التاريخ الاجتماعي والمجتمع الإسلامي

التاريخ الاجتماعي والمجتمع الإسلامي

التاريخ الاجتماعي والمجتمع الإسلامي

حوارٌ مع الباحث المصري أحمد العدوي

أجرى الحوار: خالد محمد عبده

 

  أحمد العدوي، باحثٌ مهتمٌ بالجوانب الثقافية والحضارية في الإسلام، عمل وحاضر بكلية الآداب جامعة القاهرة، ومركز تحقيق النصوص بجامعة الأزهر وأكاديمية الشروق قبل أن يصبح أستاذًا مساعدًا بقسم العلوم الإسلامية، بكلية الإلهيات بجامعة Çanakkale Onsekiz Mart Üniversitesi بتركيا.

من أبرز دراساته:

-الصابئة منذ ظهور الإسلام حتى سقوط الخلافة العباسية، رؤية للنشر، القاهرة 2013.

-الطاعون في العصر الأموي، صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية، المركز العربي للأبحاث والسياسات. 

-رواية أبي حيان التوحيدي حول إخوان الصفا، رؤية نقدية.

– البكتاشية ..مجمل الدراسات والبحوث وعلاقاتها الدينية، مشاركة في كتاب المسبار.

-الزواج والمال والطلاق في المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى، يوسف رابوبورت، نقله إلى العربية أحمد العدوي، نشرة مركز تراث للبحوث والدراسات.

 

يرى أحمد العدوي أن التاريخ الاجتماعي لا يزال حقلاً بكرًا، ومعظم المؤرخين اليوم انصرفوا عنه، وأولوه ظهورهم، بسبب وعورة طرقه، وتشعّب مناهجه، وتعقّد نظرياته، على أن السبب الأهم من وجهة نظره هو نُدرةُ مظانّه، وشُحّ مادته. ومن ثمّ ظلّ التاريخ الاجتماعي مرتقى صعبًا وميدانًا وعرًا. والشجاع فحسب من الباحثين هو من يجرؤ على ولوج ميدانه، ويُقْدِمُ على سبر أغواره.

في سياق آخر عند عرضه لموضوعات كتاب الزواج والمال والطلاق في المجتمع الإسلامي، يشير العدوي إلى أن دراسة التاريخ من منظور جنوسي تطرح، بحكم الضرورة إشكالية منهجية ما؛ فهل يجوز للمؤرخ أن يستخدم في دراسته لتاريخ الغابرين مصطلحات الحداثة التي هي؛ بالضرورة، نتاج ظروف وتفاعلات تاريخية ما عرفناها إلاّ بعد الثورة الصناعية، لنسحبها على الحقب التاريخية الماضية؟ وهل يُقبل من المؤرخ الذي يدرس مجتمعًا ما في العصور القديمة أن يستخدم مصطلحًا كالإمبريالية على سبيل المثال، أو غيره من المصطلحات المتجذّرة في الثقافة الغربية تحديدًا، والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمركزية الأوروبية لوصف ظواهر بعينها في العصور الأقدم، وفي دراسة مجتمعات متباينة، حتى وإن حملت بعض تلك الظواهر التاريخية أوجه شبه بظواهر أخرى في العصر الحديث؟

حفّزنا ما يطرحه العدوي من أفكار وما يثيره من تساؤلات في بحوثه على أن نجري معه هذا الحوار.

