الدّرسُ الصّوفي: الحاجة والحالة والأفق

الدّرسُ الصّوفي: الحاجة والحالة والأفق

 

الدرسُ الصوفي… الحاجةُ والحالةُ والأُفق                                          

محمد التهامي الحراق[*]

 

               ينشغل الدرس الصوفي، من حيث هو بحث ومدارسة، بالتجربة الصوفية في مختلف أبعادها الدينية والتاريخية والفكرية والإبداعية والاجتماعية والأنتروبولوجية والحضارية؛ ذلك أن التجربة الصوفية- من حيث هي مستوى روحي ذوقي من مستويات التدين ذي أفق لا متناه في استبطان التعالي وطلب المعرفة الوجدانية بالمطلق- ما تفتأ تحضرُ في الثقافة والمجتمع الإسلاميين حضوراً متعدد الأبعاد ومتنوع المناحي، يمتد من النظر في التصوف كعلم شرعي من العلوم الإسلامية الحادثة في الملة، إلى النظر في الصوفية كفرقة لها أفقها الرؤيوي للعقيدة ضمن الفرق الكلامية، فالنظر إلى اشتراك القوم في مختلف العلوم و الآداب و الفنون من منظورهم الذوقي العرفاني، إلى النظر في مؤسسات الزوايا والخانقاوات والتكايا بما هي أطر لمأسسة الممارسة الصوفية، وتفعيل لأبعادها التربوية والتعليمية والإيوائية والتكافلية والتأطيرية والإصلاحية والجهادية داخل المجتمع و بتحايث مع سيرورته التاريخية.

     على أن الممارسة الصوفية، من حيث هي تجربة ذوقية و مسار روحي عملي، ظلت في مختلف أطوارها ترفد هذا الدرس؛ ذلك أن هذه الممارسة لم تتوقف قط عن الوشجِ بين تعميق المستوى الإحساني في الإسلام من خلال تأصيل وتجديد الفهم وتطوير أساليب التربية القلبية، وبين تأصيل وتجديد آفاق الكتابة وأنماطها ومناطات الممارسة الجمالية الروحية ومتعلقاتها، وهو ما جعل الدرس الصوفي يُغري تخصصات شتى للاقتراب من أبعاده الشتى، بحيث تلتقي في الانشغال به أسئلةُ الدين والتاريخ والأنتربولوجيا وعلم الاجتماع والفلسفة والأدب والفن..، مما يعني أن الدرس الصوفي هو استضافة حوارية كريمة لمختلف المعارف على أرض العرفان. وهذه الاستضافة واحدة من أبرز خصائص الدرس الصوفي، الأمر الذي يقتضي من كل المقاربات، كيفما كانت خلفياتها المعرفية و أدواتها المنهاجية، أن تتحلّى بالتواضع أمام رحابة آفاق التجربة الصوفية؛ تواضع ينتقل من طور الفضيلة إلى طور الضرورة حين تؤكد التجربة الصوفية على شرط “التجريب” أي “الذوق” لاستبطان معانيها؛ إذ المعرفة هنا مشروطة بـ” الذوق”، لأن “من ذاق عَرف” كما هو في حِكْمَة القوم.

في هدي هذا التواضع وضوئه، يمكن اقتراح ثلاثة أسئلة مفاتيح لاقتراب مفرط الاقتضاب من الدرس الصوفي اليوم توصيفا و استشرافاً، و يتعلق الأمر بـ: سؤال الحاجة، و سؤال الحالة، ثم سؤال الأفق.

  • سؤال الحاجة

     يتغيى هذا السؤال فهم البواعث الأساس التي تجعلنا اليوم نلتفت إلى الدرس الصوفي لتجديد وتعميق النظر والبحث فيه؛ ففضلا عن الحاجة العلمية التي تظل مطلوبة في كل السياقات، فإن تلك الحاجة تتضاعف وتتوهج بمحفزات أخر لتجعل منها حاجة راهنية فكريا ودينيا وحضاريا؛ ذلك أن العودة الملحاحة والملحوظة لـ “سؤال الدين” في راهن المجتمعات الإسلامية والغربية، على اختلاف مظاهر و قراءات هذه العودة بين الجانبين، قد دفع إلى طرح سؤال “ضرورة الدين” في العالم الحديث من ناحية، مثلما طرح سؤال “صورة الدين التي يحتاجها الراهن” من ناحية ثانية. وهنا، وأمام تنازع الصور الرائجة في “سوق التدين” بين “الخرافي” و”الدموي” و”الإقصائي” و”الانغلاقي” و “الإصلاحي”..، بدأ البحث عن بعض المنارات الإسلامية الكونية في تاريخ التدين، والتي من شأن استلهامُ رؤاها “العقلانية” و “الروحانية” أن يسهم، من جهة، في تدعيم المنحى الإصلاحي والتنويري في فهم الدين، وتظهير صورة كونية و رحموتية وإنسية للتدين، كفيلة بإرواء بعض الظمأ الأنطولوجي للمعنى الذي راح يكابد منه الإنسان الغربي المعاصر أمام الطوفان المادي والاستهلاكي الجارف للعولمة، مثلما من شأن ذاك الاستلهام أن يسهم، من جهة ثانية، في ترشيد حضور التدين في المجتمعات الإسلامية، كيما تتسيّد تلك الصورة الرحموتية للرسالة المحمدية، و يتوهَّج بعدُها الكوني التكريمي للإنسان بما هو خليفة الله في الأرض، وبما هو نفخة إلهية تستلزمُ تقديسَها فيه حيثما وأينما وكيفما كان.

