مميزات التصوف في القرن السادس للهجرة
محمد أمين بن محمود الفاهم
يمثل القرن السادس الهجري الانطلاقة الحقيقية للتصوف الطّرقي وانتشاره؛ إذ انتشر من المشرق إلى المغرب الإسلامي، فظهرت الطريقة القادرية المنسوبة لعبد القادر الجيلاني، المتوفى سنة (561ه)، كما برزت الطريقة الرفاعية نِسبةً لأبي العباس أحمد بن أبي الحسين الرفاعي (540ه) ويطلق عليها البطائحية نسبةً إلى مكان ولاية بالقرب من قرى البطائح بالعراق[1]. وظهَرت بعد ذلك الشَّاذلية، ومؤسِّسُها هو أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، نسبةً إلى شاذلة في تونس (656هـ)[2].
ويرى بعضُ الباحثين أنَّ أغلبَ الطُّرق منسوبة إلى أربعةٍ من كبار الأولياء: “عبد القادر الجيلاني، وأحمد الرفاعي، وأحمد البدوي[3]، وإبراهيم الدسوقي[4]“، فإنَّ لكلِّ منهم طريقة واحدة خاصة، ثم تعدَّدت الطرقُ بتعدُّد مَن أخَذَها مباشرة أو بالوساطة، وتعدَّدت الفروع حتى بلَغت الرفاعية ستة عشرة فرعًا[5].
كان الالتزام بحدود الشّريعة من أهمّ أسس المنهج السنّي في التّصوف ذلك أنّ الصّوفية أنفسهم اعتبروا العلم بالكتاب والسّنة أساسا لكل العبادات والأعمال فالشريعة هي الرّكن المتين والأساس لكل حقيقة. كذلك تعتبر المجاهدة من دعائم التّصوف السّني وهي مجاهدة بخلاف ما وجد في الفلسفات الأخرى والأديان التي غالت في التزهد “فما يميّز المجاهدة في المنظومة السّنية الصّوفيّة أنّها مقيّدة بالكتاب والسّنّة، إذ يحرص أرباب هذا المنهج على تجنّب كل أشكال الشّطط والتّنطّع”[6]. والمجاهدة لا تكون في الشهوات واللذّات فقط بل في النّفس وأمراض القلب “لذلك تعدّ المجاهدات المعنويّة أعسر من المجاهدات الحسيّة بأشواط كبرى”.
اتّسم التّصوف السّني بطابعه التّربوي فالتّصوف هو توطين النفس على حب الخير ونبذ الشّر والمجاهدة في الأرض وإعمارها “فالصّوفي الحق وفق فلسفة التّربية يجب أن يكون بابا للخير عند القوم فيسقط حقوقه مقابل حفظ حقوق الآخرين ويحب لغيره فوق ما يحب لنفسه حتى وإن كانوا غير مؤمنين، لأنّ الخلق كلّهم عيال الله وأقرب النّاس لله أنفعهم لعياله”[7].
وأما الذين عارضوا التصّوف، فذلك لما رأوه من ظاهر أمر العامّة منهم والجهلة المنتسبين إلى الطريقة، وذلك ليس بمنقص من قيمة التصوف شيئا، “إنَّ الذين هاجَموا التصوُّف والطرق الصُّوفية، نظَروا إلى القشور، وترَكوا اللبَّ، نظَروا إلى ما يفعلُه بعضُ الجهلة من المُريدين والمُكتسبين ممن انتسَب للطُّرق، من أمورٍ لا يَرضى عنها الإسلام، ولا يَضرُّ التصوُّف والصُّوفية ظهورُ هذه الفئة من المتواكلين والدَّجالين، والمُشعوذين والبُلهاء، الذين يتكسَّبون من وراء لُبْس الخِرَق والهلاليل”[8].
بدَأ التصوُّف يشهد نوعًا جديدًا من التطور، استطاعَ أن يجعلَ من نفسه ظاهرةً رسميَّة في المجتمع الإسلامي، وذلك حين راح بعضُ العلماء يعملُ على تطويره فلسفيا. منذ القرن السادس الهجري نجد من شيوخ التصوُّف الذين مَزَجوا تصوُّفَهم بالفلسفة، فجاءت نظرياتٌ لا هي صوفية خالصة، ولا هي فلسفة خالصة، منهم السهروردي المقتول (549هـ)، ومحي الدين بن عربي (638هـ)، وعمر بن الفارض (632هـ)، وعبد الحق بن سبعين (669هـ) وهم يعدّون من أرباب التألّه “ومعنى التّأله هو العبادة فالقوم كانوا أصحاب مجاهدات فضلا على اطّلاعهم الواسع على الفقه والتفسير والحديث والكلام وسائر ضروب الحكمة القديمة”[9]، يقول الدكتور سامي النشار: “وكما حاوَل فلاسفةُ الإسلامِ أن يُدخلوا عقائدَ اليونان الميتافيزيقيَّة في عقول المسلمين، نرى بعضَ صوفية الإسلام يَلْجَؤون في التصوُّف إلى بحثٍ ميتافيزيقي تأثَّر بكلِّ ما حوله من فلسفات، أخَذوا من (الفيدا) الهندي، وأخذوا من الإشراقية الفارسية، واستمدُّوا من الفيض الأفلاطوني، وتأثَّروا بأفلاطون وأرسطو، ثمَّ وجَدوا مصدرًا مهمًّا في المجموعات الهرمسيَّة، وانتهوا إلى عقائدَ مختلفة، أهمها عقيدة الحلول، وعقيدة وَحْدة الوجود”[10].
