من روني غينو إلى يحيى عبد الواحد: رحلة عقل نادر.
بقلم: إلياس بلكا
عرفت روني غينو منذ ثلاث وعشرين سنة.. أردت يومها أن أكتب عنه مقالا، وحين بدأت القراءة استعصت عليّ علومُ الرجل ولم أفهمها جيدا.. كما استعصى على بعض القراء الكرام فهم المقالين السابقين عن الكيمياء الخفية. وهذا سبب تقديمي لهما ليرى القارئ نماذج من ثقافة الرجل وأن على من يريد استيعابها ان يتسلح بمعرفة صلبة من الثقافات القديمة والعلوم الخفية.
لم يكن غينو مؤلفا أو مفكرا عاديا. يكفي أن أندري جيد صرح ذات يوم بقلق: إذا صحَّت آراء غينو فإن فكري كله ينهار. ولم أجد أي اعتراض على آراء غينو، ففكره لا يُنقض. والمشكلة أنني في سنّ لا تسمح بالمراجعة. ولو اطلعتُ على كتبه في شبابي لانقلبت حياتي كلها رأسا على عقب.
فمن هو هذا الرجل؟
ولد غينو لأسرة كاثوليكية محافظة سنة 1886 في مدينة تبعد 172 كيلومتر عن باريس، ثم ترك الدراسة النظامية بجامعة باريس وتفرغ لدراسة التيارات الباطنية والروحانية والغيبية التي كانت تعج بها العاصمة.. وحين استوعبها عرف أن معظم آرائها لا تصح أو لا تفيد فتركها أيضا.
وهنا تعرّف غينو على فرنسي اسمه شمبرينو والذي كان يدير مجلة “الطريق” مدة ثلاث سنين، وأسلم وتسمّى بـ”عبد الحق”، وساعد غينو على إصدار مجلته المشهور “المعرفة، أو الغنوص” والمتخصصة في الإسلام والأديان الوضعية والمدارس الروحانية.. والتي انتقدت انحرافات الماسونية والروحية الحديثة والباطنية المعاصرة والقبالاه اليهودية.. وضمّنها غينو كثيرا من أفكاره ومقالاته.
مرّ غينو بمرحلة شك عميق، انتهت في سنة 1912 بإسلامه وتَسمى بـ”يحيى عبد الواحد”. لذلك يشبهه بعضهم بالغزالي. وكان إسلامه على يد عبد الرحمن عليش، عالم وفقيه ومتصوف ومناضل اضطُهد وسُجن، وهو ابن محمد عليش الكبير الفقيه المعروف وشيخ المالكية بمصر. وآل عليش أسرة مغربية الأصل ثم استوطنت مصر، وأشهر أعضائها الشيخ محمد.
وعبد الرحمن عليش هو الذي أفاد غينو بالفكرة المركزية لكتابه “رمزية الصليب”. وكان الذي عرّف غينو على عليش هو إيفان غوستاف الفنلندي الذي أسلم، واسمه عبد الهادي، والذي كان يتعاون مع غينو في تحرير مجلة إيطالية تسمى النادي.
في هذه الفترة فقد يحيى زوجته الفرنسية وأبويه. لذلك حين عرضت عليه دار نشر فرنسية السفر إلى مصر للاتصال مباشرة بمصادر الثقافة الإسلامية.. وافق فسافر في سنة 1930، وبقي هناك إلى نهاية حياته.
بالقاهرة عاش يحيى بحي الأزهر في بيت بسيط متفرغا للدراسة والكتابة، يتجنّب الناس خاصة الأوربيين المتطفلين.. إلا قليلا كالسيدة فلنتين دي سان بوان، صحفية وأديبة من أسرة الشاعر الفرنسي الكبير لامارتين، والتي أسلمت بدورها وعاشت بالقاهرة.
وقد تزوج يحيى ابنة الشيخ محمد إبراهيم.. وأنجب منها خديجة وليلى وعبد الواحد.. لعل ذريتهم لا تزال بمصر. وكلنت فترة وجوده بمصر خصبة فألّف كثيرا، وكان يرسل مقالاته إلى فرنسا ينشرها هناك.
وقد توفي بالقاهرة سنة 1951، وخصصت له المجلات الأوربية مقالات كثيرة وأحيانا أعدادا خاصة. بل يوجد من كتب عنه كتبا مستقلة. لكن من جهة أخرى كان له أعداء أيضا هاجموه بعنف، بل حرمت الكنيسة قراءة كتبه. كما أن كثيرا ممّن كتب عنه لا يشير لإسلامه، وإن فعل فعلى عجلة واستحياء.. كأنهم يستكثرون على هذا الدين أن يدخله عقل جبار وهائل كعقل غينو.
ألف يحيى سبعة عشر كتابا بالفرنسية، وتُرجم كثير منها إلى أهم اللغات الأوربية. وهي: خطأ الاتجاه الروحاني (أي ما يسمى تحضير الأرواح). باطنية دانتي. الإنسان ومصيره وفقًا للفيدانتا. القديس برنارد. السلطة الروحية والسلطة الزمنية. أحوال الوجود المتعددة. عروض نقدية. سيادة الكم وعلامات الزمان. الميتافيزيقا الشرقية. لمحات عن التسليك الروحي. المبادئ الميتافيزيقية لحساب التفاضل اللانهائي. لمحات عن الباطنية المسيحية. البدايات: دراسة في الماسونية الحرة وجماعات الأخوة (جزآن). الصور التراثية والدورات الكونية. لمحات عن الصوفية الإسلامية والطاوية. قلب ودماغ (إشكالية العلم بين الدين والعقل). مليك العالم. مدخل لدراسة العقائد الهندية. الثيوزوفية: تاريخ دين مزيف. وجهات نظر بشأن البدء. عهد الكم وعلامات الزمن… ومقالات كثيرة.
لكن أهم كتبه هي: الثالوث العظيم. أزمة العالم الحديث. رمزية الصليب. الشرق والغرب.
لذلك نحتاج عاجلا إلى ترجمة كتب غينو، خاصة الأربعة. ففكره مفيد إلى اليوم لأنه يكتب في المطلقات وفي القضايا الكبيرة التي لا تموت. وربما من أوائل من ترجم بعض مقالات يحيى عبد الواحد هو شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، وقد ضمنها كتابه :قضية التصوف، وهو مصدري الأول في كتابة هذا المقال. ويقوم حاليا الجزائري عبد الباقي مفتاح بترجمة بعض كتبه ومقالاته.
بدأت هذا المقال بحكاية تعرّفي على الرجل من ثلاث وعشرين سنة، كيف تركته لأنني وقتها لم أفهمه. ومن المفارقات أنني والآن حيث اكتسبت كثيرا من العلوم التي كان يحيى يستعملها في كتبه ويتحدث عنها.. وحيث أصبحت أفهمه جيدا.. ما عاد لي الوقت والجهد لأن أكتب عن يحيى رحمه الله، خاصة مع الانشغال بمشاريع علمية أخرى. لذلك أتركه لجيل الشباب من الباحثين، وأكثر من هو مؤهل منهم للبحث في تراث المفكر الكبير هم خريجو تخصصات الفلسفة ومقارنة الأديان.. هذه الدراسة تؤهلهم جيدا لفهم يحيى عبد الواحد ولكتابة أطاريح دكتوراه أو تأليفات حرة أو لترجمة مقالاته وكتبه.. واقترح على من يريد ذلك أن يتواصل مع الأستاذ مفتاح.
رحم الله يحيى عبد الواحد، روني غينو سابقا.. رحمه الله بأوسع رحمة وأجملها.