف تهيأ هذا الربط بين الأركان والأحكام، فهو أمر يمكننا أن نفهمه بعمق إذا عرفنا أن الشيخ اليشرطي يركز، في أحاديثه، على ثلاثة أبعاد تقوم عليها الطريقة الصوفية، وهي: ـ الشيخ، ـ المريد، ـ الطريقة .

لذا، فأحد أهداف الوجود الطرقي، في التصوف الإسلامي، هو تنظيم العلاقات ما بين هذه الأبعاد الثلاثة (الشيخ ـ المريد ـ الطريقة)؛ فالشيخ هو قطب الدائرة، أو المحور الذي تدور عليه الدوائر؛ والمريد هو الذي يتأثر فعلاً وانفعالاً، في حركة جدلية صاعدة ونازلة؛ والطريقة هي التي تنظم تلك العلاقات المتداخلة، على أسس ونظم ضابطة. يقول الشيخ اليشرطي، واصفاً تفاوت دوائر المريدين، في السلوك إلى الله، وهو تفاوت منهجي لا جوهري: ((لكل واحد من أئمة الصوفية رأي . منهم من اختار الخلوة، ومنهم من اختار الرياضة، ومنهم من اختار السياحة. وسيدنا أبو الحسن الشاذلي، رضي إليه عنه، فضّل الحب الإلهي، فطريقتنا طريقة حب الله ورسوله))([21])

فعلاقة المريد بالشيخ، الذي ينوب عن الرسول، هي علاقة قائمة على الحب . أما علاقة المريد بالجماعة فعلاقة قائمة على الانتماء والمسؤولية. يقول الشيخ اليشرطي، معبراً عن هذا المعنى: ((الفقير الصادق هو الذي يُنهض إخوانه بجانب الله، ويُحيي قلوبهم بالله، ويعرّفهم به، ويدلّهم عليه))([22]). أما العلاقة ما بين الشيخ والجماعة فتعتريها أحوال وأوضاع متفاوتة، ويشير الشيخ اليشرطي إلى هذا المعنى بقوله: ((… أرواح المريدين مربوطة بروح الشيخ . وروحانية الشيخ ترعى المريد في عالم الأرواح . وعند ظهوره في عالم الأشباح، ترعاه روحانية شيخه، وتجعل له سبباً يقربه، شيئاً فشيئاً، إلى شيخه، إلى أن يأتي إليه ويبايعه))([23]). فالشيخ اليشرطي ينظر إلى هذه العلاقة على أنها تخضع لمعادلات الجذب والطرد من مركز الدائرة، وذلك من خلال سلم متصاعد نحو الصورة الأكمل، أو من خلال دوائر متداخلة يقترب أفضلها من المركز([24]).

ولكي يحافظ الشيخ اليشرطي على استمرارية هذا النهج وصفائه، كان لا بد من أدوات، أو آلية، فرز وتحديد لعناصر التمايز في مجموعته، فكانت الحدود التي استقاها الشيخ من مرجعيته الدينية، أي من الكتاب والسنة. فها هو الشيخ يرسم للمريدين سكة العمل الروحي على خطين متوازيين هما: الكتاب والسنة، فيقول: ((إذا ورد على الفقير وارد، يجب أن يزنه بميزان الشرع، فإن وافق الشرع، يقبله . وإلا، فليرده))([25]). وقال، في مناسبة أخرى، : ((إذا فقدتم الوصول، فارجعوا إلى الأصول))([26]).  بل لقد أباح الشيخ للجماعة الاعتراض على المريد إذا خرج عن منهج الشريعة، فقال رداً على من سأله: هل يجوز الإنكار على المريد…؟: ((نعم !. إذا تعدى حدود الشرع الشريف))([27]).

