من تجلّيات الطعام في الخطاب الصوفيّ

من تجلّيات الطعام في الخطاب الصوفيّ

من تجلّيات الطعام في الخطاب الصوفيّ

بقلم: د.محمد بن الطيّب

 

إذا استقرأنا الخطاب الصوفي على وجه العموم ابتغاء رصد موضوع الطعام فيه ألفينا له حضورا ظاهرا بالخصوص في خطاب الرياضات والمجاهدات وفي خطاب الخوارق والكرامات.

1- الطعام في خطاب الرياضات والمجاهدات:

أما الخطاب الأوّل فهو مندرج في الخطاب الزهدي المعبر عن الجانب العملي من التصوف، ذلك أن الزهد مقدمة ضرورية للتصوف، ومن الخطأ توهم الترادف بينهما، فلا تصوف من دون زهد، ويمكن أن يكون زهد دون تصوّف، والزهد أسلوب من الحياة يحياه المؤمن وموقف خاص من الدنيا وزخرفها وشهواتها ومن النفس ومطامحها وأخذ الإنسان نفسه بأنواع الرياضات والمجاهدات الروحية والدنية([1]). وهو من المظاهر القارة والسمات المشتركة بين المتصوفة، وهو خاصية مميزة لهم وتتجلى في العزوف عن كل ما تستطيبه النفس في العادة. وللسلوك إزاء الطعام في هذا الباب أهمية بالغة، إذ يكتفي في المأكل ببسيطه وخشنه مما يقيم الأود. وأحيانا تحمل النفس على الجوع، ولا تصيب من الطعام إلا ما يتبلغ به.

وفي الجملة يتجلى الزهد في النأي عن متع الدنيا ولذاتها وشهواتها من مأكل وملبس ومسكن وجاه ومال وسلطان. وربما وجدنا المثل الأعلى للزهد عندهم في قول السري السقطي (ت 254هـ/868م) “لا تأخذ من أحد شيئا، ولا تسل أحدا شيئا، ولا يكن معك ما تعطي منه أحدا شيئا”([2]). ومن هنا كان ارتباط الزهد بالفقر، ونعت الصوفية أنفسهم بلقب “الفقراء”. وقد عبر أبو تراب النخشبي (ت456هـ/859م) عن كمال الزهد عند الصوفي في قوله: “الفقير قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه حيث نزل”([3]). فخطاب الزهد في الطعام مندرج في نطاق التحرر من مطالب الجسد وشهواته باعتباره مرحلة ضرورية للوصول إلى القرب من الجناب الإلهي وتلقي المعرفة الذوقية الكشفية الإلهامية اللدنية منه([4]). ولذلك كان الصوم من أجل العبادات عندهم، فكانوا يبالغون فيه حتى إن منهم من كان يصوم الدهر([5]).

إن الإعراض عن لذيذ الطعام والاكتفاء منه بما يمسك الرمق ركن من أركان الزهد باعتباره المعبر المفضي إلى التصوف، يدل على ذلك أن أبا يزيد البسطامي (ت261هـ/874م) لما سئل: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟ قال: يبطن جائع وبدن عار”([6]). وقال الجنيد البغدادي (ت293هـ/910م): ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات، لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله، وأصله التعزف عن الدنيا”([7]).

