أخلاق الآلهة، الأخلاق بين الإطلاق والنسبية
عبد الكريم سروش(*)
ترجمة: مشتاق الحلو
تمهيد
1ـ تسعدني دوماً الكتابة عن الأخلاق، ولِمَ لا، وهي أساس في الشريعة والحياة؟ لكنّها مريبة، وإن لم تكن مملّة.
تمتلك الأخلاق قداسة كأنّها اليقين في الرياضيات، تجعلها فوق التجربة والتحليل والتغيير. ولم يتمكن علم النفس، ولا علم اجتماع السلوكيات، أبداً من احتلال مكانة علم الأخلاق. فمهما اتسعا وتطورا يبقى حيز خاص بالأخلاق لا تطاله يد التحليل والتحوير أبداً، كما لم يتمكّن أيّ منهج فلسفي من تحويل الرياضيات إلى علم تجريبي بالمعنى الدقيق للكلمة، ففي هذا العلم يقين لا ينبع من أيّة تجربة، ولا تطاله يد أيّ مجرب.
لقد ظهرت عجائب كثيرة في مسيرة التأريخ، ومن نوادرها أنّ جماعة اعتقدوا بأن ليس لدينا ما هو متحوّل، ونسبي، واعتباري، وقابل للتخصيص، وحتى النقض، وغير مقنن، أكثر من هذه الأخلاق المقدسة. فالمشكلة ليست في المباني الأخلاقية فقط، بل في الأخلاقيات نفسها، أي إنّ المسألة لا تقتصر على كون الحسن والقبح ذاتيّاً للأفعال أو غير ذاتي؟ وهل يتعارض العقل والعاطفة أو لا يتعارضان؟ وهل هناك أخلاق وجدانية أو لا وجود لها؟ وهل ينبع الإلزام الأخلاقي من الحقائق الخارجية أو لا؟ وهل الإنسان مختار أو غير مختار؟ و… ويبدو أنّ الأصعب من كلّ هذا هو العجز الفظيع لعلم الأخلاق عن تقديم تعريف جامع ومانع للفضائل والرذائل الأخلاقية، فاليوم، وبعد كلّ المخاضات العسيرة التي خاضتها البشرية، ما زال الأمر ملتبساً في شأن الكذب، وكيف يكون غير قبيح، وتكون صلة الرحم حسنة؟ ومتى يجوز نقض العهد؟ وأين يقبح الصدق؟ ولمن يعتبر الإحسان في محله؟ وعلى من لا يجوز الغضب؟ وأي الفضائل تتقدّم؟ وما الحد المطلوب في طلب العلم؟ وإلى أيّ مدى يسمح باستخدام الطبيعة؟ وإلى أين تمتد التنمية الاقتصادية والثقافية، وحرية القلم والبيان، و…إلخ؟ وما هو التعريف الدقيق والصحيح للعدل والظلم والإحسان والغيرة والحياء والتواضع؟ وأين تكمن مصاديقها؟ وما هي حقوق الإنسان؟ وما هي الأنانية؟ وكيف تصبح محمودة أو مذمومة؟ وما هو الضابط في حب الآخرين والتضحية من أجلهم؟
يبدو أنّ لدى علم الأخلاق تعريفاً واضحاً لما لم يتصف حسنه وقبحه بالإطلاق فقط. لكن ما كان حسنه وقبحه مطلق فلم يتّضح تعريفه. وكلاهما يوصلنا إلى نتيجة واحدة، وهي الإبهام والغموض في مقام الإرشاد. فللصدق تعريف واضح، لكن لا حكيم أخلاقي ادّعى بأنّ الصدق حسن على الإطلاق، في أيّة ظروف زمكانية. ومن جهة أخرى ــ ورغم اتفاق العقلاء على حسن العدل وقبح الظلم مطلقاً، لكن لم يقدّم أيّ عاقل تعريفاً دقيقاً للعدل والظلم.
يبدو أنّنا نواجه هنا أيضاً، كما في مكانيكا الكم، أصل «الغموض»، وكلّما أضفنا على دقّة طرف ما أنقصنا من إطلاق الطرف الآخر (كما أنّ معرفة سرعة حركة الإلكترون تسبب إبهام موضعه، وبالعكس). و«الغموض» هذا هو العقدة في المسائل كلّها، ويكشف لنا عدم الدقة والفوضى في علم الأخلاق من الأساس. والأكثر من ذلك عدم وصوله يوماً إلى الدقة والانضباط المثاليين. ولو اعتبرنا الحسن والقبح ذاتيين وعقليين ــ كما كان يعتقد المعتزلة ــ، واستخرجنا الواجبات من الحقائق الخارجية([1])، ونزّلنا المشهورات الأخلاقية والآراء المحمودة منزلة اليقينيات والأوليات([2])، واستبعدنا النسبية الثقافية، وأنكرنا كونها اعتبارية، وقدّمنا صياغة عقلية للحسن والقبح، لم نقلل من «الغموض» شيئاً. هذا من الناحية النظرية، ولما تقدّمنا خطوة من الناحية العملية، ولم نسلّط الضوء على الحق والعدل والإنصاف والقدرة والحرية، ولم نحدد واجب المكلّفين في مفترق الطرق الأخلاقية المتعددة. فالقول بذاتية الحسن والقبح لا يقدّم لنا شيئاً سوى القول بأنّ الإنسان إذا أساء فتلك إساءة ذاتية وحقيقية، وليست افتراضية واعتبارية ومجازية. لكن لا يتبيّن العمل السيء ولا الحسن في هذا المخاض من ذلك الرأي الفلسفي.
2 ــ ما مرّ كان مقدمة للبحث. ولا أريد ادّعاء تحقيق المعجزات من خلال مقال. وأعلم جيداً أنّ تلك الإشكاليات أبدية. فما أصبو إليه أقل من ذلك بكثير، وهو رسم حدود بين صنفين من الأخلاق: الأولى: الأخلاق التي تليق بالآلهة؛ والأخرى: الأخلاق التي تليق بالعباد. وآمل أن يساعد رسم هذه الحدود على إعادة صياغة بعض الأسئلة الأخلاقية، ويسهّل الإجابة عنها.
أوجه الجمع بين القيمة الأخلاقية والاستثناءات العملية
فلنبدأ بهذا السؤال: لِمَ عدّ علماء الأخلاق الصدق، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والعطف، وغض الطرف عن عيوب الناس، وقول الحق، والتواضع، و…، أفعالاً وصفات حسنة، بينما يعلمون بأنّ لكلّ من تلك الأحكام استثناءات، ولم تصدق في كلّ زمان ومكان؟
لقد قُدِّمت ثلاثة أجوبة معقولة ومهمة على هذا السؤال:
النظرية الأولى: نقد نظرية الاستثناء
لا استثناء في هذه الأحكام، ولو لاحظناها مع جميع قيودها وشروطها لرأيناها حسنة على الإطلاق، ولا تخضع لأيّ استثناء. فالكذب قبيح على الإطلاق إذا ما لوحظ مع جميع قيوده، وهكذا سائر الأحكام. أمّا السبب في ورود الاستثناءات فيعود إلى إجمال الموضوع، وليس لكونها تقبل الاستثناء في حقيقتها.
ولكن هناك عدة ملاحظات يمكن تسجيلها على هذا الرأي:
1ـ بناءً على هذا الرأي لا يمكننا الحكم على التواضع مثلاً بالحسن أو القبح. وعلينا انتظار يوم تتوفر فيه جميع القيود، ونحصل فيه على التعريف التام، لنتمكّن من الحكم عليه. ولا يعني هذا سوى تعطيل علم الأخلاق وسلب آثاره.
2ـ كيف يمكننا معرفة توفّر القيود الأخلاقية اللازمة ليتسنى لنا الحكم عليها؟ وأيّة أساليب توصلنا إلى تلك القيود؟ هل هي أساليب تجريبية أو عقلية؟ ولا يعني هذا سوى اليأس من الحصول على علم يسمّى علم الأخلاق.
3ـ هل سنحكم ــ مثلاً ــ على المجازفة بأنها قبيحة، وعلى الغيرة بأنها حسنة، إذا ما تحققت جميع القيود؟ فبناءً على هذا الرأي نحن لا نعلم الآن حكمها الحقيقي. والحكم الفعلي ناقص بسبب إجمال الموضوع، ولا يجوز الاعتماد عليه. ومن الممكن أن يتضح لنا ــ بعد انكشاف جميع القيود ــ أن الغيرة قبيحة والمجازفة حسنة بلا استثناء!