وانطلاقاً من فلسفة الشيخ اليشرطي القائمة على ربط الحقيقة بالشريعة، نراه يوازن بينهما بقوله: ((… الشريعة والحقيقة متلازمتان، لا تصح إحداهما، إلا بالأخرى))([28]).  فقد زاوج الشيخ ما بين الواقع المعاش للمريد والمبدأ المثال الذي يسعى إليه المريد، من خلال معادلة الأركان الأربعة، التي مرت معنا، للطريقة (محبة، وذكر، وفكر، وتسليم). فالمريد، كعنصر فاعل في المجتمع والوجود، يجب أن يكون شمولي النظرة، لا يرجح كفة على أخرى (كفة الشريعة، وكفة الحقيقة). إذ إن مجرد خلل بسيط، في مسيرة المريد، توجب عليه العقوبة أو الحد الشرعي . لكن الشيخ كان، في بداية الأمر، يفضل أن يكلَ المريدَ إلى وازعه الذاتي، فنراه يقول: ((بحبح نفسك بالمباحات، وشدد عليها وازجرها عن المحرمات))([29]) . أما إذا استفحل الأمر، ولم يقم الوازع الشخصي بدوره ، فإن الشيخ هدد المريد المخالف بحرمانه من المعرفة، وسحب النسبة المحمدية منه، ويتضح هذا في قولـه: ((… يجب العكوف من حيث أمرَكَ مولاك ونهاك؛ وإلا تلاشت المراتب والأحكام، وأُبطلت حكمة إرسال الرسل الكرام، عليهم الصلاة والسلام، … فواجب الفقير الصادق في محبة شيخه، الذي يعتقد فيه أنه وارث محمدي، ونائب عنه ﷺ في ما بلّغه عن ربه، عز وجل، الوقوف على حده بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والاستسلام في ظواهره وخوافيه . وكل من سار مع نفسه، وسرح في مسارح شهواته عن معارج قدسه، فقد نقض عهده، وأوجب النكوص بعده، ومرق من الدين، ولم يشعر بحاله، وغرق في مساقط أوحاله، بزخرفة محاله))([30]).

 

([1]) التفتازاني، أبو الوفا، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: الثقافة للطباعة، 1974م، ص 269و 299.

([2]) م . ن، ص 286.

([3]) لطيفة الأخضر، الإسلام الطرقي: دراسة في موقعه من المجتمع ومن القضية الوطنية، تونس: سراس للنشر، 1993م، ص4 .

([4]) اليشرطية، فاطمة، نفحات الحق، 57.

([5]) المنوفي، جمهرة الأولياء، ج2، ص ص 221-222.

([6]) الغزالي، إحياء، ج1، ص4 و19.

([7]) عطا، التصوف، ص 325 .

([8]) المدني، الأنوار القدسية، 106 .

([9]) عطا، التصوف، ص 231.

([10]) المدني، الأنوار القدسية، ص 115 .

([11]) فاروق مصطفى، البناء الاجتماعي للطريقة الشاذلية في مصر، ص ص 108-112.

([12]) الصغير، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي، ج 1، 33.

([13]) اليشرطية، نفحات، ص 64.

([14]) الآية 65، من سورة النساء .

وسنلاحظ أن شيوخ الشاذلية، عامة، يعتمدون ذات الأركان الأربعة في تأسيس طرقهم المختلفة؛ فها هو أحمد بن عياد يروي عن الشيخ أبي الحسن علي بن محمد البكري (ت 952هـ)، قوله: طريق القصد إلى الله أربعة، من حازها فهو من الصديقين المحققين، ومن حاز ثلاثاً منها فهو من الأولياء المقربين، ومن حاز اثنين فهو من الشهداء الموقنين، ومن حاز واحداً فهو من عباد الله الصالحين: الذكر، والتفكر، والفقر، والحب؛ انظر: عياد، المفاخر، ص65 .

([15]) اليشرطية، نفحات، ص 57.

([16]) م . ن، ص 67.

([17]) تفاصيل القصة مذكورة في كتاب نفحات الحق لفاطمة اليشرطية، ص 84 .

([18]) م . ن، ص 59.

([19]) م . ن، ص 77.

([20]) م . ن، ص 69.

([21]) م . ن ، ص 61 .

([22]) م . ن، ص 277.

([23]) م . ن ، ص 289 .

([24]) يمكن العودة، هنا، للإشارة إلى تقسيم الشيخ اليشرطي لمراتب المحبة إلى ثلاثة أقسام: حب طبيعي، وحب روحاني، وحب حقيقي؛ انظر: اليشرطية، نفحات، ص67 .

([25]) م . ن ، ص ص80-81 .

([26]) رواية شفوية .

([27]) اليشرطية، نفحات، ص 81 .

([28]) م . ن ، ص 113.

([29]) م . ن ، ص 81.

([30]) م . ن، ص ص87-89.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!