إن التورع عن كثير من المباحات ومنها الطعام ما هي إلا أشكال تعبدية الهدف منها معاناة تجربة روحية تفضي إلى الفناء في الله. والاكتفاء بالضروري من الطعام ليس مقصودا لذاته، وإنما لإقامة البدن حتى يتمكن من الاستمرار في العبادة. قال ابن عربي: “يجب أن تكون تغذية البدن كعلف الدابة إنما تطعمها لتحملك لا لتقضي شهوتها”([8]). والأخبار في هذا الباب تكاد لا تحصى كثرة في المشرق والمغرب، فمن ذلك ما رواه صاحب التشوف إلى رجال التصوف أن عبد الله بن الخير الزناتي أقام عشرين سنة لم يأكل لحما، ولا شيئا مما يأكله الناس، وإنما كان يجمع نبات الأرض فيصنع منه أقراصا يأكلها في العام، فإذا جاء عام آخر صنع مثلها، فسئل عن تلك الأقراص، فقال أجمع النبات فأجففه في الشمس ثم أطحنه وأعجنه وأصنع منه هذه الأقراص فأقتات بها”([9]). ومن ذلك ما رواه عن أبي محمد عبد السلام التونسي أنه كان “يأكل الشعير الذي يحرثه بيده، فإذا اشتهى اللحم اصطاد السلاحف البرية فأكل لحمها”([10]). إنه طعام يدل على قشف شديد وشظف في العيش، فهذا الصوفي طعامه الشعير، وهو طعام خشن غليظ، وعادة ما يكون طعاما للحمير، والملاحظ أنه لا يقصد به إلا حفظ الحياة لا متعة الأكل، وقد أضيف إليه قيد دقيق ذو دلالة بليغة على أن الرجل في غاية التورع عن الشبهات في طعامه، فهو لا يأكل أي شعير أتيح له، بل لا يأكل إلا من الشعير الذي زرعه بيده، فالمبالغة في التورع تتجلى في أنه لا يرضى حتى بالشعير الذي يشتريه بماله، لأنه لا يعلم مصدره، ولذلك كان لا يأكل إلا من يده، ليقينه بأنه طعام حلال، وفي ذلك مبالغة شديدة في التورع عن الشبهات. وإذا كان الاستمرار في تناول هذا النوع الوحيد من الطعام مما يخرج عن المألوف من حياة الناس اليومية بادر الإخباري إلى التخفيف من الغلو والشطط في ذلك، فإذا بنا أمام رجل يشتهي اللحم كسائر الناس ولكن الفرادة والخروج عن معتاد السلوك يبقيان من الثوابت الملازمة لهذه الشخصية التي وإن اشتهت اللحم فإنها لا تبتاعه من القصابين، وإنما تصطاده اصطيادا، وهي لا تصطاد ما تشتهيه النفوس في مألوف العادة كلحوم الطير والأرانب والغزلان، وإنما تصطاد السلاحف، وهي مما لا يحفل الناس باصطياد، ولا يستطيبون لحمه. إنه يتحرى الحلال في طعامه على نحو لا تكون فيه مضايقة لأحد من الناس ولا تكون فيه معاملة مالية معهم على أي نحو كان، وفي ذلك نموذج مثالي للتورّع عن الشبهات والزهد في الحلال وتحري المباح الخالص المبرأ من كل شبهة من الكراهة بله الحرمة. ومن ذلك أيضا ما روي عن أبي بكر يحيى بن محمد أنه “أقام مدة لم يعقد على دينار ولا درهم، ولا أوى إلى عمران ولم يكن طلابه يقرؤون عليه إلا في بطون الأودية وشعاب الجبال، وما كان يأكل إلا مما تنبته الأرض من المباح”([11]).

ومما يتصل بهذا الجانب وتتجلي فيه مجاهدة النفس على إيثار غيرها بالطعام، ويدل على أن الصوفي غيري المنزع يحارب ما في الطبع البشري من الأثرة وحب الذات، ويكشف عن انغماسه في هموم مجتمعه ما روي عن سفيان الثوري (ت161هـ/777م) أن الفقراء كانوا في مجلسه كالسلاطين، وإذا بلغهم عن أحد الأغنياء أنه متعبد سخروا منه، ذلك أن عبادة الغني عندهم توزيع ما زاد عن حاجته من الأموال على الناس إطعاما وإكساء وقضاء للحاجات، أما الصلاة والصوم فلا يجديانه شيئا ما لم يؤد زكاة ماله، وقد ذكر الشعراني (ت973هـ/1565م) أن من أخلاق الصوفية تقديم إنفاق الدراهم والدنانير في طعام الجائع وكسوة العريان، ونقل عن عبد الله بن المبارك (ت181هـ/797م): “لقمة في بطن جائع أرجح في ميزاني من عمارة مسجد”([12]).

وما روي عن البسطامي أنه قال: “خرجت إلى الحج فاستقبلني رجل في بعض المتاهات فقال: أبا يزيد إلى أين؟ فقلت: إلى الحج، فقال: كم معك من الدراهم؟ قلت: معي مائتا درهم، فقال: فطف حولي سبع مرات، وناولني المائتي درهم، فإن لي عيالا. فطفت حوله وناولته المائتي درهم”([13]). ولعل هذه الحكاية من صنعه هو لتثبيت مبدأ تفضيل الإنفاق على الفقراء بدلا من الحج، وقد ساقها بمنطق الصوفية ولغتهم، فجعل الرجل الفقير بمثابة الكعبة، وطاف حوله ثم سلمه المال وعاد إلى بلده معتبرا أن ذلك هو حجه.

