التصوف والثقافة الصوفية في عهد المماليك

التصوف والثقافة الصوفية في عهد المماليك

التصوف والثقافة الصوفية في عهد المماليك

د. سعاد الحكيم

بلاد الشام عريقة في صوفيتها فهي أرض “أبي سليمان الداراني”، “أحمد بن أبي الحواري” وزوجته العابدة الزاهدة “رابعة الشاميّة”، والإمام “أبو زكريا النووي” مؤلِّف “رياض الصالحين”، والشيخ “رسلان”، والشيخ “عبد اللّه اليونيني”، كما أنّه إليها سَكَنَ حجة الإسلام “الغزالي” حين هزَّته محنة الشك، وفيها استقبل صدره نور اليقين فأحيا علوم الدين.
وهي أيضاً على امتداد تاريخها القديم والوسيط قبلة رجال الصوّفية من شرقٍ وغربٍ زارها “شهاب الدين عمر السهروردي” صاحب “عوارف المعارف” وزرع فيها أثر “عبد القادر الجيلاني”.. وزار بلاد الشام أيضاً “أبو الحسن الششتري” شاعر الشاذلية الشهير.. كما أقام فيها إقامات متعددة مولانا “جلال الدين الرومي”، صاحب “المثنوي” ومؤسس الطريقة المولوية، ومبدع لتمظهر سماع الروح في طرب البدن ورقص الدرويش وهو أيضاً صديق حميم لـ “صدر الدين القونوي” ربيب “محيى الدين بن عربي”.
وبلاد الشام هي أيضاً تربة لرفات صوّفية أقطاب، فها هو “شهاب الدين يحيى السهروردي” مقتول في حلب، و “علي الحرّالي ” المراكشي الأصل يموت في حماه، و “العفيف التلمساني” صهر “ابن سبعين” وشارح “فصوص الحكم” في مدافن الصوفية في دمشق، وشيخ الصوّفية الأكبر “محيى الدين بن عربي” يرتاح في شعاب قاسيون.
هذه الأعلام كلّها تؤكد كون بلاد الشام ودمشق على الأخص حاضرة صوّفية قديمة العهد، ومنفتحة في الوقت نفسه من جهاتها الأربع: على تركيا وبلاد فارس، وعلى أراضي الحجِّ المقدَّسة، وعلى بغداد، وعلى عواصم مصر بل المغرب العربي إلى أقصاه.
وعلى الرغم من كون الحياة الصوّفية عبر التاريخ، فرديَّة كانت أم جماعيّة، نمت في محيط شعوبها بانفصال واتصال نسبيَّان مع السلطات القائمة، لكأنَّها دولة ضمن دولة أو فوق دولة، أو لكأنها مجتمع ضمن مجتمع أو خارج مجتمع، إلا أنَّ الموقف الإيجابي للسلطة الفقهية أو السياسية من بعض أشخاصهم أو تجمعاتهم كان يؤثر على فعالية التصوّف الإجتماعية فتستحسن العامّة معتقداتهم وممارساتهم من جهة، كما يؤثر هذا الموقف الإيجابي من جهة ثانية، مزيد ابداع من رجالات الصوّفية لعدم استهلاكهم طاقاتهم في الدفاع عن الذات ضدَّ الآخر السياسي أو الفقهي.
وقبل الكلام على التصوّف في العصر المملوكي لا بدَّ من التنبيه إلى أمور ثلاثة:
الأمر الأول.. أنَّ سلاطين المماليك أنفسهم لم يؤثروا في حركة التاريخ الصوّفي كأن يوجهوها وجهة جديدة أو يضيفوا إضافات ملحوظة.. لذا فالتاريخ الصوّفي في عهدهم هو تاريخ لمرحلة زمنية صوّفية تمتد حوالي ثلاثة قرون هي استمرار ونتاج لما قبلها وتكوين ووِجْهَة لما بعدها.
الأمر الثاني.. كثير من سلاطين المماليك دفعهم قلق سلطانيٌّ لجبر ضعف ملكهم الظاهر باللجوء إلى “دولة الباطن”، وذلك بعدما وصل إلى أسماعهم من أتباعهم مرويّات عن خصوصيات تنبؤية وقدرات روحية لرؤساء طرق صوفية في زمانهم.