4ــ خلافاً لما يُدَّعى لا يتم تقرير الأحكام الأخلاقية بدقة ووضوح في ضوء هذا الاعتقاد، بل هذا الرأي يزيد من الإبهام في تقريرها. فما تقوم به هذه القيود هو مزيد من العرقلة في أمر الحكم. فتغرق الغيرة والحياء والتهور والغيبة والقناعة والغدر والخيانة والتعصب في مستنقع الشروط والقيود، حيث لا يخطر لغوّاص الاقتراب منها. والسبب في ذلك يعود إلى عدم تمكّننا من استقصاء جميع القيود، وعدم وجود منهج معيّن للحصول عليها. فليس لإعطاء التعريف الجامع والمانع أية طريقة محددة في كافة الحقول العلمية، وكشف الحد التام يكون دائماً مستحيلاً أو شبه مستحيل.
5ـ بما أنّه لم يثبت منطقياً إلى اليوم انسجام جميع الفضائل الأخلاقية مع بعضها، وحتى لم يتطرق أيّ من علماء الأخلاق لهذا الموضوع، فالأمر الأصعب، بل المستحيل، لمن يريد إعطاء تعريف جامع ومانع عن المفاهيم الأخلاقية هو أن يعرّف كلّ فضيلة أخلاقية بشكل تنسجم مع سائر الفضائل، أي تكون ملحوظة فيها. وبما أنّه لا يسعنا ادّعاء كشف جميع الفضائل والرذائل فاكتشاف الحد التام، وبتبعه الحكم بالحسن أو القبح على أيّ مفهوم، ليس بالممكن، ولا بالمعقول.
نستنتج مما ورد أنّ الجواب الأول من قبيل الدواء المضاعِف للداء، وحيلة عقيمة مرّة الثمار، وفي ذلك ضياع علم الأخلاق. كنّا نطمع في علم أدقّ، لكنّنا فقدنا ما في أيدينا دون الحصول على أفضل منه. ويبدو أنّ علم الأخلاق هو الموجود، والسعي في تطويره لا يبقي لنا علماً ولا أخلاقاً. كما أنّ أصل «الغموض» الذاتي، الذي أشرنا إليه، أقوى من أن يزول بهذه الحيل الهزيلة.
النظرية الثانية: الأحكام الأخلاقية غالبية
ليست الأحكام والقواعد الأخلاقية دائمة ولا ضرورية، بل عادية وغالبية، أي إنّها لا تدّعي أنّ الكذب مثلاً قبيح بالضرورة وبالذات، ولا تقول بأنّه قبيح دائماً. بل تقول بأنّ الكذب في الغالب قبيح، والصدق في الأعم الأغلب حسن، دون أن تنكر الاستثناءات (ما عبّر عنه الأصوليون بالاقتضاء دون وجه حق، وكم من الأخطاء سبّبوها بتعبيرهم هذا).
فتلك الاستثناءات نادرة، إلى درجة لا تمنعنا من إصدار حكم كلّي يشمل معظم الموارد، ولا تنهانا عن العمل بذلك الحكم. ويبدو أنّ هذا الرأي علميٌّ ويتحرّى الاحتياط، وأقلّ ما يعود به علينا من نفع هو الحفاظ على علم الأخلاق، وبيان واجباتنا في مقام العمل. فهو يتكلّم عن امتهان الناس وإيذائهم، والغضب، والسرقة، والكذب، والأنانية، والخيانة، و…، التي نعرفها جميعاً، ويصدر عليها أحكاماً محددة، وليس في صدد الحديث عن ذلك الكذب والأنانية التي لم يتضح بعدُ تعريفها ولا حكمها!
لكن ما زالت تلك الاستثناءات ماثلة، فهل يستلزم هذا الرأي حسن السرقة إذا ما عمّ الظرف الاستثنائي الذي يجوِّزها؟ وكذلك معونة الآخرين، ألا تصبح قبيحة إلا في بعض الأحيان؟ هذا الأمر كما لو قلنا بأنّ فقر الدم المنجلي، الذي يعدّ اليوم مرضاً نادراً، يمكنه أن يصبح يوماً ما عاماً، ولا مانع عقلي في ذلك. إلا أن نقول بأنه ليس من الممكن أن تصبح الظروف بشكل تكون السرقة فيها حسنة إلا ما ندر، والغيرة سيئة إلا أحياناً. مع أنّ هذا ليس حكماً أخلاقياً، بل هو افتراض خارجي، واجتماعي، ونفسي، لا دليل عليه.
تعود الاستثناءات والقواعد إلى أرضية خاصة تتبلور فيها. فإذا ما تبدّلت تلك الأرضية لا يستبعد أن تصبح القواعد استثناءات، والاستثناءات قواعد. ففي ضوء البنية الجينية الحالية للإنسان فقرُ الدم المنجلي (وهو ناتج عن خلل وراثي في الشفرة الجينية للهيموگلوبين) مرض نادر، لكن إذا تغيّرت هذه البنية الجينية ستصبح هذه الحالة عامة، ويكون المرض هو القاعدة. وكذلك الذهب، فهو اليوم أندر من معظم المعادن في الأرض، لكنّ ذات الذهب لا تقتضي ندرته، بل هي ناتجة عن ظروفه التكوينية. ولا يستحيل أن يكون الذهب في كوكب آخر أكثر من النحاس، ولا يحدث أيّ مكروه جرّاء ذلك!
نعم، لا يتخلى علماء الأخلاق عن افتراضات علم الاجتماع، وعلم النفس، من قبيل: «يهذّب العلم الناس باستمرار، ويكون المجتمع المتألّف من هؤلاء الناس على شكل ينسجم معه الصدق، والوفاء بالعهد، والمروءة مع الأصدقاء، ومداراة الأعداء، و…إلخ، ويرى الحياة بهذه الصفات أكثر متعة، ويزيد من حفاظه على انسجامه واستمراريته، ويرى الحظ في النجاح أوفر في الأهداف النبيلة منه في الرذيلة»؛ أو «الفضائل تسبب كمال الإنسان لا الرذائل»([3]). وبعبارة أخرى: لو كان الكذب والخيانة وأمثالهما أكثر خدمة في تحقيق النظام والاستقرار والكمال لكانت مقبولة وأخلاقية أكثر مما عليه الصدق، والصفح، و…إلخ. لكن في النظرة الكونية لعلماء الأخلاق الافتراض الثاني محض خيال، ولا يتعدى كونه افتراضاً. فلا يمكن أن يحافظ الكذب أو السرقة يوماً ما على ثبات المجتمع، وأن يساهما في كمال الإنسان.
لكن هذا الرأي ليس صائباً([4]).
وأفضل دليل على ذلك تقبل الأحكام الأخلاقية للاستثناءات، فإذا جاز عليها الخرق في مكان ما جاز في كلّ مكان؛ لأنّ هذا الأمر يفتح الباب على مصراعيه.
فلو تمتّع الصدق بالحسن الذاتي في كلّ زمان ومكان لاحتلّ مرتبةً أعلى من الظروف الفردية والجماعية للبشر، ولم يتورط بالعلاقات الاجتماعية، ولم يتعامل معها، ولم يقبل استثناءً (الجواب الأول). لكن كما رأينا لا يوجد مخلوق كهذا، فالظروف نفسها تسبب حسن الصدق في الغالب، فإذا ما انقلبت (وتشكل عالم ومجتمع آخر) قلبته معها. ففي ظروف غير ظروفنا، وفي عالم ومجتمع آخرين، من الممكن قيام أخلاق غير أخلاقنا، يكون فيها الكذب حسناً، والوفاء بالعهد قبيحاً غالباً، دون أن يسبب ذلك أيّ قلق أخلاقي؛ لأنّ علم الأخلاق لم يقُلْ أبداً بأنّ الكذب قبيح دائماً، وحفظ المواعيد حسن، بل يقول: الكذب قبيح في الغالب، ونادراً ما يكون حسناً، وهذا يدلّ على تأثير عوامل أخرى على حسنه وقبحه. وبإمكان هذه العوامل جعل الكذب حسناً أخلاقياً في ظروف ما، وسيئاً في أخرى. والمجتمع الأخلاقي ليس المجتمع الذي يماثلنا في الأخلاق، بل المجتمع الذي يتمتع بأخلاق تناسبه. كما أنّ الإنسان المستور ليس من يلبس ما يناسبنا، بل ما يناسبه هو.
إذاً علم الأخلاق الماثل بين أيدينا هو علم أخلاق المجتمع والإنسان الحاضر، لا علم أخلاق لكلّ مجتمع وإنسان. كما أنّ علم الفيزياء والتأريخ الفعلي للعالم الحاضر، وليس لأيّ عالم ممكن، ولهذا لا يكون شيء من قضاياه ضرورياً أو دائمياً([5]).
