سعاد الحكيم: لم يعد يحقّ للصوفي أن ينشغل بخلاصه الفردي

سعاد الحكيم: لم يعد يحقّ للصوفي أن ينشغل بخلاصه الفردي

حوارٌ مع سعاد الحكيم أستاذة التصوف في الجامعة اليسوعية ببيروت

أجرى الحوار: أحمد فرحات 

 

الصوفيُّ مطالبٌ اليوم بمواجهة عمليات تسييس الإسلام واختزاله ووقف تخريب الأوطان وهدم جسور العيش الإنساني المشترك

للهوية الصوفية طعم خاص لا يدركه إلاّ متذوقه ومريده وعاشقه، وكذلك المبحر في فضاء النصوص والمجاهدات والمواجيد، التي تتكثف معانيها وعياً بالغ الفرادة، متحركاً، يترجم نفسه في تغيّر الذات وتجاوزها، عقلاً وروحاً وفؤاداً مفتوحاً على الجمال الإلهي، غير المحدود بمكان وزمان وفضاءات وما بعد فضاءات، وخصوصاً إذا كان المتصوف شخصية من وزن الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، الذي خطف بـ«فتوحاته» لبّ سعاد الحكيم، الباحثة الخبيرة في علم التصوف، والمتصوفة على طريقتها العميقة المتجدّدة، فاختصّت به، حتى صارت ترجمانه الأول في لبنان والعالم العربي والإسلامي في العقود الخمسة الأخيرة. ولقد تعمّدت باحثتنا باشتغالها على «النصوص الأكبرية» ألاّ تستخدم نهج تفكير فلسفي آخر تسقطه على قراءاتها هنا، بل فضّلت التعامل المباشر مع نتاج ابن عربي بالنهج الصوفي عينه؛ «فمن لا مرشد له ولا ترجمان، فالشيخ نفسه مرشده وترجمانه».

في هذا الحوار البانورامي مع د.سعاد الحكيم تطرقنا إلى شؤونٍ شتى، لعل أهمها واقع التصوف في زمن العنف والمغالاة في التطرف. وترى الحكيمُ أن الحرب الفكرية داخل الصف الإسلامي اليوم، ربما لا تزال في فصولها الأولى؛ وأن الفئات التي تتترّس بالدين لتقتل وتذبح وتعيث فساداً في الأرض، يعلو صوتها، لأنها ترجمت أفكارها بأعمال دموية تظهر على شاشات التلفزة وصفحات الجرائد، مشيعة الذعر والرعب بين الناس.

والصوفي، برأيها، مطالب اليوم بالقيام بدور اجتماعي وإنساني خارج حدود جماعته، مطالب بالتشارك مع عامة المسلمين في مواجهة تسييس الإسلام واختزاله بما ليس فيه. إذ لم يعد يحق له، عقلاً وشرعاً، أن ينشغل بخلاصه الفردي، أو خلاص طائفته، بل يتعيّن عليه الانفتاح على المجتمع التعدّدي المحيط به، والسعي لممارسة دور فيه، كحامل لرسالة الإسلام في بعده الأخلاقي والإنساني العالمي.

فيما يلي نص الحوار مع د.سعاد الحكيم التي وضعت عشرات الكتب في عالم التصوف والمتصوفين، من أبرزها: المعجم الصوفي أو الحكمة في حدود الكلمة، الذي يقع في نحو ألفي صفحة، ويشكل مرجعاً لكل دارس في التصوف، وعلى الأخصّ لمن يريد مفاتيح أدلة تعينه على الخوض في كون ابن عربي.

* ما الذي يمكن للصوفية أن تفعله في زمن العنف وكرنفالات الدم الذي يسيطر على المشهدين: العربي – الإسلامي والعالمي اليوم؟

** لا بدّ من التنويه، بداية، بأن التصوف الإسلامي ليس نوعاً واحداً، بل الصوفيةُ نوعان. وبأنه لا يمكن وضع الصوفية كافة في سلةٍ واحدة، فالفروقات بين رجالات هذا القطاع العلمي، قد تكون نوعية وأساسية، أو من جنس التفاوت، أو التباين بين الأفراد المتعددة ضمن النوع الواحد. وفي كل الأحوال، وعلى الرغم من الفوارق، فالجميع في الفضاء الصوفي يشترك بسمات وملامح، ويتشارك في قناعات ومبادئ، ويتشاطر قراءة للإسلام تتسم بالرحمة الشاملة، والمحبّة الإنسانية وقبول الآخر وتفهّمه؛ سواء كان هذا الآخر، هو الإنسان العاصي أم المُسْرف على نفسه أم المخالِف بالفكر الديني أم المنتسب إلى ديانة غير الإسلام .

