نصوصُ المعتزلة في القاهرة
محمود مراد
(ذوات)
يبدو أن الحظ سيكون حليفا لدارسي فكر المعتزلة، والمشتغلين بالعمل على التنقيب عن آرائهم من مصادرهم الأصلية، بدلا من الاعتماد على كتب خصومهم، إذ ظهر أخيرا نصان من نصوص هذه المدرسة الكبيرة التي كانت يوما رائدة للاتجاه العقلاني المتحرر في الإسلام قبل أن يتم القضاء عليه سياسيا منذ انقلاب الخليفة المتوكل عليهم في القرن الثالث الهجري، وهي المدرسة التي شكلت ومضة حضارية في تراثنا الفكري الإسلامي.
ويأتي تفسير الجشمي في عشرين مجلدا، بما يشبه الموسوعة الاستقصائية التي ضمت فنونا من علوم الكلام والتفسير والفقه والأدب، ولم يكن هذا غريبا على رجل بحجم الجشمي أقل ما يقال في سيرته العلمية أنه خلّف تلميذا، ربما فاق الجشمي نفسه شهرة، أقصد الزمخشري، محمود أبو عمر، المفسر، والنحوي، واللغوي، والأديب، صاحب كتاب الكشاف في تفسير القرآن الذي يُعد من أوفى كتب المعتزلة في علم التفسير، بل يُعد مرجعا للدراسات البلاغية في علوم القرآن.
وينتمي الحاكم الجشمي إلى المدرسة الجبائية في المعتزلة، التي ترجع إلى الإمامين أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم، (1) وقد عٌثر عليه مقتولا في سنة 494هـ، وله من العمر واحد وثمانون عاما، وذكرت المصادر أن كتابه “رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس” كان سبب قتله، بعدما طعن فيه على الجبرية وقرنهم فيه بأخوة إبليس وأتباعه، كونهم ينسبون الشر إلى الله (2)، وبناءً على هذا تكون واقعة قتله قد تمت غيلة، ولذلك فهو ينتمي إلى ضحايا الاغتيال السياسي والإرهاب الفكري، ويُعد واحداً من شهداء الرأي في تاريخ الإسلام، ودفع الرجل حياته ثمنا للآراء التي طرحها في رسالته المذكورة، والتي شنّ فيها هجوما على الجبرية والمشبهة، وكتبها بحسٍ ساخر صوَّر فيها، وكأنّ إبليس يخاطب أعوانه، فلم يحتمل أعداء الجشمي لهجته اللاذعة، فقرروا أن يتخلصوا منه (3).
ويحق لنا أن نستغل هذه اللمحة البسيطة عن حياة الحاكم الجشمي، لنثبت بعض أرائه في مسألة القدر، وحسب المفكر المعتزلي فإن القدر هو “ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو فعله، وما لم تستطع أن تلومه عليه فهو فعل الله، يقول الله تعالى للعبد:” لم كفرت ولم عصيت؟ ولا يقول له: لم مرضت؟” (4)، وفي هذا النص الوجيز يفرّق الجشمي بين ما يسميه المعتزلة الأقدار الكونية، والأقدار الشرعية، وتنحصر مسئولية الإنسان حسب هذا الفهم في كونه مسؤولا عن أفعال الخير والشر التي تصدر عنه بمحض إرادته، كالكفر والفسوق والعصيان والظلم والكذب، وكذلك الإيمان والاستقامة ورد الأمانة والصدق، وكل ما يدخل في باب الشرعيات. أما ما لا يقع تحت إرادته وتصرفه كالكوارث الكونية والمرض والموت وغير ذلك، فليس للإنسان فيه فعل.