 

  • هل تعتقد أن الكتابة التاريخية في العالمين العربي والإسلامي تعيش أزمة؟

على الصعيد العام، وليس فقط فيما يتعلق بالعالمين العربي والإسلامي، أعتقد بالفعل أنها تعيش أزمة كبيرة، إذ زاد البون اتساعًا بين التاريخ وبين العلوم الاجتماعية الأخرى، فلم تؤهله طبيعة مادته من الالتحاق بركب الدراسات الكمية والإحصائية، ووقف المؤرخ عاجزًا عن تفسير الحدث التاريخي بوصفة ظاهرة علمه تفسيرًا علميًا، والتفسير العلمي يعني ببساطة أنه لو قام مؤرخ بدراسة حدث ما، وقام باحث آخر في أقصى الكرة الأرضية ببحث الحدث نفسه فإن مصطلح علمي هنا يلزمهما بالوصول إلى النتائج نفسها، أو على الأقل الوصول إلى نتائج متقاربة ومتجانسة. والتاريخ أبعد ما يكون عن الوصول إلى تلك الغاية بعد.

والآن يحاول بعض الرواد اللجوء إلى وسائل إنعاش تشبه كثيرًا الصدمات الكهربائية لإنقاذ قلب المريض، فعوضًا عن قوانين الحتمية التاريخية التي لم يعد أحد يعتقد فيها، ظهر ما يسمى “التاريخ الاستشرافي” وهو تاريخ مآلات مثّل بديلًا موضوعيًّا لقوانين الحتمية التاريخية على قاعدة أن البدايات المتشابهة تؤدي دائمًا إلى نهايات متشابهة.

كما ظهرت عدة اتجاهات جديدة لتعويض غياب الرؤية والمنهج عند المؤرخ كاستعارة رؤية الماركسية للتاريخ الحقيقي الذي هو تاريخ البروليتاريا، وشجعت مدرسة الحوليات على الكتابة في التاريخ الاجتماعي ضاربة بمبدأ تأليه الوثيقة عند الوضعيين عرض الحائط، بزعم أن الوثائق قد تفسر السلوك السياسي والاقتصادي، إلا أنها غير كافية أبدًا لتفسير السلوك الاجتماعي، ومضت مدرسة ما بعد الحوليات خطوة أبعد فشجعت على التأريخ لما سبق وأن أسماهم كارل ماركس بالبروليتاريا الرثة، وأسمتهم مدرسة ما بعد الحوليات بالمهمشين من باب التهذيب وذلك تحت دعوى التأريخ لمن لا تاريخ لهم. كما نادى بعض المؤرخين بضرورة جمع وتدوين التاريخ الشفوي، وكذلك دراسة التاريخ الموازي إلى غير ذلك من الاتجاهات التي باتت تعبر عن عجز المؤرخ الآن عن التأريخ وفق منهج علمي صارم وأدوات وإجراءات منهجية متفق عليها ومحددة سلفًا، وساد بين المؤرخين في ظل اللامنهج إطلاق العنان في اختيار النهج المناسب في التعامل مع الظاهرة التي يدرسها، أو التعامل مع الحدث التاريخي تحت شعار طبيعة البحث هي التي تحدد طبيعة المنهج. وفي هذا شيء من التأثر ببراجماتية الكوانتم. في حين رأى بعضهم وجوب تفتيت الظاهرة التاريخية بين عدد من العلوم لتتم دراسة الحدث التاريخي في ظلها جميعًا. وهو خط واضح يميز دراسات المنتمين إلى مدرسة الحوليات والمتأثرين بها، وهي محاولات مضنية لإكساب الكتابة في التاريخ صبغة علمية، مهما ادعى أصحابها النأي بأنفسهم عن قضية علمية التاريخ أو لا علميته.

وفي هذه الآونة صار هدم تقاليد المدرسة الوضعية الصارمة فيما  يتعلق بضرورة موضوعية المؤرخ تقليدا عند مؤرخي اليوم، فمؤرخو اليوم يعتقدون أن الموضوعية المزعومة هي تراث القرن التاسع عشر، وأنها في جوهرها كذبة كبيرة، وأنه مهما حاول الإنسان أن يكون موضوعيا فإن عوامل ذاتية لا شعورية تتدخل في كتاباته وتظهر جليا في نتائج دراسته، لذا لا ينبغي للمؤرخ – من وجهة نظرهم – أن يكتم وجهة نظره بل له أن يعلنها وأن تعبر دراسته عن قناعاته الشخصية وانحيازاته الفكرية. كان من شأن هذا التوجه أن تحولت البحوث التاريخية إلى شيء أقرب بالمقالات الصحفية مع فارق جوهري وهو أنه في حين يجوز للصحفي كتم مصادره فإن المؤرخ مجبر على الإحالة إليها بين الحين والآخر.

