الحركة الاستشراقية
بداية ومآلاً
(الجزء الأول)
د. رضا محمد الدقيقي
أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر
(1)
المفهوم والبدايات والدوافع
أولا: المفهوم:
يفهم بعض الباحثين الاستشراق على أنه: “تكريس الغربي نفسه لدراسة الشرق”([1])، فكل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه أو بحثه.. في جوانبه المحددة والعامة على حد سواء، هو مستشرق، وما يقوم بفعله هو استشراق([2]).
واشتقاق الكلمة أيضا يساعد على تكريس هذا الفهم فـ”كلمة (استشراق) مشتقة من كلمة: شرق، وهي تعني: مشرق الشمس”([3]).
وعلى هذا فإن اهتمام الاستشراق يشمل “تلك المنطقة الجغرافية الممتدة من حوض الدانوب بأوربا إلى بحر اليابان في أسيا كما يشمل منطقة كبيرة من قارة أفريقيا. ومن هنا نفهم النطاق الجغرافي الواسع الذي تتضمنه الدراسات الاستشراقية”([4]).
و”المختص بالفقه الإسلامي – تماما – كالمختص باللهجات الصينية أو الديانات الهندية هو مستشرق في عرف من يسمون أنفسهم مستشرقين”([5]).
“وقد كان المستشرقون بشكل عام حتى منتصف القرن الثامن عشر باحثين في التوراة، أو دارسين للغات السامية، أو مختصين بالإسلام، أو مختصين بالصين.. ومع منتصف القرن التاسع عشر كان الاستشراق قد أصبح مكتنـزا علميا من الاتساع بقدر ما يستطيع المرء أن يتخيل”([6]).
يمكن القول إذن أن الشرق- الذي هو موضوع الاستشراق- له دلالة جغرافية، وبالتالي فإن دائرة اهتمام المستشرق-وفقا لتلك الدلالة- لا تقتصر على التخصص في مجال الإسلاميات والدراسات العربية؛ بل هي تتسع لتشمل كافة التخصصات المتعلقة بالمفهوم الجغرافي للشرق كله.
لكن ينبغي أن نشير إلى أنه على الرغم مما تقدم؛ فإن مصطلح الاستشراق أصبح له عند الإطلاق مفهوم معين ينصرف إليه الذهن. ويمكن من ثم أن أعرفه بأنه:
الحركة الفكرية التي يتوجّه فيها عدد من الباحثين الغربيين إلى دراسة الإسلام، دراسة تفصيلية، بحيث تدرس اللغة العربية وآدابها، وعقائد الإسلام وشرائعه وعباداته ومعاملاته وتاريخ حضارته وتاريخ سائر الشعوب التي انتشر فيها.
ويغلب على كل مسلم وعربي أن ينصرف ذهنه إلى هذا المعنى الأخير عند سماعه لكلمة (استشراق)، بحيث تقتصر دلالتها عند الإطلاق على علم الإسلاميات الغربي فقط.
***
ثانيا: بداية الاستشراق([7]) بين المحتوى والمصطلح:
1- يحدد كثير من الباحثين– منهم المستشرق الألماني رودي بارت Rodi Paret– وقتا معينا، يقولون: إن الدراسات العربية والإسلامية بدأت فيه في أوربا. يقول بارت:
“إن بداية الدراسات العربية والإسلامية ترجع إلى القرن الثاني عشر. ففي عام 1143 تمت ترجمة القرآن لأول مرة إلى اللغة اللاتينية بتوجيه من الأب “بيتروس فينيرابيليس” (بطرس المبجل 1092 – 1156) رئيس دير كلوني Cluny ([8]). وكان ذلك على أرض إسبانية. وعلى الأرض الإسبانية، وفي القرن الثاني عشر أيضا، نشأ أول قاموس لاتيني عربي. وفي القرنين الثالث عشر والرابع عشر بذل ريموندوس لالوس (1232-1316)([9]) المولود في جزيرة مايوركا الإسبانية جهودا كبيرة لتدريس اللغة العربية التي تعلنها على يد عبد عربي”([10]).
