مواجهة الشر عند الحكيم الترمذى
أ.د.حامد طاهر
ولد الحكيم الترمذى فى بداية القرن الثالث الهجرى بمدينة ترمذ – الواقعة على نهر جيحون بخراسان – وتعددت آراء الباحثين فى منشأ لقبه بالحكيم ومغزاه تبعًا لاعتبارات مختلفة. أهمها أنه كان من القلائل الذين قاموا بتحليل بارع للنفس الإنسانية ، وتمكنوا من الكشف عن مناهج السلوك الروحى(1).
ومع ذلك يمكن التساؤل : لماذا لم يعمم هذا اللقب على كل من قام بهذا العمل ؟ يبدو أن لقب الحكيم ارتبط بتفرده بين الصوفية بالإلمام بكثير من علوم عصره العملية كالطب والفلك ، كما أنه سلك فى حياته مسلكًا خاصًا بين الناس استحق به هذا اللقب(2) .
كان على خلاف مع فقهاء عصره . وكذلك مع أصحاب الحديث . وقد حمل على الصوفية حملة عنيفة كان من نتائجها أن ثاروا عليه ، ومنعه أحد الحكام من الكلام فى موضوع الحب الصوفى.
للحكيم الترمذى موقف معارض للشيعة ، وخاصة الرافضة ، ويمكن أن يضع هذا الموقف أيدينا على أحد الأسس التى تفرق بين التصوف من التشيع . وهو المجال الذى قدمت فيه دراسات حديثة تثبت الصلة القوية بينهما ، إلى حد أنهما تبادلا المواقع والأسلحة(3) .
وقد امتد تأثير الحكيم الترمذى فى التصوف الإسلامى كله . فقد تأثر به الغزالى فى أحد فصول كتابه (إحياء علوم الدين) وهو ذم الغرور ، حيث أخذه من كتاب (الأكياس والمغتربين) .
وأفرد ابن عربى جزءًا كبيرًا من كتابع الضخم “الفتوحات المكية” للرد على (155) سؤالاً طرحها الحكيم الترمذى فى أشهر كتبه على الأطلاق ، وهو كتاب (ختم الأولياء) .
كما نقل ابن القيم فقرات من كتابه الفروق – الذى سنتعرض لدراسته – فى كتابه “الروح” دون أن يشير إلى مصدرها ، على الرغم من أنه اعتمد على أقواله فى مواطن أخرى من الكتاب نفسه .
وأخيرًا حظى الحكيم الترمذى بتقدير أعلام المدرسة الصوفية المعروفة بالمدرسة الشاذلية . وهم أبو الحسن الشاذلى ، وابن عطاء الله السكندري ، وأبو العباس المرسى(4) .
ومن أهم مؤلفات الحكيم الترمذى : كتابه (ختم الأولياء) و(الرياضة ، وأدب النفس) و(تحصيل نظائر القرآن) و(الصلاة ومقاصدها) و(الفروق) الذى سوف نعرض له فيما يلى :
منهج الحكيم الترمذى :
يروى أن الحكيم الترمذى كان يقع – أثناء الكتابة – تحت تأثير شعور نفسى جارف ، وأنه كان يترك قلمه تحت تصرف هذا التأثير(5) والواقع أن بعض الصوفية قد تحدثوا عن مثل هذا الشعور. يقول ابن عربى : “وعلم الله ما قيدت هذا القدر إلا والحمى تنفضنى فى باطنى ، مما أجد من قوة الوارد , وازدحام تموج المعارف فيه”(6).
ومع ذلك ، فإن الحكيم الترمذى يتناول فى كتابه “الفروق” – بالتحديد والتحليل – مائة وخمسة وخمسين فرقًا بين مفهومين ، وقد يكونان متضادين تمامًا (كالخوف والجبن) أو متقاربين فى الظاهر إلى حد ما (كالخشوع والتماوت) أو غير واضح الفرق بينهما على الإطلاق (كالصلابة والقسوة) .
