الحلاج شهيد النغم

الحلاج شهيد النغم

إشراقات 2 :

  الحَّلاج…شهيدُ النَّغم

محمد التهامي الحراق

-1-

        فاضَ وجدُ الحلاَّجِ (تـ309هـ)، وغلبَ عليهِ وقتُه، فصدَعَ بشطحِه الشهيرِ: “أَنَا الحَقُّ”. وفيه باحَ بسرِّ “الأنانيةِ” المُستَمَدِّ من الآيةِ الكريمة:”إ نَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (سورة طه، الآية 13)، حيثُ الناطِقُ بـ”الأنانيةِ” في الآيةِ والشَّطْحِ معا هو الحق سبحانُه وتعالى لا غيرُه. ذاكَ قبسٌ من الفهمِ العرفاني للآيةِ المذكورةِ، والتي يصدر عنها أربابُ الشهود في مقام الجمع والمحو، أي حين يذوبُ وجودهم في وجود محبوبهم، ولا يبقى لهم رسمٌ ولا صفةٌ ولا حدود.  إنه القبس الذي تُشع منه أبيات عرفانيةٍ بليغة وقَّعها أبو الحسن الششتري حين تأمل بـ”عين قلبه” في الآية المذكورة، يقول:

             انْظُرْ إِلَى لَفْظِ “أَنَا” يَا مُغْرَماً فِيهِ   X    مِنْ حَيْثُ نَظْرَتُنَا لَعَلَّ تَدْرِيهِ

             خَلِّ ادِّخَارَكَ لاَ تَفْخَرْ بِعَارِيَّــةٍ   X    لاَ يَسْتَعِيرُ فَقِيرٌ مِنْ مَوَالِيـهِ

             جُسُومُ أَحْرُفِهِ لِلسِّرِّ حَامِلَـــةٌ   X    إِنْ شِئْتَ تَعْرِفُهُ جَرِّبْ مَعَانِيهِ

 

      جرَّبَ الحلَّاجُ معاني لفظِ “أنا” فنَطقَ بما نَطق، صدرَ في ذلك عن مقامِ الفناءِ والجمعِ حيثُ كانَ ممحواً في أحديةِ الذَّاتِ، لكنه ظلَّ مسلوباً بـ”شهودِ الأحدية”، ولم يَعبُره إلى “شهودِ الوحدة” في مقام البقاءِ وجمعِ الجمعِ؛ حيث الصحوُ وشهودُ الخلقِ في الحقِّ. “أنا” الحلاج حقيةٌ شهودية، لا هي “إبليسية صرف” (“أنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ”، الأعراف، الآية 12) ولا إبليسية فرعونية (“فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى“، النازعات، الآية 46)؛ إذ شتان بين من قال “أنا” بربه ومن قالها بنفسه. ومع ذلك فالأمر يتعلق بـ”دعوى”؛ أي بحقيقة ذوقية فاضت عن المحب. هو كلام “شطح” من سر الواجد مثلما يشطح الماء ويفيض عن مجراه أو آنيته؛ حيث استلبَ الحلاجَ الدهشُ فأفناه عن وجوده و غيبه في البهاء عن البقاء. يقول عبد القادر الجيلاني: “… وقف (أي الحلاج) في مقام الدهشة على أقدام الحيرة، فلما أخرسَه الغِناءُ أنطقهُ السكر، فقال: أنا الحقّ، فأجابه حاجبُ الهيبة: اليوم قطع وقتل، وغدا قربٌ ووصل.. فقال بلسان حاله: “فما غلتْ نظرةٌ منكم بِسَفْكِ دمي”. (“ديوان عبد القادر الجيلاني“، دراسة وتحقيق يوسف زيدان، (المقالات الرمزية)، دار الجيل، بيروت، 1998، ص. 272).

 

 

 