كما أن الرهبان الفرنسيسكان أنشئوا دير عكا، وعلموا فيه العربية سنة1221م، وقرر مجمع طليطلة 1250 الإنفاق على بعض الرهبان الذين عكفوا على دراسة العربية، وكلف مجمع بلينسية في إسبانيا بعض الرهبان بتأسيس مدرسة للعربية في كاتالونيا الإسبانية 1261 ([11])
ويرى آخرون أن الدراسة المنتظمة بدأت عقب صدور قرار فيينا من المجمع الكنسي عام1311- 1312 بإنشاء كراسي لتدريس اللغات العربية واليونانية والعبرية والسريانية في جامعات روما وباريس وأكسفورد وبولونيا وتولوز ومونبيلييه وفلورنسا وصلمنكه وغيرها”([12]).
2 – وفي رأيي أننا إذا أردنا أن نحدد بداية زمنية للحركة الفكرية الاستشراقية المتجهة لدراسة الإسلام وحضارته؛ وجدنا أنه من الصعب أن نقدم سنة معينة يجزم الباحث أنها شهدت تلك البداية؛ وذلك لأن الاستشراق ليس قرارا لحظيا يتخذه القائمون به فينشأ لديهم من فورهم اهتمام بالشرق أو بالإسلام؛ وإنما هو كغيره من أنشطة الفكر الإنساني يستغرق وقتا طويلا حتى تتضح أوجه الحاجة إليه.
كما أن الاستشراق كمعظم العلوم، تبدو في البداية معالمها، وتتشكل موضوعاتها وقواعدها، ويتآلف الباحثون معها، ثم تظهر التسمية فيما بعد.
إننا إذا استعرضنا نشأة سائر العلوم فلن نجد أنها تكونت فجأة أو بقرار؛ إذ لن يستيقظ الوعي الجمعي لأي أمة فجأة على حاجتها لعلم من العلوم. بل يتشكل ذلك الوعي عبر سنوات تطول أو تقصر حسب الحاجات العملية في واقع الناس لهذا العلم. وفي أثناء تلك السنوات لا يستبعد إطلاقا صدور دراسات هنا أو هناك في هذا العلم قبل أن ينشأ بشكل رسمي.
وإذا كان هذا ينطبق على العلوم المحايدة التي لن تضطر معها الأمة إلى الاتصال الفكري المباشر بالآخر القوي؛ فإن الأمر يختلف بالنسبة للاستشراق؛ فإن الزمن الذي نتوقع أن يستغرقه تشكُّله لن يكون سنوات بل ربما عقودا كثيرة.
ولقد حصل هذا للاستشراق والدليل على ذلك المدة من: 1143 (حيث أول ترجمة للقرآن في أوروبا)، إلى عام1311- 1312 ( حيث قرار مجمع “فيينا” الكنسي ببداية الدراسات العربية المنظمة).
ولذا فإني أرى أن الحديث عن تحديد زمن معين سيبقى منصرفا فقط للدراسات المنظمة أو الرسمية، أما الدراسات الحرة الناشئة عن رغبة واهتمام شخصيين فلا يستطيع أحد أن يدعي أنها تأخرت لهذا التاريخ.
3- وفيما يتعلق بظهور مصطلح الاستشراق؛ فإنه لم يظهر لأول مرة سوى في القرن الثامن عشر؛ يقول أليكسي جورافسكي([13]):
“من اللافت للانتباه أن مفهوم الاستشراق، أي: العالم، أو الدارس للشرق أو لغاته أو فنونه أو حضارته.. ظهر في اللغة الإنجليزية في سنة 1779 وفي الفرنسية ظهر هذا المصطلح في سنة 1799. أما الأكاديمية الفرنسية فلم تعتمد في قاموسها كلمة (استشراق)Orientalism إلا في عام 1838”.