وقد عرف الناس جيداً بأنّه في عالمنا هذا الحياة في مجتمع يتّصف بالصدق، والقناعة، والسخاء، والشجاعة، أكثر متعة. وهو أكثر نظماً واستقراراً من المجتمع المليء بالكذب، والطمع، والجبن. كما أنّ الذي يتمتع بصفات الرحمة، والتواضع، وحب الخير للآخرين موضعٌ للصداقة والثقة أكثر من الإنسان العصبي، والأناني، والنمّام، وسيّئ الظن، وسليط اللسان. فالحياة مع الأول أسهل بكثير. وإذا ما درسنا الفضائل الأخلاقية بدقة سنرى أنّ هناك على الأقل خصلة واحدة مشتركة بينها جميعاً، وهي سعيها لإزالة التعارض والاصطدام في داخل الإنسان وخارجه، وخلق مناخ نفسي واجتماعي دافئ بالرفق والطمأنينة([6]). فالكذابون، والشكاكون، والغاصبون، والطمّاعون، وسليطو اللسان، والمعجبون بأنفسهم، والظلمة، و…، مؤهلون للصراع فيما بينهم أكثر من المتواضعين، والعطوفين، والصادقين، والعفيفين، والعادلين. وهذا سرّ كون تلك الخصال رذيلة، وهذه فضيلة. ولو لم تكن الحياة الجماعية للناس واستمرارها واستقرارها ما حازت هذه الأخلاق على فضيلة، ولا اعتبرت مقدمة. كما أدرك الناس جيداً عدم إمكان الالتزام بالصفح، والتواضع، والعطف، والصدق، و…، في كلّ زمان ومكان، ومع الجميع. فتقتضي الأخلاق أحياناً أن يكون الإنسان على خلاف هذه الصفات.
لقد كشف هذا التصنيف عدم وجود حكم ثابت للكذب والصدق، والغضب والصفح، فهي تستنتج أحكامها من موطن آخر. وبعبارة أخرى: تتبع الأخلاق العالم والمجتمع، وتكون من أجل الحياة (أي حولها وتليق بها)، فإذا ما تغيّرت الحياة تغيّرت معها الأخلاق. ويثير الاضطراب هنا التصور الذي يعتبر الأخلاق ـ كالأحكام الفلسفية ـ متعالية على هذا العالم، ومنسجمة مع كافة العوالم. لكن في الحقيقة لو وجد حكم أخلاقي كهذا لما قبل الاستثناء، فقبوله للاستثناء خير دليل على هذا الادعاء؛ إذ تتوقف الأخلاق على الحياة، لا العكس. فلكلّ صيغة من الحياة أخلاق خاصة بها، ولكلّ مقام أدب خاص به. ولا عجب من جواز الكذب في محل، وحرمته في آخر، وحسن العطف والستر على الناس، وصلة الرحم، و…، مع أفراد، وقبحها مع آخرين. ولا غرابة من اختلاف أخلاق الحرب([7]) عن أخلاق السلم، وقيم المجتمع الصناعي عن قيم المجتمع التقليدي، فمن المستحيل تغيير أخلاق الناس وقيمهم دون تغيير نمط حياتهم. بل الأجدر بنا التعجب لو لم يكن الأمر كذلك. ويتطلّب تخلّص الذهن من براثن الوهم الجاثم عليه جهداً كبيراً ليقرّ بأنّ علينا الاعتراف بعلم الأخلاق هذا كما هو، مع أحكامه القابلة للاستثناء، وأن لا نفرّط به في سبيل الحصول على أخلاق رصينة وهميّة، لَمْ ولَنْ تكون موجودة يوماً من الأيام. وحتى لو وُجدت أخلاق كهذه لا يمكنها صنع المعاجز لنا، فهي لا تحلّ أيّ معضل للناس؛ بسبب ترفعها عن حياتهم، وابتعادها عنهم، وعدم مشاركتها لهم حياتهم اليومية ومعاملاتهم التفصيليّة.
يقرّ الجميع بوجود أخلاق خاصّة لكلّ مقام، فلدينا أدب الفرح وأدب الحزن، أدب الغنى وأدب الفقر، أدب العشّاق وأدب العقلاء، أدب الحرب وأدب السلم، أدب الأصدقاء وأدب الأعداء، أدب المصنع وأدب المزرعة، أدب المجتمع الصناعي وأدب المجتمع التقليدي، أدب المجتمع النامي وأدب المجتمع المتخلف، أدب الحكّام وأدب المحكومين، أدب النساء وأدب الرجال([8]). ونادراً ما يلتفت الناس إلى أنّ هذه الأخلاق المتفاوتة لا تختص بتلك المقامات فحسب، بل تنبعث منها، وتليق بها. وبما أنّ الأخلاق وجدت من أجل الحياة، وقبلت لذلك الاستثناء، تكون تابعة لها، فينعكس عليها كلّ ما يرد على الحياة من خير أو شر.
ونلاحظ أن القارئ يحنّ مرة أخرى إلى الأحكام الرصينة الموهومة، المستبدة بكل الأمور، والتي تريد انصياع الحياة لها، لهذا أُكرِّر ثانية بأنّ الله لم يخلقها بعد.
ينبغي لمن يريد استنتاج الواجبات من واقع الحياة أن يثلج صدره لهذا الحديث؛ إذ يريد قائلوه أيضاً استنباط الأخلاق من الواقع، فلا معنى لكون الأخلاق وسيلة، والعالم والمجتمع هدفاً، سوى ذلك، إلا أن يقولوا بأنه لا تستحق أية حقيقة في الحياة أن تكون مستنداً للأخلاق، والأمر محصور بالحقائق التي ثبت استحقاقها أخلاقياً فقط! وبالطبع لا يكون ذلك تناقضاً، أو دوراً، أو خيانة بالمبادئ والأصول! أو يشترطوا تعريف الحقائق الخارجية بشكل دقيق وشامل، بحيث تكون الأخلاق المستنتجة منها دقيقة وشاملة، ولا يرد عليها أيّ استثناء. ونحن أيضاً نتمنى لهم النجاح! لا يلحق هذا الكلام أي ضرر أو نفع بأية نظرية فلسفية في مجال الأخلاق؛ لأنّه في مقام بيان العلة لا الدليل، بينما تعود مشروعية استنتاج الإلزامات من الحقائق إلى الدليل لا العلة، فأخلاق الناس تتناسب مع معيشتهم، وتنبع منها، ولا مجال هنا للحديث عن الجواز وعدمه.
ونستنتج مما ورد نقطة أخرى، وهي أنّ كون علم الأخلاق نابعاً من الحياة وتابعاً لها لا ينافي المسؤولية، والتحسين والتقبيح، وحاكمية القيم على الحياة. فعلم الأخلاق معلول، ومتوقف على علته، ومتأخِّر عنها، يظهر ويختفي دون أن يشعر به أحدٌ. لكنّ الناس مختارون في العمل، ومسؤولون عن اختيارهم. وما يستحق المدح والذم هو فعلهم الاختياري. ولا مجال للحديث عن التقوى أو عدمها دون العلم بحسن الفعل وقبحه، والعمل عن اختيار. ولا ينافي شيء من ذلك المدعى القائل بتناسب أخلاق كلّ جماعة مع نمط حياتهم. كما أنه لا ينافي الاختيار أو المدح والذم. فالأخلاق محكومة بالحياة الاجتماعية، لكنّها حاكمة على الحياة الفردية أيضاً.
3 ـ يسأل القارئ: هل بقي شيء من الأخلاق؟ وهل يترك سيل النسبية العارم شيئاً من القيم المتعالية والمتبوعة ليتطلع الناس للحياة من أجلها، ويفدون أنفسهم لها؟ وهل من مفرّ من هذا المأزق؟
حيثما أردنا اللجوء إلى الأحكام الرصينة غير القابلة للاستثناء اعترضتنا حجج رصينة لم نفكّر بها من قبل، وأينما أقبلنا على الأخلاق الحاضرة جاءنا شهود صادقون على وجود ثغرات في جميع الأحكام الأخلاقية، وكلما أردنا سدّ تلك الثغرات كبّل أيدينا «الغموض الذاتي للأخلاق»، وحين بحثنا عن الاطمئنان في الاستناد إلى الفطرة الثابتة رأيناها تؤيّد ورود الاستثناءات على الأخلاق، فهي تنسجم مع أصناف المجتمعات على تنوع أخلاقها، وإذا أردنا العمل بقاعدة «الصدفة لا تكون دائمية ولا أكثرية» لم نتمكّن من معالجة ضعفها وهزالتها، وإذا أردنا الحياة من دون التلطخ بالكذب والخيانة والتكبر والحقد رأينا أنفسنا في عداد السذج، ولو طلبنا التوقف اصطدمنا بالتنمية وتكامل التأريخ والصناعة التي لا مفرّ منها، وإذا صرخنا بأنّ المجتمعات الحديثة عديمة الأخلاق، أو سيئة الأخلاق، ضحك العالم من سخافة عقولنا، وقال: هل لدينا أخلاق واحدة فقط؟! وهل اعتبر علماء الأخلاق الكذب والطمع والقساوة و… قبيحة دائماً؟ ألا يتطلّب كل نمط من الحياة أخلاقاً خاصة به؟ أَوَليس لكلّ مقام أدبه؟ هل كل من لا يلبس ثيابنا لا ثياب له؟…إلخ.
