أدبُ الجدلِ والدفاعِ بين الإسلامِ والمسيحيةِ في مصر

أدبُ الجدلِ والدفاعِ بين الإسلامِ والمسيحيةِ في مصر
أدبُ الجدلِ والدفاعِ بين الإسلامِ والمسيحيةِ في مصر
(ابن العسّال والجعفري)

بقلم: خالد محمد عبده 

اهتمت الدراسات التاريخية والأدبية والاجتماعية بهذه الفترة من تاريخ مصر [569-626هـ /1173-1229م]، وأُفردت لها دراسات كثيرة على مستوى الدرس الغربي والعربي، نظرًا لما شهدته من أحداث مهمة، وصدرت دراسات خاصة بعلماء مسلمين ومسيحيين، وعلى الرغم من ذلك لم يهتم الدرس الديني المقارن – باللسان العربي- بما أحدثه الجدل والسجال بين أهل مصر (مسيحيين ومسلمين) من إنتاج مؤلفات ثمينة في أدب الجدل والدفاع، لعبت دورًا كبيرًا من الناحية السياسية والناحية الاجتماعية .

ففي عهد السلطان الكامل سنة 618هـ، أرسل ملك الروم إليه عدة رسائل يطلب من المسلمين الجواب عنها[1]، وبدوره طلب السلطان إلى العلماء أن يجيبوا على ما ورد في هذه الرسائل، وأنتجت الجوابات مؤلفات كاملة في هذا الحقل، كان منها ما كتبه تقي الدين الدين الجعفري (ت 581 هـ /1185م) صاحب تخجيل من حرّف التوراة والإنجيل، كما أن فقيهًا مالكيًا أصوليًا مثل القرافي (626 هـ – 1228م  684هـ /1285م) وطّن نفسه للكتابة في الدفاعيات ، فألّف: الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة في الرد على الملة الكافرة.

وطبيعي ألا يصمت أقباطُ مصر تجاه هذه المؤلفات، كما أن السلطان الكامل كان من الحكمة بمكان ، فقد عقد في مجلسه مناظرات بين علماء المسيحية والفقهاء من المسلمين ، ويبرز على سبيل المثال مجلس عُقد مع القس بولس البوشي والبطريرك كيرلس بن لقلق والبطريرك أنبا نيقولا، ورجّحهم السلطان في العلم ، وشكر لهم تعليل المسائل التي أوردها[2]؛ وقد حفزت مثل هذه الجلسات أولي الأمر من الأقباط بتكليف الكُتّاب للتأليف في هذا المجال، فألّف الصفيُّ ابن العسال كتابه “الصحائح في جواب النصائح” تلبية للبطريرك كيرلس بن لقلق ، وتوالى إنتاج الصفيّ ، فأخرج لنا كتابًا يساجل فيه تقي الدين الجعفري تحت عنوان “تخجيل محرفي الإنجيل” .

ثمة أمور مشتركة بين ابن العسال المسيحي والجعفري المسلم، فكلاهما أبناء عصر واحد، ووطن واحد، وحضارة عربية واحدة، بل ويحملون تراثًا واحدًا رغم اختلافهما الديني، وكلاهما كان سببًا في حفظ كثيرٍ من التراث الإسلامي الذي فُقد في صورته الكاملة، ولم يصلنا إلا من خلالهما.

فابن العسال اختصر لنا الكتاب الأوسط في المقالات للناشئ الأكبر “المعتزلي” ولأهميته اعتنى به جوزيف فان إس  (الباحث الألماني في علم الكلام الإسلامي)، وأقدم أثر مقطوعٍ بصحته في التراث الإسلامي في الرد على النصارى (لعلي بن ربن الطبري) لولا نقول ابن العسال لما استطعنا أن نتعرف عليه في صورته الكاملة، فقد حفظ لنا في كتابه في “الصحائح في جواب النصائح”، وهو يردّ عليه نقولا لم تعد لدينا اليوم في النسخة الخطية الوحيدة لكتاب الطبري، فعل ذلك ابن العسّال متابعًا نهج من سبقه، كيحيى بن عدي الذي حفظه لنا قدرًا كبيرًا من كتاب الرد على الفرق الثلاث لأبي عيسى الوراق في كتابه في الرّد عليه.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى تقي الدين الجعفري ، إذ تعدُّ موسوعته في الرد على النصارى ، والتي عنونها بالتخجيل مستودعًا مهمًا لكل ما سبقه من ردود دفاعية ، ما وصلنا منها وما لم يصلنا ، فقد حفظ لنا نصوصًا من الرسالة العسلية للجاحظ، وكتاب ابن عوف، وكتاب الدمياطي، وكتاب ابن ظفر الصقلي الذي فسّر فيه النصوص التوارتية والإنجيلية على نحو بديع، واعتمد على موسوعته كثيرون، أبرزهم  القرافي، وابن تيمية، وغيرهم .

