مخطوطات السيرة النبوية والمدائح النبوية
بقلم: د. محمد سليمان
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وسلام على النبي المصطفى، فهذه الحمدلة سيعرفها الكثيرين من المشتغلين بالتراث الإسلامي المخطوط ليست فقط لكونها دعاء أو صلاة وتسليم على الحبيب، عليه أفضل الصلاة والسلام، بل أيضاً كونها علامة مميزة من علامات ما ورثناه من تراث مخطوط كتبه لنا الإمام جلال الدين السيوطي، حيث كان الإمام السيوطي، رحمه الله، يفتتح بها أغلب مؤلفاته واشتهر بها.
ونحن إذ نكتب الآن عن أهم المخطوطات التي تناولت سيرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، والموجودة بمجموعة المخطوطات الأصلية بمكتبة الإسكندرية، والتي آلت إليها بعدما أهدتها مكتبة بلدية الإسكندرية لها بمناسبة افتتاح المكتبة عام 2002م، وفى العموم لا تخلو أي مجموعة خطية إسلامية بمكتبات العالم من أحد العلوم الهامة بالتراث العربي وهو العلم الذي تناول سيرة النبي المختار، ويُطلق عليه علم السيرة النبوية، وهي اصطلاحاً ما نُقل إلينا من حياة المصطفى الأمين، صلى الله عليه وسلم، قبل البعثة وبعدها وما رافقها من أحداث ووقائع حتى وفاته، وتشتمل على ميلاده ونسبه وطفولته وشبابه وأل بيته وقبيلته ووقائع بعثته وأخلاقه وصفاته وطريقة تحياته ومعجزاته وجهاده وغزواته، وقد يراها علماء السُنّة أنها كل فعل أو قول أو صفة أو تقرير تنسب إليه عليه أفضل الصلاة والتسليم، ويراها علماء العقيدة وأصول الدين أنها طريق النبي وهديه، ويراها علماء التاريخ أنها أخباره ومغازيه، أما عن نطاقها الزمني فهي الفترة التي عاش فيه النبي الكريم منذ عام الفيل وحتى وفاته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وهي في مجملها ثلاث وستون سنة ونطاقها الأوسع جغرافيًا هو شبه جزيرة العرب.
ولمثل هذا العلم أهمية كبرى في حياة المسلمين كافة والعلماء خاصة، فسيرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، تُعد من العوامل الأساسية في فهم القرآن والسنة والعقيدة الإسلامية، كما أن لها أثرًا كبيرًا في إرساء مكارم الأخلاق وآداب الحديث وسلوكيات الحياة وطرق التعامل بين المسلمين بعضهم البعض من ناحية والتعامل مع الآخر باختلاف معتقداتهم من جهة أخرى، فنجد بالسيرة النبوية المثل الأعلى الذي يُحتذى به من أقوال وأفعال والذي يؤسس لمجتمع سويّ كريم، فرسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو قدوتنا وأسوتنا ومن الواجب علينا تدبر أفعاله وأقواله، صلى الله عليه وسلم، والاقتضاء بها وأن ننشر سنته ومنهجه بين العالمين لبناء مجتمع أفضل، ناهيك عن أن قراءة السيرة النبوية وتدبرها يغرس في النفوس حب المصطفى الذي هو من شروط الإيمان، فيقول المصطفى، عليه أفضل الصلاة والسلام، (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ). وفي الحقيقة كانت هذه الكلمات مجرد نذراً يسيراً وومضات خافتة عن علم السيرة النبوية فمجالها متسع اتساع أربعة عشرة قرناً من الزمن تناول خلالهم العلماء السيرة النبوية بالفحص والتمحيص والتحقيق والنشر.
وتزدان مكتبة الإسكندرية بمجموعةٍ خطيةٍ أصلية نفيسة، كما تحدثنا من قبل، تحوي عيونَ كتب التراث العربي والإسلامي، ونحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على قسمٍ من هذه النفائس، ولمحة من تلك العرائس، ألا وهي مخطوطات السِّيرة والشمائل النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والتحية.
وسوف أعرض بإيجاز لأهمِّ ما ضمَّته مكتبةُ الإسكندرية من عيون هذا العلم، فنجد بين الأرف مخطوطة “عيونُ الأثر في فنون المغازي والشَّمائل والسِّير“، للإمام ابن سيِّد الناس، المتوفي سنة 734 هجرية، وهو كتاب من أشهر كتب السِّيرة، حيث تضم مكتبة الإسكندرية نسخةً مهمةً منه، وقد طُبع مراتٍ عدة، ولكن تتميز هذه النسخة أنها كانت مِلكًا للإمام منصور البُهُوتي الحنبلي، المتوفى سنة 1051 هجرية، صاحب المؤلفات الشهيرة، وهذا يُضفي على النسخة نفاسةً. تقع هذه النسخة في مجلد ضخم يضم 226 لوحة، بقياس 21.5×15سم، كما تقع تحت رقم (42/سيرة)، كُتبت بخط النسخ، والعناوين كُتبت بمدادٍ أحمر، عليها تعليقاتٍ وحواشٍ، وبآخرها فائدة بخط الإمام البُهُوتي المذكور، وقد نُسخت بالقرن العاشر تقديرًا، وحالتها جيدة، وقد تمَّ ترميمُها وصيانتها مؤخرَا بمعمل ترميم المخطوطات بمكتبة الإسكندرية.