ثالثًا: الدوافع ووسائط التعرف
أولا: ما الذي دفع الغرب قديما لدراسة الإسلام؟
إنه مما لا شك فيه أن الإسلام -منذ البداية- شكّل للغرب نوعا من التحدي على المستويين الفكري والعملي. ولقد أصبحت تفاصيل هذا التحدي معروفة إلى حد كبير؛ لكنا سنعرض لها بشكل موجز:
إن التحدي الذي مثله الإسلام للغرب منذ تأسيس أول دولة إسلامية بقيادة النبي محمد e (1هـ / 622 م) إلى سقوط الخلافة العباسية (750هـ/ 1258 م) تمثل في:
1ـ انتصارات المسلمين الكبيرة التي حققوها وسيطروا خلالها على بلدان كان كثير منها خاضعا للدولة البيزنطية. هذه البلدان منها: ما تم فتحه في عصر الخلافة الراشدة (11-40 هـ 632-661م)، وهي: العراق، وفارس: (إيران وأذربيجان) والشام (سوريا والأردن وفلسطين ولبنان) ومصر وليبيا.
وما تم فتحه في العصرين الأموي والعباسي (41-656هـ 661- 1258م)، وهي: المغرب العربي (المغرب والجزائر وموريتانيا وتونس)، والأندلس: (معظم أسبانيا والبرتغال)، وأقاليم أسيا الوسطى: (أفغانستان و باكستان وكشمير وطشقتد وكاشغر وفرغانة وخوارزم والبنجاب وسمرقند)([14]).
وقد طرح كل هذا المسلمين كقوة عسكرية وحضارية كبيرة. يقول المستشرق مونتوجومري وات:
“أما عن العرب فكانوا يمثلون إمبراطورية باتت خلال القرن أو القرنيين التاليين صاحبة أعظم حضارة في تلك المنطقة الشاسعة من المحيط الأطلسي إلى أفغانستان. وإننا لنجد شيئا لا يكاد العقل يصدقه، وبالتالي فهو أمر يخلب اللب حين نقرأ عن كيف تحولت الحضارات القديمة في الشرق الأوسط إلى حضارة إسلامية”([15]).
ويقول المستشرق الألماني يوهان فوك: “عاش المسلمون حالة حرب مع عالم لا يدين بدينهم، ولا يعترف بسلطانهم. ولقد شعرت الكنيسة المسيحية بالتهديد الشديد نتيجة لحركة انتصارات الخصم (المسلمين) غير المسبوقة؛ فلقد فقدت بيزنطة في القرن التاسع على يد العرب مستعمراتها في آسيا وشمال إفريقيا ما عدا آسيا الصغرى. ثم اضطرت في القرن التاسع. . للتخلي عن أسيا الصغرى للسلاجقة. وبسقوط صقلية فقدت السيطرة على البحر المتوسط.. وفي الغرب فتح العرب والبربر معظم أسبانيا ولم يبق منها سوى شمالها الغربي الذي منه شنت فيما بعد حروب الاستعادة”([16] ).
2_ عدم اقتصار النفوذ الإسلامي في البلاد المفتوحة على مجرد السيطرة على الأرض بالفتح العسكري؛ بل إن تلك البلاد شهدت -ولأول مرة في التاريخ- تحولا (تدريجيا هادئا اختياريا) لمعظم مواطني تلك البلاد إلى الإسلام، بدلا من الديانات المحلية التي كانوا يعتنقونها. كما شهدت ولأول مرة كذلك تحولا اختياريا إلى اللغة العربية لتصير هي لغة الثقافة والفكر والحضارة مما دعم الوجود الإسلامي فيها وجعله في الغالب وجودا متجذرا عميقا غير سطحي.