لقد بدأ التّصوّف زهدا فتقعّد مدارسًا فأصبح فلسفيّا كما يشير إلى ذلك الدكتور سامي النشار (1335 – 1400هـ): التصوّف “بدأ زُهدًا، فتصوُّفًا، ففلسفة، أو بمعنى أدقَّ: بدأ التصوُّف في مرحلتِه الأولى يتخذُ تصوُّراتِه وحقائقَه من القرآن والسُّنة، ثم تحول إلى مرحلةِ التصوُّف، فبينما كانت المرحلةُ الأولى مرحلةً عملية، كانت المرحلةُ الثانية مرحلةَ عملٍ ونظرٍ، فتكلم الصُّوفية عن الذوقِ والوجد، وخطراتِ القلب، ومراحلِ الطَّريق الصوفي، وأخذوا يُحدِّدون تفسيرات مقابلة لتفسيراتِ الفقهاء والمتكلِّمين للمعاني الدِّينية. ومَضى التصوُّفُ في السير، فانقَلَب أخلاقًا عند أهل السُّنة والجماعة، وفلسفة عند طائفة، مزَجوه بعلومِ اليونان وبحِكمة المشارقة الأقدمين”[11].
[1] الشعراني، أبي المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي الطبقات الكبرى لواقح الأنوار في طبقات الأخيار ، دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1418هـ – 1997 م، ص141.
[2] علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن حاتم بن قصي بن يوسف بن يوسف أبو الحسن الشاذلي، وشاذلة قرية بإفريقيَّة، المغربي الزاهد، وشيخ الطائفة الشاذلية، وهو رجل كبير القَدر، كثير الكلام، عالي المقام، له شعر ونثر فيه متشابهات وعبارات يتكلف له في الاعتذار عنها؛ الوافي بالوفيات؛ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، دار النشر فرانز شتاينز فيسبادن، شتوتغرت، ط (2)،1991، ج (6)، ص (427).
[3] أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني، أبو العباس البدوي، المتصوِّف، صاحب الشهرة في الديار المصرية، أصله من المغرب، وُلِد بفاس، وطاف البلاد، وأقام بمكة والمدينة، ودخَل مصر في أيام الملك الظاهر بيبرس، وزارَ سورية والعراق سنة 634 هـ، وعَظُم شأنه في بلاد مصر، فانتسَب إلى طريقته جمهور كبير بينهم الملك الظاهر، وتوفِّي ودُفِن في طنطا؛ الأعلام؛ الزركلي، ج (2)، ص (54).
[4] إبراهيم بن أبي المجد بن قريش بن محمد، يتَّصل نسَبه بالحسين السِّبط، من كبار المتصوفين، كثير الأخبار، من أهل دسوق بغربية مصر، وفي خُطط مبارك أنه تفقَّه على مذهب الشافعي في أوَّليته، ثم اقتفى آثار الصوفية، وكَثُر مُريدوه. الأعلام؛ الزركلي، 1/155.
[5] الطويل، توفيق. التصوف في مصر إبَّان الحكم العثماني. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1988. ص 72.
[6] الرّزقي، محمد. التّصوف الإسلامي واتّجاهاته الكبرى، دار ياسين للنشر والتّوزيع ط1- 2014، ص 106.
[7] م، ن. ص 129.
[8] النجار، عامر. الطرق الصوفية في مصر، دار المعارف القاهرة، ط 5، د ت. ص9.
[9] الرّزقي، محمد. التّصوف الإسلامي واتّجاهاته الكبرى، دار ياسين للنشر والتّوزيع ط1- 2014، ص 166-167.
[10] النشار، سامي. نشأة التفكير الفلسفي، دارا المعارف 1995، 1/53.
[11] النشار، سامي. نشأة التفكير الفلسفي، دارا المعارف 1995، 1/53. 3/20.