وهكذا استمرأ المؤرخون تحول الكتابة العلمية إلى رؤى ذاتية ووجهات نظر، وفي ضوء التخلي عن الموضوعية برزت صعوبة الإمساك بما يسمى بالحقيقة التاريخية التي انكمشت إلى حدود الحدث نفسه، ودعا بعض الرواد المؤرخين إلى تفريد الحدث التاريخي، بمعنى التوقف عن المقارنة ومقاومة تلك الرغبة الجامحة التي تنتاب المؤرخ في التفسير والمقارنة، إذ إن المؤرخ لم يعد مطالبا بهذا وفقا لتقاليد المدرسة الاجتماعية العتيقة التي أسسها إميل دوركايم. إذ إن التاريخ ينبغي أن يقتصر على دوره علما مساعدا لعلم الاجتماع، ومن ثم فإن على المؤرخ جمع المادة التي يبني عليها عالم الاجتماع تفسيراته. ومن ثم لا يمكن للتاريخ وفق هذه الرؤية أن يصير علما إلا إذا سما عن كل ما هو فردي، والمؤرخ الذي يترك الرصد التاريخي ليؤول أو يفسر يتحول تلقائيًّا إلى عالم اجتماع على نحو أو آخر. وقد رفض المؤرخون وضع التاريخ، الذي كان يوصف بأبي العلوم علما مساعدا لعلم الاجتماع، وبذل سينيوبوس ولانجلوا جهودا كبيرة في إثبات عبث إخضاع الحدث التاريخي إمبريقيا لقواعد علم الاجتماع. لكنهما طالبا المؤرخ في المقابل بالتوقف عن التفسير والمقارنة بدعوى أن كل حدث تاريخي هو حدث فريد توفرت على صنعه عوامل بعينها من المستحيل أن تتضافر مجددا بالتراتبية والتسلسل نفسه. ومن ثم يجب على المؤرخ التوقف عن التفسير بدعوى أن الصدفة تطارد الضرورة دائما، ومن ثم فإن العَرضي يفرغ القانون من مضمونه.

ناهيك عن تغول التوظيف السياسي والعقائدي والمؤامرة على أحداث التاريخ، وما زاد من عزلة المؤرخ واغترابه وابتعاده عن التأثير في الرأي العام في محيطه ارتدائه للباس الأيديولوجية والتحيز الفكري فأصبح أحد المختصمين وليس القاضي وصاحب الاختصاص بالنظر. وقناعتي أن المؤرخ  في الماضي كان إذا تحدث صمت الجميع. أما الآن فإن المؤرخ لا يستطيع الحديث، فإن تكلم فليس من المنتظر أن يقنع أحدا بآراء هو نفسه أول من ينعتها بأنها وجهات نظر! فعندما تفتح أي دورية متخصصة في نشر أبحاث المتخصصين في التاريخ فإنك تجد تلك العبارة التي تنتشر على الأغلفة الداخلية ألا وهي: “المقالات المنشورة في المجلة تعبر عن وجهات نظر أصحابها وليس عن رأي المجلة بالضرورة”!. إنك إن تأملت، فإن هذه العبارة بحد ذاتها تنفي عن البحث في التاريخ صفة العلم، وتحيله إلى مجرد وجهات نظر ورؤى نقدية مرتبطة بتفسير أحداث جرت في الماضي وهذا أقرب إلى الفن منه إلى العلم.