وعلى قدر توفّر هذه المصادر بين يدي الدراسين؛ إلا أن واحدًا منهم لم يهتم بتلك الجوانب المشتركة بين (الجعفري وابن العسال، كمثال)، فاهتم الدارس المسلم بما يخصه، وقرأ النصّ الدفاعي بمعزل عن النصوص المسيحية، وكذلك الأمر بالنسبة للمسيحي، واختفت أوجه المقارنة والتحليل، وطبيعي أن تكون نتائج هذه الدراسات منقوصة مبتورة وغير وافية بالمراد .

ومن الضروري أن تُعاد قراءة هذه النصوص على نحو مقارن يدرس فيه المسلم بجوار المسيحي، ويقرأ النص وما خلّفه من ردود، وسوف أركز في ورقتي هذه على إنتاج الجعفري في أدب الجدل.

ارتبط اسم تقي الدين الجعفري بثلاثة مؤلفات هي:

1-   تخجيل من حرَّف الإنجيل.

2-   البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود.

3-   الرد على النصارى.

ومثّلت هذه المؤلفات مجموع ما خطّه الجعفري، فلم تثبت له كتب الطبقات والتراجم أيّة مؤلفات أخرى، فمن هو الجعفري؟

  •         هو صالح بن الحسين بن طلحة بن الحسين بن محمد بن الحسين الهاشمي الجعفري الزينبي[3].
  •         تكنى بـ(أبي البقاء) واشتهر بلقبين، هما: تقي الدين[4]- قاضي قوص.
  •         سكن (منطقة الجعافرة) بمصر، وتقع هذه المنطقة في إسنا إحدى المدن الكبرى بمحافظة “قنا” بالصعيد الأعلى[5].
  •         ولد المؤلف في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة هجرية[6].
  •         سمع من الشيخ المسند أبي الحسن علي بن البناء ت سنة 622هـ [7].
  •         حدّث عنه أبو محمد الدمياطي أحد نقّاد الحديث ت سنة 705هـ[8].
  •         هذا أقصى ما وصل إلينا من معلومات تخص تعريف هذا العلَم، ولا غضاضة في ذلك، فقد كان حظه كغيره من الشخصيات المهمة التي ألفت في علم الأديان المقارن، كعليّ بن ربّن الطبري، ومحمد بن هارون الوراق، وغيرهم.

ولا نعرف على وجه الدّقة لماذا لم تشتهر أخبار هؤلاء الكتّاب؟  كذلك مما يلفت النظر أن البوصيري المادح الأشهر للنبيّ صلى الله عليه وسلم ألّف منظومة في الرد على اليهود والنصارى، لكنها لم تنل ذيوعًا مثلما نالت البردة، على أن البوصيري كان معاصرًا للجعفري، هو وقطب الصوفية سيدي أحمد البدوي، كذلك لم يشتهر شخصًا كالقرافي بكتابه “الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة” بقدر ما اشتهر كفقيه أصوليّ.

على أن هذا لا يُعد تقليلاً لجهد المسلمين في هذا الحقل، اهتمامًا وتأليفًا، فربما كان ذلك راجعًا إلى أن المؤلفات وجهّت إلى غير المسلمين، ويكفي أن الحكّام قد تبنوا فكرة الحوار أو الجدال أو الدفاع عن الإسلام، فقد أهدى الجعفري كتابه ” البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود” إلى الملك الكامل، وحسبما ذكر هو بنفسه أن السلطان كلفه تكليفًا رسميًا بالرد على النصارى فقال: “كان طاغية الروم الإمبراطور قد أرسل إلى السلطان الكامل رحمه الله في سنة ثمان عشرة وستمائة عدة مسائل يطلب من المسلمين الجواب عنها. فأشار من أمره واجبٌ، وطاعته ضرب لازب، أن أصنع مسائل تتعلق بدينهم الباطل، ومذاهبهم، وكشف أسرارهم، وأوضح اضطراب مذهبهم، وما اشتملت عليه صلاتهم ….”[9].