وما رواه أبو العرب أن أبا خالد عبد الخالق وهو من زهاد القيروان رأى رجلا من أهل البادية وقد بدا عليه أثر البؤس، فهو “يقضم الشعير كما تقضم الدواب”، فإذا به يؤثره بما حمله إلى زوجته المريضة من لحم وخبز، بعد أن أفلح في إقناعها بأن الله يضاعف لها الأجر في الآخرة([14])، وأن البهلول بن راشد كانت علاقته بالعامة تقوم على البر والمرحمة والإيثار، فقد روى عنه بعض أصحابه أنه كان عنده طعام فغلا السعر فأمر به فبيع، ثم أمر من يشتري منه. فقيل له: تبيع وتشتري؟ فقال: نفرح إذا فرح الناس ونحزن إذا حزنوا”([15])، وهكذا لم يستأثر بالطعام لنفسه من دون الناس، بل قاسمهم إياه، فالأنموذج السلوكي الذي يرسمه هذا الخبر هو انخراط المتصوف في مجتمعه ومعاناة هموم الناس، وهو دال أيضا على تحول الزهد من مسلك شخصي انفرادي انعزالي إلى موقف فكري، قوامه الفعل في المجتمع، ومعايشة الناس أفراحهم وأتراحهم، وتجسيم القدوة السلوكية الحسنة فيهم. وفي هذا القول تعبير عن صميم الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، وذلك بنكران الذات والتغلب على شهواتها الذاتية، ومصالحها الآنية، من أجل إسعاد الجماعة.

2- الطعام في خطاب الخوارق والكرامات

الحق أن كرامات الطعام من أكثر الأخبار شيوعا في تراجم الصوفية ومناقبهم، وهي تندرج في نطاق صنف من الكرامات يمكن تسميته بالكرامات الاجتماعية، وهي متصلة بشؤون الحياة المادية المتعلقة بالمعاش. وقد تكاثرت بالخصوص في أوقات الأزمات وسني الجدب وعوز الطعام وشدة الحاجة إلى القوت، فكانت الاستجابة بكرامات تكثير الطعام على نحو يكفي فيه الطعام القليل الجم الغفير من الناس، وكانت كرامات الطعام على وجه العموم ذات وظيفة اجتماعية تستجيب لأماني المجموعة وتقيها شر الهلاك جوعا. وفي هذا السياق اعتبر الطعام رمزا للبركة، وذلك يعني أن الإعراض عن تناوله يعد رفضا لتلك البركة، أو دليلا على خلعها عن صاحبها. واعتبر الإطعام أيضا وسيلة لنيل شفاعة الولي ومن المعروف أن من أهم الوظائف التي كانت تنهض بها الزوايا والخوانق في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه الإطعام. ولا يخفى ما لهذه الوظيفة من أهمية بالغة في مجتمعات كثيرا ما كانت تعاني من نقص في الإنتاج في فترات الجدب والقحط وفي أوقات الأوبئة وسنوات المجاعة. فلابد أن هذا الجانب النفعي كان عنصر جاذبية للناس لا شك فيه.