  • هل تؤيد تلك الدعوات التي يطلقها بعض الكتاب الذين يحملون “صفة الإسلامية” بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي؟ وكيف تُقيمون دُعاة ما يعرف بـ”إسلامية المعرفة” في حقل التاريخ؟

حسنًا، يبدو أنك تشير إلى كتابة التاريخ أو إعادة كتابة التاريخ من منظور أيديولوجي. انظر: لقد أصبح المؤرخون اليوم ينظرون إلى تراث المدرسة الوضعية باستخفاف. وخاصة ما يتعلق منه بالحديث عن وجوب تحلي المؤرخ بالموضوعية التي باتت اليوم حديث خرافة. إنهم يرون أنه ليس بمقدور المؤرخ أن ينكر ذاته، وأن يتخلى عن ثوابته، وأنه بدلا من التواري  والتقية بارتداء قناع الموضوعية فمن الأفضل للمؤرخ وللقارئ معًا أن يعلن المؤرخ عن نفسه وعن هويته.

ودون أن يشكل هذا قناعة شخصية، فأنا أتحدث هنا عن الوضع الراهن في الأوساط الأكاديمية. ما أريد قوله دون استطردات فرعية كثيرة هو أن سواد المؤرخين اليوم لا يرون بأسًا في كتابة التاريخ من منظور أيديولوجي، أيا يكن، وعلى هذا فلا يمكن أن يُنكر أحدٌ على المؤرخين من ذوي التوجه الإسلامي هذا الحق فيما يبيحه لآخرين.

ومع هذا فأغلب الدراسات التي تجري في هذا الصدد يسيطر عليها هاجس دحر الاستشراق لا كتابة التاريخ، إذ تستشعر أنها وضعت خصيصًا للرد على المستشرقين، فعلى سبيل المثال تتوقع أن تجد في كتاب محمد قطب المعنون “كيف نكتب التاريخ الإسلامي” مدخلًا منهجيًّا، ومع ذلك تجده يتحدث في مقدمته أنه وضع كتابه هذا لأنه لاحظ شيوع روايات المستشرقين على ألسنة وأقلام المؤرخين المسلمين. نحن بإزاء محاولات لثقافة “الردود” التراثية، وليس كتابة التاريخ.

ثمة سمات أيضا تغلب على كتابات رواد هذا النهج من الكتابة التاريخية، إذ إن أغلب تلك الكتابات لا تخلو من نزعة رومانسية تميل إلى تمجيد السياق العام وتحسين النوايا بإحالة المثالب على الخطأ في الاجتهاد ونحو ذلك، مع الاستماتة في تحييد العوامل المادية إلا عند من رحم الله، وما يخرج عن ذلك لا يكاد ينجو من نظرية المؤامرة.. هذا بالإضافة إلى غياب أسس نقدية واضحة واضحة المعالم لرد أو قبول الرواية، فلا يكاد الكاتب يرد رواية إلا لأن فيها مساسًا بثابت، أو بشخص جليل القدر. وهذا معيار انتقائي ابتداءً لا يصلح أساسًا لكتابة علمية. هذا مع العلم أنه من المستحيل تقريبًا تطبيق مناهج المحدثين على روايات الأخباريين الأوائل التي تم التساهل فيها إلى حد كبير.

مع ذلك أفكر أحيانًا في رد فعل المؤرخين من ذوي النزعة الإسلامية لو كان صاحب كتاب الاستشراق، أعني المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد مسلمًا. إذ لا يخفى أن كتاب الاستشراق هو النص المؤسس لدراسات ما بعد الكولونيالية. وهي الدراسات التي تطمح إلى الخروج عن المنظور التقليدي للمركزية الأوروبية، وقد استثمر المؤرخون الهنود،  خاصة هومي بهابها وغاياتري سبيفاك، نص إدوارد سعيد لبلورة منهج جديد لإعادة كتابة تاريخ الهند بمعزل عن كتابات المستشرقين، وأجهدوا أنفسهم وما يزالون في البحث عن نظرية اجتماعية أخرى صالحة لتفسير الظواهر الاجتماعية بعيدًا عن النظرية الاجتماعية الغربية. صحيح أنهم وقعوا في براثن الماركسية، وهو ما يعد تناقضًا مع الذات كون الماركسية جزءًا لا يتجزء من النظرية الاجتماعية الغربية، بيد أنهم حاولوا ويحاولون، وما زال الأمر جار على قدم وساق. بينما لا نرى في عالمنا الإسلامي نزعة علمية واضحة المعالم ترنو إلى تخليص الدراسات الإسلامية، وليس التاريخ الإسلامي فحسب، من براثن الاستشراق.

