أمّيَة الرسول على محك النقد العلمي الألماني والعربي

أمّيَة الرسول على محك النقد العلمي الألماني والعربي
أمّيَة الرسول على محك النقد العلمي الألماني والعربي
  لم تجد سلسلة “سجالات شرقية غربية” أفضل من الأسئلة المعلقة حول الأمية المرتبطة بالحقبة النبوية، من أجل افتتاح مشروعها البحثي، والقاضي بنشر أعمال جماعية، تندرج في سياق السجال العلمي النافع، عوض السجالات السائدة بشكل كبير في الساحة.

اختيار هذا الموضوع غير مرتبط فقط بتباين الآراء في ما يقال عن “جهل رسول الله بالقراءة والكتابة”؛ وإنما لمحاولات بعض التيارات الدينية طرح رؤيتها العقائدية المتعلقة بها الأمر حقيقة إيمانية قطعية، معتبرة أنها “تدخل ضمن ما هو معروف [معلوم] من الدين بالضرورة، دون أدنى اعتبار لما ورد في صفحات كتب المفسرين الأوائل من إمكانات دلالية واستدلالية تفتح الباب على مصراعيه أمام تفسير، بل تفاسير متعددة لمعنى “أمي” التي وُصِفَ بها النبي الكريم في بعض آيات الذكر الحكيم، كأحد المصادر الظنية القابلة للأخذ والرد”، كما نقرأ في مقدمة العمل، والتي حرّرها أحمد عبد السلام، ويشغل مدير التاريخ الإسلامي وأصول الفقه بمركز دراسات والتربية الإسلامية، جامعة فيلهلم فيستفاليا بمدينة مونستر الألمانية.

نحن في ضيافة كتاب “أمّيَة الرسول”، وألفه سباستيان جونتر، وخالد محمد عبده، (تقديم أحمد عبد السلام، سلسلة “سجالات شرقية غربية”، دالا سجال للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 2014)، بما يتطلب أولا التعريف بمُحرري هذا العمل البحثي النوعي:

1 ـ نبدأ بسباستيان جونتر، فقد ولد عام 1962، وهو أستاذ ورئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة جوتنجن، شغل عدة مناصب بجامعة تورنتو(حيث تمت ترقيته عام 2003 إلى أستاذ مساعد في اللغة العربية وآدابها)، كما عمل بجامعة مارتن لوثر هاليه فيتنبرج (التي حصل منها على درجة الدكتوراه عام 1989). وبالإضافة إلى ذلك فقد قبل عدة دعوات للزمالة والأستاذية بعدة جامعات في الشرق الأوسط. وترتكز أبحاث جونتر على الإرث التاريخي للإسلام، لا سيما الفكر الفلسفي، الديني، القرآني والآداب العربية. وقد نشر في العديد من الجرائد المترجمة، والأعمال المرجعية الدولية. وقد خصص عددًا من دراساته لدراسة الجوانب الأساسية في التربية الإسلامية. وتُعد أحدث الأجزاء التي قام بتحريرها، تلك المتعلقة بالأفكار والصور وطرق تصويرها، وتحمل عنوان: “اتجاهات الأدب العربي الكلاسيكي والإسلامي”، وتتحدث عن نشأة نصوص عربية كلاسيكية محددة، وتأثيرها على المجتمعات الإسلامية في العصور الوسطى.

ومن بين أعماله الحالية التي تستحق الإشارة إليها: “أفكار المفكرين المسلمين القروسطيين في التربية”، دراسة تنشر لأول مرة بلغة غربية تشمل مسح ومناقشة الفلسفات التربوية التي قدمها كبار فقهاء المسلمين من القرن الثامن إلى القرن السادس عشر (2012)؛ “طرق الجنة: الإيمان بالآخرة ومفاهيم الآخرة في الإسلام”. مجلد جماعي (بالتعاون مع البروفسور لاوسون، جامعة تورنتو)، حيث يقدم دراسة نقدية للمفاهيم والتصورات الأساسية لخطابات المسلمين منذ ظهور الإسلام (2012)؛ “المحافظة في الإسلام: غلام خليل ودليله في العقيدة الإسلامية” ـ كتاب بالتعاون مع البروفسور جرار في الجامعة الأمريكية ببيروت ـ حيث يدرس فيه مفهوم العقيدة الإسلامية المبكر؛ استناداً إلى مخطوطة عربية قروسطية فريدة.

2 ـ بالنسبة لخالد محمد عبده، فقد تعلم بالأزهر الشريف ثم بكلية دار العلوم، ويعمل باحثاً حراً في العديد من المراكز البحثية، ويُولي اهتماما كبيرا بدراسة التصوف الإسلامي، خاصة ما يتعلق بمولانا جلال الدين الرومي. وقد توسّع عبده في دراسته فتناول فكرة الجاهلية ومدلولها، إلى جانب التاريخ الثقافي لأهل مكة والعرب في زمن الرسالة المحمدية. و”تتميز دراسته عن سابقتها بحِس إيماني يُلازم كاتبها رغم حرصه على التزام الموضوعية العلمية”، يضيف أحمد عبد السلام. (ص 12).