-2-

        تيَّه البهاء الحلاج في منازه الفناء، ففاض منه الوجد بالسر الحقي، ولم يبق فيه بقية خلقية تشعره بالأعيان ولوازم الوجود الحسي؛ إذ ذاك تدخل حاجب الهيبة ليحفظ للسر خصيصة الكتمان، وما كان الحلاج الذي طلب “الوصول” إلا أن يُحبس على بساط الامتحان حدَّ إشارة الجيلاني. لذا، لما استُرجِع الحلاجُ في مقالِهِ لم يتَولّ ولم يُثبتِ الجَمعَ في عينِ الفرقِ كما هو حال أهل البقاءِ، بل أصرَّ على التصريح بـ”الأنانية” في الصحوِ. وهو غيرُ جائزٍ كما هو في عُرْفِ القومِ، يقول الشيخُ الأكبرُ محيي الدين ابن العربي في سياق حديثه عن شرفِ الكناية عن الحق سبحانه بـ”الهو” الوارد في قوله سبحانه “قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ” (سورة الإخلاص، آية 1):  “وأشرفهم من كان هجيره الهو، فإن بعضَ الناسِ، ممن لم يعرفْ شرفَ الهُو ولا الفرقَ بين ذاتِ الصورِ والتحول والذاتِ المطلقة، جعل الأنا أشرفَ الكنايات من أجل الاتحاد. وما عرف أن الاتحاد محالٌ أصلا، وأن المعنى الحاصلَ عندك من الذي تُريد الاتحاد به هو الذي يقول أنا، فليس باتحاد إذن، فإنه الناطقُ منكَ لا أنت. فإذا قلتَ أنا فأنتَ لا هو، فإنك لا تخلو أن تقول أنا بأنانيتك أو بأنانيته. فإن قلتَها بأنانيتك فأنتَ لا هو، وإن قلتَ بأنانيتِهِ فما قلتَ فهو القائل أنا بأنانيته. فلا اتحادَ البتة من طريق المعنى ولا من طريق الصورة. فالقائلُ من العلماءِ أنا لا يخلو إما أن يعرف الهو أو لا يعرف، فإن عرف الهو فقولُه أنا على الصحو غير جائزٍ، وإن لم يعرف تعينَ عليه الطلبُ واستغفر من أنا استغفارَ المُذنبين، والهو أسلم بكل وجه» (“كتاب الياء” ضمن “رسائل ابن العربي“: 1/156).

-3-

     هجرَ الحلاجُ “الهو”، وأصر على التصريحِ بـ”الأنا”، فاعتُبرَ إصرارُهُ خرقا لحدود الشرع، وبوحا لا يُغتفرُ بالسرِّ المستلزِمِ للصونِ والكتمان، ثم كان ما كان من إفتاءِ الفقهاء وأكابرِ الصوفية بإباحة دمه وقتله. إنه الإصرارُ الذي خلَّدهُ القومُ في ذاكرةِ مواجيدهمْ، بل صارَ لحظةً لا تُضاهى في قافيةِ أذواقهم  الطافحةِ بإشارتٍ لا يفصِحُ بها حرفٌ و لا يحيطُ بها معنى.  يقولُ أبو الحسن الششتَري (تـ668هـ) في “نونيته”:

                   وَذَوَّقَ لِلْحَلاَّجِ طَعْــمَ اتِّحَـادِهِ         X        فَقَالَ أَنَا مَنْ لاَ يُحِيطُ بِـهِ مَعْنَى

                   فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ مَقَالِكَ قَالَ لاَ          X        شَرِبْتُ مُدَاماً كُلُّ مَنْ ذَاقَهَا غَنَّى

  لقد “سكر” الحلاجُ بـ”مُدامٍ” لم يقوَ على تملكِ زمامهِ حُيَالها؛ وكيف يقوى على الثبات أمام شرابٍ لو سُقي للجبالِ لاهتزت وتصدعت، بل لانطلقت في “الغناء” كما حصل له. نقرأ في أبيات تُحكى على لسانه:                                                        

                    سقونِي وقالوا لا تغنِّ ولو سقوْا        X        جبالَ حُنينٍ ما سقونِي لغنَّتِ

                   تمنَّتْ سُليمَى أن نموتَ بحبِّهَا          X        وأسهلُ شيءٍ عندنا مَا تمَنَّتِ

 

 على أن ثمة لطيفةً في أبياتِ الششتَري كما في تلك المنسوبةِ للحلاج، وهي الإشارةُ إلى الشطحِ، أي الكلامِ الصادر والفائض عن الحلاج عند غلبة الفناءِ وسكرِ الوجد عليه، بـ “الغناء”. يؤكد هذا قولُ الششتَريِّ أيضاً في إحدى موشحاتِه:

                    يَا لهُ منْ مدامْ         X        من سَكَرْ بهْ غَنَّى

                   شاربُوُه الكرامْ          X        ولَهُمْ فيهْ معنى

      إنها إشارةٌ يضيئها ببهاءٍ ما قالهُ عبد القادر الجيلاني عن “الحلاج”، نقرأ: “طلب (أي الحلاج) ما هو أعز من وجود النار في قعور البحار؛ تلفت بعين عقله، فما شاهد سوى الإرادة.. فكر فلم يجد في الدارين مطلوبا سوى محبوبه فطرَّب… فقال بلسان سكر قلبه: أنا الحق. ترنَّم بلحن غير معهود من البشر، صفَّر في روضة الوجود صفيراً لا يليق ببني آدم، لحَّن بصوته لحناً عرَّضه لحتفه…». (“ديوان عبد القادر الجيلاني“، ص.270-271).