ويلاحظ أنه أعطى لبعض الفروق أهمية أكبر من غيرها . وبالتالى فقد سمح لها بعدد أكثر من الصفحات وذلك مثل الفرق بين (المداراة والمداهنة) فى أول الكتاب ، والفرق بين (المشاكلة والمقايسة) فى آخره ، أما باقى المفاهيم فقد عرضها عرضًا متوسطًا، أو مركزًا ، لكنه لا ينقصه الوضوح المطلوب .
يعتمد الترمذى فى شرحه للمفاهيم على الاستشهاد بالقرآن الكريم وذلك فى حالتين : عند تحديد المعانى اللغوية، وعند تأكيد بعض الموضوعات الأخلاقية ، كما يكثر من الاستشهاد بالحديث النبوى ، الذى اشتغل بروايته فترة من حياته ، كما يقدم بعض الأمثلة التاريخية ، ويبدو منها اطلاعه على كل من التراث الدينى للمسيحية واليهودية ، بالإضافة إلى استيعابه للتراث الفارسى ، ويوجد فى كتاب الفروق ما يؤكد معرفته بكل من اللغتين : العبرية والفارسية .
هذا ، ويبدو فى كتاب الحكيم الترمذى – بالإضافة إلى إحاطته بالثقافة الدينية وتمكنه منها – عناصر من ثقافة طيبة ، وذلك بالقدر الذى كانت تسمح به معلومات هذا المجال فى عصره . فهو كثير الحديث عن أعضاء الإنسان الباطنة كالقلب والنفس والروح والعقل ، وقواه المختلفة كالغضب والشهوة والإرادة وارتباط هذه جميعًا بالأفعال والانفعالات .
وفى كثير من الأحيان تشيع ، لدى الحكيم الترمذى ، روح نقدية صافية تشير – صراحة أو ضمنًا – إلى ما فى عصره من عيوب سياسية واجتماعية وخلقية ، وتكشف عن دوافعها ، وتحذر من مظاهرها وآثارها .
ويميل الحكيم الترمذى فى أكثر كتاباته إلى البسط والشرح أكثر من التركيز والاختصار . وربما كان السبب فى ذلك هو الدافع التعليمى ، ولكن طبيعته العفوية فى التأليف ، والتى كان يقع فيها تحت تأثير شعور جارف بالاسترسال – يمكن أن تمثل سببًا آخر .
ومن الطبيعة أن يوجد قدر من تكرار الأفكار نتيجة هذا البسط، كما لا تخلو كتابات الترمذى من استطراد ، قد يطول أحيانًا ، لاعتماده على نقول تاريخية أو دينية .
وحتى نأخذ صورة متكاملة عن كتابة الترمذى : المركز منها، والمتوسط والمبسوط ، سنعرض هنا نموذجين يمثل أولهما النوع المركز ، وفيه يقول الترمذى : “الفرق بين الخشوع والتماوت” .
الخاشع : عبد قد خمدت نيران شهوته ، وسكن دخانها عن صدره ، فخلا الصدر ، وتجلى النور على عينى فؤاده فى صدره ، وأشرق نور العظمة، فماتت شهواته من الخوف الذى ناله من ذلك ، وحيى القلب ، فخشع ، وخمدت الجوارح يخوف النفس ، وتوقر القلب واطمأن إلى الله للسكينة التى تنزلت عليه من ربه ، وهو قوله: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) والمخبت : المطمئن .. والخبت من الأرض ما قد تطامن فاستنقع فيه الماء .
والمتماوت : عبد يتكلف إسكان الجوارح ، ونفسه فى الباطن شابة طرية ذات شهوات ، ولكنه يصير نفسه كالميت من تسكين الجوارح تصنعًا ومراءاة .. يحب أن يرى خاشعًا فهو يتخشع فى الظاهر ، والأسد منه رابض ينتهز الفرصة ، وقد تعوذ رسول الله ، من ذلك فقال : “نعوذ بالله من خشوع النفاق” قيل : يا رسول الله : ما خشوع النفاق ؟ قال : “أن يخشع البدن ، والقلب ليس بخاشع!” (7) .