  • “التاريخ يكتبه المنتصرون” هل تؤمن بصحة هذه المقولة؟ وإذا افترضنا صحتها، فهل كان لها تأثير في كتابة العرب تاريخهم وتاريخ الأمم والشعوب الأخرى التي قاموا بغزوها وإلحاقها بدولة الخلافة؟ ثم هل كان لها تأثير في تناول المستشرقين للتاريخ الإسلامي حديثًا، باعتبارهم أصحاب الثقافة الغالبة وأنهم درسوا تاريخنا في ظلال التجربة الاستعمارية؟

هذه العبارة بالذات انطلقت في أعقاب الحرب العالمية الثانية على الأرجح من أفواه بعض الضباط الألمان الذين حوكموا في نورنبرغ بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ثم ما لبثت أن نُسبت إلى ونستون تشرشل تارة أو أودولف هتلر تارة أخرى بل وآخرون أيضًا، وعلى أية حال فهي تعكس ظلا من سمة حقيقية يتميز بها التاريخ الرسمي فحسب، فعلى مستوى التاريخ الرسمي سيظل الصياد يحظى بالمجد طالما افتقر الأسد إلى شخص يدون بطولاته. إن المنتصر يحاول دائما أن يكتب التاريخ، ولكن تلك المحاولات لا يصادفها النجاح غالبًا، سأضرب لك مثالًا:

 إن قضية التاريخ لم تكن تعني في قليل أو كثير ثلاثة إخوة مغامرين مرتزقة من قبائل الديلم سرعان ما استطاعوا إنشاء دولة كبرى عرفت في التاريخ بالدولة البويهية التي امتدت من فارس إلى العراق والجزيرة ووقع خلفاء بني العباس تحت سيطرتهم ما يزيد على قرن من الزمان. لقد وجد أحد أعظم أمراء هذه الأسرة وهو فناخسرو الملقب بعضُد الدولة أنه بات من الضروري أن يدون تاريخًا ما لهذه السلالة التي انحدرت من نسل صياد معدم عاش على الكفاف، وشب أولاده على خدمة القادة والأمراء مرتزقة في صفوف جنودهم. لقد اختار الرجل أن يختلق تاريخًا بكل ما تحمله الكلمة من معان، فوقع اختياره على أحد أبرز الكتاب في عصره وهو أبو إسحاق الصابئ، فطلب منه أن يدون كتابا في تاريخ الدولة البويهية، ولما لم يجد الرجل بدًّا من قبول طلب الأمير فقد ألف كتابًا أسماه التاجي في أخبار الدولة الديليمة، ونسبهم فيه إلى سلالة الأكاسرة وبالتحديد سلالة كسرى بهرام جور! ومن الطريف أن الرجل، أعني أبا إسحاق الصابئ، شرح ولخص عمله في هذا الكتاب بقوله: “أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها”.