 

-4-

 

هذه النغمةُ الخاصة التي يعزفهَا البوحُ بما لا تطيقُ اللغة قولَه و لا اللحظةُ حمْلَه، هي نغمةُ المجذوبين لا نغمة الكُمَّل من العارفين؛ نغمة أهل الفناء وشهود الأحدية لا نغمة أهل البقاء وشهود الوحدة؛ نغمةُ السماع المطلق بما هي ذوقٌ  مع بوحٍ بما لا ينقال، لا نغمةُ السماع المقيَّد بما هي تلطيف وترويح للحس كيما يذوقَ ثم يكتمَ ما لا ينقال. فالنغمة الأولى ذوقٌ و بوحٌ،  فيما الثانية ذوق وكتمان. على أن هذه الإشارةَ الغائرةَ و البعيدةَ التي ينضح بها رمز “النغمة” في كلام القوم، ظفِرَ بالتقاطها محمد إقبال في رسالة “الخلود”  لما قارن نيتشه بالحلاج، فكتب: “سألت الرومي: من هذا المجنون؟ فردَّ قائلا: إنه العبقري الألماني [يعني نيتشه] ومكانه وسط هذين العالمين. إن قيثارته تحتوي على نغمةٍ قديمة، إنه حلاج بلا مشنقة، أو حبل أعاد ترديد الكلمات القديمة نفسها ولكن بأسلوب جديد… واأسفاه على مجذوبٍ وُلِد في أوربا… كان نيتشه حلاجاً غريبا في دياره، أنقذ روحَه من ألمه ففتك به الطبيب”.  ثم يضيف إقبال على لسان الرومي: “لم يكن بين الفرنجة رجلٌ عارف بالطريق، فتجاوزت نغمةُ نيتشه طاقةَ الرباب“. رأى إقبال جنونَ نيتشه في مرآة سكرِ الحلاج،  فأظهرَ نيتشه حلاجا غربيا و أضمرَ بأن الحلاجَ نيتشه شرقي؛ مع أن نيتشه “قتلَ الإله” فيما الحلاجُ “قُتِلَ في الإله”؛ سفِكَ دمهُ لمّا فاض سرُّه بالسّرٍّ و لم يقْوَ على كتمِ “النشيدِ”؛ سُفِكَ دمُهُ لما انتشى بما عنهُ فاضَ فرفضَ الرجوعَ عن مقالهِ و ما تولى عن “الغناء”؛ سُفِكَ دمهُ  لما أصرَّ على “تكسيرِ الرّبابِ”، وأعلى من شأنِ حرفِ الرفضِ “لا”، وكأنه أُسِرَ بالشغف السارِي بين اللام والألف، ذاك الذي تَهيَّم به أحدُ العارفين فقال:

          أُنظرْ إلى حرفِ لا في أسطرِ الصُّحُفِ         X        إذا رأيتَ اعتناقَ اللامِ للألِفِ

         وما أظنُّــــــهُمَا طالَ اعتناقُهُمَا          X        إلا لِمَا لقيَا مِن شِدَّةِ الشَّغَفِ

 

-5-

 

       هذا “الأسر”  وذاك “الإصرار” هما اللذان أفضيا بصاحب “الطواسين” إلى المصيرِ المأساوي المعلوم؛ مصيرٌ سيصيرُ لدى القومِ رمزا لمآلِ البائحين بالسرِّ والمُفَرِّطِيَن في صونِ الإشارة عن غير أهلِهَا. يقولُ الششتَري أيضا في تخميسِه على أبياتٍ للشيخ الأكبر ناصحا أربابَ الأحوال بعدم الغيبة في الكون عن شهود أسرار الذات الإلهية، ومستحضِرا، مع محيي الدين بن العربي، محنةَ الحلاجِ حين لم يصن ما تبدى له من تلك الأسرار:

                        فَعِنْدَ شُهُودِكَ الأَسْرَارَ مِنْهَا         X         فَلاَ تَكُ غَائِباً فِي الكَوْنِ عَنْهَا

                        وَوَحِّدْ وَاتَّحِدْ كَيْ مَا تَكُنْهَا          X        “فَمَنْ فَهِمَ الإِشَـارَةَ فَلْيَصُنْهَـا

                                            وَإِلاَّ سَــوْفَ يُقْتَلُ بِالسِّنَـانِ”