أما النموذج الثانى فنقدمه مثالاً على الكتابة المتوسطة ، وفيه يقول الترمذى : “الفرق بين الهدية والرشوة” .
فالهدية أن يعطيك (شخص ما) شيئًا يريد أن يهدى ، أى يميل، بقلبك إلى قلبه ، ونفسك إلى نفسه . ومن ذلك قيل : يتهادى فى مشيته أى يتمايل . والهدى مأخوذ من ذلك أيضًا . وهو ميل القلب إلى الله عز وجل .
فإذا أعطاك على أن يميل قلبك إلى نفسه ، وأنت ذو سلطان أو ذو سبب من السلطان فهو رشوة . لأن السلطان ظل الله فى الأرض . والعدل سبيله . فإذا أعطى السلطان فسلك سبيل العدل فما أخذ عليه كأنه صيره ثمنًا للعدل ، والله لا يرضى أن يباع عدله فى أرضه بحطام الدنيا ، فإنه بذل العدل لعباده ، ولم يقتض عليه من عباده شيئًا. فلذلك صارت هديته رشوة .. مأخوذ من الرشا ، لأن الرشا به يستمد من البئر الماء ، فينزعه به ، وكذا هذا : صير هذه العطية ، بها يستمد العدل من الحاكم .
ولم يؤمر الحاكم بأن يكون بحال يستمد منه العدل بالاحتيال ، بل يكون عدله كالماء الجارى الذى لا يكون للخلق فيه مؤنة يتناولونه بيسر ، لا بالاحتيال ، فالهدية للسلطان أو لذى سبب منه : رشوة .
ألا ترى أن رسول الله قال لبعض ولاته ، حين جاءه بشىء : “يقول أحدكم : (هذا لكم ، وهذا أهدى لى) أفلا جلس فى بيت أبيه وأمه حتى ينظر : هل تأتيه هديته!” (8) .
أما النموذج الذى يعبر عن طريقة المحاسبى التى يميل فيها إلى البسط والشرح ، فهو ما سوف نقف عليه من تحليل موقفه من المسلم فى مواجهة الشر . إذا كان المسلم قادرًا بشخصه أو بمركزه على تغيير الشر من المجتمع الذى يعيش فيه ، فذلك أمر واضح لا غموض فيه .
أما إذا شاهد الشر ، دون أن تكون لديه الوسائل أو الإمكانيات الكافية لمواجهته وتغييره : ماذا يفعل ؟ وكيف يتصرف ؟
يقوم الحكيم الترمذى بتحليل هذا الموقف عن طريق التفرقة بين دافعين أخلاقيين تصدر عنهما فى الغالب أعمال الإنسان ، ومع ذلك فإنهما – من وجهة النظر الإسلامية – مختلفان أشد الاختلاف .
ويتمثل هذان الدافعان ، اللذان يتحولان فى الواقع إلى سلوك ، فيما يسمى : المداراة ، والمداهنة.
ويبدأ الحكيم الترمذى بتحديد كل منهما فى تعريف مختصر ، محاولاً الكشف عن سبب إطلاق هذين اللفظين عليهما ، ومعتمدًا فى ذلك على لغة القرآن الكريم ، فيقول : “المداراة : فعل لطيف ممزوج بصلابة . وإنما سميت مداراة لمداراة الأحوال فيها ، وهى مشتقة من الدرء – مما يدرأ أى يدفع بعضه ببعض من قوله عز وجل : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) (9) أى اختلفتم . فالتدارى : تلوين الأحوال بالرفق مرة ، ثم الصلابة ، ثم الرفق ، حتى يصل بين الرفقين بالصلابة .