تبَحّرَ خالد محمد عبذه في التراث الإسلامي وكتابات المحدثين من المفكرين المسلمين والغربيين ساعيا لطرح وقراءة قضية أمّية النبي صلى الله عليه وسلم مُجَدَّداً ومُجَدِّداً

جاءت دراسة سباستيان جونتر تحت عنوان: “محمد: النبي الأمين عقيدة إسلامية في القرآن والتفسير” (من ص 13 إلى ص 63)، حيث لم يقتصر المؤلف على ترديد آراء من سَبقه من المستشرقين، ولكنه تبَحّرَ في التراث الإسلامي وكتابات المحدثين من المفكرين المسلمين والغربيين ساعيا لطرح وقراءة قضية أمّية النبي صلى الله عليه وسلم مُجَدَّداً ومُجَدِّداً بما يتفق وموسوعية معارفه وشغفه بالتراث الإسلامي، مُلتزما بموضوعية علمية اقترنت باسمه منذ باكورة عمله في البحث العلمي، ورصانة اشتُهِر بها ميزته عن الكثير من أقرانه من المستشرقين.

حاول دراسته تقديم عدة أطروحات لمناقشة مفهوم “أمّي” بشكل أوسع. حيث تبدأ بفحص مفاهيم محددة عن التَّعَلُّم والأمية، كما وردت بالقرآن وبعض المصادر العربية المبكرة. ويشمل هذا اعتبار التعبيرات القرآنية كـ”أساطير الأولين” و”تملى عليه” (أجزاء 1-3)، حيث تتناول الأدلة اللغوية والتاريخية لمصطلح “أمّي” كما ورد في القرآن، بالتوازي مع المفاهيم التي وردت في علوم التفسير والسيرة والحديث. وتشكل هذه المعطياتُ الأساسَ لنظرة فاحصة في تفسيرات الباحثين الجدد. كما تطرق للأبعاد التبريرية والدينية بالإضافة إلى الأبعاد التاريخية واللغوية لمصطلح “أمّي” (أجزاء 4-5). وخُصّصَ الجزء الأخير من الدراسة لمصطلح “الأمة” (جزء 6). وفي الخاتمة (جزء 7). وتشير هذه الخلاصات المبدئية إلى أن وجود تقدير شامل للمصطلح القرآني “النبي الأمّي” سيسهم بالضرورة في فهم أمّيَة النبي محمد (صلعم) على نطاق واسع، يسلط الضوء في حقيقة الأمر على بعض خصائص الإيمان والروحانية في الإسلام الحاسمة. وقد أصبحت هذه العقيدة اليوم بالنسبة للعديد من المسلمين مكونًا مركزيًّا في الإيمان اللاهوتي والهوية الدينية الفردية؛ وبالتالي فإنها تعد عاملاً في استقرار المجتمع الإسلامي.

تتناول دراسة خالد محمد عبده الأدلة اللغوية والتاريخية لمصطلح “أمّي” كما ورد في القرآن، بالتوازي مع المفاهيم التي وردت في علوم التفسير والسيرة والحديث

نأتي للجزء الثاني من الكتاب، وجاء تحت عنوان “النّبيُّ الأميُّ في التُّراثِ الإسلاميّ” (من ص 65 إلى ص 151)، وحرره الباحث خالد محمد عبده، والذي اجتهد في أن يُبرز مشكلة أُمّيّة النبي  إلى حيز الدرس العلمي، وما محاولته هذه إلا استنطاقًا للنصوص الواردة في تراثنا الإسلامي، لم يقصد فيها إثارة مشكلة زائفة إلى حيز الوجود، بل هي حقيقةٌ بالدرس، وخاصة أن الكلام في عصرنا الحديث قد كثر بشأنها بوعي ودون وعي، ويتذكر الباحث كلمة قالها يوسف إبراهيم في كتابه عن المصاحف كانت مُحفّزة له على هذا البحث: “وهذه المسألة تحتاج إلى بحث كبير ــ يعني أُمّيّة النبي ــ وموازنة دقيقة لأقوال العلماء، أرجو أن تحقق، ويعملوا لها ندوة خاصة تتضح بها جوانب الموضوع”، وحتى الآن، يضيف خالد محمد عبده، لم نحقق الأقوال، ولم تُعقد ندوة خاصة بالقضية، كمثل ما نقوم به في الدول الإسلامية حول موضوع “الإسراء والمعراج”.