وإذا بدت صورة الجعفري غامضة، نظرًا لندرة المعلومات[10] الواردة بشأنه في تراثنا، إلا نصوصًا أوردها المؤلف في مصنفاته، قد تبرر لنا إلى حد ما بعضًا من جوانب شخصيته، ومدى تفاعله مع عصره. يقول الجعفري في بداية كتابه تخجيل من حرَّف التوراة والإنجيل: (حضرت محفلاً تحفل بالمعارف أخلافه، وتكفَّل بالعوارف أُلاَّفه، فأذاعوا مزائد الفوائد، وأعادوا ودائع العوائد، وأفاضوا في العلوم الدينية، وأضافوا إلى ذلك ذكر الأمة النصرانية، فتعجب من حضر: كيف زلت بهم القدم؟! حتى اعتقدوا اتحاد العدم بالقدم، ومن أين قادهم الخبيث إلى القول بالتثليث، وروَّج عليهم المحال، فدانوا بعبادة الرجال؟! واستبعدوا أن يعتقد لبيب أن الإله يصلب على صليب، أو يستقر في الأحلام أن تشتمل على القديم الأرحام. فقلت:[……] ربما خلف من بعده (المسيح) خُلُوف كالخلوف، واستعوص عليهم كلامه فتناولوا بأيدي التحريف الحروف، وأتاهم العدو من قبل الألفاظ وعدم الحفاظ، فيتعين على من له دُربة بهذا الشأن حلّ إشكالهم وفكّ الشبهات التي عانت على ضلالهم.

 فزعم الجماعة: أني عارفٌ بكتبهم خبير بمخاريقهم وكذبهم، دَريّ بمرادهم بالجوهر والأقنوم، دَرِبٌ بالفَرق بين فِرَق النسطور واليعاقبة والروم. وقالوا: لو أَنرتَ لَمعا تكون على الحق علما؟ فرب كلمة واحدة تهدي أمماً، فأجبتهم لوجوب حقّهم، ورجوت الحيا عند وميض برقهم، واستخرت الله -تعالى- وشجعت جنانًا جبانًا، وأطلقت من ضعيف العناية عنانًا، ودأبت في تحصيل ما لم أقف عليه من كتب القوم، ولم أجتز بما كان في يدي منهما، حتى استكملت التوراة).

ويوقفنا هذا النص عند قراءته على عدة أمور:

1-   انشغال العامة بما عليه حال النصارى من معتقدات يدينون بها، ربما كان هذا الانشغال من قبيل التّرف الفكري، أو أنه تابع من توابع الحروب الصليبية، أو كانت هناك حملات تشكيكية، قام بها النصارى الإفرنج والعرب ضد الإسلام ونبيه، مما جعل المسلمين أيضًا يقومون بردة فعل لهذه الحملات! لعل أحد هذه الأوجه يمكن أن يكون سببًا، فالتاريخ وقتها لم يكن في صالح المسلمين على الإطلاق، فلم يكن للخليفة العباسي إلا السلطة الاسمية على بغداد وما جاورها، وكانت هناك دول كثيرة تتقاسم السلطة الفعلية للبلاد الإسلامية (دولة السلاجقة-دولة الغزنويين-دولة الموحدين-دولة الصليحيين) وفي مصر كان الحكم للفاطميين، مما أضعف الدولة بشكلٍ عام وأدى إلى اضطرابها في مواجهة الصليبيين والتتار.

وقد عاش الجعفري في ظل الدولة الأيوبية ودولة المماليك، وقد تولى أمر القضاء والولاية على مدينة قوص، والتي كانت تُعد وقتها أولى مدن الصعيد، وثانية المدن المصرية، فأهلها أرباب ثروة واسعة، وهي محط أنظار التجار القادمين من عدن، وقد كانت من إحدى المدن الكبرى لتجمّع عدد كبير من النصارى واليهود، فقد كان بقوص وحدها ثلاثمائة يهودي[11]، كما كان بقوص -أيضًا- وأسوان وحدهما إحدى عشرة كنيسة للنصارى[12]، مما يجعل مولدات الجعفري في الجدل الديني، مولدات طبيعية اقتضتها بيئته الاجتماعية، وحالته الدينية، والسياسية.

2-   من الأمور التي يمكن استخلاصها من نصّ الجعفري السابق: علو العاطفة الإيمانية لدى المسلمين حين اشتداد الأزمات، فإذا كانت هناك شبهات أثيرت من قِبل أهل الذمة الموجودين بين أظهرهم، ومن قبل الإفرنج وملوكهم؛ فإن المسلمين وإن ضعفوا على المستوى السياسي، فقد علت وتأججت عاطفتهم الدينية، كما هو الحال في عصرنا الحاضر، ولما رأى المسلمون ذلك استنجدوا بمن ارتأوه كفيلاً للقيام بأعباء ذلك الدور في الدفاع عن الإسلام، وبالفعل استجاب تقي الدين الجعفري لدعوة إخوانه، ولأمر السلطان الكامل فقد قام بعملية جمع للمصادر الخاصة بالديانة اليهودية والنصرانية، وبالمدونات التي صدرت من قبل عصره في علم الأديان المقارن.