وكذلك المداهنة : هى تلوين الأحوال ، والترفق فى الأمور والتلطف لها حتى يصل بعضها ببعض ، وهو قوله تعالى: (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَان) (ِ10) فإنما شبه السماء بالورد لتورده ، وبالزيت لتلونه بحمرة ، ومرة بخضرة ، ومرة بصفرة ، فكهذا صفة الدهن والورد(11) .
ثم ينتقل إلى موقف الشرع من هذين الخلقين ، “فالمداراة فعل قد ندب الله العباد إليه ، ورضى بها ، والمداهنة منهى عنها مذمومة فى الشريعة : قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (12).
ويذكر الحكيم الترمذى أن هناك اتفاقًا بين المداراة والمداهنة من ناحية وخلافًا كبيرًا من ناحية أخرى .
أما الاتفاق فيتمثل فى أن كلاً منهما يستخدم فيه نفس الأسلوب، وهو الرفق واللين والتلطف . وتلك أمور يمكن الوقوف على مظاهرها فى سلوك الإنسان . كما أنه بمقدور المجتمع أن يحكم على صاحبها بالصدق أو بالزيف.
وأما الاختلاف فينحصر فى أن الدافع والهدف اللذين يوجدان فى داخل الإنسان لا يستطيع الآخرون دائمًا أن يكشفوا حقيقتهما . والقاضى هنا ليس هو المجتمع الذى قد يمكن خداعه ، وإنما هو (حاسة الضمير) التى ترصد ، فى دقة بالغة ، كل النوايا والمقاصد التى تتواثب فى أعماق الإنسان .
فالمداراة إذا سكت فيها الإنسان عن صاحب المنكر أبقى على دينه ، ودين صاحبه ، لأن صاحب المنكر قد ركب هواه ، واستمر فى ذلك ، وشرهت نفسه ، فإذا أراد أن ينكر عليه خاف ألا يقبل ، ولا ينجح فيه ، فيزيد فى المنكر والفساد .. لأن النفس لجوجة ، وليس فى كل وقت تقبل الموعظة ، فيحتاج إلى أن يتحين وقت قبولها، ويتلطف لها ، ويكون حاذقًا فى ذلك .
قال رسول الله : “إنما يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر : عالم بما يأمر ، عالم بما ينهى ، بصير بما يأمر ، بصير بما ينهى ، رفيق فيما يأمر ، رفيق فيما ينهى” .
فالعلم والبصر والرفق : صفات أساسية لابد من توافرها فى كل مصلح وخاصة فى المجال الدينى والأخلاقى ، حيث تتمثل الأدواء فى شكل قرحة غير محسوسة ، وحيث تكون العادات السيئة قد ضربت بجذورها فى أعماق النفس ، وحيث تبدو المعتقدات الفاسدة ، وكأنها أجزاء أصلية من مكونات العقل والشعور .
وليس أقرب لعمل المصلح الأخلاقى فى مداواة خلق سيئ من “طبيب نظر إلى قرحة ليعالجها . فأول أمره التعرف لها حتى يعلم : أى قرحة هى ؟ ثم يتحين نضجها ، ثم يبطها (يشقها) حتى يسيل منها الدم ، ثم يضع عليها من الدواء ما يزيل الفاسد من لحمها ، ثم يتابع عليها المراهم اللينة التى تنبت اللحم، ثم يذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها وييبسها” .
ويعلق الحكيم الترمذى على هذا المثال التقريبى قائلاً : “فإذا كانت قرحة واحدة تحتاج إلى كل هذا العلم والبصر والترفق والتأنى والمهلة حتى تعود إلى الصحة . فكيف بسقم هاج من نفس أمارة بالسوء ، ويشيطان مقرون بها ، فجالا بالصدر ، فمثلا بين عينى القلب صورة الأشياء ، ونفخا ، ونفثا ؟!