شيءٌ آخر أراد إبرازه الباحث من خلال عمله هذا، وهو عدم خلط الأوراق، والتفريق بين ما هو قطعيٌّ ولا ينبغي الخوضُ فيه، وما هو ظنّيٌّ ولا بد من الولوج فيه. ومسألة “أُمّيّة النبي محمد (صلعم)” من المسائل الظّنية، ومن قبل قيل في شأنها: “المسألة ليست قطعية بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة، غير أن العقل لا يحيلها، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها”. وهذه غاية ثانية يرمي البحث إلى تحقيقها مع سابقتها.

فيما يتعلق بالدلائل الخاصة بتعبير “النبي الأمّي”، تلك التي توقف عندها مليّاً الباحث في عمله، يمكن للمرء أن يخلص إلى النتائج التالية:

ـ في الاستخدام القرآني، فإن كلا المصطلحين “الأمّي”، و”الأميين”، لا يمثل معنى منفردًا، بل مجموعة من الأفكار. هذه المجموعة تغطي معاني مختلفة، ولكنها مع ذلك مرتبطة ارتباطًاً وثيقًاً بمعاني فرعية مثل: أي فرد ينتمي إلى أمة: العرب، أي: أمة ليس لها كتاب مقدس (إلى الآن)؛ أي فرد ليس لديه كتاب مقدس، أي: لا يقرأ أو لا يقرأ فيه؛ أي فرد لم يقرأ (كتاب مقدس)، أي: لم يتعلم أو يدرس (عن طريق شيء ما أو شخص ما)؛ ويبقى فقط السياق القرآني، الذي يمكن له أن يحدد بشكل نهائي أيَّ جانب من هذا الحقل الدلالي له الأفضلية في فهم الأجزاء ذات الصلة في القرآن.

لا ضير في القول بأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم قد كتب وقرأ بعد البعثة، لأنه الإنسان الإلهي الذي لقى عناية وتعليم وتربية من الرب الأعلى، قد علمه ربه كل شيء

ـ على صعيد آخر، الفحص اللغوي/التاريخي للمصطلحات القرآنية الثلاثة: أمي، أميين، و أمة لا يؤكد التفسير الشعبي لكلمة أمّي، الذي يركز بشكل مطلق على الأمية. بدلا من ذلك، يبدو هذا التفسير عاكسًا لاقتراب قرآني آخر تطور في دوائر علم المسلم (ربما ليس قبل النصف الأول من القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي) وقد تشكل ذلك بشكل أبعد تحت تأثير رجال الدين المسلمين والمدافعين المسلمين. وتعتمد هذه النتائج على المعلومات الواردة في مصادر المسلم القروسطية. ومع ذلك، فهي أيضا يتم دعمها ببعض المصادر العربية المسيحية القروسطية.

كما قسّم المواقف من قضية أمّية النبي إلى أربعة مواقف قام بدراستها، وهي كالتالي: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكتب قط، ولم يقرأ بالنظر إلى كتاب؛ أنه لم يمت حتى كتب وقرأ؛ أنه كتب مباشرة بيده في أيام بعثته؛ أنه كتب وقرأ قبل البعثة وبعدها، كما ناقش خالد محمد عبده المواقف الأربعة وقدمَ قراءة للآيات الواردة في القرآن عن الأمية.

ويمكن تلخيص أهم مضامين الجزء الثاني للكتاب، والذي اشتغل عليه خالد محمد عبده بخصوص تعامل عقلنا الإسلامي مع قضية أمية المصطفى الكريم (صلى الله عليه وسلم) فيما يلي:

ـ بالنسبة للتصور الإسلامي، فإن قضية (الأمية) لا يوجد بخصوصها نصوص قاطعة الدلالة في النفي أو الإثبات؛

ـ لا ضير في القول بأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم قد كتب وقرأ بعد البعثة، فمحمد صلّى الله عليه وسلّم هو الإنسان الكامل، أو بصيغة أدق الإنسان الإلهي الذي لقى عناية وتعليم وتربية من الرب الأعلى، وقد علمه ربه كل شيء، حسب القاضي عياض وغيره؛

ـ تكفير القائل بعدم الأمية يعدُّ فوضوية فكرية، وانعدامًا للنظرة التأصيلية والكلية لجوانب القضية، وقد وقع فيها كثير من الإسلاميين؛

ـ وأخيراً، ورود كثير من الأخبار والآثار التي ترجح كفة معرفة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة والكتابة وخاصة أنه قد تمتع بأوصاف النبوغ والعبقرية والحافظة والذكاء الوقَّاد.

نادراً ما يصطدم المتلقي بكتاب صغير الحجم، كبير الدلالات، ويبدو أن كتاب “أمّيَة الرسول” يندرج في هذه المؤلفات التي تكاد تكون “كبريتاً أحمراً” في زمننا هذا.

منتصر حمادة
المصدر: (ذوات)

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!