ومن ميزات الجعفري أنه قد ذكر لنا مصادره ومراجعه في الكتابة، على العكس من غيره، وتمثّلت مصادره-كما يذكرها هو- في التالي: (التوراة/ الخمسة الأسفار– نبوة داود– نبوة أشعياء– نبوة ميخا-  نبوة حبقوق– نبوة صفنيا – نبوة زكريا – نبوة أرميا – نبوة حزقيال – نبوة دانيال)، ( الأناجيل الأربعة – رسائل التلاميذ المعروفة بفراكسيس – رسائل فولس الرسول)، (صلوات النصارى، وشريعة الإيمان الملقبة بالأمانة)، (سير الحواريين). كانت هذه مصادر المؤلف الخاصة بالديانتين اليهودية والنصرانية.

 أما بالنسبة لمراجعه التي قرأها، يقول الجعفري: (وقد وقفت على كثير من مصنفاتهم وتواليفهم في نصرة دينهم، واحتجاجهم لأغاليطهم، وما ردّت به كلّ فرقة من الفرق الثلاث: الملكية والنسطورية اليعقوبية على الأخرى، وما نصرت به مذهبها، وقرأت عدّة ردود لأصحابنا عليهم، مثل: كتاب الرهاوي، وكتاب عمرو بن بحر الجاحظ، وكتاب عبد الجبار المعتزلي، ومقالة أبي بكر، وكلام الجويني، وكتب لبعض المغاربة، وكتاب لابن الطيب، وكتاب للطرطوشي، وكتاب لابن عوف، وكتاب الدمياطي، وكتب لبعض معاصرينا، ثم نظرت جزءاً من كتاب لابن ربّن من المتقدمين”.

هكذا جمع الجعفري من المصادر ما كان يمكن أن يتيسر لمثله[13]، مما يجعله عارفا بوجهة نظر كلٍّ من الفريقين[14]، وموطن الضعف عند الخصم، والمناهج المختلفة في الرد عليهم، بغية جعل مؤلفه جامعًا لكل ما يمكن أن يتجه إلى النصارى من نقد، وما عسى أن يكونوا قد استندوا إليه في نصرة دينهم مما يستوجب التفنيد والرد[15].

 

موقف الجعفري من الكتاب المقدّس

بدا موقف الجعفري مضطربًا تجاه الكتب المقدسة، فعلى حين ذكره أن مشكلة النصارى أتت من قبل الألفاظ، بمعنى أنهم قاموا بعملية تأويلية لظاهر النصوص المقدسة على غير المعنى الذي نزلت عليه، ومن ثمّ فسيقوم هو بإعادة الصياغة لكثير من المعاني، ويستدل من خلالها على صحة آرائه الخاصة بنقد اليهودية والنصرانية! ربما أدى مثل هذا الفعل إلى القول بأن الجعفري قام بتثبيت النصوص الكتابية، ولم يقدح في صحتها الوثائقية، فاعتبر الكتاب المقدّس غير محرّف، ولعل مما يدعم ذلك نقله لتواريخ كتابة الأناجيل الأربعة كما وردت عند أصحابها، ودون تعليق كعادته، لكن مما يفسد هذا المؤدى، أنه يخصص فقرات كبيرة في كتابه للحديث عن تناقضات الأناجيل وتكاذبها ووهائها وتحريفها، ومع ذلك تجده يذكر عبارات بعد ذلك، من أمثال: (وأما المزامير والنبوات فكلّها توحيد، وليس فيها من كفر النصارى شيء البتة). كما يقول مثل ذلك عن كلام السيد المسيح. فهل يمكن تأويل ذلك أنه من باب الإلزام؟!

ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المسألة، أن الجعفري قام ببحث فقهي، بدأه بالسؤال التالي: هل يجوز الاطلاع على التوراة والإنجيل وقراءتهما [16]؟!ويبدو هذا السؤال غريبًا بعض الشيء، سواء إذا صدر عن العامة-الذين وصفهم الجعفري بالحرص على الدفاع عن الإسلام وذبِّ الشُبه عنه، أو كان من الفقهاء.