هذا ، وتقوم نظرة الترمذى إلى الإنسان على أنه مكون من نفس مظلمة، أمارة بالسوء دائمًا ، وأن الشيطان متعاون معها فى ذلك. أما قلب الإنسان فهو طاهر بطبعه ، ولكنه قد يقع تحت تأثير كل من النفس أو الشيطان، فيمرض . وقد ذكر الله ، تعالى ، مرض القلب فى تنزيله ، فقال: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (13) .
ومن هنا كانت محاولة علاج هذا القلب المريض من أصعب الأمور ، بل إن الترمذى يعدها “أصعب من مداواة تلك القرحة التى وصفنا أضعافًا . فلذلك يحتاج المدارى له إلى علم وبصر ورفق وتأن، حتى تنجع فيه الموعظة”.
موقف الإنسان من المنكرات :
يرى الحكيم الترمذى أن المنكر ذو أنواع متعددة . فيذكر أنه قد يكون قولاً ، أو فعلاً ، أو خلقًا من أخلاق السوء .
ويلاحظ أن فصل الترمذى بين الفعل والخلق بحرف العطف (أو) يدل على وعى بالفرق بينهما ، كما يدل على فهم صحيح للخلق كفعل يتكرر من الإنسان باطراد ، ويصدر عنه فى عفوية .
والإنسان مطالب – من الناحية الأخلاقية – بأن يغير المنكر إذا رآه أو كما يقول الترمذى : “يعمل عملاً معروفًا ، يأخذ مكان ذلك المنكر ، فهذا مغير للمنكر – غيره عن حاله – فيصيره بحال يسمى ذلك الحال معروفًا” .
فإذا ظهر أمر منكر ، وحاول إنسان أن يغيره بالقوة ، فإنه لن يفعل حينئذ – فى رأى الترمذى – أكثر من أن يزيد المنكر : ما هو أنكر منه . كما أنه فى الواقع ، لم يغيره ، لأن ذلك المنكر قائم بعينه، وفيه زيادة . فليس هذا بمغير .
يحتاج المغير إذن إلى علم بذلك الأمر ، وبصر فيه ، وهو أن يبصر أصل المنكر ، ومن أين هاج ؟ ويرفق فيه بتمكث وتؤده وتأن وتدبر لعاقبته .
فربما احتاج إلى أن يتلقى صاحب المنكر ببر وهشاشة ومقاربة ولين ، حتى يأخذ من قلبه شعبة ويحل منه محلاً ، تقبل منه نفسه تلك الموعظة بتلك المقاربة على مقدمته .
وربما احتاج إلى أن يتلقاه بسلطان ، يأخذ بقلبه ، ويرغب نفسه، ويهول عليه . فإنما يبصر هذه الأحوال إنسان وافر الحظ من ربه ، وافر الحظ من العقل ، وافر الحظ من اللب .
أما إذا أحس الإنسان أنه أضعف من أن يواجه المنكر ، أو حتى يحتال على تغييره ، فإن دوره ينحصر فى المرحلة الثالثة من الإنكار ، وهى الإنكار بالقلب .
ومن المعروف أن مراتب الإنكار ثلاث : إنكار باليد ، وإنكار باللسان ، وإنكار بالقلب .
والجدير – عند الحكيم الترمذى – أنه يتعمق هذه المراتب الثلاث ، ويضع لكل منها مستويات متفاوتة من حيث الإخلاص وعدمه ، فيقول : “فإذا أنكره بإحدى يديه ، فرده ، وتناوله بالأخرى ، لم يكن هذا إنكارًا ، فإذا أنكر باللسان ، فذمه مرة ثم مدحه أخرى ، لم يكن هذا أنكارًا . كذلك أيضًا سبيل القلب : إذا إنكره بقلبه ، فدفعه ورده ، ثم كان من نفسه إلى قلبه من جرى الشهوة وخلوصها إليه ما اشتهاه بقلبه ، لم يكن هذا إنكارًا .