يقول المستشرق مونتجومري وات: “بفتح العرب للعراق والشام ومصر ضموا إلى دولتهم العديد من المراكز الثقافية العظيمة في الشرق الأوسط، وقد اعتنق الإسلام الكثيرون من حملة شعلات الحضارة السالفة .. فإذا بكل ما رُئي أنه ذو قيمة، وينبغي بالتالي الحفاظ عليه من بين تجارب تلك الآلاف من السنين؛ قد أضحى الآن يعبر عنه بلسان عربي. ونحن نعلم أنه حين ضم الرومان أراضي اليونانيين إلى إمبراطوريتهم كانت النتيجة- كما عبر عنها أحد شعراء اللاتينية- أن أوقعت اليونان الأسيرة فاتحها القوي في أسرها .. فقد ظلت اللغة اليونانية بوجه عام لغة الثقافة والعلم. غير أن الفتوحات العربية لم تؤد إلى وقوع العرب في الأسر على ذلك النحو. [يل] بالعكس. لقد فرضوا لغتهم، وبعض نواحي تفكيرهم، على معظم شعوب دولتهم، وذلك بالرغم من أن الكثيرين من أفراد هذه الشعوب كانوا على مستوى حضاري وثقافي أعلى من مستوى الفاتحين”.([17])
3ـ بروز إشعاع الإسلام كقوة دينية فكرية ثقافية كبيرة (إلى جانب قوته العسكرية) لدرجة بات معها مطروحا بقوة كبديل حضاري وثقافي – وربما ديني – لدى كثير من رعايا الممالك والإمارات الغربية حتى تلك التي لم يفتحها المسلمون.
وقد بلـغ تأثيـر الثقافة العربية على الوعي الأوربي أن ” “ألفارو” (أسقف قرطبة في عام 854) اشتكي من كون المسيحيين الشباب يأخذون من الآداب العربية أكثر مما يأخذون من اللاتينية، ويقرؤون الأشعار والحكايات العربية ويدرسون مؤلفات الفلاسفة واللاهوتيين العرب، بينما يتجاهلون تماما التعليقات والشروحات اللاتينية على الكتاب المقدس”( [18] ).
إن “ألفارو” يقول:
“يطرب إخواني المسيحيون لأشعار العرب وقصصهم؛ فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين؛ لا لتفنيدها بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق. فأين تجد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ واأسفا!.
إن شباب المسيحيين_ الذين هم أبرز الناس مواهب_ ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية؛ فهم يقرؤون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب، وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية_ إذا ذُكرت المسيحية_ بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم. فوَاحَرَّ قلبي! لقد نسى المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد واحد منهم قادر على إنشاء رسالة لصديق بلاتينية مستقيمة، ولكن إذا استدعى الأمر كتابة العربية؛ فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة؛ بل لقد يقرضون من الشعر [العربي] ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم” ( [19] ) .
ولقد تفاوتت استجابة الغرب لهذا التحدي من وقت لآخر؛ فلقد أخذت شكل الصراع العسكري حينا، والمناوشات الفكرية حينا آخر.
تمثل الصراع العسكري في الحروب الصليبية وتمثلت المناوشات الفكرية في الاستشراق والجدل الديني.
***
ثانيا: وسائط التعرف الغربي المبكر على الإسلام:
نستطيع أن نجْمل هذه الوسائط في أربعة أمور هي: دور مسيحيي الشرق، ودور البيزنطيين، والتواجد المشترك في الأندلس، ثم الحروب الصليبية.
1 – دور المسيحيين الشرقيين:
لقد كان للسريان (وهم جزء من المسيحيين الشرقيين) دور في تحقيق ذلك الاتصال. يذكر الدكتور محمود حميد الله أن في مكتبة “مانشيستر” مخطوطا فيه ترجمة لبعض الآيات إلى اللغة السريانية في زمن معاصر للحجاج بن يوسف الثقفي، وأن في متحف لندن مجموعة من المخطوطات باللغة السريانية تعود إلى عهد خلافة هشام بن عبد الملك، وفيها بعض آيات القرآن الكريم مترجمة إلى هذه اللغة”([20]).
كما كان للمسيحيين الشرقيين دور في توجيه الاستشراق منذ البداية وجهته؛ حيث شاركوا في بعض المساجلات الفكرية.