والحاكم الجشمي واحد من الذين استوعبوا الفكر المعتزلي وتشرّبوه، وأرادوا من ذلك أن يجعلوا الأفكار المعتزلية ضمن الرأي العام لجماهير المسلمين، واتجهت آراؤه لنفي العجز عن الإنسان، وإثبات قدرته في مواجهة الظلم الاجتماعي والسياسي، ولعل هذا ما ألَّب عليه الرجعيون من النصوصيين الحنابلة الذين كانت لهم مصلحة في تأبيد الواقع المتردي للمسلمين في ذاك الوقت، خاصة مع توسع نفوذ أصحاب الحديث واتصالهم بالسلطة السياسية، ومما له دلالة قاطعة على المنحى الاجتماعي للحاكم الجشمي، ما نجده في كتابه “رسالة إبليس” من أمثلة ذات طابع إنساني مستخلص من حياة المسلمين، وترتبط بتاريخهم السياسي والديني، من بينها ما جرى من اجتماع عدلي مع جبري، فقال العدلي: ما تقول في عليّ عليه السلام، أقاتل معاوية على شيء جعله الله لمعاوية وقضاه له، أم على شيء جعله لعليّ عليه السلام وقضاه له وغصبه معاوية؟، فقال الجبري: بل على شيء جعله لمعاوية وقضاه له، ولم يجعله لعليّ. فقال العدلي: فمعاوية أحسن حالا من عليّ حيث رضي بما قُضي له وجُعل له، وعليّ لم يرض بما قُضي له، ولم يقنع بما جُعل له، فمعاوية وافق ربه وعليّ خالفه!. فانقطع الجبري (5).
وتتواصل حكايات الجشمي لتلهب بسخريتها اللاذعة ظهور الجبرية الذين لا يـروْن للإنسان أية قدرة على الفعل، فهو في نظرهم ريشة في مهب الريح تحركها أقدار المشيئة الإلهية كيف تشاء دون أن يكون له عقل أو إرادة، يسخر الجشمي بهذا المثال الذي يحكيه على لسان جبري قال لعدلي: جئت اليوم إلى دارك فلم أجدك. فرد العدلي: جئت أنت أم الله جاء بك؟. قال الجبري: بلى، الله جاء بي. قال عدلي: أو علم أني لست في الدار؟. قال الجبري: نعم. فقال العدلي: إذا سخر منك! (6).
وقد أخلص الحاكم الجشمي في الانتصار لمذهب المعتزلة وترجيح آرائهم التي لا تكاد تخلو منها صفحة من صفحات كتابه “التهذيب في التفسير”، ولا تسعنا هذه العجالة أن نستقصي كل الأمثلة الواردة على ذلك، ويكفينا ما ذكره في تفسير قوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، يفسر الجشمي فيقول: تدل الآية على أنّ الخروج من الضلالة إلى الحق لا يتم إلا بألطافه وهدايته، لأن نفس الخروج فعلُ العبد ولذلك يؤمر به ويُثاب عليه… وتدل على بطلان مذهب المُجبِرة في المخلوق والاستطاعة والإرادة، لأن عندهم أن الله يخرج الكافر من الإيمان إلى الكفر، والله تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان وعابه بذلك (7).
عقلية الحاكم الجشمي لم ترحم الموروث الخرافي الذي ظل مسيطرا على عصره فيما يخص موضوع السحر والأعمال وتأثيرهما على مجريات حياة الإنسان حسب ما يعتقده العوام، وظل هذا الاعتقاد مسيطرا للأسف إلى عصرنا هذا، وامتد خطر التصديق به إلى أشباه المثقفين، بل وإلى من يحملون رتبا أكاديمية، وهو الأمر الذي تطرقت إليه الآية 102 من سورة البقرة، {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}، يقول الجشمي: “فيعتقدون الكواكب تقدر على قلب الأعيان والصور والنفع والضرر، وهذا فاسد؛ لأنها جماد لا تقدر على هذه الأشياء، ومن هذا القبيل من يدّعي أنه يذبح عصفورا ثم يحييه، ويحرق ثوبا ثم يصححه، وهذا من نوع خفة اليد والشعوذة، ومنها ما يدعيه بعضهم من طاعة الجن والشياطين له كما يعتقد كثير من الجهال، فيدّعي أنه يفعل تلك الأفاعيل، ويعلم الغيب، لأن الجن تخبره، ومنها ما يتوصل إلى تمريض وإماتة بالأدوية والأطعمة التي يطعمها، وقد أجرى الله العادة بإحداث أمور عند تناول الأطعمة والأدوية من مرض وصحة، وذلك فعله تعالى لا فعل الساحر، وجميع ما يدعونه من مخاريق وتمويهات، ولا يقدرون على شيء من ذلك”(8).