إن هذه المقولة تمثل التاريخ الرسمي تمثيلًا دقيقًا، والتاريخ الرسمي يعد أحد أشكال توظيف التاريخ، أو ما يسمى بالتاريخ الأداة. واجب المؤرخ هو التدقيق والتمحيص بدقة متناهية في طروحات تلك التواريخ الرسمية. ولكن أين المشكلة؟ المشكلة تحدث عندما يتبنى التاريخ المدرسي أو الأكاديمي ذلك التاريخ الرسمي بأنجافه ومنجوره، فيدافع عنه كابن من أبنائه. وها هنا قضية أخرى، وهي هُوية من يكتب التاريخ واستقلالية المؤرخ، فالتاريخ المدرسي رهين الجامعات ومراكز البحوث فحسب، وما يكتب خارج تلك الدائرة يمكن تصنيفه بالتاريخ الموازي أو التاريخ الأيديولوجي. والجامعات كما قد علمت هي هيئات حكومية في التحليل الأخير، حتى وإن وصفت بالأهلية أو بغيرها من الصفات، ومن ثم فإن تمويلها يأتي من قبل الحكومة، التي تمثل الأسد الرابض والحامي لحمى هذا التاريخ الرسمي الذي سيُعرض بتعال، بل وسيقاوم بعناد أي طعن في هذا التاريخ. وعلى ذلك فليس من المنتظر أن تشارك تلك المؤسسات شبه الحكومية الممثلة بالجامعات ومراكز البحوث في دول العالم الثالث ولو بمعول في هدم القواعد والأعمدة التي شيد عليها ذلك التاريخ الرسمي.

بيد أن ما يثير استغرابي بالفعل هو أنك حين تشاهد تصاعد حدة النقاش والجدل بين الأحزاب والفرق السياسية على شاشات التلفاز أو في الصحف أو غيرها من وسائل الإعلام على صحة حوادث تاريخية أو قضايا تاريخية بعينها تجد الكتاب والسياسيين يتبارون في خوض معمعة تلك النقاشات، فيما ترى المؤرخين الذين ينتمون إلى تلك المؤسسات الراعية للتاريخ المدرسي يعرضون عن التدخل في ذلك النقاش وكأنه شأن لا يعنيهم!

 

  • لك تجربة في كتابة التاريخ الإسلامي تناولت فيها ديانة لا يطلع على أدبياتها الكثيرون، وما عُرف عنها كان بفضل الكتابات الاستشراقية التي نُقلت للعربية، فهل يمكن أن تحدثنا عن الصابئة والصعوبات التي اعترتك وأنت تدرس ديانتهم وتؤرخ لها، وما عزمت على إيصاله للمتلقي العربي من خلال هذه الدراسة؟ وما المآخذ والانتقادات التي يمكن توجيهها إلى الدراسات التي سعيتم إلى تجاوزها في دراستكم؟

نعم، تلك كانت فرقة الصابئة، وقد نشرت هذه الدراسة تحت عنوان الصابئة منذ ظهور الإسلام حتى سقوط الخلافة العباسية، وهي في الأصل أطروحتي للدكتوراه. ولعلك تعني بالكتابات الاستشراقية كتاب الليدي دراور المعنون بالصابئة المندائيين.

على أية حال فعندما ولجت هذا الموضوع هالني ذلك البون الشاسع بين دراسات المستشـرقين وما وصلت إليه الدراسات المماثلة في العالم العربي، إذ منذ أن نشر المستشرق صموئيل زويمر مقاله المقتضب عن الصابئة بمجلة المقتطف عام 1899، ثم نشر الأب أنستاس ماري الكَرْمَلي مقاله عن الصابئة المندائيين بمجلة المشرق البيروتية على حلقات ابتداءً من عام 1900 حتى 1902، ونشر عبد الرزاق الحسني كتابه «الصابئة قديمًا وحديثًا» عام 1925، وكتب المفكر الراحل عباس محمود العقاد بضع صفحات عن المندائيين في كتابه “إبراهيم أبو الأنبياء” والذي صدرت طبعته الأولى بالقاهرة عام 1956، جاءت دراسات الباحثين العرب عيالًا على هذه الكتابات، فرددت ما جاء بها، وكثير مما ورد بها لا يخلو من كونه خرافة اتخذت شكل الحقيقة العلمية بالتواتر.