لقد استدللنا من دراسة تاريخ التصوف وأعمال رجالاته، وما وصل إلينا من مواقفهم الوجودية وأساليبهم الحياتية، أن الصوفية على نوعين: نوع يقوم على تزكية النفس بالمجاهدة والرياضة، وعلى اكتساب صفاء القلب بتخلّيه عن كل ما قد يعكّر صَفْو العلاقة بالله. وعادة ما تكون نصوص أهله في محاسبة النفس وفقه القلب.

وهذا النوع يمكن رصد زمن نشأته مع الحسن البصري (ت 110هـ/‏ 728م)، مروراً بالكلاباذي (ت 380هـ/‏ 990م) صاحب كتاب «التعرف لمذهب أهل التصوف» والطوسي (ت 378هـ/‏ 988م) صاحب كتب «اللمع» والمكي (ت 386هـ/‏ 996م) صاحب كتاب «قوت القلوب»، وصولاً إلى أكمل صورة مع الإمام الغزالي (ت 505هـ/‏1111م) في كتابه «إحياء علوم الدين». وهذا النوع قابل للتعلّم والتعليم، وعلى أساسه التربوي تقوم الطرق الصوفية. وهو مقبول من عامة علماء المسلمين (في حال اعتداله وتأصيله) ومعدود لديهم كجزء بنيوي من الإسلام، ويدعو البعض اليوم (ولأسباب مختلفة) إلى إعادة تسميته بنزع اسم التصوف عنه وإعطائه اسم: علم التزكية.

ونوعٌ ثانٍ من الصوفية، هو مثار الجدل وموطن الخلاف، وقد حُبّرت فيه آلاف الصفحات بين تكفير لبعض أفكار أهله، وبين شروح وردود ودفاعات. ويتجلّى هذا النوع عند أفرادٍ من الناس وهبهم الله سبحانه حالاً روحياً، فأَشْغَلَهم عن كل شيء، وجَذَبَهم إلى الجمال الإلهي، فصاروا موجودين لله فقط، معمّرة قلوبهم بالحب الإلهي، وقد تعشّقوا شغافه، ولم يتركوا فيه ثغرةً لمنافس. وعادة ما تكون نصوصهم في المواجيد والحب الإلهي، وما وهبهم الله سبحانه من معارف، وما أشهدهم من مشاهد، وما فتح لهم من فتوحات. وهؤلاء الصوفية، أهل الحال الروحانية مع الله، لكل واحد منهم بصمة روحية لا تتكرّر، ولا تُعلّم، ولا تُكتسب بأعمال. ونرصد بداية هذا النوع مع السيدة رابعة (ت 180هـ/‏ 796م)، مروراً بذي النون المصري (ت 245هـ/‏ 859م) وأبي يزيد البسطامي (ت 261هـ/‏ 874م) وأبي الحسين النوري (ت 295هـ/‏ 907م) والحلاج (ت 309هـ/‏ 922م)، وصولاً إلى أكمل لحظة حضورية له مع الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي (ت 638هـ/‏ 1240م)..

الآن، وبعد هذا الإطار الجامع، يمكن الإجابة عن سؤال عما يمكن للصوفية أن تفعله في زمن العنف، وأقول إن الجواب له تفريعات:

أولاً، أن يدرك الإنسان الصوفي، سواء كان من أهل النوع الأول أم الثاني، أنه لم يعد يحق له، عقلاً وشرعاً، أن ينشغل بخلاصه الفردي أو بخلاص طائفته فقط، بل يتعيّن عليه الانفتاح على المجتمع التعدّدي المحيط به، والسعي لممارسة دور فيه، كحاملٍ لرسالة الإسلام في بعدها الأخلاقي والإنساني والعالمي.