فلقد ” وصف د. هـ. ج. دورمان H. G. Dorman أول جدل بين المسلمين والمسيحيين (وهو جدل البطريق اليعقوبي يوحنا وعمرو بن العاص فاتح شمال سوريا ومصر). واستطرد فذكر أن يوحنا الدمشقي (676- 749) تمكن وهو يعيش بين المسلمين في العاصمة السياسية للدولة الفتية القوية أن ينشر مواعظ على هيئة أسئلة وأجوبة تساعد المسيحي أن يرد على العربي المسلم في جداله حول الدين([21]).
وحدث في مجلس المأمون ببغداد سنة 861 أن جلس عبد المسيح بن إسحاق الكندي يجادل عبد الله بن إسماعيل الهاشمي، وأخذ كل منهما يدافع عن دينه”([22]).
ولقد ذكر الدكتور قاسم السامرائي أنه نُسب إلى عبد المسيح بن إسحاق الكندي المذكور رسالة قيل إنه كتبها سنة 215 للهجرة تقريبا تحتوي على رسالةٍِ من أحد المسلمين هو عبد الله بن إسماعيل الهاشمي إليه يدعوه فيها إلى الإسلام، وجوابٍ من عبد المسيح إليه يرد عليها ويدعوه إلى المسيحية.
كما ذكر أن بطرس المحترم أمر بترجمة هذه الرسالة إلى اللاتينية حتى يتعلم منها الرهبان أساليب الجدل مع المسلمين. وأن هذه الرسالة قد أمدت كتاب القرون الوسطى بمعلومات مغلوطة عن الإسلام، ونشرت فيما بعد مرتين في لندن 1880 و 1885([23]).
بات معلوما إذن أن المسيحيين الشرقيين لعبوا دورا كبيرا ومهما في إمداد الغربيين بجزء من معارفهم عن الإسلام. وقد نجحت أفكارهم في أن تبني_ على نحو ما_ شكلا من أشكال المعرفة بالإسلام لدى البيزنطيين الغربيين؛ يقول أليكسي جورافسكي([24]): ” إذا كنا نتفق على واقع أن التصورات الأوربية عن الإسلام تشكلت ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر للميلاد؛ فإننا يجب أن نشير إلى حقيقة أن هذه التصورات تكونت في كثير من جوانبها وخطوطها الكبرى على خلفية التفسير المسيحي الشرقي للعقيدة الإسلامية. وتعد المؤلفات التي وضعها يوحنا الدمشقي من أبكر الدراسات المسيحية الشرقية عن الإسلام”.
ويؤكد أيضا أن “التصورات المتكونة عن الإسلام كبدعة مسيحية مرتدة، منشقة، وعن محمد كنبي مزيف، انتقلت من مسيحيي سوريا إلى البيزنطيين ومنهم إلى الأوربيين”([25]).
2 – البيزنطيون يحملون الراية:
لقد تولى البيزنطيون كِبرَ الجدل الديني مع الإسلام مبتدئين من حيث انتهى المسيحيون الشرقيون، وبخاصة السوريون. ولم يتوقفوا عند ما ورثوه؛ بل زادت نبرة التهجم على الإسلام والنبي والقرآن.
ولكي ندرك مدى الجناية التي جناها الكتاب البيزنطيون على التاريخ والحقيقة، يجب أن نشير إلى أنه بات من حكم المؤكد أنهم كانوا أداة التشويه الرئيسية التي تعرف الغربيون لأجيال طويلة على الإسلام من خلالها. واستشهد هنا بباحثين أوروبيين:
يرى جوستاف بفانموللرGustaf Pfannmüller أن تَعَرُّف الأوربيين الأَوَّل على الإسلام كان عبر وساطة البيزنطيين خاصة “ثيوفانس” Theophanes. وهي كما يقول “وساطة لا يوثق بها إلا قليلا. وإلى هذا الأخير ترجع غالبية الأساطير التي قيلت عن محمد في العصور الوسطى”([26]).