لقد كان البون واسعًا بالفعل بين ما وصلت إليه تلك الدراسات وبين النتائج التي وصل إليها المستشرقون. فبدلًا من أن تبدأ الدراسات العربية من حيث انتهى المستشرقون، أتت جميعها دونها في المستوى، وغلب عليها انعدام الإلمام بجوانب الموضوع وتعقيداته، كما غلب عليها الطابع الأيديولوجي، والتخريجات المذهبية في محاولات مستميتة للتوفيق بين أخبار الرواة والمفسرين ونظريات العلم الحديث.  

 لقد حاولت دراسة تاريخ تلك الفرقة الغامضة وعقائدها بمعزل عن أي تصورات أو نظريات مسبقة أيا كان الثقل العلمي لأصحابها، لأجل ذلك قررت منذ البداية قراءة  المصادر بعناية، وإرجاء المراجع، ولا سيما الأجنبية منها للنهاية، وذلك حتى أكون قناعاتي وتصوراتي بعيدًا عن تلك الجلبة والضوضاء التي أحدثها وما يزال تشعب النظريات في قضايا أصول الديانة المندائية، والأصول العرقية والإثنية للمندائيين، وعلاقة الصابئة المندائيين بصابئة حران، وعلاقة الفرقتين بالصابئة الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، وعلاقة فرق الصابئة بالغنوصية، وكذلك حقيقة علاقة المندائيين بالنبي يحيى بن زكريا عليه السلام، وكل هذه موضوعات في غاية التداخل والتعقيد من جهة، وكذلك يشكل النقص الحاد في المادة العلمية المتاحة عائقا آخر. بيد أنني امتلكت ما يكفي من الجرأة لتفنيد آراء أو بالأحرى استنتاجات لمستشرقين كبار أمثال ثيودور نولدكه، وكورت رودلف والليدي دراور وغيرهم.

 

 

  • يقال: “إن الغرب هو الذي أسس العلم الحديث في كل الميادين”. فإلى أي حد يمكن الاستفادة من المناهج والاتجاهات الغربية الحديثة في دراسة التاريخ العربي والإسلامي؟ وهل يمكن تطبيقها تطبيقًا حرفيًّا؟ أم انها بحاجة إلى شيء من التعديل والتحوير تمهيدًا لابتكار منهج جديد أكثر اتساقًا مع روح التاريخ الإسلامي؟

قناعتي أن النظرية الاجتماعية الغربية، بشتى تفريعاتها، لا تزال قاصرة عن الوصول إلى فهم مقنع للظواهر الاجتماعية الشرقية. فمصطلحات الحداثة هي، وبالضرورة، نتاج ظروف وتفاعلات تاريخية لم نعرفها إلا بعد الثورة الصناعية.  فهل يصح لنا سحبها على الحقب التاريخية الماضية؟ وهل يُقبل من المؤرخ الذي يدرس مجتمعًا ما في العصور القديمة أن يستخدم مصطلحًا كالإمبريالية على سبيل المثال، أو غيره من المصطلحات المتجذِّرة في الثقافة الغربية تحديدًا، والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمركزية الأوروبية، لوصف ظواهر بعينها في العصور الأقدم، وفي دراسة مجتمعات متباينة، حتى وإن حملت بعض تلك الظواهر التاريخية أوجه شبه بظواهر أخرى في العصر الحديث؟

إن الإجابة عن هذا السؤال هي بكل تأكيد أكثر تعقيدًا وجدلًا من تلك البساطة التي طُرح بها، ولا سيما عند المؤرخين المعتقدين في مبدأ الجوْهَرانية Essentialism. ولكن من الممكن أن نسوق مثالًا:

إن الأرملة الهندوسية التي تحرق نفسها عقب وفاة زوجها (شريعة السَّاتي Sati)، تفعل ذلك طوعًا واختيارًا منها. فعلى الرغم من أن قوانين الولايات الهندية، بلا استثناء، باتت تجرِّم الآن تلك الممارسة، بغض النظر عما إذا كان هذا باختيار الأرملة الحر، أو نتيجة ضغوط اجتماعية ما، إلا أن معظم الحالات المسجلة عن الانتحار بهذه الوسيلة، منذ استقلال الهند وإلى يومنا هذا، تمت بإرادة الأرملة الحرة، بل ثمَّة حالات موثَّقة بذل فيها ذوو القُربى وسْعَهم لمنع الزوجة من الانتحار عقب وفاة زوجها. واستخدام كلمتي “طوعًا واختيارًا” سيُدخل تلك القضية، حتمًا، في دائرة قضايا الجنُوسة الثقافيَّة. ولكن ما فعلَته تلك المرأة الهندوسية لم يكن انتحارًا ابتداءً. فمن وجهة نظر تلك المرأة التي أقدمت على الموت على هذا النحو؛ فقد أحيت شريعةَ أسلافها، وقامت بعملٍ من أعمال التقوى، وقدَّمت دليلًا على عفافها، كما التمَست الخلاصَ والغُفران، وسَعَت نحو حياة أفضل. هنا تتجلى تلك الفجوة الحضارية، فضلًا عن خصُوصية التجربة التاريخية، بحيث يصبحُ جدوى تفعيل النظرية الاجتماعية الغربية في دراسة وتفسير ظاهرة كهذه موضع تساؤلاتٍ عِدَّة.

وسأحكي لك عن تجل آخر لفشل النظرية الاجتماعية في تفسير الظاهرة الاجتماعية الشرقية، ففي العام الماضي انتهيت من ترجمة كتاب لباحث يدعى يوسف رابوبورت، جاء بعنوان الزواج والمال والطلاق في المجتمعات الإسلامية في العصور الوسطى، وقد لاحظت أن مؤلف الكتاب أصابه بعض الارتباك  في سياق تفسيره لظاهرة غياب المؤلفات من النساء في العصر المملوكي، وهو  عصر ازدهر فيه التأليف. هذا مع إقراره المسبق بأن كثيرات، ولا سيما من بنات النخبة نِلْن حظًّا وافرًا من التعليم. ها هنا، ولأول وهلة، قد تبدو المسألة وثيقة الصلة بقضايا الجنوسة في العصر المملوكي. بيد أن المسألة تزداد تعقيدًا عندما نعلم أن المجتمع المملوكي (الذُّكوري) لم يمارس أي ضغوط على المثقفات من النساء فيما يتعلق بالكتابة. على الأقل ليس ثمَّ دليل واحد على تقييد المجتمع، بأي شكل من الأشكال، ماديًّا أو معنويًّا، لحرية التعبير الأُنثوي. لقد اكتفت المرأة المتعلمة، طواعيةً، بكل ما تحمله تلك الكلمة من معانٍ، بدور أقل في الحياة العلمية، تلخَّص في نسخ الكتب، وحضور الدروس، ونيل الإجازات ومَنْحِها، والمشاركة في تعليم الأبناء والنساء.   

ومع هذا العجز فليس هناك بديل آني مطروح لمنهج يمكنه أن يستغني بالكلية عن النظرية الاجتماعية الغربية، ولا سيما الماركسية بتجلياتها التي تركت بصمة واضحة لها على مناهج العلوم الاجتماعية، ولا سيما التاريخ والاجتماع.

 

مقالات ذات صله

1 تعليقات

  1. محمد شهيد (muhammad shahid)

    تحيات طبية

    إسمي محمد شهيد من جنوب إفريقيا, أدرس بجامعة جوهانسبورج , قسم الدراسات الدينية. أنا أبحث عن عنوان بريد الأستاذ أحمد العدوي الإليكتروني من فضلك.

    تفضلوا بقبول فائق التقدير و الإحترام.

    الرد

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!