ثانياً، إن التجمعات الصوفية، التي هي الوارث الفعلي للتصوف التربوي المبني على الصفاء والتصفية، ومهما كان رأينا في أدائها التاريخي، وتقييمنا لأدائها المعاصر، فلا يمكننا أن ننكر أنها قد أنتجت عبر عقود الزمان المتوالية إنساناً لطيف المعشر، رحيماً متفهّماً، واسع الصدر حليماً، يمارس مكارم الأخلاق مع العشير والقريب والجار والغريب. ولكن إصلاحه الأخلاقي والقيمي في أغلب الأحيان، ظلّ ذاتياً، وجزءاً من عبادته لربه، من دون نظر منه أو انتظار لمردود في الجانب الإنساني. وبكلام آخر، إن هذا الصوفي مطالبٌ أخلاقياً اليوم، بالقيام بدور اجتماعي وإنساني خارج حدود جماعته الصوفية، وبأن يتشارك مع عامة المسلمين، بما يمتلك من مخزون وتجربة، للوقوف – معرفياً ووجودياً – في مواجهة عمليات تسييس الإسلام واختزاله، واعتماد خطاب عنف يدمّر الذات الإنسانية، ويخرب الأوطان، ويهدم جسور العيش المشترك، ويعزل المسلم عن حدقة الكون.

ثالثاً، إن الخزانة الصوفية لأعلام النوع الثاني ثرية بالتجارب الشخصية، والمفاهيم الكونية، والإنسانية، التي تصلح لأن تتخذها النخبة العالِمة اليوم، كعُدّة عمل تعيد توظيفها في معركتها ضد الجهل والعنف والتعصّب والتطرّف وإرادة قهر كل آخر مغاير أو مختلف.

حــــرب الأفكــــار

* باتت الحروب تستخدم، وأكثر من أي وقت مضى في التاريخ، الدين (مُشوّهاً طبعاً) سلاحاً أمضى وأفتك من أي سلاح آخر في تدمير المجتمعات من الداخل وتفكيك بنيتها الاجتماعية والدينية والثقافية والتاريخية والحضارية بعامة.. من غير أن يخسر مُشغّلو هذه الحروب بالوكالة شيئاً يُذكر، بل إنهم يحققون مراميهم الاستراتيجية على نحو يفوق، حتى تصوّراتهم المسبّقة حولها.. فهل تنفع «إيديولوجياً» القيم والأخلاق والطهرانيات على اختلافها في رأب ما تصدّع، وفي مواجهة مثل هذه الحروب السرية التي تجتث إنساننا العربي من التاريخ والجغرافيا معاً؟

** لديك حق، إن الصراع الدائر اليوم في مجال وجودنا البشري؛ سواء كان صراعاً على المكاسب المالية أم على السلطة أم حتى دفاعاً عن النفس، فإنه يتّخذ شكل الحرب بالأفكار. لقد أصبحت «الأفكار»، إما نعمة وإما نقمة. ومن هنا نفهم قوله تعالى [المدثر 18 – 19]: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾.

وجواباً عن سؤالك عن جدوى إيديولوجيا الأخلاق في مواجهة هذه الفئات الشرسة، التي تستخدم سلاح «الأفكار الدينية» لتدمير كل من يقف في وجه مراميها الاستراتيجية؛ أقول: قطعاً إن التنظيرات الأخلاقية، لن تتمكّن من إطفاء النيران المشتعلة المنبعثة من جوف «التنين»، ولكن إن تحولت هذه الأفكار الأخلاقية إلى برنامج عمل، يُنشئ حركةً مضادةً، ويراكم قوّة الخير في الناس، فإنه سيتمكّن من فرض نفسه في صراع الحياة والموت، البناء والتدمير، الحب والكراهية، الرحمة والعنف. لو تمكن جميع الحاملين لرسالة الإسلام، في بعدها الإنساني والأخلاقي، من تجميع جهودهم وإجماع آرائهم، لأمكنهم أن يفرضوا أنفسهم، محلياً ودولياً، على أنهم هم «المتكلمون باسم الإسلام»، وليس تلك الفئات التي تستخدم اسم الإسلام سلاحاً ومبرراً للقتل والتدمير.

إن الحرب الفكرية داخل الصف الإسلامي دائرة، وربما لا تزال في فصولها الأولى، حول الإسلام والإنسان. وإن الفئات التي تتترّس بالإسلام لتقتل وتذبح وتعيث فساداً في الزرع والنسل، يعلو صوتها، ذلك لأنها ترجمت أفكارها إلى أعمال دموية تظهر في أنحاء المعمورة على شاشات التلفزة، وعلى صفحات الجرائد، مشيعة الذعر والرعب.

