على هامشِ خطاباتِنا الراهنة حول الإسلام

على هامشِ خطاباتِنا الراهنة حول الإسلام

إشراقة (10)

على هامشِ خطاباتِنَا الراهنةِ حولَ الإسلام

محمد التهامي الحراق  

-1-

يتحدث الكثير اليوم عن ضرورة “تحرير الإسلام” و”تنويره” ، والبعض يرفع عنوان “إصلاح” التدين و”تجديد” أمر الدين، فيما يُلح آخرون على”حتمية” العودة للدين، وإحيائه ليصلح به أمر الأواخر مثلما صلح أمر الأوائل. بين “العودة والإحياء” و”الإصلاح والتجديد” و”التحرير والتنوير”، تتجاذب الخطابات حول الدين اليوم، على أن المشترك بين كل هذه الخطابات الحديث في اتصال بالدين وليس في انقطاع وانفصال عنه، إذ تجمع هذه الخطابات على ضرورة الدين وشرطية حضوره في الوجود والحياة، بغض النظر عن اختلافها في فهم ماهية هذا الحضور وكيفيته.

 

-2-

يمجد خطاب “العودة والإحياء” السلف، ويرى في “الماضي” الأنموذج الأمثل، لذلك يرفع عن كثير من المنتجات المعرفية و التاريخية تاريخيتها، مثلما يعرض لنماذج منتقاة يعتبرها منارات للاقتداء والاحتذاء، ولا يشغله كثيراً سؤال السياق والحدود والشرائط المؤطرة للأنموذج والمؤثرة سواء في صياغته أو تلقيه، يغيب عن هذا الخطاب عنصران رئيسان هما “التاريخية” و”النقد”، إذا يحول التمجيد في الغالب دون إعمال  الفحص الناقد في النظر إلى  الأحداث والنصوص، وحتى حين يُنتقى “ماضٍ” على حساب آخر، فإن التمجيد يطول الماضي المنتقى، مثلما يطول “الدحض” و”الإفحام” لما يُغايرُهُ، تقليداً “للسابقين” وانتصاراً لجهة على جهة انتصاراً ماضوياً أدوات ومضامين في سياق مذهب معين، أو إعلانا لمجافاة التمذهب والذهاب رأساً إلى “الأصول” على غرار “ماضٍ” آخر يروم التحرر منه به.

خطاب “العودة والإحياء” على تعدد أوجهه، يميل إلى “النصيّة” و”الحرفية”، و يجافي “المجاز”، وإن أقر ب “التأويل” ففي حدود تضبط “المعنى”، وتقر بأن الحقيقة مع تعدد الأفهام لا تتعدد، إنها واحدية الحقيقة التي بالعودة إليها وإحيائها يحيا “الدين الحق”، وتخرج  “الأمة” من ويلاتها وترديها في قعر التصنيف بين الأمم، فيما هي موعودة ب “الخيرية” متى ما استجابت للنص في الأوامر والنواهي وانتحاء الصراط المستقيم القويم في الدين والدنيا.

 

-3-

الخطاب الثاني خطاب “الإصلاح والتجديد”، ظل دائما يصاحب سابقه، غير أنه يدعو إلى اقتفاء أثر “المصلحين” و”المجددين”، والذين ما فتئوا يعودون إلى النصوص الدينية المؤسسة لإعادة التفكر في الواقع المستجد. إن “الإصلاح والتجديد” هنا يتمان تحت عناية ورعاية الأصول وباسم “الاجتهاد” المؤصل. فهذا الخطاب ينظر في النوازل المستجدة، ويوسع من دارة الاستنباط من النصوص بتطوير فقه النصوص وفقه الواقع وفقه تنزيل النصوص المحدودة على الواقع اللا محدود. وهو خطاب لا  ينغلق على ذاته مثل سابقه، ولا يتشبث بـ”الحرفية” المغلقة، وإنما يبحث في المعارف الأصيلة عما به يتاح له تجديد فهم الواقع وملاءمته مع مقاصد النصوص وكليات الشريعة. يبحث هذا الخطاب بدوره عن “سلف” ينتسب إليه، وعن سلالة يصل نفسه بها، ليدفع عنه تهمة كونه “دخيلا” لا أصالة فيه. وهذا الخطاب لا يرى ضيراً في الإفادة من الأمم والحضارات غير المسلمة في ما لا ضرر فيه على الدين، وفي ما فيه صلاح الأمة ونهضتها المنشودة؛ إذ سبب انحطاط الأمة هو جفاؤها للدين والعلم بمفهومه الرحب الشامل لعلوم الدين والدنيا، لعلوم الشرع والعلوم الطبيعية والرياضية والطبية والتقنية، وكذا الفنون والفلسفة, لذا تطغى على هذا الخطاب نفحة الدفاع عن أسبقية الإسلام إلى جم من الحقوق التي تبشر بها الحداثة وقيمها (العدالة، الحرية، الفرد، الديموقراطية، المساواة…)، مما يطبع هذا الخطاب بـ”الانفتاح” الجزئي على قيم الحداثة، مع احتذاء المزايدة عليها بثراء التراث الإسلامي و سبقه الى كثير مما تعتبره كشوفات و منجزات لها، بحيث يحضر التراث هنا بوصفه ملاذاً حضاريا ضد تغول الوجه الاستعماري والهيمني لـ”الحداثة”.