وليس غريبا أن ينتمي الحاكم الجشمي فقهيا إلى المذهب الحنفي، وهو المذهب الذي انتمى إليه أغلب رجال المعتزلة (9)، لما هو معروف عنه من سعة الأفق، والتوسع في الأخذ بالرأي دون الوقوف على منطوق النص، وظهر ذلك جليا في قيام الأحناف بوضع أصلهم الفقهي القائل بالاستحسان، والذي يقضي بجواز العدول عن النص إلى رحاب ما تقتضيه مصلحة الفرد والمجتمع.
على أن سعة أفق الجشمي لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزته إلى المجال السياسي الذي أبدع فيه الجشمي عندما قال إن الإمامة العظمى طريقها الاختيار…”لابد للإمامة من طريق، ولم يوجد نص من الله تعالى، ولا من رسوله على أحد، فليس النص بطريق لها، وكذلك المعجز ليس من طريق الإمامة، وكذلك الخروج بالسيف أو الدعاء إلى النفس، وكذلك الوراثة، وإنما طريقها الاختيار”(10).
إن من يطالع مقدمة تحقيق الكتاب يدرك الجهد الذي قام به محققوه من حيث مقارنة النسخ الثلاث للمخطوطة التي اعتمدوا عليها في إخراج المخطوط، وضبط الاختلاف بينهنّ، وتثبيت ما تجاوزه وتناساه النسّاخ، وكذلك مقارنة اجتهادات الجشمي مع اجتهادات المفسرين الآخرين، والوقوف على الجمل والمقاطع التي اقتبسها الحاكم من هذه التفسيرات واستفاد منها، ثم قيام المحققين بتذييل كل هذا بفهارس توضيحية تضم كشّافات بتخريج الآيات والأحاديث وأبيات الشعر وأسماء الأعلام.
أما الكتاب الثاني، فهو كتاب “متشابه القرآن”، للطُريثيثي، ركن الدين، أبو الطاهر، والذي ظهرت طبعته الأولى عن معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، بإشراف الدكتور عبد الرحمن السالمي، رئيس تحرير مجلة “التفاهم”، الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان، وتعتبر قضية المتشابه من القضايا الكلامية المفضلة لدى مفكري المعتزلة، استنادا إلى الآية السابعة الشهيرة من سورة آل عمران {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}، وقد سار الطٌريثيثي في كتابه هذا على نهج أسلافه المعتزلة حينما اجتهدوا في التوفيق بين ما قد يبدو متناقضا في آي القرآن، وردّوا ذلك كله إلى أصل سمّوه محكما، وفرع سمّوه متشابها، وراحوا يدافعون عن مبدئهم الأساسي في التوحيد، ألا وهو نفي التشبيه عن الله، وتنزيهه عن أن يتصف بصفة من صفات المخلوقين، كما أنهم وفي معرض انتصارهم للحرية الإنسانية بذلوا جهدا جدليا وتنظيريا كبيرا في دفع أية شبهة من شأنها أن تعفي الإنسان من مسئوليته عن أفعاله، وقاموا بتأويل الآيات التي قد يُفهم من ظاهرها نسبة الأفعال الإنسانية إلى الله، اتساقا مع أصلهم العقائدي في العدل، والذي يعني تنزيه الله تعالى عن فعل الشر وارتكاب الظلم.
وبعيدا عن قيمة الكتاب العلمية، فإن مؤلفه نفسه يظل شخصية غامضة أربكت كثيرا محقق الكتاب الذي اجتهد مشكورا في تحديد الفترة التي عاش فيها الطٌريثيثي، بعدما بخلت المصادر الخاصة بتراجم الرجال ووفياتهم في إعطاء أية معلومات دقيقة وحاسمة عن الرجل، إلى حد أن ارتقى الإشكال إلى اسمه ولقبه.