وهذا النوع من الكرامات المتمثل في تكثير الطعام معروف لن نتوقف عنده، فقد اخترنا نموذجا طريفا من الكرامات التي اتخذت من الطعام موضوعا لها وسنستصفى منها بعض الأخبار التي يدرجها أصحاب المناقب الصوفية ضمن ما يصطلحون على تسميته في مرحلة متأخرة بـ”تخريب الظواهر” ويطلقون على الأولياء صفة “أهل تخريب الظواهر”، وذلك مظهر من مظاهر تطور صورة الولي في المجتمع، فبعد أن ساد لفترة طويلة نمط الولي المثالي النموذج الجدير بالاقتداء، الولي الذي يصون أحكام الشريعة وينضبط لها أكثر من غيره إذا بنا أمام نمط من الأولياء تصدر عنهم أمور تخرق الأعراف الاجتماعية وتخرب الأحكام الشرعية، ومن شأن ذلك أن يزعزع الثقة في ولايتهم ويفسد عقائد الناس فيهم. ومن أبرز كتّاب المناقب الصوفية الذين اهتموا بهذه الظاهرة الراشدي في كتابه ابتسام الغروس ووشى الطروس في مناقب سيدي أحمد بن عروس([16]) حيث خصص لظاهرة التخريب قسما من كتابه يلتمس المخارج والمبررات لهذا التخريب، وقد اخترنا منه نوعا من التخريب مخصوصا هو إظهار الأكل في نهار رمضان، ذلك أن الإفطار في نهار رمضان كبيرة من الكبائر شرعا هذا إذا أخفيت عن الناظرين، فإن جوهر بالإفطار فهو فسوق. فما بالك إذا صدر هذا السلوك من ولي كبير يعتقد الناس ولايته ويؤمنون بكرامته ويلتمسون بركته. ولذلك عد ظهور هذا السلوك من الولي “تخريبا” لأنه فضلا عن تهديمه أحكام العادات والأعراف فإن فيه تحطيما لنموذج الولي المثال القدوة وصرفا للناس عنه.

أورد الراشدي طائفة من الأخبار رواها عن الولي أحمد بن عروس فمنها ما حدثه به “أبو عبد الله محمد الغرياني قال جئت يوما في شهر رمضان إلى الشيخ سيدي أحمد بن عروس رضي الله عنه فوجدت بين يديه جنب شاه مشويا وهو يأكل منه أكلا مستبشعا ويمضغ مضغا منكرا كريها بحيث أخذني العجب من ذلك”([17]). ومنها: “حدثني من أثق به أنه كان مع جماعة في شهر رمضان في القيسارية التي تقابل الشيخ الولي الصالح سيدي أحمد بن عروس – رضي الله عنه ونفعنا به – فرأيناه رضي الله عنه يأكل تمرا ويشرب لبنا، وهو يقطر على لحيته الكريمة وصدره، ونحن نرى ذلك عيانا”([18]). ومنها: “ما حدثني به ابن عون قال كنت بين يدي الشيخ رضي الله عنه يوما في شهر رمضان فإذا بجماعة من طلبة العلم من أهل المغرب قد وردوا على الشيخ زائرين، فلما وقفوا بين يديه ورآهم نادى رضي الله عنه ولد أخيه النائب عنه بالزاوية وقال له أريد ثلاثة أصوع من دقيق السميد بالكيل، فأتاه في الحين بذلك فجعله الشيخ في قصعته ولته بالماء وحده، وجعل يأكل فيه أكلا ذريعا إلى أن أتى على جميعه ولم يترك منه سوى القليل التافه، ثم قال يخاطب نفسه أي والله فضيح أي والله يأكل في رمضان والناس ينظرن فيه”([19]).

ومنها: “ما حدثني به (…) الفقيه القاضي الأكمل أبو الفضل بلقاسم العقبي رحمه الله تعالى – وكان من المعتقدين لأولياء الله تعالى – قال: من غريب خوارق الشيخ الصالح الولي الشهير أبي عمرو عثمان القرنبالي رضي الله عنه أن رجلا ممن كان يعتقده ويتردد إليه أتاه بصحيفة فيها طعام عليه دجاجة في يوم من أيام رمضان، وكان له أخ لا يعتقد الشيخ ويوبخه على اعتقاده فيه، فاتفق أن جاء معه إلى الشيخ صحبة الطعام، فكشف رضي الله عنه عن الطعام وجعل يقول كأنه يخاطب نفسه ثم قال: تصير إلى المغرب لا والله، ثم أخذ فخذا من تلك الدجاجة فأكله، ثم قال والله لتأكلن من هذا البازين وأكل منه ما شاء الله وصاحب الطعام وأخوه المنتقد يشاهدان، فلما خرجا قال المنكر لأخيه المعتقد ما بقي لك ما تقول بعد هذا يأكل في رمضان من غير ضرورة تدعوه إلى ذلك، فلم يجد المعتقد جوابا”([20]).