لقد أحاطتنا الحياة بشكل لا يمكننا طلب ما نريده إلا منها، فهي اليوم قائمة بنفسها، مستغنية عن غيرها. وأما الأخلاق فمنها وفيها؛ إذ لا أخلاق ولا قيم خارج الحياة، ولا شيء إلا الموت أو العدم، وهما لن يكونا مصدراً لأي شيء. الحياة أكبر قيمة على الإطلاق، ولا مفرّ من طلبها، ولم يفلح أحد بأكثر منها.
الثوريون ومعلمو الأخلاق ألدّ خصوم هذه المقولات، فهم يعتقدون بأنّ انتشال الناس من مستنقع الحياة المتعفّن بالظلم والفساد، وهدايتهم إلى المدينة الفاضلة التي لا فساد فيها، ولا فقر، ولا فجور، يتم بالنضال والعقاب والوعظ، لكنّهم يسمعون الآن نداءات تقول: لا يمكن أن تخلو الحياة من الفقر والفساد والفجور، وليس كل ما سمي فساداً وفجوراً قبيحاً دائماً، ولا المجتمع الذي يكثر فيه الفساد مجتمع بلا أخلاق، وبلا فضيلة، ولا تقبل الفضيلة والرذيلة التعريف أو التحسين والتقبيح خارج إطار المجتمع.
لم يبْقَ لنا مهرب ولا أمل بالخلاص من هذا الحصار المنطقي. لقد جرّبنا طريق تمحيص المفاهيم الأخلاقية، ووصلنا إلى أنه عقيم، ولا يؤدي إلا إلى متاهات، فلم نجد في نهاية المطاف الأخلاق التي لا يأتيها الباطل، بل اختلّت وتزعزعت الأخلاق الموجودة لدينا أيضاً.
النظرية الثالثة: نظرية التفصيل والتفكيك
تقسيم الأفعال إلى قسمين: ما يتمتع بخصوصية أخلاقية؛ وما لا يتمتع بها. وتحكم الأخلاق على كلا القسمين، ولا فرق بينهما من هذه الناحية. أما ما يميزهما عن بعضهما، فهو عنوان «الأخلاقية»، الذي يلحق أحدهما في الاسم، وله من الأهمية ما لأسماء الأيام والشهور، وما يترتب عليها من آثار، فمثلاً: هناك فارق كبير بين أن يكون اليوم أربعاء أو جمعة و…إلخ، وهكذا هو حال الأفعال الإرادية أيضاً، فالابتياع والخياطة والقص والضحك والمشاهدة والمطالعة والتثاؤب والتعليم والمشي والرياضة والكلام و… أفعال غير أخلاقية، أي لا تتمتع بأي حسن أو قبح بحد ذاتها، فلا يتعيّن مسبقاً بأنّ الدراسة ــ مثلاً ــ حسنة بحد ذاتها، أو قبيحة. لهذا من الممكن أن يكون هناك نوعان من التعليم: التعليم الحسن؛ والتعليم القبيح. وهكذا الضحك والنظر والخياطة والقص وأمثالها.
ومن الناحية الأخرى لدينا أفعال أخلاقية، تحمل الحسن والقبح في طياتها (سواء بصيغة تحليلية أم تركيبية مسبقة). لهذا لا يمكننا تقسيمها إلى نوعين: حسن؛ وقبيح. فليس لدينا عدل حسن وعدل قبيح، أو حياء حسن وحياء قبيح. العدل حسن، وينبع الحُسْن منه، وعدم الحياء قبيح، ولا يفارقه القبح.
لكن لدينا أفعال لم يتضح حكمها بشكل دقيق، فهل الصدق والكذب أفعال أخلاقية أو غير أخلاقية؟ هل تختلف عن الأكل والنوم أو لا تختلف عنها؟ وكيف الحال بالنسبة للحسد والإيذاء والاحتقار والشفقة والحب والقتل؟
لقد قبّحنا الكذب، والإيذاء، واحتقار الآخرين، إلى حدٍّ أصبح اعتبارها اليوم أخلاقية شبه مستحيل، كما لا تسمح عواطفنا بالتقليل من شأن العطف والحنان. وقد اختفت الحقيقة الجميلة خلف ستار العادات، ولا مخرج لنا سوى تمزيق هذا الحجاب الذي يحول دون رؤيتها. ويدعم التدبر والاستدلال هذه الطريقة أيضاً، كما يؤيد حكماء الأخلاق، الذين يعتبرون الكذب صنفين: جائز؛ وغير جائز، الحكم القائل بأن الكذب هو الاسم الطبيعي للفعل، لا الاسم الأخلاقي له، ويعكس أوصافه الخارجية، لا أوصافه الأخلاقية؛ إذ يعني الكذب الكلام غير المنطبق على الواقع، ولا ترد في هذا التعريف أية مقولة أخلاقية، كي تستصحب حكماً أخلاقياً. وكذلك الأمر بالنسبة لإيذاء الآخرين، واحتقارهم، والحسد، أي تمني زوال النعمة لدى الآخرين، و…إلخ.
لا يثير أحد اعتبار النوم أو الأكل تارة حسناً وأخرى قبيحاً، لكن اعتبار الحسد أو الإيذاء حسناً في موضع وقبيحاً في آخر خرق للعادات، على الرغم من إقرار الجميع بعدم قبح إيذاء الآخرين (كإيذاء العدو المعتدي)، أو تمنّي زوال النعمة (للكافر بها). وهنا ترد لب الإنسان الوساوس الناسفة للأخلاق.
وللخروج من هذه الأزمة نقوم بتعريف الحسد، والإيذاء، والكذب، و…، مبينين القيود والاستثناءات على كل منها، حيث يصبح حكمٌ واحدٌ في جميع الحالات، ولا يدخلها أي استثناء أبداً أي يكون الإيذاء بمواصفات محددة قبيحاً دائماً، والصدق حسناً دائماً، على أساس قيود معروفة. لكننا بيّنا عقم هذه الفكرة ولا عقلانيتها من قبل. إضافة إلى أنّ الاسم الطبيعي للفعل يبقى طبيعياً حتى لو قيّدناه بمئة قيد، ولا يصبح أخلاقياً إطلاقاً.
لا زلنا نواجه صنفين من الفعل الواحد: حسن؛ وقبيح، ونحتاج للوصول إلى حكم واحد إلى عنوان أخلاقي للفعل، ولا يمكننا حلّ هذه الإشكالية عن طريق آخر؛ إذ تحمل الأسماء الأخلاقية التي نضعها على الأفعال خصلة طبيعية خاصة، وأوصافاً لتلك الأفعال، ويتضح الحكم الأخلاقي لهذه الأفعال من خلال هذه الصفات، فليس العدل اسماً لأيّ فعل طبيعي، كما أنّ الصدق، أو العطف، أو الثرثرة، أو الانزعاج، أو الإعجاب بالنفس، أسماء للأفعال والخصال. وكذلك الشجاعة، والعفة، والحكمة، أسماء لأصناف من الفضائل، ولا يقوم الفرد العادل أو الظالم إلا بالأخذ، أو العطاء، أو الأكل، أو…إلخ، لكن الأخذ والعطاء يكون مرة بعدالة، وأخرى بظلم. لهذا، وإن لم يُعلم حكم الأكل أو الأخذ، لكنّ حكم الأكل أو الأخذ بظلم معلوم، ولا مجال للتشكيك فيه([9]).
العدل ــ على حد تعبير علماء الأخلاق ــ جامع لجميع الفضائل. كما أنّ الشجاعة، والعفة، والحكمة (التي تعد فضائل قوى الغضب والشهوة والعقل)، أسماء أخلاقية للاستعمال العادل للقوى البشرية، فتعتبر من آلات العدل، وتندرج تحته. وكذلك أسماء أصناف الرذائل، كالشيطنة، والغباء، والتهوّر، والجبن، والشره، والخمول، هي أسماء للاستعمال غير العادل للقوى البشرية، ولا شيء منها اسم لفعل طبيعي؛ إذ لدينا فعل عفيف وشجاع وحكيم، لكن لا وجود لعمل يسمى شجاعة أو عفة أو حكمة([10]).