وندعو من هذا المنبر المثقفين والأكاديميين، وكل من خاض تجربة روحية، أو أعلن عن نفسه حاملاً لرسالة الإسلام في تكاملها الديني والأخلاقي والإنساني، إلى تجميع جهودهم، وإلى التواصل لنقل الفكر من مجال النظر إلى أرض الواقع، وربما إلى محاولة «المحو» العلني المبثوث عالمياً لكل جريمة تُرتكب باسم الإسلام، فلا يكفي أن ندين الجريمة، بل لا بدّ من التفكير معاً لإبداع أساليب عالمية للمحو المباشر، أعمال تقول لهذه الفئات: إن الكلمة الأخيرة هي للحق والخير والجمال.

* ما معنى كونك محصّنة بالمعرفة العرفانية في زمن التقدّم العلمي والتكنولوجي ذي الوتائر المتسارعة؟

** عندما قالت السيدة رابعة في نجواها الشهيرة:

إني جعلتك في الفؤاد مُحَدِّثي‮

وأبحتُ جسمي من أراد جلوسي

فالجسمُ مِنّي للجليس مؤانسٌ

وحبيب قلبي فـي الفؤاد أنيسي

رسمت بهذه الصورة الجمالية: تقاطع الزمن الداخلي الروحاني السرمدي العمودي مع الزمن الخارجي المادي المتناهي الأفقي، في ذات الإنسان الصوفي. ودلّت على أن الشخص الصوفي صاحب التجربة الوجدانية ينفتح وجوده على عالمين، يعيشهما معاً، بتداخلٍ وتخارجٍ، من دون إخلال بالتوازن، ومن دون طغيان لواحد على الآخر. فها هي تسمع في قلبها عن ربّها، وفي الوقت نفسه تؤانس جليسها بكلامها، ولم يشغلها الإنصات لحديث القلب عن تحديث الجليس باللسان.

وأرى أن هذه خبرة صوفية جديرة بأن يستثمرها الإنسان في حياته الشخصية، حتى يحافظ على ذاته وحياته الداخلية وبُعْده الروحاني في عالم متسارع الوتائر، فلا يدع العالم الخارجي، بضجيجه وسرعة جريانه يأخذه بعيداً عن ذاته، وعن العيش في ظلال قلبه، وعن الإنصات إلى كل خاطر طيّب مؤنس، وإلى كل علم أو عرفان ينبع من بصيرة الروح وشفافيتها.

وهذا العمران الجوّاني يزيد من طاقة الإنسان على العمل في العالم الخارجي، ويُنقّي ذهنه لمواكبة التقدم العلمي والتقني، مع تحصينه من أن يقع رهينة «رقّ الأكوان»، ومن أن يسرق الزمن الخارجي عمره كله، في غفلة منه.

عـــرفانية جديدة

* برأيك، هل نحتاج إلى ثقافة عرفانية جديدة من أجل تضامن أكثر فعالية بين الحركة العلمية والسياسية والمعتقدية بشكل عام؟.. أكثر من ذلك، هل بات على العرفاني أن يجري إصلاحات عرفانية؟ وكيف؟

** هذان السؤالان يضعان الثقافة الصوفية – العرفانية، وأيضاً الفكر الصوفي – والعرفاني في موضع المساءَلة؛ وبخاصة فعالية دورهما في الحراك الإنساني.

الواقع، أن الثقافة والفكر الصوفيين ليسا جاهزين اليوم وبشكل منجز، للنهوض بدور تنسيقي بين حركة العلم والحياة والفكر. وهما بحاجة إلى إعادة إنتاج. وهذا العمل، أي إعادة الإنتاج، أراه قد بدأ بوضوح، ومن مواقع مختلفة، وجهات متباعدة. نراه في خطاب قيادات التجمّعات الصوفية المعاصرة (في المغرب العربي والمشرق العربي ودول أوروبا وأمريكا)، أو في مؤلفات أكاديميين (مغاربيين أو مصريين أو عراقيين أو لبنانيين…)، أو لدى أصحاب تجارب شخصية. وتتمحّور عملية إعادة الإنتاج لدى الجميع تقريباً حول أفكار أساسية منها: لا إكراه في الدين، رؤية المؤتلف في المختلف، رؤية الكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة، وحدة الكون المخلوق، ترابط الكائنات، العمل على الانتقال من الموقع الصوفي إلى الموقع الإسلامي، بناء الإنسان التعدّدي، الانهمام بالأمة والجوار الإنساني، وغير ذلك من أفكار تمكّن المسلمين من المشاركة في صنع الحياة.