إن هذه الأخبار وغيرها مما رشق به الكتاب مندرجة ضمن مفهوم التخريب، ولما كان التخريب بهذه الخطورة صرف الراشدي عنايته إلى الاجتهاد في التماس المخارج له، فأورد المبررات المشروعة لظاهرة إفطار الولي في نهار رمضان فباد في البدء إلى نفيها نفيا تاما مؤكدا أن أكل الولي في نهار رمضان لا يمكن أن يكون حقيقيا بل هو “إيهام بالأكل”، وبهذا التبرير سعى إلى نسف الظاهرة من أصلها واجتثاثها من عرقها، فما يبدو أمام أعين الناس من تخريب للظواهر واعتداء على حرمة الشهر الكريم لا يعدو أن يكون صورا تخييلية موهومة، وبذلك يبرئ شيخه من كل خرق لأحكام الشريعة بدءا. ومن ثم يصبح الحديث في المسألة غير ذي موضوع، بل إنه يدرجه في نطاق كرامات الولي بما أنه يستطيع أن يحدث في أعين الناس تحولات عجيبة ويأتي بتصورات خارقة.

وأما التبرير الثاني للتخريب بالإفطار في نهار رمضان فهو المرض فهذا تبرير شرعي فقد أباح الشرع للمريض الإفطار في رمضان، فهو عذر شرعي مبيح للأكل، ولكن هذا التبرير ضعيف، لأن الشرع وإن أباح الإفطار للمريض في رمضان فإنه لم يبح المجاهرة به، أما ظواهر التخريب بالإفطار فقد كانت على مرأى ومسمع من الناس. وأما التبرير الثالث فهو غلبة سكر الحال وتلك إشارة إلى بعض الحالات الوجدانية الشعورية التي تنتاب المتصوف في حال الفناء في الله فيغيب عن نفسه وعن العالم من حوله لما يتنزل عليه من التجليات الإلهية وما يستشعره من جلال القرب من الجناب الإلهي، فهي حالة أشبه ما تكون بحالة الغياب المؤقت عن الوعي، وفي مثل هذه الحال التي يغيب فيها العقل يسقط التكليف الشرعي، لأن العقل أساس التكليف، ومن ثم فقد يأتي بعض الأمور التي يخالف فيها أحكام الشريعة، ولكن لا حرج عليه لأنه لا يأتيها عن وعي وإرادة، وإنما يأتيها مغلوبا على أمره، في حال سكر ووجد، ولا يمكن أن يأتي تلك الأفعال المخالفة للشرع إذا رجع إلى حالة العقل والصحو. وهذا ما نظر له أقطاب التصوف. ولكن يبدو هذا التبرير الذي قدمه الراشدي ضعيفا أيضا، لأن من بلغ تلك المرحلة المتقدمة من معراجه إلى الله فأدرك حال الفناء فيه، وتحقق بنشوة السعادة بالقرب منه، وأتيحت له تلك اللذة الروحية الكبرى التي لا تعادلها لذة، كيف تنصرف همته إلى اللذائذ الحسية، ومنها أكل الطعام؟ فما بالك إذا كان ذلك في نهار رمضان، وها نحن أولاء نرى رأي العين أن الأحوال الشبيهة بهذه الحال من غياب الوعي عند المصروع مثلا لا يخطر بالبال أنه في حال غيابه عن الوعي يعمد إلى الأكل به هو في شغل شاغل عنه.

ولذلك لاحظنا أن الآلية العامة المتحكمة في أخبار التخريب التي رواها الراشدي هي إلحاق مظاهر التخريب بمظاهر الخوارق والكرامات. فإذا بخبر الأكل من جنب الجدي المشوي يستحيل إلي قوله: “ثم إن الله تعالى كشف عن بصري فإذا ذلك الجنب المشوي قطعة من خشب الزيتون عليها قشرها لا أشك في ذلك”([21]). وإذا بشرب اللبن مجرد تلبيس على الناظرين، قال: “فقلت له منكرا عليه ما هذا الذي تفعل يا سيدي تفسد علينا عقائدنا فيك؟ فالتفت عني وهز نفسه، فرأت أثر اللبن على كتفيه وليس على شاربه وفمه، فقلت له: هكذا تفعل تسقي غيرك وتلبس علينا بذلك؟ فضحك مني وسكت رضي الله عنه”([22]).