-4-

الخطاب الثالث خطاب “التحرير والتنوير”، يذهب أبعد من سابقه في توسيع دائرة فهم الدين بما يلائم ملاءمة شاملة قيم الحداثة باعتبار كونية هذه القيم في تمجيدها للعقل والإنسان. ويتبنى هذا الخطاب قيم الحداثة في تحرير عقل الإنسان من كل وصاية خارجية، تبنيا كاملا، وهنا يخالف خطاب “العودة و الإحياء” المتحفظ بإطلاق على “الحداثة”، مثلما يخالف المنحى التوفيقي لخطاب “الإصلاح والتجديد”، ليضع هدفا له استنبات قيم الحداثة في الأفق التأويلي التنويري الذي يقترحه للدين. على ان هذا الخطاب التحريري يختلف أيضا، ويشكل جذري مع الحداثين الذي يرون أن لا حداثة بغير إلغاء الدين والتحرر منه في الفكر والحياة، واعتباره في أحسن الحالات اختياراً شخصيا لا ينتج فكراً ولا قيماً في الفضاء العام للمجتمع. خطاب “التحرير والتنوير”، يسعى إلى تحرير الدين في القراءتين الحرفية والتوفيقية، ليطرح إمكانية امتلاك الحداثة من داخل قراءة تنويرية للدين تولد تأويلا أصيلا  يبرز الآفاق العقلانية والإنسية للدين في الفكر والإبداع والحياة، و يفعل البعد الرئيس للدين في سياقنا اليوم، والمتمثل في تغذية الوجود بالمعنى، وتلبية ظمأ الروح للتعالي في سياق ما تفتأ الحداثة، تنتقد ذاتها بالنظر إلى مآلات العولمة وأزماتها على المستويات الأخلاقية والقيمية، والتي سيدت الاستهلاك و الربح والمادة على حساب الإنسان والقيم اللضامنة لسلمية و سماحة العيش معا.

-5-

ينفتح خطاب التنوير على ماضي الذات مثلما ينفتح ماضي ما يُعتبر “آخر”، مؤمنا بتعدد هذا أو ذاك، ومستحضرا أن الذات ظلت دوما متفاعلة ومنفتحة ومتشكلة من خلال تلاقحات وتفاعلات متنوعة المناحي والمظاهر. يؤمن هذا الخطاب أيضا أن الإسلام يقتضي منا الذهاب إليه في المستقبل لا العودة إليه في “الماضي”، مثلما يؤمن أن الأمر لا يتعلق بمجرد  “تجديد” في التنزيل، تنزيل النصوص في واقع متجدد، بل بتحديث في فهم النصوص بما يلائم بين كليات هذه النصوص و مقاصدها وقيمها الرئيسة المؤسسة وبين خصوصية واقع له محدداته التاريخية المختلفة جذريا عن سياق تنزل النصوص وسياقات تلقيها في الماضي. إنه يرمي إلى أن ينتشل المتعال الديني في سياقات الانبثاق الأول في التاريخ، وكذا سياقات القراءات التاريخية المتلاحقة، ليعيد ترتيب الفهم والتلقي بما يجعل تلك النصوص تخاطبنا هنا والآن، دون أن تفقد تعاليها “الجوهري” من ناحية، و دون أن تضيع طاقتها على ملاءمة المعقولية الحديثة من جهة ثانية. من هنا احتفاء هذا الخطاب بـ”التاريخية” دون توثنيها واتخاذها متكأ لإعدام كل تعال، واحتفاؤها أيضا بـ”النقد” دون إهمال ما يكون في الماضي من بذور تنويرية في حاجة إلى استلهام وإعادة امتلاك في الراهن.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!