فهذا “بيبرس” المتطيّر يرجع لشيخه “خضر المهراني” يستشيره في أموره، ونراه يقدِّس شيخ القلندريّة في دمشق “محمد البلخي” ويهدي زاويته هدايا قيمة، كما زار مرات عديدة الشيخ “جندل بن محمد” [ت 675 هج/ 1277م] في منين . وها هو يخرج بعسكره تعظيماً وإكراماً “لأحمد البدوي” [ت 675هج] الشهير ليستقبله بعد عودته من الحجاز .
وها هو “برقوق” يقرّب إليه ” أحمد العجمي المجذوب”[ت ١٠٨ هج/ ٩٩٣١ م]: و “قايتباي” زار “عبيد البلقيني” الذي اهتمّ به “الغوري” أيضاً، و “الغوري” احترم بعمق الإمام “جلال الدين السيوطي” وإن كان ارتباطه في الأساس بالشيخ “شرف الدين الصعيدي” .
الأمر الثالث.. أنّ الإحاطة بتفاصيل قرون ثلاثة في دقائق ثلاثون هو إدخال للجمل في سُمِّ الخياط، لذا سوف أحبس جريان هذه المرحلة عبر التأريخ لحدث علمي نتج عن صدام حقول معرفية فيما بينها وظلّ مستمراً إلى زمن النهضة.. وأعني بهذا الحدث التاريخي قيام العلماء كافة في العالم الإسلامي آنذاك بفتح ملفّ التصوّف، ثم وقوفهم منه موقفاً نقدياً، ومحاكمة معتقداته وممارساته، بالمعايير العقلية والدينية والاجتماعية والسياسية.‬
آخذة بعين الاعتبار ما سبق وأجملته من عراقة صوّفية بلاد الشام، وانفتاحها الحضاري، وشكل علاقة المماليك بمتصوّفة زمنهم، ثم اتساع موضوعنا، أقسم باقي بحثي إلى قسمين رئيسيين: الأول درست فيه كيف وَقَفَ التصوّفُ ضدَّ التصوّف في زمن المماليك. ثم في القسم الثاني، واستناداً إلى هذا الصدام الصوّفي الصوّفي، أعدت النظر في رؤية الباحثين قبلي لتاريخ التصوّف، ووضعت في مقابل رؤيتهم جميعاً رؤيتي التي أرجو أن تسهم في تصحيح مسار هذا التاريخ إنطلاقاً من نشأته وبداياته.

القسـم الأول
تصوّف ضدّ التصوّف

انتصف القرن السابع الهجري وانطوى إلى عصر النهضة تقريباً زمن الكبار في عالم التصوّف، وهذا الغياب لشخصيات مؤثرة وفاعلة أحدَثَ جملةَ متغيرات أثرت في الواقع الثقافي السياسي في العصر المملوكي. لعلّ أهمّها:
1- تراجع خوف السلطة السياسية من مواقع الصوّفية، فلا حلاّج في الأفق ولا أي قطب جاذب يُخرج جموع الشعب المحكوم عن مدار نفوذ الحكام، لذا لم نلحظ طوال عهد المماليك أن سلطتهم تعرضت لصوّفي فرد أو صاحب طريقة بالأذى البدني.
2- تحول الصراع العقائدي- السياسي الملتبس، الكائن أيام العباسيين والأيوبيين، بين السلطة السياسية بحليفها الفقهي وبين السلطة الصوّفية، إلى صراع بين الفقهاء والقضاة والمفتين والمحدّثين من جهة، وبين مدرسة ابن عربي والمؤيدين لها من صوّفية وفقهاء وقضاة ومفتين ومحدثين أيضاً من الجهة الثانية. ففي العهد المملوكي الذي تميّز بحياد السلطة السياسية بل تدخلها أحياناً لصالح الصوّفي، تحولت المحاكمات التاريخية من محاكمات أشخاص إلى محاكمات نصوص. أو بالأحرى محاكمات نصوص بعد غياب الأشخاص، لأن النص الأساسي في هذه المعركة هو نص أصحاب الوحدة الوجودية (Unicité de l’être) والوحدة المطلقة (Unicité absolue)، معركة سجال قوامها رسائل ألّفها مؤيدون ومعاروين للتكفير أو للتحميد والتبرئة.