وتطالعنا مخطوطة أخرى وهي “الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله ومغازي الثلاثة الخلفاء“، للإمام سليمان بن موسى الكَلاعي الأندلسي، المتوفي سنة 634 هجرية، حيث تُعدُّ هذه النسخة من المؤلفات التي اهتمت بجانبٍ مهم من التاريخ والسيرة وهو جانب المغازي والفتوحات، وهذه النسخة تُعد من نوادر مكتبة الإسكندرية، فيرجع تاريخ نسخها إلى سنة 986 هجرية، وتقع تحت رقم (1 ، 2/ سيرة)، وقد تمت مقابلة هذه النسخة على نسخٍ أخرى نفيسة، وهي تقع في مجلدين بمقاس 29 × 21 سم، كُتبت بخط مغربي جميل ومشكول، كُتبت عناوينها بمدادٍ أحمر، بها فواصل مكتوبة بقلم غليظ، يقع المجلد الأول في 124 لوحة، والثاني في 180 لوحة، عليها تعليقات وتصويبات، بآخرها مقابلة، وبها آثار رطوبة وخروم.
أما عن “الشمائل النبوية والخصال المصطفوية“، للإمام الترمذي، المتوفي سنة 279 هجرية، فهذا السِّفر من أشهر كتب الشمائل التي انتشرت وذاع صيتها، وتحتفظ مكتبة الإسكندرية منه بنسخ عدة، ونعرض هنا لهذه النسخة البديعة التي تقع تحت رقم (34/سيرة)، وهي نسخة مزخرفة ومذهبة ومؤطرة، كُتبت بخط مغربي بديع، وكُتبت العناوين بمداد أحمر وأزرق، مشكولة، تقع في 166 لوحة، وتمتاز هذه النسخة أنها مقابلة على عدة نسخٍ أخرى، وقد أثبت الناسخ فروق هذه النسخ جميعًا بهامش الكتاب، وتلك صورة من صور التحقيق المهم والتي تعطي قيمة وثقةً في هذا النص المخطوط.
ومن أكثر النسخ الخطية تواجداً بالمجموعة هو كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى“، للإمام القاضي عياض، المتوفي سنة 544 هجرية، هذا الكتاب سارت به الركبان شرقًا وغربًا، ومن أجمل هذه النسخ النسخة رقم (11/سيرة) وهي نسخة بديعة، حالتها جيدة، تقع في مجلد ضخم بقياس 29× 18.5سم، ضمن مجموع من (1أ: 207ب) كُتبت بخط النسخ الدقيق الجميل المشكول بالشكل التام، سنة 1119 هجرية، كتبها أحمد درويش حافظ وهو كاتب المحاسبة الشريفة بمصر بتلك الفترة، كما كُتبت عناوينها بخط الثلث بمداد أحمر، بأولها فهرسة، مذهبة ومزخرفة من أولها، مقابلة، وعليها تعليقات وحواش، كما أن غلافها قديم ومذهب ومزخرف.
وما دمنا في ذكرى الحبيب حيث تتعطر أفواهنا بذكره فلا يفوتني أن ألقي الضوء على مخطوطة خزائنية في فن المدائح النبوية وهي “تخميس الكواكب الدُّرِّية في مَدْحِ خير البرية” (تخميس البردة للبوصيري)، وهي تأليف الإمام ابن حِجَّة الحموي، المتوفي سنة 837 هجرية، هذه النسخة من هذا التخميس الجليل، من أروع وأجمل ما تحتضنه مكتبة الإسكندرية من مخطوطات، تقع تحت رقم (2/أدب)، وقد كُتبت تقديرًا في القرن التاسع الهجري، وكُتبت برسم السيدة عائشة بنت إسماعيل الخازن، وهي نسخة بديعة جدًا، مذهبة ومزخرفة، كُتبت بخطيْ الثلث الجليِّ، والنسخ، مشكولة، بأولها تملكاتٍ عدة، أقدمها يرجع للعام 1051 هجرية، تقع في 29 ورقة بمقاس 32×23سم، استعمل في كتابتها المداد الأحمر والأزرق والذهبي والأسود. ونختتم مقالنا ببعض أبياتها:
مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ وَالثَّقَلَيْـ*** ـنِ وِالفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ
نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِي فَلاَ أَحَدٌ *** أَبَرَّ فيِ قَوْلِ لاَ مِنْهُ وَلاَ نَعَمِ
هُوَ الحَبِيبُ الذِّي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ *** لِكُلِّ هَوْلٍ مِنَ الأَهْوَالِ مُقْتَحِ
فرددوا معي وقولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم إنّك حميد مجيد.