* كعرفانية كيف تتقاطعين مع مثيلاتك وأمثالك من ديانات أخرى كالمسيحية واليهودية غير الصهيونية والبوذية…إلخ؟ وهل خرج برأيك الفكر الصوفي الجديد لدينا من مسرح التقليد الإسلامي المركزي ومن فضائه ومسالكه؟

** إن لفظ «عرفان» و«عرفاني» متداولان في الثقافة الفارسية، والفضاء الشيعي، للدلالة على «التصوف» و«الإنسان الصوفي». وسبب هذا التغيير، هو ما حمل اسم التصوّف ولفظ الصوفي من دلالات سلبية في التاريخ الفارسي. ومن هنا، فإن لفظي التصوف والعرفان قد يردان على سبيل الترادف لدى البعض، أو على سبيل التمييز والتخصيص لدى البعض الآخر. وأنا قلما أنظر إلى نفسي كصوفية، وإنما أتعامل مع ذاتي كإنسان أولاً. ومن ثَمّ كأستاذة أكاديمية باحثة، وكناشطة في المجال الاجتماعي، عبر رئاسة مركز ثقافي (مركز دندرة الثقافي – لبنان) أو المشاركة في إنشاء جمعيات، منها «تجمع الصداقة اللبناني للحوار المسيحي – الإسلامي (تصالح gladic) أو الإشراف الأكاديمي على نشاط جمعيات (منها wake). وأنا أسعى بشكل حثيث لممارسة إسلامي بشمولية أبعاد أربعة: البعد الفقهي (السلفي)، والبعد الصوفي، والبعد التعاوني الاجتماعي، والبعد الأممي والإنساني. وأترجم هذا السعي الفكري بالعمل على فتح قنوات بين تيارات الإسلام التاريخي، المتنوعة لا المتعارضة، وأقتنع عميقاً بأن هذا الأمر ضروري، ويجمع الجهود، ويقرب الآراء، ويحمل بذوراً قابلة للنماء والتطوير.

وأقول، عندما أتعامل مع مثيلاتي وأمثالي من ديانات أخرى، أي مع كل إنسان على وجه الأرض، أجدني أتقاطع معه، على كون الحقيقة الإنسانية واحدة لدى كل البشر، وعلى جوهر الدين ووظيفته الأخلاقية والروحية، وعلى كون الرحمة الإلهية وَسِعت كل شيء، وأن بداية الخَلْق هو رحمة إلهية للمخلوقات، وأن مآل الجميع إلى الرحمة الإلهية. وأن الديّان هو الله سبحانه، وكلّف الإنسان بالدعوة إليه، وتحبيبه إلى الخَلْق كلّهم، ولم يكلّفه مهمة التفتيش في عقائد الناس.

اتـــهامــــات

* هل هناك تيارات صوفية بعينها سليمة المعتقد، أو قريبة من سلامة المعتقد، يمكنك شخصياً التعاون معها بغية تجنّب الرمي بالكفر والتجديف بالدين والقرآن؟

** منذ وضع روّاد الإصلاح في زمن النهضة (من أمثال محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا…) الصوفية في قفص الاتهام، ووجّهوا إليهم جملة تهمٍ تتعلّق بالعقيدة والشريعة والمجتمع وغير ذلك، عكف أرباب الصوفية على إعادة صياغة الذات، بما يدفع تلك التهم. ومن هنا، فإن معظم التجمّعات الصوفية الموجودة في أنحاء المعمورة في القرن الحادي والعشرين، تحرص على التدليل على سلامة عقيدتها، وحسن التزامها بالشريعة، واهتمامها بمجتمعها الخاص، والعمل على ربط حياة الإنسان بمعتقداته الإيمانية.

لذا، فإنني أفخر بأن لديّ صداقات في أطوال الدنيا، مع قيادات صوفية، ومع مريدين سالكين، ومعظمهم يشغل مناصب عامة في التعليم والإفتاء والدعوة والإرشاد.