3- في غياب أعلام صوّفية أقطاب مدّ الفقه فتاويه إلى أرض التصوّف وحاول فرض هيمنته على علومهم الإلهامية، عرض معارفهم الذوقية الواردة في أقوالهم وأفتى فيها.. هنا يتربص خطر حقيقي بحركة التاريخ الصوّفي، إذ يتعرض الصوّفي لأن يتحول إلى مؤسسة وسلطة رسمية ويفارق كونه تجربة خاصة، لا عامَّ لها، شخصيّة وذاتيّة، وبالتالي يخسر خصوصيّته وإبداعه وتحرّره وانفلاته لينحبس في إطار التأديب والتقليد.
انطلاقاً من هذه المتغيرات ننظر إلى بلاد الشام عامة وإلى دمشق عاصمتها التي دخلها المماليك بعد وفاة “محيى الدين بن عربي” بعشرين عاماً فقط، ونحدّق في الحدث الأهم في هذا العهد وهو طرح كبار مشايخ العصر لمسألة التصوّف.. ونحصر حديثنا هنا عن شيخ الصوّفية الأكبر “محيى الدين بن عربي” ومدرسته، متوقفين عند أهم المعارضين له وهو ابن تيميّة.
لم يتعرض “محيى الدين بن عربي” [560هـ- 638هـ] أثناء استقراره في أواخر حياته في دمشق إلى أية مضايقات شخصية أو علميّة وربَّ العكس، فها هو “فخر الدين الرازي” [ت ٦٠٦هـ – 1209م] أحد فقهاء الشافعية وصاحب “التفسير الكبير” يثني عليه ويعتبره ولياً عظيماً. وقد أرسل له ابن عربي رسالة غيّرت حياته، وهي منشورة ضمن رسائله.
وكذا الحافظ “ضياء الدين المقدسي” [643هـ-1246م]، وهو من أكبر المحدّثين الحنابلة في دمشق وفي الوقت نفسه من خواصّ أصحاب ابن عربي والملازمين لمجلسه. وأيضاً “كمال الدين الزملكاني” [ت 651هـ -1253م] شافعي ومن كبار مشايخ الشام يعظّم ابن عربي. وشهادة الصوّفـي “شهاب الدين عمر السهروردي” بأن ابن عربـي بحر الحقائق، دليل كافٍ على مكانة ابن عربـي فـي عصـره.
نعم، لقد حدث لغط في حلب حول ديوانه “ترجمان الأشواق” ، وحول حبّه لنظام التي أهداها الديوان، إلا أنه استدرك الأمر بناء على طلب تلميذه القونوي، ودبَّج شرحاً لشعره دللّ فيه على إشاراته ورموزه الماديّة كلّها.
هذه الأصوات التي كانت – في حياة ابن عربي- ترتفع منفردة وفي مجالسها الخاصة لتعارض أفكاره لم تلبث أن تكثّفت وانتشرت وتعمَّمت بعد موته، حتى نكاد نقول لقد شارك علماء العصر أجمعهم في هذه المسألة، بحيث أننا قلّما نجد مسؤولاً دينياً في منصب علا أو دنا إلا وأفتى في أقوال‮ ابن عربي وأعطى رأيه في شخصه.
وتوالت المؤلفات تذمُّ وتكفِّر وتُديِن وتحثّ على منع كتب ابن عربي وعلى تحريم تعلمها‮ وتعليمها بل تطالب بإحراقها.
وعلى الرغم من أن اليمن ومصر كانتا مركزين فاعلين وناشطين فـي معارضة تصوّف ابن عربي ومدرسته إلا أن بلاد الشام ظلّت هي المسرح الأمّ، منها انطلق الصدام الصوّفـي – السلفـي، وفيها ظهر أعنف الخصوم..
وأكتفي بإيراد أهم الأسماء التي شاركت في صدام اليمن ومصر.. من هؤلاء الأعلام قطب الدين القسطلاني [٦٨٦هـ] وعماد الدين الواسطي [711هـ] والحافظ شمس الدين الذهبي [748هـ] وابن خلدون [٨٠٨هـ] وابن الخياط [811هـ] وتقي الدين الفاسـي [832هـ] وابن حجر العسقلانـي[852هـ].