العنوان الأخلاقي للرغبات العادلة هو العفة، والعنوان الأخلاقي للقهر والدفاع العادل هو الشجاعة، وإمعان النظر والتفكير المعتدل هو الحكمة. لهذا ليس لدينا عفة حسنة وعفة قبيحة، أو شجاعة حسنة وشجاعة قبيحة، كما أنّه لا وجود لظلم سيء وظلم حسن، لكن هناك إيذاء حسن وآخر قبيح، وكذلك الأمر بالنسبة لخلف الوعد، والكذب، والحسد، و… إلخ.
ويبدو أننا بلغنا المراد، فهذه أحكام رصينة لا تقبل الاستثناء، خلافاً لما بدا لنا من عدم إمكان التوصل إليها، فقد بحثنا عن أسمائها الطبيعية في الثرى، لكن عرفنا لها عناوين أخلاقية في الثريا، ويكمن الخلل في عملنا، لا في عناوينها.
كنّا نود تبيين حكم الكذب، والإيذاء، والاحتقار، والشفقة، وصلة الرحم، والعفو، والاعتماد على النفس، والأنانية، والكبر، والانتقام، و…، تبييناً شاملاً، تدوم صحته، وبذلنا جهدنا لإحصاء شروطها وقيودها، بحيث لا تتخللها أية ثغرة، لكن لم يخدم ذلك علم الأخلاق، بل جعله في مأزق، وأحكم الخناق عليه. ويتضح لنا الآن سبب عدم جدوى تلك الجهود وفشلها؛ إذ أردنا إضفاء صبغة أخلاقية على أسماء لم ترغب بالتنازل عن طبيعتها، في حين أنّ ما نسعى إليه كان في موضع آخر، فما نصبو إليه من عدل، وعفة، وشجاعة، فضائلُ دائمةٌ، وإذا ما اتصف عمل بها أصبح حسناً، لا يرد عليه أي استثناء، ولا يزول حُسْنه أبداً.
قد تطمئن قلوب الثوريين وحاملي راية الأخلاق بعض الشيء لذلك، فما زال العالم بخير، ولا تزال القيم السماوية تحتفظ بقداستها وعلو شأنها وهيمنتها الخالدة، ولم تَطَلْها يد الفناء. ويبدو أنّ الموعظة والنضال بدآ يأخذان مجالهما مرة أخرى، فقد تحررا من القيود. ويمكن معاودة دعوة الناس إلى العدل والشجاعة، وتعود اليوطوبيا (Utopia). وإذا كان النقاش حول حسن الصدق والكذب وقبحهما قائماً فلا جدال في حسن العدل والشجاعة. وحتى لو جاز الكذب واحتقار الآخرين وإيذاؤهم في المجتمع المثالي أحياناً لكن لا محل للظلم وعدم العفة فيه إطلاقاً. وإذا لم نتمكّن من الدعوة إلى الصدق والوفاء والرأفة والشفقة دائماً فليس هناك ما يمنع الدعوة إلى العفة والحكمة. وإذا لم يتصف قبح الإيذاء بالإطلاق فالعشق العفيف حسن مطلقاً. وبذلك يتضح أن النسبية في الأسماء الطبيعية، ولا وجود لها في العناوين الأخلاقية.
ويبدو أننا اقتربنا من الدقة، والرصانة المثالية، والأبدية؛ إذ ليس الحسن أو القبح الأبديان للعدل أو الظلم فقط، بل يأخذ كل ما ينضوي تحتهما طابعهما، ويصبح ذا حسن أو قبح أبديّ أيضاً. ويا له من اكتشاف باهر، يحيي الأخلاق بعدما لاح في الأفق فناؤها، ويسدّ الثغرات، ويحوّل النسبي إلى مطلق، فأين تلك الأخلاق الهزيلة من هذه الأخلاق الرصينة؟!
لكن للأسف، أيام هذا الرأي معدودة، وسرعان ما نفذت، وخاب ظنّ من أمّل به خيراً. فَمَن اختزل العدل في الصدق والوفاء وأمثالهما صلبه، وراح يثقب جسده بمسامير الاستثناءات، ومن رفع شأنه إلى السماء أفقده ميزاته وثماره.
علمنا بأنّ العدل والعفة ليسا أسماء لأيّ فعل، والدعوة للعدل ليست دعوة لأيّ فعل طبيعي محدد. لذلك يمكن القيام بأيّ عمل تحت رايته دون أيّ إحراج. وهذا هو الذي يرفع العدل في مقام التعريف إلى السماوات، لكنّه في الحقيقة يضع من شأنه. ولهذا يبدو العدل هدفاً لا يبلغه سائله، فلا يحتار أحد في معنى الغضب أو الشتيمة أو الكذب، لكن من الذي لا يتردد في الأوصاف العادلة أو الظالمة؟ ولا يصعب اتهام شخص بالقتل، لكن كيف يتسنى اتهامه بالقتل الظالم؟ قد لا يختلف الناس في تعريف الكذب والتهمة واحتقار الآخرين، لكنّهم يختلفون في تعريف العدل والحق والظلم. وإذا كان حكم الأولى مجهولاً فتعريفها واضح. وإذا كان حكم الثانية واضحاً فتعريفها مبهم. والأكثر من ذلك تعقيداً أنّ تمييزها غير ممكن إطلاقاً. وإذا تصوّر أحدٌ أنّ من الممكن حل عقدة الأخلاق بجمعها فلا يزيدها إلا إبهاماً. وتغدو قصة الأخلاق كقصة تلك الحسناء التي أرادت الزواج بحكيم قبيح، لعلّها ترزق بولد في جمالها وحكمته، فأجابها الحكيم: أخشى أن يكون الولد بجمالي وعقلك!
لقد مرّ أنّ لكل مجتمع أخلاقه، وإذا لم تكن على غرار أخلاقنا لا يمكننا الطعن به، واتهامه بأنه لا أخلاق لديه ولا فضيلة. ويمكن للمجتمع الذي يتسم بالكذب والخيانة أن يكون مجتمعاً أخلاقياً، شريطة أن تصبح الاستثناءات فيه قاعدة، وليس ذلك محالاً عقلاً. وهذا ما قضّ مضاجع الأخلاقيين، فلا يتحملون المهانة والذل للأخلاق، ولا يسعهم سوى البحث عن أخلاق رصينة تأنف عن الخضوع لأيّ جبار متكبر.
ونعيد بيان الموضوع بصيغة أخرى: ما المانع من اقتضاء العدل في مجتمع ما ممارسة القتل، وتلفيق التهم للآخرين، والكذب، والمراء، والنفاق، والاستبداد، و…؟ لا يجوز القول بمنافاة الكذب للعدل، فإذا أمكن القتل لتحقيق العدل كذلك يمكن الإساءة والكذب والرياء لتحقيق العدل (لا يغيب عنّا أنّ الإساءة والكذب والرياء و…، عناوين لأفعال طبيعية). كما أنّ العدل ليس فعلاً طبيعياً ليتعارض مع فعل آخر، فلا يجتمع العطف والغضب؛ لأنهما فعلان طبيعيان، وتتعارض الدعوة لأحدهما مع ممارسة الآخر، لكنّ الدعوة إلى العدل لا تتعارض مع أيّ منهما، فلا ينافي العدل العطف أو القسوة أو الصدق أو الكذب أو الإطراء أو الذم أو إشاعة الحقيقة أو تحريفها، فمن الممكن طلي هذه الأفعال بطلاء العدالة، ومن ثم مزاولتها. ولا يحلّ اللجوءُ إلى حدٍّ وسطٍ في تعريف العدل والاعتدال أيّةَ عقدة، بل يتحول إلى عقدة جديدة، تحتاج بدورها إلى حلّ.
لقد انتهت بنا تلك الأخلاق الهزيلة وهذه الأخلاق الرصينة إلى نقطة واحدة، وهي إفراغ الأخلاق من محتواها، وإخضاعها إلى عوامل أخرى، فتتبع إحداهما الملابسات الاجتماعية، وتنتهج الأخرى سبيل العناوين الانتزاعية والأخلاقية. وإن لم يكن التمييز بين العناوين الطبيعية والأخلاقية دون فائدة، لكنّه كشف عن خواء وزيف الأخلاق الانتزاعية الخالدة التي لا تقبل الاستثناء، وبرهن على عجزها بعدما بدت رفيعة، وأدرجها في الضعف تحت الأحكام المؤقتة والتابعة والفانية.