إلا أنه لما لم يكن لهذا الإنسان ملك فى جرى هذه الشهوة من معدنه (أى من طبيعته السيئة ، أو نفسه الأمارة بالسوء) إلى قلبه لم يبطل إنكاره ، ولكنه إنكار ممزوج بشهوة فى ذلك القلب لذلك المنكر، ولم يكن لقوله – إذا نطق به – سلطان ينفى هذه الشهوة من قلوب أهل المنكر” .
ويستشهد الحكيم الترمذى بحديثين للرسول صلى الله عليه وسلم ، يوضحان الفرق بين شخصين: أحدهما سكت عن دفع المنكر مداراة ، وسكت عنه الآخر مداهنة :
– يقول الحديث الأول : “إن الله ، تبارك وتعالى ، يسأل العبد يوم القيامة حتى إنه ليقول : ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره – فإذا لقن الله عبدًا حجته – قال : “يارب وثقت بك ، وفرقت الناس”.
– أما الحديث الثانى فيقول : “لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرًا لله عليه فيه مقال ، فلا يقوم له ، فيقول الله ، عز وجل : “ما منعك أن تقول كذا يوم كذا” فيقول : “يارب ، خشيت الناس” فيقول له : “إياى كنت أحق أن تخشى” .
فالأول على المداراة والثانى على المداهنة . ويقارن الترمذى بين عبارة الأول (فرقت الناس) وعبارة الثانى (خشيت الناس) فيقول : إن كلاً منهما ذات دلالة واضحة على الموقف الدينى والنفسى .
فالفرق أصله من المفارقة بالقلب أى أنه فارق الخلق بقلبه ، لما هم عليه من ارتكاب المنكر ، وانفرد بربه ، ووثق من أنه يعذره على تقصيره فى دفع هذا المنكر .
أما الثانى ، فعندما واجه المنكر ، لم يجرؤ على تغييره خشية من الناس أن يلحقوا به أذى فى نفسه ، أو فى دنياه ، فهو مداهن .
ويقرر الترمذى إن كل خشية يكون للنفس نصيب فيها ، تعد غير محمودة ويستدل على ذلك بموقف الرسول r ، نفسه ، حينما خشى أن يواجه الناس بإعلان زواجه من بنت عمه زينب ، بعد أن يطلقها زيد بن حارثة ، الذى كان متبنى له . فعاتبه الله ، تعالى ، بقوله: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) (14).
الإنكار الحقيقى إذن لابد أن يكون صادرًا عن النفور الكامل من المنكر، والسلامة من أدنى تعلق للقلب به . وقد حدث فى تاريخ بنى إسرائيل أن قومًا ارتكبوا المنكر ، فقامت طائفة منهم، وأنكرت عليهم ذلك ، ثم آكلوهم، وشاربوهم ، وخالطوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، وذهب بالمخالطة. ما كان فى قلوبهم من الإنكار ، لأنه لم يكن خالصًا ، ولأن قلوبهم كانت تحتوى على بقية من الشهوات .
وفى مقابل ذلك ، يضرب الحكيم الترمذى المثل بموقف صحابة رسول الله، كابن عمر ، وابن عباس ، وأنس بن مالك ، والتابعين كالشعبى وإبراهيم النخعى وشريح ، حين كانوا يدخلون على أمرائهم كالحجاج ، والمختار ، ويزيد ، فيخالطونهم ، ويقبلون برهم . ومع ذلك ، فإنهم كانوا يصدرون عن المداراة والتآلف وإقامة الحقوق، لا على المداهنة ومخاتلة الدنيا بالدين. فإذا رأوا منكرًا غيروه بألطف الوجوه ، إن قدروا عليه ، وإن لم يقدروا أخروه إلى وقت آخر.