أما بلاد الشام، مع الأخذ بعين الاعتبار انفتاحها على الأراضي المصريّة في العهد المملوكي، فقد حرصت على قيادتها في مسألة تصوّف القائلين بالوحدة الوجودية.. فألَّف “ابراهيم الحلبي” (أصله من حلب ) [956هـ/1542 م] رسالة ردّ فيها على السيوطي وسمّاها “تسفيه الغبي في تنزيه ابن عربي”؛ كما أفتى “ابن جماعة”، الذي وُلِّيَ قضاء مصر ثم الشام، بأنّ أقوال ابن عربي في فصوص الحكم بدعة وضلالة. وكذا فعل “الزواوي” [743هـ/1341م] الذي تولّـى رئاسة الفتـوى فـي المذهب المالكـي بمصـر والشـام.
كما كتب “علاء الدين البخاري”، الصوّفي الحنفي الذي تأدّب على “السعد التفتازاني” وتوفي في الشام [841هـ/1436م]، “فاضحة الملحدين وناصحة الموحدين” إدانة منه لمذهب وحدة الوجود. وأيضاً “زين الدين العراقي” الذي تنقّل بين العراق ودمشق وحلب والقاهرة والحجاز [ت 806هـ/ 1402م] وصف كلام ابن عربي بأنّه “ضلال وشرك واتحاد وإلحاد”. و “البقاعي” [من البقاع، توفي في دمشق 885هـ /1480م]، كتب رسالتين في نقد التصوّف، وتصوّف ابن عربي خاصة منشورتين في دمشق تحت عنوان: “مصرع التصوّف”.
وأهمّ من تصدّى لابن عربي ليس في بلاد الشام فقط بل في تاريخنا الإسلامي، هو: ابن تيميّة‮ [661هـ-728هـ]، الذي توفي محبوساً في قلعة دمشق.. ‬
ونجمل في نقاط خمس جملة فتاوى ابن تيميّة وما يترتب عليها من نتائج:
1- عندما استُفتي ابن تيمية في كتاب ابن عربي “فصوص الحكم” رأى أنّه كفرٌ عند أهل الملل من مسلمين ويهود ونصارى [ را. الفتاوى ج٢/ ص ص121-133].‬
2- أنّ ابن عربي شيخ سوء يقول بقدم العالم، ويهدم أصول الإيمان الثلاثة: الإيمان باللّه نظراً لقوله بوحدة الوجود ووحدة الأديان، والإيمان برسله لقوله بخاتم الولاية، والإيمان باليوم الآخر لقوله بالعذاب والنعيم المعنويان.. مع اعتـراف ابن تيميّـة بأنّ ابن عربـي أقرب القائلين بوحدة الوجود إلـى الإسـلام.
3- يعترف ابن تيميّة بإمكانية أن يكون ابن عربي واتباعه صادقين مع أنفسهم فيما يقولون، وهنا إمّا يخيـّل إليهم أشيـاء يظنونها فـي الخـارج أو هـي حالة شيطـانيـة وليـس ولايـة. [را. فتاوى ج ١١/ ص ٤٤٢].
4- اتهم ابن عربي بمدح الكفار والمذمومين كالحلاّج وغيره وانتقاص الأنبياء وذمّ الشيوخ المحمودين كالجنيد وسهل التستري.
ونلفت النظر هنا إلى أن ابن تيميّة قَبِلَ تصوّف الجنيد وسهل التستري والفضيل بن عياض المبني على الجهد الإنساني والرياضات والمعاملات ورفض تصوّف الحلاّاج وابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني الموسوم بالفتوحات والمشاهدات.
5- ينتج من كل ما تقدم أن ابن تيميّة بنقده لتصوف ابن عربي كان – في رأينا – كمن يدخل حقل التصوّف من أوسع أبوابه ويضع خطاً فاصلاً بين تصوّفين؛ فهو لم ينكر ولو للمحة واحدة أصل التصوّف وكونه وجودياً في دين الإسلام بل توجّه إنكاره لتيار ومدرسة ونمط.. فهو يضع كلُّ ما يحيك في صدره أنه كفر وشرك تحت عنوان “صوفيّة الملاحدة الفلاسفة” ويضع كل ما يقرُّ بأنه إيمان وهداية تحت عنوان “صوفية أهل العلم”. [را. فتاوى. كتاب التصوّف. ج١١/ص233].