                       فَمَنْ أَوْرَى زِنَادَ الحَقِّ رُدَّتْ         X        حَقِيقَتُـهُ وَعَنْـهُ البَابُ سُدَّتْ

                       وَكَعْبَتُهُ بِفَأْسِ الشَّرْعِ هُدَّتْ         X        “كَحَلاَّجِ المَحَبَّــةِ إِذْ تَبَـدَّتْ

                                            لَهُ شَمْسُ الحَقِيقَـةِ فِي التَّدَانِي”

                       فَلَمَّـا أَنْ دَنَا مِنْهَـا تَدَلَّـى         X        وَبِالاِسْمِ المُعَظَّمِ قَدْ تَحَلَّـــى

                        تَوَحَّدَ عِنْدَ ذَاكَ وَمَا تَـوَلَّى         X        “فَقَالَ أَنَا هُوَ الحَــقُّ الَّذِي لاَ

                                            يُغَيِّرُ ذَاتَهُ مَــرُّ الزَّمَــانِ

 

    لم يصُنِ الحلاجُ السرَّ، فـ “هُدَّت كعبتُهُ بفأسِ الشرع”ِ؛ أي هُدت باسم الشريعةِ كعبةُ الحقيقة المتجلية في الإنسان بما هو أعظمُ مجلى لها، ذاكَ الذي حُرْمَةُ دمهِ أعظم عند الحق من حرمة الكعبةِ كما أخبرنا المصطفى صلى الله عليه و سلم. إنه لومٌ خفيٌ للقاتل كما المقتولِ، لومٌ تقطنُ الإشارةُ إليهِ طيَّ عبارةٍ عابرةٍ. لومٌ لانتهاكِ حرمةِ الدمِ المقدسةِ، مثلما هو لومٌ للتصريحِ بما شأنهُ الكتمُ ؛ و في أضعفِ التمكينِ التلميحُ.  فقد شربَ الحلاجُ من “الشرابِ الصرف”  فباحَ، عن صحوٍ، بسر “شهود الأحدية”، و لم يعبُر إلى الجمع بين محو الباطن وصحوِ الظاهرِ في “شهود الوحدة”، و الذي يشير إليه القومُ بـ”الشرابِ الممزوج” .

 

-6-

 

   يستعمل الصوفيةُ في أشعارهِمْ الإشارية استعارة “الشراب” لما يخالجهم من معارف ذوقية ناجمة عن التحقق بأسرار حقيقة التوحيد، من هنا إشارتهمْ بـ “الشراب الصرف” إلى باطن التوحيد (لا إله إلا الله)، فيما يشيرون بـ”الشراب الممزوج” إلى الجمع و”المزج” بين باطن التوحيد(لا إله إلا الله)    وظاهره(محمد رسول الله). يقول الشيخ محمد الحراق في تائيته، مشيرا إلى هذا المعنى:

       أَبَاحَ لِيَ الخَمَّارُ مِنْهُ تَفَضُّـــلاً         X        جَنَاهَا فَصَارَ الشُّرْبُ دِينِي وَمِلَّتِي

       فَإِنْ شِئْتُهَا صِرْفاً شَرِبْتُ وَإِنْ أَشَا           X        مَزَجْتُ لأَِنَّ الكُلَّ فِي طَيِّ قَبْضَتِي

  «والمعنى- كما يشرحه المكي السودي- أن الخمار تفضل على الشيخ بالشرب وأباح له الجَنَا والمناولةَ إباحةَ تشريع وتحقيق مزجا وصرفا، فصار الشرب هجيراه وعادته ودينه وملته(…) فالشرب لها صرفا هو الفناء في الذات فلا يرى الأكوانَ وإنما يرى المكوِّن؛ لأن الأكوانَ ممحوةً بأحدية ذاته، والشربُ لها ممزوجةً هو الفناءُ في الصفات فيرى الأكوان بالمكوِّن؛ لأن الأكوانَ ثابتةٌ بإثباته»(“الفتوحات القدسية على شرح التائية“، مطبعة حجرية، ص.58-59). إنه تمييز إشاري نفيس بين الشرابِ الصرف والشرابِ الممزوج، و في ضوئه يمكننا فهمُ الحضور الرمزي لقصة الحلاج في ثنايا شعرِ  شهاب الدين يحيى السُّهروردِي (632هـ)،الذي سيلقى نفسَ المصير الحلاجي. يقولُ السُّهروردي ُ في حائيتهِ الشهيرة؛ مُقسِّما أهلَ الهوى إلى كاتمين وبائحين، وملمحا إلى مصيرِ الحَلَّاج:

                  أَهْلُ الهَوَى قِسْمَانِ قِسْـمٌ مِنْهُـمُ         X        كَتَمُــوا وَقِسْمٌ بِالمَحَبَّةِ بَاحُوا

                   فَالْبَائِحُونَ بِسِرِّهِمْ شَرِبُوا الهَوَى         X        صِرْفاً فَهَزَّهُمُ الْغَـرَامُ فَبَاحُـوا

                   وَالْكَاتِمُونَ لِسِرِّهِمْ شَرِبُوا الهَوَى         X        مَمْزُوجَةً فَحَمَتْهُـمُ الأَقْــدَاحُ

                   بِالسِّرِّ إِنْ بَاحُوا تُبَاحُ دِمَاؤُهُـمْ          X        وَكَذَا دِمَاءُ الْبَائِحِيــنَ تُبَـاحُ.

 

-7-

شربَ الحلاجُ من صرفِ المدامِ وثملَ بالسرِّ، فباحَ ورضي بأن يدفع ثمن الوصول، وأن يمنح روحَه قربانا للقرب، حفظا للبهاء بحجاب الهيبة، وضنا بالسر الحقي عن غير أهله، ممن لا حياة لهم بغير رسوم أو حدود. رأى لدمه من شرفة البهاء وجنة الوصال، فاستصغر الروح إزاء لذة المكاشفة، وبلسان حاله نطق:

هذا الحبيبُ الذي يرضيه سفكُ دمي   X          دمي حلالٌ له في الحلِّ والحرمِ

إن كانَ سفكُ دمي أقصى مرادِكُـم   X     فما غلت نظرةٌ منكمْ بِسفكِ دمي

وسار هذا المعنى الحلاجي الذي كتبه بدمه ساريا في أوصال قافية القوم؛ تُحرَّك به المواجيد، وتُقدَح به الأحوال، وتُستجلَب به الأذواق. صار كلامُه الفائضُ عن “طيش” عنوانَ “فرح” باطني من مقام إلى مقام؛ من الطيشِ إلى الفرح كان العبور. “الطيشُ” هنا هو فرح عار براني عنوانه البوح والانتشاء، فيما “الفرح” هو طيش ضامر باطنه محو وفناء وظاهره صحو وبقاء. يقول الشيخ محمد الحراق (تـ  1261هـ):

ما ضيّعَ الحَزمُ مَن أَضحى بِها ثَملاً       X       قَـد أَمـطَرَتهُ بِمـاءِ البَسـطِ أَنواءُ

أَضحوا نَشاوى وَما فَضّوا الخِتامَ لأَن     X        نَ حالَ أَهلِ النُهى في السُكرِ حَسناءُ

ما كَسَرَ الكَـأسَ مِنهُم شـارِبٌ أَبَداً      X   بَينَ النَدامى وَلا بِالطَيشِ قَد بـاؤوا

ثمِل اللاحقون بعين الشراب الذي أنطق الحلاج بـ”أنا الحق”، لكنهم ومع ما هم فيه نشوة وفرح “ما فضوا الختام”، بل لزموا أدب “أهل النهى”، فلم يكسروا كأس الشراب، ولم يخرقوا رسوم الشرع، ولا خانوا السر بالبوح، ولا مزقوا الكتمان بالانتشاء، ولا بالطيش قد باؤوا؛ وإن كانوا عذروا البائحين المنهزمين أمام سطوة أنوار التجلي وبهائه الذي لا يطاق. لقد لاذوا بالمجازِ ليقولوا ولا يقولوا، ليبوحوا ويكتموا في آن؛ بل صارت تجربةُ الحلاجِ مجازا وجديا طافحا بالإشارات والمذاقات، صاروا “يتغنون” بها ويذوقون من شراب المعنى الذي ذاق منه دون أن “يتغنوا بغنائه”، أي دون أن يقتدوا به في البوح العباريّ بالسر الذوقي بين غير أهله. فنغمتُهم مقيّدة فيما نغمتُه مطلقة. لقد باح الحلاج بسر من “سماعه المطلق”، وتعييناً بنغمةِ “الأنانية” الذي لا تُطيق اللغةُ البشرية الحسيةُ النسبية أن تعزفها، نسيّ المَجازَ ليحتفي به المجازُ، و لمَّا تعذرَ أن يكتبَ سِرَّهُ حبراً، كتبهُ بدمِهِ، فكُتِبَ في المجازِ شهيدَ النَّغم.

 

 

 

 

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد على هندة سلامة اغلق الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!