ولقد ألَّف “ثيوفانس” كتابا سماه: (حياة النبي) قال عنه ج. فون جروينباوم: “إنه صار مرجعا هاما لمن أتى بعده من الكتاب، وكان مما ادعاه فيه أن النبي أصيب بمرض عصبي”([27]).
كما ذكر ج. فون جروينباوم أن من هؤلاء البيزنطيين: يوليوس القرطبي Eulogius of Cordova (ت 859)، وقال عنه: “إنه يورد عن الرسول معلومات خالية من الضبط والدقة وأكاذيب وتخرصات عجيبة. وقد اعترف هو نفسه أنه لم يبذل أي محاولة للتحقق من معلوماته حول النبي.
ومنهم كذلك جيوبرت النوجنتي Guibert von Nogent (ت 1124) الذي رغم أنه يعترف بعدم كفاية مصادره؛ إلا أنه يمعن في نقل الأباطيل وإذاعتها بين أبناء دينه”([28]).
3 – الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس وصقلية:
لقد استقرت الثقافة الإسلامية لقرون عديدة في طرف أوروبا الغربي: الأندلس (92هـ/711م) إلى (897/1492).
كما عاش المسلمون في جزيرة صقلية بالبحر الأبيض المتوسط قرنين (من 878م-1091). وتغلغلت جذور الحضارة الإسلامية في تلك الجزيرة([29]).
وبهذا تَمَكَّنَ من يريد من الغربيين_ وبخاصة الزعماء السياسيون والقادة الدينيون_ أن يتعرفوا عن قرب على ثقافة المسلمين. كما شهدت الحركة الثقافية الغربية تأثيرا إسلاميا وعربيا واسع المدى شمل كافة التخصصات.
ومن مظاهر هذا التأثير:
في أسبانيا والبرتغال أن “الفونسو” العاشر(1252-1284) الملقب بالحكيم ملك “قشتالة” و”ليون” بإسبانيا في القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري) كان من أكبر دعاة الثقافة الإسلامية في أسبانيا النصرانية، وأسس معهدا للدراسات العليا، وجعل على رأسه مسلما هو أبو بكر الرقوطي. وكان “بدرو” الأول ملك “أراجون” بأسبانيا لا يحسن القراءة إلا بالعربية. كما بلغ تأثير اللغة العربية أن أحد الرهبان جمع الألفاظ البرتغالية المشتقة من اللغة العربية في معجم من 160 صفحة. وألّف آخر معجما عن أسماء الأماكن المشتقة من العربية فبلغ 441 صفحة([30]).
ولكي نبين عمق تغلغل تلك الثقافة، أشير هنا إلى نص القس “ألفارو” الذي سبق ذكره([31]) حيث بيّن فيه القس الإسباني المذكور مدى انتشار الثقافة العربية (من شعر وفقه وفلسفة وسائر ما كتب بالعربية) في الأوساط المسيحية الإسبانية، وإتقان الكتابة باللغة العربية، وقرض الشعر العربي، والوصول فيه لدرجة الإجادة. كل ذلك جاء مقرونا بازدراء المؤلفات المسيحية.
وفي صقلية، ظلت الثقافة العربية مزدهرة حتى بعد أن أجلى “النورمان” العرب عنها، حتى إن “روجه” الأول عندما حكمها (1060-1091) وضع على النقود عبارة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وسار على دربه ابنه “روجه” الثاني الذي ارتدى ملابس الشيوخ المسلمين، وكتب على حلة التتويج عبارة بالخط الكوفي والتاريخ الهجري (528هـ أي 1134م)، لدرجة أن خصومه وصفوه بالملك الوثني!. . وقال ابن جبير عن “غليوم” الثاني الملقب بالصالح ملك صقلية (1166-1189): “وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين، وهو كثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله … ومن عجيب شأنه المتحدَّث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وشعاره على ما أعلمنا به أحد المختصين به: الحمد لله حق حمده”. كما كان عصر الإمبراطور (فريدريك الثاني) في صقلية في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) قمة التأثير العربي الإسلامي فيها؛ حيث جعل العربية لغة الثقافة، وأسس جامعة “نابولي” سنة 1224 م لنقل الفكر العربي إلى العالم الغربي. ويقول المستشرق راينهارت دوزي: إن ملوك صقلية كانوا عربا في ثقافتهم وأساليب حياتهم([32]).