أما عملية «تجنب الرمي بالكفر»، فإنني أجتهد صادقة في أن أجنّب أي أخٍ مسلم ذنبي، إن هو رماني بالكفر. وأحرص على أن يكون نصّي الشخصي متوازناً تماماً كممارستي لإسلامي الرباعية الأبعاد، كما سبق وذكرت. وقد يخلط البعض بين أفكاري الشخصية وبين أفكار كبار الصوفيين موضوع اختصاصي العلمي. وهنا، لا أقول ذلك لأتنصل من أقوالهم، ولكن لأقول، إنني بكل تواضع وصدق، لم أصل إلى مستوى كشوفاتهم الوجودية، وإن كنت مأخوذة بفتوحاتهم في جوهر الإنسان ومقتنعة بإنجازاتهم في هذا المجال وأرى ضرورته في العصر. وأنا كشخص، وإن كان يحلو للبعض أن يصنّفني «أكبرية» (نسبة إلى الشيخ الأكبر ابن عربي) أو «صوفية» عموماً (نسبة إلى اختصاصي)، إلا أنني – على الصعيد العقدي والعملي – أنتسب إلى جمْعٍ مسلم، هو الأسرة الدندراوية، وفي كتبها تسجيل لمعتقداتي الإيمانية. (الدندراوية اتجاه إسلامي صوفي منفتح على الجميع. نشأ في مصر وانتشر في كل أصقاع الأرض).

* أنت المختصّة عميقاً بنصوص محي الدين بن عربي، شيخ المتصوفة الأكبر، أسألك أولاً، إلى أي حدٍ فككت رموز لغة هذا القطب وبعض «مذاهبه» الرمزية؛ وهل ما زالت أمور كثيرة في «فتوحاته» عالقة عليك حتى اللحظة. ثانياً، كيف قرأتِ خطابات الشيخ من دون دليل مصاحب إلاّ نصوص الشيخ عينه، وكيف تحققت لديك جرّاء ذلك معادلة «التصوف القديم بالجديد مؤولاً»؟

** إن الارتحال في عالم الشيخ الأكبر، هو مغامرة معرفية تستغرق أعماراً، لا عمراً واحداً، وهو سفرٌ غنيٌ بالمحطّات، ولكن لا وصول فيه ولا عودة لواصل. وإن نصوصه من النوع الذي يتسرّب من نوافذ الحواس، ومخابر الفكر، إلى حياة المسافر على مراكب السطور، ويتغلغل في قاع وجوده. لذا اخترت أن أركب سفينة إبحاري في عوالمه من مرافئ اللغة، واتكأت على المفاهيم لتفكيك الرموز، ولبناء معرفتي العقلية بما نتج عن تجربته الصوفية من أفكار ورؤى. ونعم أيضاً، لقد زرعتُ – في حدود طاقتي – للمبحرين من بعدي، بعض الأضواء في شواهق النصوص، ولكنّ أموراً كثيرة، لا تزال في «فتوحاته» تشغل عقلي، وتُطلّ بعد رقدة سنوات لتسأل: هل من جديد في المعطيات؟!

لقد تعمدت ألاّ أستخدم «نهج تفكير فلسفي» أسقِطه على قراءتي لابن عربي، بل فضّلت أن أتعامل مع نتاجه بالنهج الصوفي عينه. وبكلام آخر، لقد كانت نصوص ابن عربي بالنسبة إليّ بمثابة «منصّات للشهود المعرفي»، هي أرض الحقيقة التي أدخلها لألتقي صاحبها في حدود الكلمات. وعلّمني واقع اشتغالي على النصوص، أن من لا مرشد له، ولا ترجمان، في قراءة ابن عربي، فالشيخ نفسه يرشده، ويترجم نفسه بنفسه؛ أي إن المعنى كلّه في النص، ومفاتيح مغاليق عبارة من العبارات، أو مقطع من المقاطع، موجودة في عبارات أخرى أو في مقاطع أخرى.. نصوص يترجم بعضها بعضاً، والقارئ كالمسافر يُعوّل على ما يُسفر له سفره من فتوح في النص.

