العدل والذكر: تعريف بروحانية الإمام علي
رضا شاه كاظمي
نشرة دار الساقي بيروت
مراجعة وعرض: مصطفى عبد الظّاهر
هناك ميزتان لهذا الكتاب ، تميّزه وتميز مؤلفه عن بقية الدراسات الإسلامية الرائجة في وقتنا هذا، الأولى: أنه مؤلًف يمكن قراءته باللغة العربية للتعرف على أفكار المدرسة التقليدية [1]THE PERENNIAL PHILOSOPHY التي أسسها الفيلسوف الفرنسي رينيه جينون René Guénon المعروف في العالم الإسلامي بالشيخ عبد الواحد يحيى[2]، وتابعه في تطوير أفكارها الفيلسوف الألماني فريتجوف شيون، والتي يعد مؤلف الكتاب من أعلامها المعاصرين، وهو تلميذ الفيلسوف الإيراني الكبير سيد حسين نصر .
وتعد المدرسة التقليدية مدرسة فلسفية دينية ميتافيزيقية ، تنبني مجمل أفكارها على تكاملية الحقيقة في بعدها الباطني بين الديانات المختلفة ، ودائماً ماتوصف كتاباتها بالصعوبة الشديدة بالنسبة للقاريء غير المتخصص ، ربما نتيجة لعدم اعتياده على قراءة النصوص الميتافيزيقية الدينية ، ولكن كتاب كاظمي ، يتخطى هذا الإشكال، فكتابه العدل والذكر عند الإمام علي ، يحلل قضاياه الرئيسية من خلال آراء المدرسة التقليدية ، ولكن بأسلوب أكثر بساطه ، وأكثر تصالحاً –إن جاز التعبير – مع الفلسفة الحديثة ، وأكثر تعلقاً بالحاجات الرئيسية المباشرة للإنسان المسلم ، خاصة المتعلقة بماجريات حياته اليومية ، والتي تربتط إرتباطاً كبيراً بالأخلاق وبالعبادة في كثير من تفاصيلها .
أما الميزة الثانية ، أنه في كتابته عن الإمام علي تجاوز ثنائية التسنن والتشيع ، إلى منهج علمي رصين في التعامل مع النصوص، والتي عالج فيها الكثير من نصوص المدرستين ، المتعلقة بموضوعه ، لا على نحو المقابلة ولكن بأسلوب فينومينولوجي ، أبرز به أفكار موضوعه الرئيسية دونما التعرض للمسائل الخلافية التي ما من ورائها طائل راهن، مثل العدالة والوصية وما إليه من المسائل التي امتلأت بها صفحات الكتب بغير نفع ، بل ولم يبقى منهى سوى الدوغمائية الطائفية ، والمذهبية العمياء التي تمزق حياة المسلمين إلى اليوم .
روح العقل
إن البداية التي يجب أن نبدأ منها لفهم القيم الاخلاقية بشكل عام ، كما يقترحها كاظمي في ثنايا كتابه ، وهي بداية في منتهى العمق بحق ، هي شرح طبيعة القوة العاقلة في الإنسان ، إنه يفرق كما فرقت الفلسفة الإسلامية من قبل ، بين نوعين أو مستويين للعقل : يسميها “العقل” وهي الترجمة العربية التي يقترحها للمفردة الإنجليزية “intellect” والنظر المرادفة ل “reason ” ، أو كما درجت الفلسفة الإسلامية على تسميته بالعقل الكلّي والجزئي .
من هنا ، أي من العقل الكلي ، يبدأ فهم الإنسان لما هو متجاوز عن إدراكه المباشر بالنظر ، والذي نحتاجه لفهم المعاني الميتافيزيقية والأنطولوجية الكبرى التي تلُف أكثر محاور الكتاب أهمية ، إذ النظرية التفسيرية هنا نظرية فوق-عقلية بالأساس ، لطبيعتها الخاصة واتصالها بالمطلق ، الذي هو أيضاُ وبشكل جدلي ، هو حقل عملها ، تأثيراً وتأثراً ، يقول : ” إن لا محدودية الله على وجه الدقة ، تتطلب نفي كل ما يستطيع الذهب إستيعابه من خلال النظر على المستوى الانساني ، ولكن ليس كل مايستطيع القلب مشاهدته “[3] .