ومع ذلك كله، يظل الكتاب يعالج عددا من المصطلحات التي كثيرا ما يستند إليها مروجو الفكر الجبري لإشاعة مناح الاستسلام في صفوف الناس، وذلك من خلال تعرض الطُريثيثي لوجوه لفظي القضاء، والكتابة (نسبةً إلى الآيات القرآنية التي تقول {كتب الله})، ليبين من خلال شرحه أن الجبرية أخرجوا الآيات المتعلقة بهذين المصطلحين عما تقتضيه ضرورة اللغة، فيقول: “القضاء يُستعمل على وجوه: أحدها أن يأتي بمعنى الخلق، قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}، وثانيها بمعنى الأمر، مثل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}، وثالثها بمعنى الحكم، ولذلك يُقال للحاكم: قاضي، {والله يقضي بالحق والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء} (11)، ورابعها بمعنى الإخبار، قال تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}، وخامسها أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء، ومنها قوله تعالى: {وقُضِى الأمرُ}” (12).
وفيما يتعلق بالآيات التي يبدو من ظاهرها أن الله “كَتَب” السعادة والشقاء على العباد، فيرد الطُريثيثي بقوله: “لم يأتِ الكًتْبُ بمعنى القضاء في اللغة ولا في القرآن، فلا تعلق بظاهره، وأما معناها فأن لفظة “كَتَب” تأتي على وجوه، أحدها بمعنى الفرض والإيجاب كقوله: {كُتب عليكم الصيام}، وثانيها الحكم بالشيئ كقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}، وثالثها الإخبار، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، ورابعها بمعنى العلم كقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (13).
ويستنتج الطِريثيثي من خلال النظر في سياق هذه الآيات ودلالتها اللغوية قاعدة تأويلية مضمونها أن اللفظ الذي يحتمل عدة معاني لا يجوز قصره على معنى دون الآخر إلا بدليل، “لأن اللفظ الواقع على غير واحد من المعاني ليس هو أن يُرد إلى بعض ما يحتمله أولى من ردّه إلى سائر ما يقع عليه، وإنما يفيد البعض من ذلك بدليل” (14) (يعني تخصيصه بمعنى يستلزم دليلا).
إلى هنا وقد بذل الطُريثيثي جهداً كبيراً في رد الخرافات التي ليس لها سند سوى حكايات العوام ومسامراتهم، من بين ذلك ما أنكره في كتابه من وجوب كون عذاب القبر واقعا، وردّه الشبهات التي قد توحي بذلك من خلال ظاهر بعض الآيات، وكذلك بالنسبة إلى واقعة معراج النبي إلى السماء، فإنّ الآية التي وردت في مطلع سورة الإسراء لا تفيد أكثر من إسراء النبي ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون أن تحتمل أي صعود إلى السماء ويرد ذلك قائلا: “لا يجوز أن يذكر الله ما هو أصغر في الأدلة وأحقر في الأعجوبة، ويُعرِض عن ذكر ما هو أجلٌ من ذلك، ولا يخفى أن العروج إلى السماء والنزول منها في بعض ليلة أعجب في العقول من خروجه من مكة إلى بيت المقدس”، كذلك نجده ينفي ما يسميه البعضُ “ميزان الأعمال”، مستخدما حجة عقلية تقضي بأن الأعمال أعراض لا بقاء لها، ومن ثمّ لا يصح وزنها، وذلك مثل اعتقاد الكافر، وفعل الزنى، والكذب والشتم.