المكان.. والمكانة

* وكيف تعاملت، معنى ورؤية، مع مقولة ابن عربي الشهيرة: «ما لا يؤنّث لا يُعوّل عليه»؟

** الواقع أن عبارة ابن عربي الواردة في «رسالة ما لا يُعوّل عليه»، جاءت في سياق تأنيث المكان، فقال (ص 17): «المكان إذا لم يؤنث، لا يعوّل عليه، يعني المكانة»، وبشكل واضح قال في الصفحة نفسها: «المكان إذا لم يكن مكانة، لا يعوّل عليه». وبكلام آخر، كل مكان ينزل فيه إنسان (وكل منصب أو موقع وظيفي)، إن لم ينعكس مكانة (قيمة معنوية) على نازله، فلا يعوّل عليه.

ولكن أعجبني أنك أطلقت مقولة ابن عربي، ولم تحبسها بالمكان والمكانة، مما يفسح أمامي المجال للقول إن ابن عربي أعطى المرأة مكانة مميزة في كتاباته، وتجلّى كاتباً إنسانياً يخاطب الذكر والأنثى على حد سواء، ويعترف بأهليّة المرأة لكل ما هو متاح للرجل حتى «مقام القطبية». ما شدّني وأوثقني في عالمه، وولّد بيننا صداقة عبر الزمان، هو أنني لم أصادف نصاً لديه يقلّم فيه أظافر المرأة أو يقصّ أجنحتها، أو يجعلها في الصف الثاني في الإنسانية.

وبهذه المكانة التي أعطاها المرأة، فكأنه يحثها على أن تؤنّث كل شيء في وجودها وعالمها المحيط، وكأني أسمعه من بين الأسطر والكلمات يقول: «حوّلوا كل ما هو ذكوري إلى أنثوي، ولا تعيشوا في عالم أحادي ذكوري». وهذا أعطاني مجالاً فكرياً لأن أحاول تأنيث كل ما لمسته وشغلته. وكان حظي عظيماً لأن جمْعي المُسلم ( الأسرة الدندراوية) محفوظة فيه مكانة المرأة، إلى جنب الرجل، وفي «المكان» الذي تستحقه.. وهذا أعطاني مجال حركة أوسع.

* أي حفر أحدثه فيك كتاب «المواقف والمخاطبات» لمحمد بن عبد الجبار النفّري؟ وهل ترين أن هذا المتصوّف الاختزالي الشاهق، وصاحب الغموض الشفّاف على عمق دفين وسارح، هل هو في منزلة ابن عربي لديك؟

** منذ بداية اشتغالي في الدكتوراه على النصّ الصوفي، أعجبني كتاب «المواقف» للنفرّي وخصّصت لصاحبه فقرات في بحثي المعنون: «وجدان الصوفي وبصيرته عند نقطة الصمت». إن كتابة النفري هي نوع من إرادة الإمساك بلحظات مواقفه عبر تدوينها بالكلمات، تماماً كمن يأخذ لنفسه أو لأثيرٍ عنده صورةً، شاهداً على الوجود، يستعيد بالنظر إليها: اللحظة والموقف. فالمخاطب الإنساني يكاد يكون غائباً في مواقف النفري.

وقد وجدت في تراث ابن عربي مؤلفاً، نظيراً لكتاب المواقف، هو كتاب: «مشاهد الأسرار القدسية»؛ حيث يقول ابن عربي في مطلع كل مشهد: أشهدني… وقال لي. وقد قمت بتحقيقه ونشره بالشراكة مع د.بابلو بنيتو، المستشرق الإسباني المعروف في مجال الدراسات الأكبرية (النص منشور بالعربية مع الترجمة الإسبانية).

أما بخصوص المقارنة بين ابن عربي والنفري، فإنني لا أنتسب إلى تلك الفئة من الناس التي تمارس تصنيفاً للآخرين، فتقدّم وتؤخر بمعايير تضعها، بل أرى أن كل واحد، هو هوية مكتملة بذاتها، ودالة في زمنها ومكانها، وتتمتع بفرادة تجعلها لا تتكرر ولا تُستنسخ؛ ومع ذلك، فإن المقارنة قد تكون مسموحة على مستوى حجم الإنتاج العلمي وتنوعه، وأيضاً على قدرة مدونته الصوفية في تحريك العقول والمواجيد لإنشاء مدرسة صوفية أو تيار فكري. وهنا، أظن أن ابن عربي هو الأوسع نتاجاً والأكثر تلامذة ونفراً.