إن القلب هنا هو المسئول الميتافيزيقي ، عن الربط بين التاريخي والمطلق ، الإنساني والإلهي ، إذ هو محل نظر الله كما تقول المصادر الإسلامية بغزارة ، والذي يعد في الآن نفسه “حجة الله الباطنة” كما أن الأنبياء حجة الله الظاهرة [4] ، وأنّه هو قائد القرآن القادر على تأويله ، كما ينقل عن الإمام علي ، هذا العضو من الوجود الإنساني ، هو محل “الفطرة ” أو الذاكرة الأزلية ، لعلاقة الإنسان بالله ، فالذكر في حالته والتي يسمى بالمصطلح الإسلامي “جلاء القلب ” هو تمرين لإعادة تذكيرة بما يعرفه هو بالفعل عن المطلق الذي هو الله [5] ، ويمثل بالنسبة له فعل الخير تماهٍ مع هذ الملطق ، لا ممارسة لخلق إنفعالي أو نفعي من أي نوع
مفهوم ميتافيزيقي للعدل
يحاجج كاظمي هنا التناول الحداثي وما بعد الحداثي للأخلاق في خلفية محاولته للإسهام في تقديم نظرية للأخلاق الإسلامية تعتمد على مفهوم التوحيد كأساس ميتافيزيقي ، إذ يعتبر أن الأخلاق بشكل جزئي في التناول الحديث قد آلت في النهاية إلى منطلقات شعوريّة نفعيّة تغطيها العبيثيّة والعدمية في أغلب أجزائها ، ويستشهد هنا بما قاله أليسدير ماك إنتاير ، وهو من اه من كتب في نظرية الأخلاق بشكل ما بعد حداثي ، حيث إعتبر أن : “النقاش حول الإخلاق لم يعد مؤسساً ” [6]
أي لم يعد مرتبطاً بأصل يمكن قياسه أو إختباره بعداً وقرباً ، في حين أن نظرية الأخلاق كما يراها عن الإمام علي وفي الروحانية الإسلامية بشكل عام ، مؤسس على قاعدة التوحيد الميتافيزيقية .
إن الإمام علي يكشف عن نظرية للعدل تتخطى كونها ممارسة أخلاقية ، إن العدل عند الإمام علي
هو ممارسة للمطلق ، من حيث هو “وضع الأمور مواضعها ” كما ينقل عنه كاظمي ، والذي لا يمكن فهمه إلا من خلال إستحضار معنى العقل السابق الإشارة إليه ، العقل الذي يتذكر ، ويعيد تأسيس واقعه بما يتوافق مع الحق المطلق ، إن الأمور هنا لا تؤسس من جديد ولكن تعاد إلى جادتها بشكل ما ، يكون فيه الظلم بمثابة نبتة عدمية ، إذ المطلق لا ضد له ، والعدل فرع عنه ، فيكون الظلم هنا حرب واضحة على الحقيقة نفسها ، يجب محاربتها من الإنسان من حيث هو مستخلف ظاهر بظهور الحقيقة ، وعدم بغيابها عنه .
الذكر والعبادة كتجاوز من الإنساني إلى الإلهي
يمكن فهم معنى الذكر في الإسلام من دلالة كلمة الذكر اللغوية والمعجمية ، فالذكر يعني التذكر والدعاء والتكرار والتلاوة والإنشاد والمدح والشهرة والبروز والرفعة [7] حتى إنه إسم من أسماء القرآن نفسه ، إن الذكر والعبادة “تقرّب” من المطلق نفسه أو من أسمائه ، حتى إن الصلاة تستمد اسمها من الصلة ، التي تعني التحقق بصفات الله على المستوى الوجودي ، ويستدل هنا دائماً غزلاً على منوال نظرية وحدة الوجود الصوفية بآيات مثل “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ” ، إن الإنسان عندما يمر بهذه المراحل في الترقي الوجودي ، يصبح هو صورة المطلق ، أو ظل الله في الأرض ، كما سمّاه خليفة ، ونفخ فيه من روحه .