فشل هذه الأخلاق أنكى من عجز تلك، فهو كالسقوط من المرتفع، يتهشم الساقط على أثره. وإذا أنكر أحد وجود أخلاق كهذه فغالب الأنظمة السياسية في الماضي والحاضر خير دليل على ذلك، فهي لا تتورع عن أيّ فساد واعتداء، وتبرره بحفظ النظام واستقرار العدل، كما لا يترك كثيرون منكراً إلا فعلوه، ثمّ جاؤوا بتبريره وبيان ضرورته الأخلاقية، وأثنوا على السذّج البلهاء، الذين لا يعرفون سبل التحايل والنفاق، ووعدوهم بدخولهم جنات تبعد أميالاً عن جهنم والشياطين، كما يقول جلال الدين الرومي: كثيراً ما أصبح العلم والذكاء والفطنة عقبة في طريق الناس، فأكثر أهل الجنة البلهاء؛ لأنهم خلّصوا أنفسهم من التفلسف([11]). كن أبلهاً تابعاً للآخرين، فهذا السبيل الوحيد للخلاص. ولهذا قال سلطان البشر: «أكثر أهل الجنة البله»، ولا تظنّ بأنّ البله يعني التهريج، بل هو الوله والحيرة فيه «جلّ وعلا»([12]).
ما الحل؟ فلا يطمئن القلب بالأخلاق الطبيعية، ولا يصل إلى نتيجة بالأخلاق المتعالية؛ إذ لا يرغب بالمجتمع المتسم بالكذب، ولا يمكنه الخلاص من هذه المهلكة بمعونة العدل والعفة. وإذا استسلمت الأولى لما يقتضيه المجتمع تمسّكت الثانية بتحقيق العدل (أو عدم رفضه) أحياناً من خلال أعمال لا يرتضيها، وهذا أشدّ وأمرّ.
ولنغيّر صيغة السؤال، كأن نقول: ما الذي يحدث لو لم نتقبَّل المجتمع بمجموعه، وبما فيه من أخلاق؟ وأيّ أصل أخلاقي يعارض ذلك؟ فمن الواضح أنّ الأخلاق بنوعيها لا تتمكن من الوقوف بوجه هذه المسألة، إلا أن نؤسس أصلاً فوق الأخلاق، وهو لو أصبح الاستثناء في مجتمع أصلاً، وجاز الكذب والظلم وخلف الوعد والحرب والقتل، وتوقّف نظم المجتمع على رواج «الرذائل»، وتطلّب العدل كلّ ذلك، هذا المجتمع بما فيه من شبكة علاقات ملعونة مذمومٌ ومرفوضٌ أخلاقياً.
كأننا نواجه هنا مستويين من الحكم الأخلاقي: أحدهما: حول الأفعال بمفردها؛ والآخر: حول المنظومة التي تتألّف من تلك الأفعال، ومن الممكن أن يتمتع كلّ من هذه الأفعال «بالعدل» بمفرده، لكن لا يمكن اعتبار المنظومة القائمة على الإساءة والإيذاء «العادل»، أخلاقية ومقبولة؛ إذ لا يسمح ذلك الأصل المؤسس فوق الأخلاق بنظام قائم على الرذائل أكثر منه على الفضائل، وإن كانت تلك الرذائل من متطلبات ذلك النظام، ومن عناصره الضرورية لبقائه. وبعبارة أخرى: يكمن الحسن في العمل بهذه القواعد الأخلاقية القابلة للاستثناء، ولا يمكن وصفُ مجتمعٍ بالحسن وهذه القواعد معطلة فيه. فلا مصلحة أعلى من هذه الأحكام، ولا تنازل عنها لأية مصلحة أخرى. ولذلك فإن أبرز علامة للمجتمع المتسم بالرذائل والفاقد للأخلاق هي تخلّيه عن القيم الأخلاقية لحجة من الحجج.
لا أخلاق تتفوّق على الأخلاق الحاضرة، وأقصد بها الأحكام الأخلاقية القابلة للاستثناء، فالعمل بهذه القيم أفضل ضمان للعدل والعفة المنشودة اجتماعياً. ويشهد التأريخ على جفاء البشر لهذه الأخلاق بذريعة التمسك بأخلاق أسمى، وتحقيق أفضل للعدل، وإغراء الناس بهذه الحجج.
لا خلاص من مجتمع يتصف بالرذائل سوى برفضه، والسبيل إلى ذلك يكون برفض أية حيلة تبرر وجوده، وعدم اعتبار أي نظام أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي ينتج حيلاً كهذه أخلاقياً، فالظهور الوحيد للعدل يكون بقيام هذه الأحكام الأخلاقية. وإذا ما اندثرت هذه الأحكام اندثر العدل معها. لم يَعُد سوء جهاز «استالين» إلى أهداف رذيلة، أو ممارسة الاغتيالات، وتلفيق التهم للآخرين، وأخذ الاعترافات الكاذبة قسراً، والتشهير بالناس، إلى العدل، فحتى لو فرضنا موافقتها للعدل ومقتضيات تطور النظام الاشتراكي، والتمهيد لولادة مرحلة تأريخية منشودة لما قلّ من سوئه شيء. وكلّ الكلام أنّ المجتمع الذي يحتاج لبلوغ أهدافه وحفظ استقراره وتوفير الطاقات والقابليات إلى تعطيل الأحكام الأخلاقية القابلة للاستثناء مجتمع فاسد وغير أخلاقي من الأساس. والمهم أن نعترف بعجز الأخلاق الطبيعية (الأخلاق التابعة) والأخلاق المتعالية الأبدية (التي تحكم وتحذف جميع الأخلاقيات) عن رفض مجتمع كهذا.
يرى أحد هذين النظامين الأخلاق من المجتمع وفي المجتمع، والآخر كأنه الفلسفة، يتلاءم مع جميع العوالم الممكنة، ولهذا لا يرفض أيّ مجتمع مهما كان. والأهم من ذلك أنّه ينفي الصورة عن العدل والعفة والحكمة، إلى درجة يجعلها كالملائكة أو الجن، يمكنها الظهور حتى على هيئة كلب أو خنزير. لهذا بَدَل الحكم على المتسلطين تصبح محكومة وتابعة لهم. إذاً علينا القبول بأن لا فوقية لأخلاق على أخرى، فهي ليست برلماناً يمكنه حلّ نفسه، ووجود برلمان كهذا هو التناقض بعينه. ينبغي اتباع هذه الأخلاق، لا جعلها تابعة، وتفسيرها لتحقيق هدف موهوم.
ومن سوء حظ مجتمعات هذا العصر أَنْ أَجْهَزَ بعض المصلحين أو الفلاسفة على الأخلاق الحاضرة بنية الإصلاح أو بحجتها، وتذرّعوا لذلك بأنّها من نتاج الأقوياء والأثرياء ورجال الدين والعجزة (من أمثال: ماركس، نيتشه، شوبنهاور، هتلر،…إلخ)، لكن لم يؤدِّ عملهم إلا إلى تقوية الظلمة والمرائين في الإجهاز على الأخلاق. وحتى الأخلاق الهزيلة التي كانت توقد أحياناً قبس التقوى في ضمير الناس أصابها مزيد من الضعف، ولم تظهر أية أخلاق تخطف الأبصار، وتشدّ القلوب إليها، وتسكن الضمائر لها، لا في ألمانيا النازية التي كانت تتلمذ على نيتشهِ في الأخلاق (ومن بعده على هايدگر وأمثاله)، ولا في روسيا الشيوعية التي كانت تتبع خطى ماركس ولينين، وإن جاؤوا بكثير من الحجج لتبريرها، وأعدّوا جيوشاً من الحكماء لصياغتها. اصطدام المثقفين الحريصين على مستقبل الناس بنظام «استالين» من أهم العبر في تأريخ البشرية؛ إذ لم يمرّ العلماء يوماً بظروف حرجة كهذه، فكانوا يرون بأم أعينهم كيف تلتهم نار غضب «استالين» الكثيرين، وقد سُلِّم من سلّم إلى جلاوزة الأجهزة الأمنية، لينتزعوا منهم اعترافات مخزية، ومُنع آخرون من نشر أفكارهم الرأسمالية، وقُدِّمت جماعة على أنها عدوة للشعب، وتعرّض كثيرون للتعذيب والتنكيل والسجن والنفي، وبعث كلّ ذلك على الشك والريبة. وفي ناحية أخرى لاح بصيص من الأمل بالعدل، وقد تحوّل الانهيار الحتمي للرأسمالية إلى عقيدة راسخة لديهم، وجعل الإعلام والتهريج وعمليات غسل الأدمغة من ذلك النظام معياراً لتمييز الحق عن غيره، وأحلّه محلاًّ فوق الأخلاق. وشلّ كلّ ذلك حركة التفكير لدى الناس، بحيث أصبحوا لا يصدّقون عيونهم، ويتجرّعون السمّ دون أن يهمسوا ببنت شفة، فلم يكن بينهم (إلا ما ندر) من ينادي بأنّ الملك عريان، وأنّ الجنة التي ينتظر الجميع قطف ثمارها اليانعة ليست إلا صحراء جرداء، لا تثمر إلا شوك المذلّة والمهانة. حار كثيرٌ من المثقفين في أمره، فلأول مرة تظهر في أفق تأريخ البشرية المظلم بوادر بزوغ نظام عادل، يدعمه العلم والأخلاق، طاوياً الصفحات المظلمة؛ ليكتب صفحة مشرقة في تأريخ البشرية، ألا وهو «النظام الاشتراكي»، فهل من الإنصاف أن يقفوا بوجه تلك الرذائل والمفاسد على الرغم من ظهور علامات تحقق الآمال البشرية؟ وهل يمكنهم حرق جنّة بأكملها لوجود الشوك فيها؟ ما أربك هؤلاء (عدا المغرضين منهم) هو الاعتقاد بنظام أخلاقي أفضل، والذي كان في حقيقته عدم الأخلاق، وأيّدوا جميع الرذائل الموجودة بغية تحقق عدل خيالي لم يبلغوه يوماً، وغضّوا الطرف عن انتهاك كرامة الإنسان، وحرمته، والاعتداء عليه، ومصادرة حرياته، وكبته وقمعه، أملاً في ولادة إنسان شجاع وفريد في التأريخ، ولم يخطر في بالهم أنّ العدل ليس اسماً لموجود، بل هو تحقق الأحكام الأخلاقية، ولا يتجلّى إلا في إطار هذه الأحكام، والمجتمع الذي ينتهكها لا فضيلة له، ولا يستحق الدفاع.