ومما يشير إلى التأثير الثقافي العربي والإسلامي على الفكر الأوروبي بشكل عام أن قصة المعراج في التراث الإسلامي أثرت على الكوميديا الإلهية عند دانتي([33])، وأن الشعر العربي أثر على ما يسمى شعر (التروبادور)([34]) الفرنسي، وكذلك على الشعر الإسباني، وأن مقامات([35]) القاسم بن علي الحريري، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، عرفت في أسبانيا وترجمت إلى عدة لغات([36])، وكان لهذا الجنس الأدبي العربي تأثيره الواضح على قصص الصعاليك التي انتشرت في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر([37]).
ومن الكتب التي رصدت أثر الثقافة الإسلامية على الغرب: الإسلام والكوميديا الإلهية لمؤلفه المستشرق الإسباني: “ميجويل آسين بلاثيوس”، وتراث الإسلام للمستشرق “ألفريد جيوم” وآخرين، وتراث الإسلام أيضا “تصنيف شاخت” و”بوزورث”، وفضل الإسلام على الحضارة الغربية للمستشرق “مونتجمري وات”. وشمس العرب تسطع على الغرب للمستشرقة الألمانية “زيجريد هونكه”.
4 – الحروب الصليبية:
لقد شكلت الحروب الصليبية حلقة اتصال إضافية بشكل غير مقصود. فقد كان الغزاة الصليبيون ينهبون معهم بعد كل حملة صليبية كل ما تقع عليه أيديهم بما فيه الكتب العربية والإسلامية([38]). وعند عودة هؤلاء الهمج إلى بلادهم عرفت الكتب التي حملوها طريقها إلى بعض الغربيين الذين درسوها، ووقفوا من خلالها على جوانب لم يكونوا يعرفونها عن الإسلام وحضارة المسلمين، إلى جانب ما كان لديهم من اطلاع مكنهم منه التجاور في الأندلس وصقلية.
([1]) كمال أبو ديب في تقديمه لكتاب الاستشراق لإدوارد سعيد5.
([2]) إدوارد سعيد: الاستشراق38.
([3]) راجع رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ترجمة د. مصطفى ماهر11.
([4]) ساسي سالم الحاج الظاهرة الاستشراقية ج2 ص294.
([5]) إدوارد سعيد: الاستشراق 80.
([6]) إدوارد سعيد: الاستشراق81.
([7]) حديثنا إذن عن علم الإسلاميات الغربي وليس عن مطلق اهتمام بالشرق.
([8]) قال بعض الباحثين: إنه أسس سنة 910 في فرنسا، وإنه من أشهر الأديرة في التاريخ الأوربي الوسيط ولعب دورا كبيرا في التحريض على الحروب الصليبية، راجع تراث الإسلام ج1 ص 37 تعليق المترجمين إشارة: (*). والاختلاف في تحديد الدولة راجع – كما أرى- إلى أن الحدود بين دول أوربا لم تكن بهذا الوضع الحاسم الذي هي عليه اليوم.
([9]) الذي دعا -كما يقول إدوارد سعيد- إلى “تعلم العربية بوصفه أفضل الوسائل لارتداد العرب إلى المسيحية” الاستشراق هامش18 ص328. وراجع: عمر لطفي العالم: المستشرقون و القرآن19.
([10] ) الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة د. مصطفى ماهر9.
[11] راجع نجيب العقيقي: المستشرقون ج1 ص 91.
([12]) راجع: نجيب العقيقي: المستشرقون ج1 ص 105، 106 وشفيق البقاعي: جريدة الحياة 30/1/93.