ويتعرض الطُريثيثي لإحدى أهم القضايا المجتمعية التي يتذرع بها البعض من جباة الفساد، وإهمال شئون العباد في أوطاننا العربية، وهى القضية المعروفة في علم الكلام باسم “الآجال”، أي عمر الإنسان، ويقرر الطُريثيثي أن المقتول، سواء كان بسبب إهمال من المسئولين، أو فساد في المنظومة الأمنية، أو حتى بدافع السرقة، لا يكون الله هو من قضى أجله، وإنما علم الله فقط بوقت موته، يوضح ذلك فيقول: “والمقتول عندنا يُقتل بأجله، على معنى أنه قُتل في الوقت الذي علم الله تعالي أنه يُقتل فيه، لا على أن الوقت موجبٌ لقتله، ولا على أنه قُتل في الوقت الذي قُدِّر بقتله، إذ لو كان كذلك لسقط اللائمة القصاص عنه، ألا ترى أنه يسقِط عن القاتل اللائمة على قتل بأمر الله أو بإباحته، فلو كان بقضائه وقدره لوجب أن يسقط عنه، لأن قدره وقضاءه موجبان لقتله” (15)؛ وهذا المنحى الذي اتخذه الطُريثيثي، إنما يتجه إلى تحميل كل مسئول مسئولية فساده وإهماله، وما يؤدي ذلك إلى التلاعب بأرواح الناس وقتلهم تحت الأنقاض، أو في حوادث الطرق وغيرها، ولا يعفي أحداً كائناً من كان من التورط في جريمة قتل الناس بدعوى كون ذلك جرى بإرادة الله، وما يؤديه ذلك إلى العبث بالمنظومة الاجتماعية للفرد والمجتمع.
ونود أن نختم أخيرا هذه العجالة عن المعتزلة التي قد وصلت إلى نضوجها الفكري خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، واستمرت إلى مطلع القرن الخامس الهجري، إلى أن غابت تماما عن الساحة الفكرية، ولم يكن غيابها قد وقع بفعل عوامل معرفية، وإنما شاركت فيه السلطة السياسية مع فقهاء الأشاعرة وأصحاب الحديث لإقصاء كل ما هو معتزلي، وتشويه صورته، واتهامه بالكفر والزندقة، بدءاً بالاضطهاد “المتوكلي” الذي عانه المعتزلة في القرن الثالث الهجري، إلى أن أطلق الخليفة القادر بالله رصاصة الرحمة عليهم في سنة 422 عندما أصدر المعتقد القادري وحرّم فيه علم الكلام، وجرى معه تعميم العقيدة الأشعرية كأيديولوجية رسمية للدولة، ورغم القضاء سياسيا على المعتزلة، إلا أن أفكارهم نجحت في الطيران إلى عصرنا الحالي، بعدما تبناها عدد من المفكرين والعلماء الذين حاولوا إعادة صياغتها بما يتناسب مع روح العصر الحديث.
وعلى الرغم من الجهد المشكور الذي يبذله اليوم محققو التراث في تحقيق كتب المعتزلة وإخراجها إلى النور، إلا أن هذا، رغم أهميته، ليس كافيا وحده، وإنما ينتظر من المهتمين بحركة النهضة العربية أن يبذلوا وسعهم في مناقشة هذه الأفكار وإعادة تقييمها ونقدها وطرحها للجدل العام في حركة علمية واسعة تستهدف الكشف عن حدود وآفاق هذا التراث العقلاني الذي تعرّض لأبشع حملة إقصائية في تاريخ الفكر الإسلامي.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- مقدمة تحقيق كتاب “التهذيب في تفسير القرآن الكريم للحاكم الجشمي
2- عن طبقات الزيدية الكبرى لإبراهيم بن القاسم/ طبعة مؤسسة الإمام زيد/ 2001
3- رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس/ تحقيق أسعد جمعة/ دار كيرانيس/ 2014
4- المصدر السابق
5- نفس المصدر
6- نفس المصدر
7-التهذيب في التفسير/ الحاكم الجشمي/ مركز تحقيق التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا بإشراف الدكتور حسين نصار/ ج2 ص 20
8- التهذيب في التفسير/ ج1/ ص 416
9- لا يمنع هذا كون القاضي عبد الجبار منتميا إلى المذهب الشافعي
10- نقلا عن كتاب “التأثير والمؤثر” للحاكم من مقدمة “رسالة إبليس”
11- الاستدلال بالآية من عندنا وليس في نص الطُريثيثي
12- متشابه القرآن/ ركن الدين أبو الطاهر الطُريثيثي/ تحقيق ودراسة عبد الرحمن السالمي/ معهد المخطوطات العربية/ القاهرة/ 2015
13- نفس المصدر السابق
14- نفس المصدر السابق
15- نفس المصدر السابق