ما زال البعض يذهب بعيداً في نقده للمجتمع الغربي، وهناك من يزيّف الحقائق، ويسعى في المقابل لإثبات أنّ مفاسده الأخلاقية بسيطة، أو غير موجودة من الأساس، ويتحدث عن قلب القيم الإنسانية واختفاء الحق والحقيقة. وسواء صدق هذا الكلام أم لم يصدق فإن له خصلة واحدة، وهي انعدام الفائدة منه، إن لم يكن مضراً. كذلك اعتبر الماركسيون الرأسماليين أناساً غير واقعيين، وقد ولّى زمانهم، لكنّهم لم يحققوا ما وعدوا به من إنسان رائد، ومجتمع عادل، ونظام خالد. وتبقى أمور انتزاعية كهذه مصدراً للتهريج، وقد شكّلت مادة لتصورات كثيرة، ومتعارضة في بعض الأحيان، وأنشأت جيوشاً من المهرجين والمدافعين، الذين ليس لديهم سوى الكلام الفارغ.
لم يتَّسم الإنسان الصادق والنظام العادل بأفضل من العمل بالأخلاق القابلة للاستثناء، وعدم وجودها دليل على عدم وجودهما. ولا يمكن الحكم بالفساد على المجتمع الغربي، والنظام الرأسمالي والشيوعي، إلا بالرجوع إلى القواعد الأخلاقية. لِمَ نترك هذه الأدلة الواضحة ونتمسّك بأمور في غاية الغموض والتعقيد؟ (هذا على فرض تمتعها بنصيب من الصحة والصدق، وعدم كونها حاجباً عن مئات من المشاكل الأخرى).
إذا أصبح الكذب، والنفاق، والاغتصاب، والإساءة، والطمع، والغدر، والخيانة، و…، قاعدة في المجتمع الغربي، أو أيّ مجتمع إنساني آخر، سواءٌ كان ذلك على الأرض أم على المريخ، اتسم بالرذيلة، ونُبِذ. وحتى لو اعتبرنا أنّ هذه الصفات تناسب ذلك المجتمع، ويقتضيها تطوّره، فهذا لا يغيّر من الأمر شيئاً؛ لأنّ ذلك الأصل الأعلى من الأخلاق ينبذ هذا المجتمع وأخلاقه، ولا يرى فيه خيراً، وهذا مصير المجتمع الذي يقتضي قيامه ودوامه الرذائل، والويل كلّ الويل للمجتمع الذي تكون رذائله مستوردة، ويأخذها بالتبعية! وإذا أردنا الحكم عليه نسلك نفس الطريق أيضاً.
تحوّلت الأفكار العجيبة التي لا طائل منها سوى طمس الحقائق في مجتمعنا إلى ذريعة للمهرِّجين، وآفة على الباحثين عن الحقيقة. يسلك أمثال هؤلاء المهرِّجين طرقاً ملتوية، ويقدّمون تفاسير غريبة؛ لإثبات وجود الفساد في الغرب، في حين أن أبرز مصاديق الفساد ماثل أمام أعينهم، لكنّهم يتغافلون عنها، ويصدّون الآخرين عن رؤيتها؛ لما تسافلوا إليه من الحضيض.
وكذلك هو حال المجتمع الماركسي، فالمثل العليا والتبريرات والتفاسير العميقة التي تدعي انتماءها إلى الفلسفة لا تكفي لبناء مجتمع مثالي، فالمصلحة العليا هي أن لا تتقدّم أيّة مصلحة على الأخلاق، وتتبع جميع المصالح الأحكام الأخلاقية، والتفسير الواقعي هو الذي لا يفكك الأخلاق، بل يفسح لها المجال، ويوليها الاهتمام، وأصدق حكم هو الذي يتخذ من الأحكام الأخلاقية معياراً له، ويدع المعايير الغامضة والمعقدة التي غالباً ما تكون طيعة في أيدي أصحاب السلطة والمتفلسفين، وأفضل الناس من يخضع أمام الموازين الأخلاقية، ولا يرى نفسه فوق الحق والأخلاق.
يواجه جميع الأنظمة التي تعتبر نفسها حقانية هذا السؤال الخطير في حالات استثنائية من الوعي، وهو: ما الحد المسموح في اعتبار أنفسنا فوق الحق؟ وإلى أيّ مدى يجوز لنا أخلاقياً وضع أنفسنا فوق الأخلاق؟ ومتى يكون تجاوزنا للقانون؛ حفاظاً على أنفسنا، قانونياً؟ وإلى متى، ولأيّ مدى، وبأيّ ثمن، يجب بقاؤنا أو يجوز؟ ينبغي للمدافعين عن هذه الأنظمة التفكير بهذه الأسئلة، والاهتمام بالإجابة عنها.
والجواب الصريح هو: يدوم بقاء النظام ما لم يصبح فيه نقضُ الأحكام الأخلاقية قاعدةً عامة، بأية ذريعة وأية حجة كانت، وما لم يدَّعِ النظام أنّه الحق المتجسِّد، ومثال الحقيقة الأعلى، فلا معيار أدقّ وأهمّ من هذا المعيار. يجتمع ادعاء البقاء من أجل عبور بعض المراحل التأريخية، والوصول بالمجتمع إلى العدالة المثالية، وأمثالها من الشعارات، مع جميع الظروف، وينسجم مع جميع الرذائل، وقد مارست أبشع الأنظمة أقسى درجات الظلم تحت غطاء هذه الشعارات، وأسَّست لمجتمعات ممسوخة.
وملخص الكلام في جملة واحدة: إنّ الأخلاق التي تنسجم مع جميع الظروف ليست أخلاقاً، ولا يخلّصها من هذه الورطة إلا القبول بأصل فوقها، وهو: اعتبار الأحكام الأخلاقية القابلة للاستثناء الأصل الأساس، وعدم التنازل عنها تحت أيّ ظرف من الظروف. وبعبارة أخرى: ليس هناك أخلاق تفوق الأخلاق الحاضرة كي نقدمها قرباناً لتلك. كما أنّ صياغة أخرى لهذا الأصل تقول بأنّ المجتمعَ الذي تتحول فيه الاستثناءات الأخلاقية إلى قاعدة وأساس مجتمعٌ عديم الأخلاق، ولا فضيلة له، ولا تجلّي للعدل والحكمة والعفة والشجاعة إلا في الأحكام الأخلاقية هذه، وإذا ما اندثرت هذه الأحكام ماتت الفضائل معها، وينبغي عدم البحث عنها في عالم أسمى. وتفيد جميع هذه العبارات شيئاً واحداً، وهو: الالتزام بالأخلاق التي لو فقدناها فقدنا كلّ شيء معها.
إن أكبر خيانة يقوم بها الحكام تجاه شعوبهم ليست سرقة أموالهم، أو انتهاك حقوقهم، بل تلقينهم مناهج انتهاك الأخلاق؛ ليبقوا في السلطة بأيّ ثمن كان.
خاتمة واستنتاج
يمكن استخلاص النتائج التالية مما سبق:
أولاً: إذا ادّعى أحد وجود أخلاق مثالية فهي هذه الأخلاق الماثلة بين أيدينا.