لا بأس إذن من التعامل مع أصحاب المنكر ، ولكن بقصد إصلاحهم ، وتغيير ما هم عليه ، والمقياس فى ذلك هو سلامة القلب من التعلق بما هم فيه ، والنية الصادقة على محاولة الإصلاح . يقول الترمذى : “فكان علية أصحاب رسول الله r ، وكبراء التابعين يخالطون الأمراء مخالطة الأبدان ، فلم يضرهم ، لأن الضرر فى مخالطة القلوب” .
ثم يقدم الحكيم الترمذى ثلاثة نماذج مختلفة لاستخدام خلق المداراة فى معاملة الآخرين . نكتفى منها بإيراد النموذج التالى :
– دخل ابن عمر ، ومعه ابنه سالم ، على الحجاج ، فجىء بأسير ، فأمر الحجاج سالمًا أن يضرب عنقه ، فقام سالم ، فشمر ثيابه ، وحسر عن ذراعيه ، وأخذ السيف ، ومشى إليه ، وابن عمر يناديه : يا سالم ! يا سالم ! فلا يجيبه ، حتى دنا من الأسير ، فقال: يا هذا ، أصليت اليوم صلاة الغداة؟ قال : نعم . فرجع، ووضع السيف ، فقال له الحجاج : مالك ؟ قال سالم : سمعت هذا – وأشار إلى أبيه – يقول : سمعت رسول الله ، يقول : من صلى الغداة فهو فى ذمة الله ، وقد سألته ، فقال : صليت ، وما كنت لأخفر ذمة الله ، فأمر الحجاج بتخلية الأسير.
ويعلق الحكيم الترمذى على ذلك قائلاً : “فانظر كيف تلطف سالم فى ذلك . فلو كان عندما أمره بضرب عنقه يستقبله بغير هذا لكان غير مستنكر أن يضرب عنقه هو ، فيكون قد جلب الهلاك على نفسه ، وعلى سلطانه . فأراه من نفسه السمع والطاعة للسلطان ، وأراه أنه غير مستحق لذلك ، ووعظه من الجهة التى نجعت فيه ، فهكذا التلطف والترفق والمداراة فى رد المنكر على أهله” .
وعلى الرغم من هذا التحليل الذى قام به الحكيم الترمذى لكل من المداراة والمداهنة ، فإنه يقول عن المداراة ، بصفة خاصة ، إنها “واد عميق ، لا يمكن استقصاء تفسيره إلا فى مدة كثيرة ، وفى صحف كثيرة يطول الوصف لها ، ولكن قد أجملناه بوجيز الصفة” .
وهو يحدد ، فى النهاية ، الفرق بين هذين الخلقين قائلاً : المداراة : أن تسكت عند رؤية المنكر إبقاء على دينك ودين صاحبك حتى لا يزداد ، فهذا من أجل الله ، عز وجل .
والمداهنة : أن تسكت عنه إبقاء على دنياك وجاهك وقدرك وأحوال نفسك . فهذا من أجل نفسك.
[موقع الدكتور حامد طاهر]
* * *
الهوامش
([1]) هذا رأى الدكتور عثمان يحيى – (الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية) للدكتور عبدالفتاح بركة ، 1/60 ، 61 .
([2]) المرجع السابق 1/61 .
([3]) انظر: الصلة بين التصوف والتشيع، الشيبى .
([4]) انظر المرجع السابق 1/197-199 ، حيث يعرض الدكتور عبد الفتاح لمكانة الترمذى لدى من جاء بعده بالتفصيل .
([5]) مقدمة (الرياضة وأدب النفس) .
([6]) ذخائر الأعلاق ، ص48 .
([7]) كتاب الفروق (مخطوط مصور) لوحة 11/أ .
([8]) كتاب الفروق (مخطوط مصور) لوحة 15/ب .
([9]) سورة البقرة ، الآية 72 .
([10]) سورة الرحمن ، الآية 37 .
([11]) كتاب الفروق 2 ، أ .
([12]) سورة القلم ، الآية 9 .
([13]) سورة الأحزاب ، الآية 32 .
([14]) سورة الأحزاب ، الآية 37 .