([13]) الإسلام والمسيحية ترجمة د. خلف محمد الجراد، مرجع سابق ص103-104.
[14] راجع خريطة انتشار دولة الإسلام هدية مجلة العربي يناير 2005.
[15] مونتجومري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية ترجمة حسين أحمد أمين 19.
Johan Fück: Die arabischen Studien in Europa, s. 3.
[17] مونتجومري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية ترجمة حسين أحمد أمين 20
([18]) أ. يو. كراتشكوفسكي: الثقافة الغربية في إسبانيا موسكو ليننجراد 1937 ص11–12. بالروسية نقلا عن أليكسي جورافسكي: الإسلام والمسيحية45 .
([19]) ج. فون جروينباوم: حضارة الإسلام: ترجمة عبد العزيز جاويد 81–82.
([20]) راجع: رابح لطفي جمعة، مقال بمجلة الدارة، عدد 3، سنة 13، ربيع الثاني 1408 نوفمبر 1987.
([21]) من خلال كتابيه: (محاورة مع مسلم) و(إرشادات النصارى في جدل المسلمين). راجع د. محمود حمدي زقزوق: في مواجهة الاستشراق، بحث بمجلة المسلم المعاصر العددان: 65–66 ص17.
([22]) راجع: أودين كالفبرلي: الدين الإسلامي؛ بحث ضمن: الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته، تحرير: ت. كويلرينج، ص143 .
([23]) الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية 57 – 58 . وبعض ما ذكره هنا ينقله عن مذكرات الأستاذ محمد كرد علي2/279 .
([24]) الإسلام والمسيحية ترجمة د. خلف محمد الجراد، مرجع سابق، ص 70.
([26])موجز في أدب علوم الإسلام Handbuch der Islamliteratur، نقلا عن أد. محمود حمدي زقزوق: الإسلام في تصورات الغرب 118 .
([27]) حضارة الإسلام ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد 66–67 .
[29] فتح الأغالبة المسلمون بالرمو عام 831 م ومسينا عام 843 وسرقوسة عام 878 ودخلوا نابولي بإيطاليا عام 837 راجع: مونتجمري وات:فضل الإسلام على الحضارة الغربية12.
([30]) راجع: نجيب العقيقي المستشرقون ج1 ص91-98، ومونتوجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية86.
([32])راجع: نجيب العقيقي المستشرقون ج1 ص 98-103..
[33] أثبت ذلك المستشرقون: الأسباني”آسين بلاثيوس” والإيطاليان: “مونيوث سندينو” و”أنريكوتيروللي” راجع: نجيب العقيقي: المستشرقون ج1 ص103.
([34]) لون من ألوان الشعر الفرنسي شاع في أواخر القرن التاسع الميلادي، واستمر يثري الشعر الأوربي-حتى القرن الرابع عشر الميلادي- بشعر لم يكن معروفاً في أوروبا قبل ذلك، وهو شعر الغزل والحب بشكل راق بعيد عن الابتذال. راجع حنان عثمان : أشجار الأدب الغربية.. شرقية البذرة مقال منشور بموقع (إسلام أون لاين) بتاريخ: 2001/04/29.
[35] جنس أدبي انتشر في الأدب العربي في القرن الثالث عشر الميلادي، تحكى فيه حكاية فيها حوار شبه درامي ينتقد فيها بعض الأفراد أو المجتمع بشكل عام.
[36] حنان عثمان: أشجار الأدب الغربية.. شرقية البذرة. مقال منشور بموقع (إسلام أون لاين) بتاريخ: 2001/04/29.
([37] ) راجع آنخل جينثاليث بالنثيا: تاريخ الفكر الأندلسي ص 180، 592، والدكتور حكمة علي الأوسي: فصول في الأدب الأندلس ص 196 .
التنبيهات: الاستشراق بداية ومآلاً – الجزء الثاني – طواسين للتصوف والإسلاميات