 

الفضاء.. رقصة كونية

* عالم الفيزياء الأميركي فريتجوف كابرا، أحسّ مبكّراً أن الفضاء الخارجي ليس سوى رقصة كونية عملاقة، وأن الفيزياء هي الوجه الآخر للتصوف الشرقي.. بماذا تعلقين؟

** جميل أن يجد هذا العالم الأميركي تشابهاً وتماثلاً بين رؤية العالم عند أعلام الصوفية الكبار كابن عربي وجلال الدين الرومي وبين رؤية العالم في اللحظة العلمية الراهنة في حقل الفيزياء؛ فالعالم – في رؤية الفريقين – هو عبارة عن منظومة من المكوّنات المترابطة والمتفاعلة والدائمة الحركة نحو خلق جديد.

وأرى أن هذه المقاربة هي على نسق ما نجد من تفسيرات علمية للآيات الكونية في القرآن الكريم، ولكن المقاربة بين الشهود الصوفي والنظرية العلمية، لا تزال في طور الولادة والتكوين، ونأمل أن يجد كتاب كابرا «التصوف الشرقي والفيزياء الحديثة» صدى لدى علماء الفيزياء أولاً، علّه ينشأ عنه تيارٌ نرى من خلاله مشاهد الصوفي في حدقة العلم ثانياً.

* أخيراً: ماذا تحبّين أن تُسألي؟

** السؤال الذي طرحته على نفسي: هل أمضيت عمرك، على مستوى الدراسة والعمل، بما يستحق عمرك؟

والجواب: الحمد لله.. ولا أقول إنني راضية عن إنجازاتي، ولكنني راضية عن اختياري للطريق الذي أسير عليه، والعبرة بتوجّه الوجه والقلب، لا بأطوال المسافات.

ابن عربي: التصوف بغير خُلُقٍ لا يعوّل عليه

* يُصنّف بعض الشعراء والنقاد العرب والأجانب (وعلى رأسهم أدونيس وخليل حاوي وعبد الوهاب البياتي وعصام محفوظ وهانز دويترش وهرمان راديش – ألمانيا) ابن عربي بأنه شاعر في المقام الأول، ثمّ بعد ذلك متفلّسف صوفي.. ما تعليقك؟

** لا أدّعي الملكية الحصرية لابن عربي، ولا أدّعي أن فهمي لفكره، هو الوحيد المطابق لحقيقته؛ ولكنني أقول، إن ابن عربي هو واحد من الهامات العالية، كعمود نور يتجذّر في الأرض ويتطاول نحو السماء، ويصيب كل مقترب منه قبساً.

هل ابن عربي هو شاعر؟ أقول، كما قال هو لابن رشد: نعم ولا. إن نمط الكتابة لديه يشبه تجربة الشاعر في الكتابة؛ يصرّح إنها في البدايات كانت من جنس الإلهام المعنوي (مُلْهم المعنى) ثم في كتبه الأخيرة، صارت الكتابة نوع إملاء، وكأن الإلهام أصبح عبارة (مُلْهم المبنى). إضافة إلى ذلك، فإن نصّه الصوفي مكثّفٌ، ومُجدولٌ بالرموز والإشارات، وتنفتّح ألفاظه على التعدّدية في المعنى، وقد حاولت في مقدمة كتابي «المعجم الصوفي» رصد «معراج الكلمة» في المعاني. كما أن الخيال الخلاّق يلعب دوراً واضحاً في تفسير مشاهده ومكاشفاته ولقاءاته الصوفية عبر الزمان والمكان؛ ولكن، يظلّ الفارق واضحاً، ويظلّ ابن عربي، من وجهة نظري، هو الصوفي الذي لا ينحبس في هوية الشاعر، ولا في هوية المتفلسف الصوفي.

يقول في «رسالة لا يُعوّل عليه»، جامعاً للنوعين من التصوف: «التصوف بغير خلق، لا يعوّل عليه»، و«التصوف إذا لم يعمّ مكارم الأخلاق، لا يعول عليه»، و«النوم إذا لم يعط بشرى لا يعول عليه»، و«النوم إذا لم يصحبه الوحي لا يعول عليه»، أي وحي الفهم للقرآن والنصوص القدسية لا وحي تشريع. ونقول: فإن كان النوم الذي يعوّل عليه هذه صفته، فكيف هي اليقظة؟!

 

 

(المصدر: الاتحاد).

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!