 إن بحث المسألة فقهيًا يدل على تحري العلماء مسألة الحلال والحرام، وهو أمر محمود لا غضاضة فيه آنئذ، وإنما المشكلة أن يثار مثل هذا التساؤل في وقت كانت ترسل فيه الإشكالات والشُّبه للمسلمين من خارج أراضيهم، بل وجّهت كتابات للفقهاء رأسًا في هذه الفترة، فكتب ميخائيل مطران دمياط رسالة إلى أحد علماء المسلمين، ووجّه أبو ياسر بن أبي سعد بن القسطال ردًا على المسلمين ودفاعًا عن المسيحية، ومنه: (أيجب لفقيه شريعة من الشرائع الثلاث الموجودة الآن أن يذكر شريعة ويفضّلها على غيرها من غير أن يعلم ما ذكرته الشريعتان اللتان ليستا له؟! فيجيب طبعًا: لا.فإذا ادعى فقيه الملة المالكة لهذه الديار أنه يعرف الشرائع الأخرى، فيسأل: من أين استقى معرفته؟ هل من علماء هذه الشرائع؟ هذا غير ممكن لأنهم مشتتون في العالم ويتكلمون لغات شتى. فإذًا لا يستقي معرفته إلا مما هو مكتوب في شريعته). كما كتب الرشيد أبو الخير بن الطيب في هذه الفترة كتابه: (معتقد الملة المسيحية والرد على طائفتي الإسلام واليهودية من موضوعاتهم وأصل مذاهبهم).

ولعل هذه الكتب وغيرها التي خطّها النصارى، توضّح دورهم البارز في الأدب الدفاعي والجدل، كما أنها تبرز اهتمامهم بالقضية الرئيسة لا الفرعية، وقد تنبّه بعض الفقهاء لهذه الدقيقة فقاموا يناظرون النصارى في إشكالاتهم، لكن هل قاموا بعمل متكامل للدفاع عن الإسلام؟هل ألمّوا بمصادر النصارى واليهود وما كُتب في هذا الباب؟ هل حصلوا على تكوين بالفعل يؤهلهم لذلك؟ أم دفعتهم العاطفة الدينية إلى المخالفة فحسب؟!

أظن أن دور الفقهاء في الجدال يحتاج لبحث خاص إظهارًا لموقفهم الفعلي؛ لأن نصوصًا وردت في التاريخ تجعل موقفهم حرجًا للغاية، فقد كتب كيرلس بن لقلق مجادلته مع جماعة من المسلمين بمجلس الملك الكامل بن العادل بن أيوب حضر فيها القس بولس البوشي، أو بطرس البوشي، وهذا البوشي -كما يذكر الأب جورج قنواتي في كتابه المسيحية والحضارة العربية ص 285- اشتهر في أواسط القرن الثالث عشر على عهد البطريرك كيرلس السابق ذكره، وحضر مجادلته عند الملك الكامل ابن العادل، فقد ورد في نسخة دير السريان، ما يلي: (وعقدوا له (كيرلس) مجلس مع القس بولس البوشي بحضور أنبا نيقولا البطريرك للملكية بين يدي الملك الكامل بالقلعة، بحضور جماعة كبيرة من فقهاء المسلمين وعلمائهم. ورجّحه السلطان في العلم، وشكر تعليله المسائل التي أوردها السلطان والفقهاء وغيرهم عليه”.

هل هذا يجعل موقف الفقهاء موقفًا خاليًا من قوة الحجة والبرهان، حيث لم يجد الملك الكامل بن العادل بُدًّا من أن يكل مهمة الدفاع إلى غيره، فيكل الأمر إلى تقي الدين الجعفري؟ لكن لماذا لم يتصد الجعفري مباشرة لمناقشة علماء النصارى دون دعوة من الملك أو الإخوان؟ هل كان يجد حرجًا في ذلك؟ أم لم يكن بعد مؤهلا لهذا الدور؟!

لقد ورد في كلام الجعفري ما يدل على أنه لم يكن قد هيّأ نفسه لهذا الدور بعد، وعندما وكلت إليه هذه المهمة قام بجمع المصادر والمراجع اللازمة وأعدَّ نفسه، وقام بالرّدِ على جميع الشُبه، وأثار تساؤلات واستشكالات كثيرة ضد النصارى.

أثر الجعفري في علم الأديان المقارن

غاية الأمر أن الجعفري بثالوثه الكتابي “الرد على النصارى – تخجيل من حرَّف الإنجيل – البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود” قد وضع نفسه في دائرة الأدب الدفاعي، جمع الجعفري ما ورد في المؤلفات السابقة عليه، وكانت هذه الميزة الكبرى التي اتسمت بها كتابته فحسب، حتى أن فقيه المالكية أحمد بن إدريس القرافي، حينما أراد الكتابة في نفس الموضوع لم يجد أمامه سوى كتب الجعفري فاختصر منها ونقل وألف (الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة).