وأما أكل الدجاجة والبازين في نهار رمضان فتتكشف قصته عن رجل مغربي جاء بعد عام لزيارة زاوية الشيخ وإذا بالشيخ يناديه من داخل الزاوية يا مغربي والله ما تدخل حتى نخبرهم بمسألتك، فقال: إني من أهل مراكش وقد كانت الحمى لازمتني سبعة أعوام وأنا منها فيما لا يعلمه إلا الله، فبينما أنا في شهر رمضان من سنة كذا في يوم كذا، فذكر اليوم الذي أكل فيه الشيخ الدجاجة المذكورة في تلك الساعة منه، وإذا برجل قد دخل عليّ وقد أقلعت عني الحمى في تلك الساعة ومعه قصيعة البازين وعليها دجاجة، فعرض عليّ الأكل من ذلك فتمانعت فحلف لي فأكلت، وما زال يحلف حتى أكلت الدجاجة كلها وأكلت شيئا من البازين، ولما نهض لينصرف عني سألته بالله من أنت فقال أنا عثمان القرنبالي بتونس، فعافاني الله ببركته، وما كنت أرى قط أنها تفارقني أو أنني أعافى منها، وعاهدت الله تعالى أن أزوره، وبهذه النية خرجت إليه من بلادي، وهذا الحمل من البرنس له وعدة مني. قال فتاب الأخ المنكر واستغفر الله تعالى ورجع عن إنكاره إلى اعتقاد الشيخ رضي الله عنه وإكباره”([23]). وهكذا تنتهي أخبار التخريب بعكس مدلول التخريب من تشويه صورة الولي في الظاهر إلى تمجيده وتقوية الاعتقاد فيه عندما يتكشف التخريب الظاهري عن كرامة باطنه. فلا عجب بعد ذلك أن يستحيل جنب الشاة المشوي الذي رؤي الولي يأكل فيه أكلا شنيعا إلى قطعة من خشب الزيتون، أو أن يأكل غير مرة في نهار رمضان والناس ينظرون ثم ينكشف بعذلك أنه كان يطعم غيره في أماكن قصية، ويستجيب لأمانيهم ويدفع عنهم الأذى ومنهم المريض والجائع وذو الحاجة. فتكون وظيفة التخريب حينئذ مزيد تعميق الاعتقاد في الولي وإرساخ ولايته وتثبيت الإيمان بكرامته. فلا يلبث التقبيح والتشويه أن يتحولا إلى تحسين وتمجيد.

[1] أبو العلا عفيفي، التصوّف الثورة الروحية في الإسلام، ط1، القاهرة، 1963، ص65.

[2] أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، بيروت، 1967، ج10، ص13.

[3] أبو عبد  الرحمان السلمي، طبقات الصوفية، تحقيق ج. بيدرسون J. Pederson، ليدن بريل، 1960، ص139.

[4] عرفان عبد الحميد فتاح، الفلسفة الصوفية وتطورها، ص87.

[5] انظر: نيللي سلامة عامري، الولاية والمجتمع، منشورات كلية الآداب، جامعة منوبة، تونس، 2001.

[6] أبو عبد الرحمان السلمي، طبقات الصوفية، ص66.

[7] المصدر نفسه، ص143 – 144.

[8] ابن عربي، شجون المسجون وفنون المفتون، تحقيق: علي إبراهيم كردي، دمشق، دار سعد الدين، 1999، ص133.

[9] ابن الزيات (أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي)، التشوف إلى رجال التصوّف، تحقيق: أدولف فور، الرباط، 1958، ص290.

[10] المصدر نفسه، ص88.

[11] المصدر نفسه، ص291.

[12] نقلنا هذه الأخبار عن هادي العلوي، مدارات صوفية، ط1، دمشق، دار المدى، 1997، ص187 وص222.

[13] السهلجي، النور من كلمات أبي طيفور، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، 1978، ص164.

[14] طبقات علماء إفريقية وتونس، ص142.

[15] المصدر نفسه، ص ص 136-137.

[16] الطبعة الأولى، تونس، مطبعة الدولة التونسية، 1303هـ/1885م).

[17] المصدر نفسه، ص238.

[18] المصدر نفسه، ص329.

[19] المصدر نفسه، ص330.

[20] المصدر نفسه، ص331.

[21] المصدر نفسه، ص328.

[22] المصدر نفسه، ص328.

[23] المصدر نفسه، ص 332.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!