ثانياً: يجوز تنقيح هذه الأخلاق، لكن لا يجوز قمعها.
ثالثاً: إن وجبت دعوة الناس إلى أخلاق ما فينبغي دعوتهم إلى هذه الأحكام الملموسة والقابلة للتحقيق، لا إلى أمور انتزاعية، تتقمّص أيّ ثوب، ولا تحلّ أية مشكلة أخلاقية.
رابعاً: إذا كان لا بدّ من النضال فعلينا أن نناضل لمقاومة الأسباب والعلل التي تحوّل الاستثناءات الأخلاقية إلى قواعد، والأفكار التي تريد تحقيق أخلاق متعالية.
خامساً: ينبغي أن يكون الحكم في القضايا الأخلاقية على أساس القواعد الأخلاقية التي تقدم لنا أنصع الأجوبة، وتكشف زيف أخفى الحيل.
هذا هو منهج الحركة الأخلاقية في المجتمع، حيث يضاهي المنهج العلمي في الطبيعة، ويحل العقد، ويرشدنا إلى السبيل القويم. وهو منهج متواضع في الأخلاق، يليق بالعباد، لا بالآلهة. والأخلاق والعدل اللذان يناسبان جميع المجتمعات هما الأخلاق والعدل الإلهي، لا البشري. وتليق العبودية بالعباد، لا الألوهية. وينبغي أن ندع عمل الرب وأخلاقه وتدبيره له، وهذا هو معنى التوكل ومقتضاه([13]).
الهوامش
(*) مفكِّر إيراني معروف، وأشهر منظِّري الإصلاح الديني في إيران. طرح ـ وما يزال ـ سلسلة من النظريات التي أثارت جدلاً واسعاً، كان آخرها حول الإمامة والوحي.
([1]) كما أنّ بعض المعاصرين تصوّروا إمكان ذلك. راجع: بحوث في العقل العملي (كاوشهاى عقل عملى)، للدكتور مهدي الحائري.
([2]) كالمحقق اللاهيجي في درة المراد (گوهر مراد)، وتبعه في ذلك بعض المعاصرين.
([3]) تلاحظ صبغة وظيفية (أي الاعتماد على المعلول والأثر) في الاستدلال المذكور. ويمكننا إعطاء صيغة أخرى من الاستدلال، بحيث يكون اعتماده على العلل أكثر مما هو على الآثار والمعلولات، فمثلاً: نقول بأنّ الناس يرغبون بالصدق أكثر من الكذب ويلتزمون به. وإن كنت أعتقد بأنّ الاستدلال الأول أكثر متانة وقابلية للدفاع، ويعود الثاني في نهاية المطاف إلى الأول أيضاً. لكنّ المقال الذي بين أيدينا لا يتبنّى أيّ تحليل معيّن في هذا المجال، وما يبني عليه هو أنّ الأحكام الأخلاقية قابلة للاستثناء.
([4]) أقلّ ما يرد على هذا الرأي أنّه لا دليل عليه؛ إذ يتكلّم عن مستقبل المجتمع والعالم بما لا دليل عليه من العقل أو التجربة، أو على الأقل لا يحصل منه ذلك. ومن الممكن أن يعترض أحد بأنّ الفضائل الأخلاقية كانت منسجمة إلى اليوم مع العالم والمجتمع، وترتبت على أساسها حياة أفضل. لكن القول بأنّ المجتمعات ستبقى بالضرورة على هذا الحال، وتحتاج دائماً لهذه الأخلاق، وتكون منسجمة معها، هو قولٌ يحتاج أدلة وقرائن علمية قوية (لا فلسفية فقط).
يبدو أنّ حكماء الأخلاق لم يروا أنفسهم ملزمين بإقامة براهين على هذا الأمر، ولم يخوضوا فيه. ولا تخدمنا نظرية ثبات الفطرة في هذا المجال أيضاً، بغض النظر عن ضعف أدلتها، وعلى فرض صحتها؛ لأنّ الأمر الفطري كالمادة التي تقبل عشرات من الصور، لا يمكننا تبيين صورة المجتمع ولا صورة أخلاقه بشكل وافٍ ومقنع بالاستناد إلى الفطريات. ولعلّ قدرة النطق والرغبة في التفاهم أقوى وأعمق رغبة عند الإنسان. ومع هذا لدينا اليوم أكثر من ألفي لغة في العالم، تنبع جميعها من تلك الرغبة والقابلية الفطرية، وكلّ منها بمثابة صورة حلّت على ذلك الجوهر.
كان ذلك بيان آخر للقاعدة المحكمة القائلة بأنّ الأمر الاجتماعي يتطلّب توجيهاً اجتماعياً، والاعتماد على الخلفيات النفسية والفطرية والفردية فقط لا يكفي لتوجيهه. فللمعاملات والأخلاق واللسان و…، خصوصية اجتماعية، لا يمكن تفسيرها بمجرد وجود وازع فطري للربح أو الاستخدام أو طلب الفضيلة أو القوة الناطقة وأمثالها. ونعجز في مثل هذه الحالة عن بيان سبب تعدد الأنظمة الاقتصادية، أو الألسنة، أو الأخلاق. كما لا يمكننا التشبث بقاعدة «الصدفة لا تكون دائمية ولا أكثرية»، فحتى لو صحّت هذه القاعدة الهزيلة والفاقدة للدليل، لا تثبت شيئاً سوى وجود علاقة ضرورية بين الكذب والقبح، على أساس غلبة قبح الكذب.
إذاً من الممكن الأخذ بنتيجة كهذه (بغض النظر عن هزالتها وعدم الدقة والتعميمات التي أحاطت بمقدماتها وصياغاتها)، وفي نفس الوقت القول بتبعية الأخلاق للواقع والمجتمع؛ إذ الكذب في عالمنا الحالي مسؤول عن تبعاته، فهو يسبب الخلل في النظام، وأزمة في الثقة. لكنّ السؤال هو: هل تغلب هذه التبعات في عالم آخر ومجتمع آخر لتجري عليها نفس القاعدة؟
([5]) أو ردت شرح هذا الموضوع في كتاب «مقدمة على الأسس الماورائية للعلوم الطبيعية الحديثة»، (مقدمه اى بر مبادى ما بعد الطبيعى علوم طبيعى نوين).
([6]) جئت بشرح هذا الموضوع في كتاب «أوصاف المتقين» (أوصاف پارسايان) بشكل مفصل.
([7]) تذكروا المقولة المشهورة والمتبعة: «الحرب خدعة»، بينما خداع الأصدقاء رذيلة دون شك.
([8]) نقصد بالأدب هنا القيم الخاصة بكل مقام، لا العادات والتقاليد.
([9]) من هنا يتضح أنّ إدراج الأسماء الطبيعية تحت العناوين الأخلاقية، وكأنها أقسامها، أمر خاطئ ومضلل، كدرج الوفاء بالعهد والصدق تحت العدل. ويسبب هذا الأمر اعتلال علم الأخلاق. فكيف يمكن عدّ المداراة والرفق والصبر وصلة الرحم من الفضائل، والإيذاء والعنف واللعن والغيبة وحب الجاه والكذب من الرذائل، بينما هي أسماء طبيعية؟ إلا أن نقول بأنّها في المجتمع الحاضر كذلك في الغالب، وهذا ما قاله علماء الأخلاق؛ إذ كلّ فعل طبيعي لم يتصف بعنوان أخلاقي لا يمكنه أن يكون فضيلة أو رذيلة. فينبغي القول بأنّ الرفق حسن وعدل، أو الكذب قبيح وظلم، ليتبيّن حكمه. إنّ تردد علماء الأخلاق في تعيين المنـزلة الأخلاقية للفقر والغنى لم يكن اعتباطياً، فتمسكوا بأدلة غريبة، من قبيل: الغنى أفضل من الفقر؛ لأنّ الله غني! بينما الفقر والغنى أسماء طبيعية، وما لم يدرجا تحت عنوان أخلاقي لم يتضح حكمهما.
([10]) لا يؤثر وجود ملكة أو عدم وجودها تحت عنوان الشجاعة أو العدل أو … على نتيجة البحث. فالكلام عن آثار تلك الملكات، وهي الأفعال الشجاعة والعادلة و…، وهذه الأفعال هي التي تدل على تلك الملكات، وليس العكس.
([11]) المثنوي، الدفتر السادس، الأبيات 2369 ــ 2370.
([12]) نفس المصدر، الدفتر الرابع، الأبيات 1418 ــ 1419 و21.
([13]) شرحت هذا الموضوع في كتاب «الحكمة والمعيشة».
نُشر المقال في مجلة نصوص معاصرة يونيو 2015