بل تعدى الأمر إلى ما بعد عصر المؤلف، يقول الدكتور محمد حسانين بصد هذه المسألة: (والحق ان المؤلف لم يترك عقيدة من عقائد النصارى الأساسية إلا وجّه إليها من النقد مما يدل على خبرته، وعلى مدى استفادته من كل ما ذكره من مراجع، إلى الحدّ الذي يمكن معه القول، دون خوف الوقوع في محذور المبالغة، بأن الذين تناولوا هذا الموضوع ممن جاء بعده من المجادلين المسلمين لم يضيفوا جديدا إلى ما جمعه في مؤلفه).

والذي يقرأ كتابه (الذي بين أيدينا)[17] ويقارن بينه وبين كتاب “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح” الذي كتبه ابن تيمية في أربعة أجزاء، يجد أنه لا يعدو أن يكون تكرارًا لما ذكره مؤلفنا قبله بحوالي قرن من الزمان”[18].

وبالعودة إلى السؤال الخاص بحكم الاطلاع على التوراة والإنجيل الذي طرحه الجعفري وفصله على النحو التالي: (فإن قيل: كيف أجزت النظر إلى هذه الكتب، وصحبتها محظورة، والأمة بالنظر فيها غير مأمورة، وقد نُهي الصحابي عنها؟[19] [….] قلنا: المحظور هو النظر فيها على وجه التعظيم والتفخيم، وإجراؤها على ظواهرها الموهمة[20]، لا سيما للعامي الغرّ والحدث الغمر، فأما من نظر فيها على المقصد الذي قصدته، والنحو الذي أردته وأوردته، فهو إن شاء الله من أمهات القربات [….] وبالجملة الأعمال بالنيات[21].

يظهر من كلام الجعفري مدى وثوق المسلم وإيمانه بموافقة ما في أيديهم للقرآن، ويقصد الجعفري بشكل مسألة التبشير بالنبي محمد في كتب اليهود والنصارى، فإذا اطلع المسلم على النصوص المستخرجة من التوراة والإنجيل، والتي تتوافق مع صفات النبي صلى الله عليه وسلم وزمانه ومكانه ورسالته وأصحابه، ويجري تأويلها حسب آيات القرآن التي تنص على وجود اسمه الشريف بالتوراة والإنجيل، ومعرفة الكتابيين به أكثر من أبنائهم؛ يطمأن المسلم لقرآنه، ويثلج صدره.

وتفيد المطالعة للكتب المقدّسة حسب الجعفري، تعلُّم الحجة عليهم من كتبهم، وإلزامهم على مقتضى أصولهم، وذلك أفحم لهم. ويتمكن المسلم من خلال ذلك من الدعوة إلى طريق الإسلام، وذلك عن طريق إرشادهم؛ بإيقافهم على احتمالية تفسير ألفاظ الكتاب المقدس بأمور غير التي فهموها مما أوقعهم في الغلط.

كذلك من فوائد المطالعة إظهار جانب العظمة والنقاء والصفاء في الشريعة الإسلامية، والتأكد من صدق مقولة النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد جئتكم بها بيضاء نقية”، وذلك من خلال إظهار ما انطوت عليه كتب القوم من التكرار والتطويل واشتمال اللفظ على المعنى القليل، وضرب الأمثال بالكلمات الركيكة السوقية.  

 

والجعفري هنا يُثبّت النصوص الكتابية الموجودة، وخاصة الترجمة العربية في تبيان أصول المسيحية، على حين أنه في مواضع كثيرة يقول بتحرف النص لا التأويل، ويعتمد على حديث ضعّفه بعض المحدثين، وهو نفسه قد أول معناه ليتوافق مع رؤيته حين الحديث عن حكم النظر في التوراة والإنجيل، ومن المفترض إسلاميًا، بل من المؤكد أن شريعة الأنبياء واحدة، توصف كلها بالنقاء والصفاء؛ لأنها نابعة من مصدر إلهي واحد، لا من عندياتهم.

هل نجح الجعفري في إيصال هذه الفوائد إلى جمهور المسلمين؟ والإجابة عند الجعفري بنعم، مما أثلج صدره لتحقيقه بغيته، ورؤيته لحصاده أمام عينيه، مما جعله يقول عن كتابه “تخجيل من حرّف الإنجيل”: (هو كتاب وضعته في أيام الشباب والنشاط، وجودة القريحة والانبساط، فأكب على نقله علماء أهل الفسطاط، واغتبطوا به غاية الاغتباط، [….] فجاء الكتاب ندرة في فنه، غاية في بابه، لا يسمع به أمير أو مأمور إلا حصّله واقتناه، وبلغ من مناظرة أهل الكتاب مُناه”[22].