ونتيجة لموقف ابن تيميّة وفتاويه وتعليمه يمكننا أن نقول: إن ابن تيميّة حرّك قضايا العصر، وفتح الملف الصوّفي وحاكم معتقداته وممارساته عبر محاكمة كتب الشيخ الأكبر، وتكلّم في وحدة الوجود والولاية وختم الولاية والنبوة والكرامات.. فقبل ورفض، نفى وأثبت.. قَبِلَ تصوفاً ورفض آخر، قَبِلَ “التصوّف السُنِّي”، بحسب مفرده، ورفض كلُّ تصوّف دخيل وبدعة ، قبل التصوّف المبني على السلوك الأخلاقي ورفض التصوّف النظري الفلسفي، قبلَ التصوّف المعتدل ورفض كل غلوٍّ وتطرف، لكأنه وضع تصوّفاً في مقابل التصوّف، أو لكأنه أبدع تصوّفاً سلفياً لإقصاء التصوّف الصوّفي الحامل أثر الغزالي وابن عربي معاً من وجدان المسلم.
ولسنا هنا في معرض متابعة ابن تيميّة في قراءاته لابن عربي فهذا عمل قام به كثيرون وقمت به في غير مكان.. ولكنني أستفيد من فتح ابن تيميّة للملف الصوّفي في القرن الثامن الهجري لأقول بأنّ موقفه من التاريخ الصوّفي يلخّص موقف سلفيّي عصره، وأنه يدفعنا لإعادة النظر في التاريخ الصوّفي ونشأته خاصّة، وهو موضوع القسم الثاني.

القسم الثـانـي
التصوّف تصوّفان

على امتداد هذه القرون الصوفيّة الخمس عشرة كانت تُلفتني بوارق هنا وهناك: مثلاً تقابل خطابيْن، خطاب “الحسن البصري” وخطاب “رابعة العدوية”. وأيضاً صدام بين صوفيّين، “الجنيد” شيخ الطائفة، و”الحلاج”. وكذلك صدام سلفي- صوّفي: ابن تيميّة ورجالات التصوّف. كما لفتني نصٌّ مفرد، وإنما شديد الوضوح، كنصّ الغزالي حين قال:”علم التصوّف ينقسم إلى علمين: علم معاملة وعلم مشاهدة”.‬
هذه البوارق مجتمعة دلتني على أنّ التصوّف في حقيقة الأمر ليس واحداً .. وتطوّر باتجاه تصوّف مغاير دخيل ومتطرف بأثر الثقافة الأجنبية، كما نجده في معظم الكتب التي أرّخت لنشأة التصوّف وتطور الحياة الروحية في الإسلام.. بل، ومنذ بدايات ظهوره، التصوّف ليس واحداً بل اثنان.. خطّان نشآ معاً، واتخذ كل واحد منهما مساره في أحقاب الزمان.