وعبر مراحل عدة من الاستدلال ، يشرح الكتاب بدقة وإسهاب كيفية حدوث هذا التحقق ، ودلائله وما كوّن كل تلك الحمولة الرمزية في المصادر الإسلامية الأساسية ، وكما يقول الحديث القدسي الشهير ” فإن أحببته كنت عينه التي يبصر بها …” يشرح كاظمي : أن هذه المصادر هي المكون الرئيسي للميتافيزيقا الصوفية ، والتي فيها تجري عملية مماثلة الفرد عن طريق الذكر بالحقيقة الإلهية ، كأنها عملية خروج عن إنسانيته ، أو نسبيته وصعوده إلى المطلق التي تسمى “الفناء عن النفس” في التصوف ، والتي تعقبها درجة أخرى “البقاء” ، التي يُبقي فيها على إنسانيته بعد أن تماهت مع الحق والحقيقة ، فيصير عادلاً ذاكراً في كل حاله .
إن حقيقة الذكر عن الإمام علي كمثال أكمل لتقاليد الصوفية قولاً وفعلا[8] ، هي أن يصبح الغنسان شيئاً ، لا أن يقول شيئاً أو يعرف شيئاً بشكل نظري ، أن يصبح سواء تقرب لله أو لاسم الله كما ذُكر في الآيات ، أن يصبح “متوحداً”[9] كما يقول الإمام نفسه ، تفنى فيه بعد الذكر شعوره الوجداني بنفسه ، ويستبدل بوجود آخر مُشبّع بالحقيق المطلقة . إنها تُعلي فيه بحكم وجوده الإنساني الوجه المقابل لله ، بإزاء الوجه المقابل للدنيا
خاتمة
الحق إن القاريء يجد الكثير من الإفادة في هذا العمل المتقن الذي صدر في طبعته العربية عن دار الساقي بالإشتراك مع معهد الدارسات الإسماعيلية عام 2009 ، والذي تدور أفكاره حول المحورين السابق ذكرهما ، ولا يمكن للعرض أن يوفيه حقه لعمق نظرته وغزارة استدلاله، وأصالة معانيه .
[1] للاستزادة حول المدرسة التقليدية وأفكارها وأعلامها يمكن قراءة “The Underlying Religion ” تحرير مارتن لينجز، وهو باللغة الإنجليزية ، وللأسف لا توجد مصارد عربية تتحدث عن هذه المدرسة الفلسفية الدينية، وقد وعد بعض الباحثين من المغرب بترجمة كتاب عن التقليدية إلى اللغة العربية لكنه لم يظهر بعد.
[2] أول من عرّف القارئ العربي بالشيخ عبد الواحد يحيى، رغم أن الرجل عاش في مصر سنوات طويلة ودُفن بها، هو الإمام عبدالحليم محمود، في كتابه المدرسة الشاذلية، وقد ترجمت أعماله إلى لغات عديدة، لم تكن من بينها العربية إلا مؤخراً وعلى استحياء، حيث ترجم مجموعة من أعمال الشيخ عبد الباقي مفتاح ونشرت بالأردن ، منها رموز العلم المقدس، ونظرات في التربية الروحية، كتب عن جينون الأستاذ نجيب العقيقي في عمله الضخم “المستشرقين”، ومؤخرًا كتب عنه الأستاذ محمد أمير ناشر النعم في كتابه (من ينابيع الفكر الإسلامي المعاصر)، يراجع في ذلك من أجل المزيد عن المدرسة ومؤسسها، مقال الأستاذ خالد محمد عبده على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود الإلكتروني، بعنوان “من رموز العلم المقدس، رينيه جينون في المصادر العربية الحديثة ” بتاريخ 21-03-2014 .
[3] ص 58.
[4] ص 47.
[5] يذكر هنا في الكتاب وفي المصادر الصوفية دائماً كدليل ، آية الذر “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين”[الأعراف : 172].
[6] ص 94.
[7] شرح المؤلف المعنى اللغوي العربي والإنجليزي مقارناً، انظر ص 170.
[8] كما أقرّ بذلك الرومي وغالب الصوفيه من بعده ومن قبله .
[9] ص 207