يبرز النص السابق، ذيوع الكتاب وانتشاره في مصر، وفي منطقة قوص مدينة نفوذ الجعفري، وهنا يثار سؤال: هل سكت النصارى وأفحموا بهذا الكتاب كما يقول الجعفري؟  فمن المفروض أن الكتاب موجه إليهم لا إلى المسلمين لكي يفرحوا ويغتبطوا، فتلك فائدة واحدة من الفوائد التي ذكرها الجعفري.

الجعفري والنصارى

ذكرت من قبل أن علماء النصرانية المعاصرين لتقي الدين الجعفري كانوا نشطاء للغاية، فكانوا من البارزين في فنون الجدل، شفاهية وكتابة، وكثيرًا ما جادل الجعفري النصارى، وحاورهم واستشارهم في تفسيرات لبعض الألفاظ والأفكار الواردة في التوارة والإنجيل وقصص الحواريين، وقد ذكر ذلك في كتبه: (سألت حبرًا من أحبار اليهود عن هذا المزمور – سألت حبرًا من أحبار اليهود عن قول داود- لقد فاوضني أحد الرهبان يدعى بنانا في البيان، فأفضى الحديث معه إلى ذكر الابن والبنوة – قال مؤرخهم- قال المنبجي أسقف منبج – صرّح لي بهذا بعض النصارى، وكان معنا في المجلس رجل من عقلائهم).

لكل هل أثارت كتابات الجعفري جدلاً وأنتجت ردودًا من جانب نصارى عصره؟ أم أفحم بها النصارى وسكتوا؟!

ما حدث أنها تركت وراءها ردودًا من قِبل النصارى؟ وتمخضت الردود على الجعفري بطريق مباشر وغير مباشر، فمثال الأول: ما قام به (الصفي أبو الفضائل ابن العسال)[23] فقد كان عمله الأساسي – كما يقول الأب جورج قنواتي في كتابه المسيحية والحضارة ص 2777- الدفاع عن العقيدة المسيحية وتوضيحها، وقد خصص ابن العسال (الصفي) كتابًا للرد على تقي الدين الجعفري وأسماه: (نهج السبيل في تخجيل محرف الإنجيل، ردًا على أبي البقاء صالح بن الحسن الجعفري). والمثال الثاني: ما كتبه المؤتمن أبو إسحاق إبراهيم بن العسال في كتابه: (مجموع أصول الدين ومسموع محصول اليقين) وبخاصة الجزء الثالث من الكتاب، حيث يورد المؤتمن الاعتراضات والشبهات والشكوك والردود، ويجيب عنها بحلّها ودفعها وإبطالها.

مما سبق، يتضح لنا أن هناك قضايا في حاجة إلى مزيد عناية ودرس، منها:

1-   دور الفقهاء في القرن السادس والسابع في الأدب الدفاعي.

2-   دور النصارى ومدى تفاعلهم.

3-   المقارنة الجادة بين أعمال النصارى وأعمال المسلمين في الأدب الدفاعي.

4-   دراسة الجعفري وجهوده كحلقة وصل بين من سبقوه ومن أتوا بعده كابن تيمية مع المقارنة بين مؤلفات الجعفري ومؤلفات الصفي العسال والمؤتمن العسال.

 

[1]:  تقي الدين الجعفري ” البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود ” – مخطوط بمكتبة المتحف البريطاني تحت رقم : 16661 أ.د.د.، الورقات 4، 5

[2]: الأب قنواتي “المسيحية والحضارة العربية” ط  دار الثقافة .مصر 1992، ص 270

[3]- راجع بخصوص ترجمته: تاريخ الإسلام للذهبي (خ)، رقم (42) تاريخ دار الكتب المصرية ورقة 23 ب جزء 31، ذيل مرآة الزمان لليونيني ص 438 ط حيدر آباد الدكن بالهند، الوافي بالوفيات للصفدي جزء 16 ترجمة رقم (283). 

[4]- حسب الذهبي واليونيني والصفدي.

[5]- راجع ما ورد عن الجعافرة في معجم البلدان، ومعجم قبائل العرب القديمة والحديثة لكمالة (1/191).

[6]- حسب الذهبي واليونيني.

[7]- راجع ترجمته في: سير الأعلام (22/27)، النجوم الزاهرة (6/63)، شذرات الذهب (5/101). 