ونأخذ نموذجاً يؤكد نشأة التصوّفين معاً، ويوضّح معالم كل منهما، ويمكّنني من إثبات رؤيتي.. النموذج هو “الحسن البصري” و “رابعة العدوية”.‬
رابعـة والحسـن هما أبناءُ جيـل واحـد، وموطن واحـد هو البصرة.. وإنما بتوجهـين صـوّفييـن مختلفيـن..‬
هذا أولاً “الحسن البصري” يجتهد في مجاهدة نفسه.. يزهّد نفسه في الدنيا ويذمّها لغيره فيقول: “يا ابن آدم.. الثواء هاهنا قليل والبقاء هناك طويل”.. “إحذر هذه الدار التي تشوّفت لخطّابها كالعروس المجلوّة وهي لأزواجها كلهم قاتلة.. فإن صاحبها كلما اطمأنّ فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه”. وتتوالى مواعظه تحثُّ على العمل وترسم أهداف العاملين. وهو في كلِّ ذلك يستخدم صوراً فريدة تضع الإنسان أمام حقيقته.. يقول:”ابن آدم، إنّك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك”.. ويقول:”إنما أنت، أيها الإنسان، عددٌ فإذا مضى لك يومٌ فقد مضى بعضك” .. وهو دائم الحزن ويصرِّح بأن المؤمن يصبح حزيناً ويمسي حزيناً لأنه بين مخافتين؛ يخاف من ذنب قد مضى لا يدري أيغفر أم لا، وبين عمر قد بقي لا يدري ما سيصيب فيه من مهالك.. وكان الحسن يصحب إخوانه إلى مجلس السيدة رابعة قائلاً لهم:”هيا بنا إلى المؤدبة”.‬
إنطلاقاً من هذه النصوص نرى مقدمات تصوّف مبني على الجهد الإنساني، على طلب الإنسان للقرب الإلهـي، على تأديب النفس وتتبعها فـي كل نَفَس ولمحة.. ونسمِّي هذا التصوّف، تصوّف سلوك (أو عمل).‬
أما رابعة فهي لا ترى لنفسها فعلاً، الكلُّ من اللّه.. وعندما قال لها رجلٌ أكثرَ من الذنوب: لو تبت هل يتوب عليّ ؟ قالت: لا، بل لو تابَ عليك لتبتَ.. وفي مجلسها تحدثوا عن الإخلاص، فقال الحسن:”ليس بصادق في دعواه من لم يصبر على ضرب مولاه”، أتى الحسن هنا بمفهوم الصبر الذي هو مجاهدة إنسانية.. فقالت رابعة:” هذا غرور. ليس بصادق في دعواه من لم ينسَ الضرب في مشاهدة مولاه “، فأتت بمعنى الفناء.
كما أنّ شعرها المشهور الذي تتكلم فيه على الحبّين: حبُّ الهوى والحبّ الذي استوجبه مقام الألوهية تشرح بأن الحبّ الأوّل أشغلها بذكر المحبوب عمَّن سواه، وبالحبِّ الثاني كشف لها المحبوب الحجب حتى رأته.. إذن الكلُّ مواهب من اللّه ومننٌ وتقريب. الإنسان هنا – في هذا النمط الثاني من التصوّف- مختار، مطلوب، مقرّب، موضوعٌ للعطاء الإلهي، للكشف والمشاهدة والرؤية.. صاحب حال يحمله في المجاهدات فلا يشعر بجهد في العمل، فها هي رابعة تَصُفُّ قدميها للصلاة طوال الليل وهي تناجي ربّها:”نامت العيون وخلا كل حبيب بحبيبه وهذا مقامي بين يديك”.
ثمّ هي ترى قيامها الليل عطاءً إلهياً يستوجب الشكر فتصوم اليوم اللاحق شكراً على قيامها.. الحال أورث العمل ونسمِّي هذا التصوّف، تصوّف حال.
هذان التصوّفان، تصوّف العمل وتصوّف الحال، بنيويان في الحياة الصوّفية، لكلٍّ منهما إنسانه ومنطلقاته ومفرداته وخطابه وأهدافه، ولكلٍّ منهما أيضاً اعتداله وتطرفه. وعلى ضوء هذين التصوّفين نفهم تلك البوارق الملفتة في تاريخ التصوّف: نفهم إنكار الجنيد على الحلاّج، ونفهم تأدب الحسن البصري بحال رابعة، وتمثيل الغزالي للتصوّف الأول وقبوله الكلام في تصوّف المعاملات ورفضه الكلام في تصوّف المشاهدات لاعتباره إياها رزقاً مخصوصاً وتجربة لا تقبل التقليد والتعميم، ونفهم أيضاً كون ابن عربـي شيخ الصوّفية الأكبر من أهمّ أعـلام التصـوّف الثانـي والمصرِّح بكل هذه الفتوحات والمشاهدات.
وختاماً، أقول: نظرة على هذا الحقل المعرفي تمكنا من رؤية تيارين صوّفيين كبيرين، يلتقيان حيناً، ويتواجهان أحياناً، يتداخلان ويتخاصمان.. ولكن للأسف كثيراً ما يتكىء دارسون على تصوّف منهما لطرد الآخر مصرّين على جعله واحدا مقبولاً في مواجهة نماذج مرفوضةً. مع أنّه الأولى، أن نتتبع هذين النوعين في اعتدالهما وتطرّفهما، ونرسم حدود المقبول في كلّ واحد منهما.

* * * *

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!