[8]- راجع ترجمته في: سير الأعلام (1/502)، والنجوم الزاهرة (8/218). 

[9]- راجع: ورقة (5) من المخطوط، نقلاً عن ص 36 من النص المحقق، نسخة غير مطبوعة، رسالة دكتوراه أعدها الباحث خليل شوكت سنة 1996م، كلية أصول بالقاهرة.  

[10]- أظن أن هذه الصعوبة واجهت كلا من الباحثين: خليل شوكت، ومحمود قدح فكلاهما قد حصل على درجة (الدكتوراه) لتحقيق الأول البيان الواضح، في مصر، وتحقيق الثاني: كتاب التخجيل في السعودية، كذلك واجهت هذه الصعوبة د.محمد حسانين وقت تحقيقه لكتاب الرد على النصارى. 

[11]- حسب بنيامين التطيلي في رحلته ص 173 ط بغداد سنة 1945م.

[12]- حسب المقريزي.

[13]- توافرت خزائن الكتب آنذاك في المساجد والمدارس، ولدى الخاصة من العلماء، فوجدت المدارس التي نظن أن الجعفري قد استعار منها تلك المصادر أمثال: المدرسة الناصرية، المدرسة الصلاحية، المدرسة الفاضلية، المدرسة الشريفية التي وكل أمرها إلى أحد الجعافرة، المدرسة الكاملية، المدرسة الصالحية، المدرسة الظاهرية.

[14]- اطلع المؤلف على ما كتبه النصارى، فقد كانت هناك طائفة نشطة في الكتابة عن المسيحية، من أمثال: جبرائيل بن تريك، ومرقس الضرير بن موهب بن القنبر، وميخائيل مطران دمياط، وسمان بن كليل، وممن كان للجعفري  صلة بهم او بمؤلفاتهم: الرشيد أبو الخير الطيب، كيرلس بن لَقلَق، يوحنا بن مينا، الوجيه يوحنا القليوبي، وأولاد العسال الثلاثة.  

[15]- انظر محمد حسانين في مقدمته للرد على النصارى ص 17 ط مكتبة وهبة.

[16]- لاستبيان آراء الفقهاء والمحدثين في هذه القضية راجع ما كتبه البقاعي ت885هـ في كتابه “الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة” مخطوط دار الكتب المصرية.

[17]- يشير الدكتور محمد حسانين إلى كتاب الجعفري في الرد على النصارى؛ لأنه عبارة عن مختصر لكتاب التخجيل.

[18]- مرجع سابق ص 17،18. ولعل مما يجعل كلام الدكتور حسانين  وجيهًا بعض الشيء أن من ترجموا لابن تيمية ذكروا ضمن مؤلفاته كتاب تخجيل من حرف الإنجيل. 

[19]- يقصد بالصحابي الذى نهى عن الاطلاع عليها: عمر بن الخطاب.

[20]- ربما يعني هذا  أن النصوص تمثيلية، قصد بها معان أخرى تحتاج إلى تفسير، والمشكلة وحدها هي التفاسير.

[21]-  يرى بعض الفقهاء المسلمين أن النظر في الكتاب المقدس قربة كبيرة إلى لله ما دام المقصود بها الدفاع عن الإسلام، بل إن بعضهم عدّها من أعظم القُربات حتى قيل: “كلام الله واحد: إن عُبر عنه بالعبرانية فتوراة، وإن عُبر عنه بالسريانية فإنجيل، وإن عُبر عنه بالعربية فقرآن” راجع البقاعي (الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة) مرجع سابق.

[22]- راجع: البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود” للجعفري، مرجع سابق ورقة (5) من المخطوط.

[23]- ابتدأ الصفي ابن العسال عمله العلمي سنة 1235م، وتوفي سنة 1260م، اهتم بجمع وشرح قوانين الكنيسة القبطية، وبجانب هذا كان يعظ عظات، وقد ساعده أخاه المؤتمن بترجمة عدد كثير من المؤلفات اليونانية، خصص جزءًا من مؤلفاته مناهضة للجانبي الإسلامي منها: كتاب الصحائح في الرد على النصائح، ويروي (الصحاح في جواب النصاح)، وهو رد على أحد المسلمين.

      كتاب يرد فيه على “اللمع المضيئة لمنصور بن فهمي الدمياطي، وهو على شكل حوار بين فقيه يثير الاعتراضات ومجيب يجيب عليها.

      الكتاب الأوسط، وهو دفاع ألوهية المسيح ردًا على الأنباري الناشئ ت 906م في كتابه المقالات (راجع قنواتي، مرجع سابق، ص 275-288.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!