   من هنا الحاجة الملحاحة إلى روحانية أهل العرفان اليوم؛ تلك الروحانية التي استطاعت، في ذراها العليا، أن تؤصل للصورة الرحموتية الكونية للدين من داخل فهمها للنصوص الإسلامية التأسيسية، مثلما وجدت تلك الصورةُ تجسيدها المقالي و الحالي في تجارب وجودية وأسفار عرفانية باذخة تشهد عليها سير جم من العارفين وتعاليمهم المتوارثة ونصوصهم المتواترة.

ب-سؤال الحالة

     في اللحظة الخاطفة الثانية في مسار اقترابنا الوجيز من الدرس الصوفي، ننتقل من مقاربة الحاجة إلى مساءلة الحالة، ومناط السؤال هنا متعلق بحالة التصوف اليوم ممارسةً ومدارسة. فمن حيث الممارسة نسجل أن الطرقية اليوم سائدة و سيدة بحيث يكاد يُختَزل التصوف في مؤسساتها وممارساتها، مع ما ينتاب حضورَها السائد من ارتباك في التعامل مع مختلف الجهات التي تستدعي التصوفَ إلى مشاريعها ورهاناتها المتباينة، وما أفرزه هذا الارتباك من سيادة للطقوسية (أي التعلق بالرسوم و الأشكال) بدل الروحانية، وللحظوظية (أي طلب الحظوظ النفسية و المنافع الدنيوية) بدل الورع والزهد، وللتعصبية (أي التعصب لطريقة معينة أو شيخ معين) بدل الحِلم والوسع، و للإفشائية (أي إفشاء السر الصوفي بين غير أهله) بدل الاحتراز في نشر معاني القوم خارج سياقاتها المعرفية والأخلاقية والذوقية الحاضنة. كل ذلك جعل التصوف اليوم في نظر الكثيرين مُحَاصَرا في حضورين؛ إما كمؤثث فولكلوري لتدين بلا روحانية ولا فعالية تربوية سلوكية، وإما كواجهة إيديولوجية مطالَبَة بمحاربة التشددية السلفية الدينية، دون أي اعتبار لطبيعة الممارسة الصوفية في تعاليها الروحي و كونية أفقها الإنسي اللذين يندان عن كل تمنيط أو تحنيط أو تقييد أو توجيه ظرفي عابر. الأمر الذي يقتضي من الدرس الصوفي أن يتوجه بالنقد المعرفي والعرفاني للحضورين معا من أجل إبراز تينك البعدين المتعالي الروحي والكوني الإنسي اللذين يطلبهما التصوف كأفق معرفي وعرفاني يشكل روح الدين وقلبه النابض بالتعالي و الكونية.

   و هنا نأتي إلى حالة التصوف في المُدارسَة، فعلى القيمية الاستثنائية التي قدمتها كثير من الأعمال الاستشراقية منذ القرن التاسع عشر، وعلى أهمية ما شهده الدرس الصوفي، خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة، من انتعاش متميز وإعادة اعتبار ملحوظة على المستويات العلمية والتعليمية والإعلامية بعد فترة محاصرة وتهميش بذرائع إيديولوجية سلفوية وحداثوية أضحت اليوم داحضة و متهافتة، فإن المبحث الصوفي ما زال في حاجة إلى عمل علمي كبير تستدعيه غزارة المتون الصوفية المخطوطة غير المحققة، أو تلك التي طالها “المسخ” باسم التحقيق فطرحت في طبعات لا علمية منقوصة وفائضة بالأخطاء والمغالطات، مثلما يحتاج المبحث الصوفي إلى مقاربات علمية تطول الكتابة الصوفية تعريفا وتحليلا في مختلف أنماطها، أكانت كتب تراجم ومناقب؛ أم كانت كتب مصطلحات و مقامات و أحوال؛ أم كتبا و أرجازا صوفية تعليمية؛ أم كانت حِكماً ومناجيات وأحزابا وصلوات و أوراداً و شذرات عرفانية؛ أم كانت نصوصا شعرية صوفية عالية الإشارة؛ أم كانت إشراقات وكشوفات و تقاييد تفسيرية إشارية على نصوص قرآنية و حديثية وأخرى صوفية أو غير صوفية؛ أم كانت نصوصا في السير الروحية الذوقية، أم كتبا و رسائل في السماع الصوفي تأصيلا عرفانيا أو سجالا فقهيا أو بسطا فنيا و جماليا… إلخ.

     هذه، بإيجاز كبير، بعض معالم حالة الدرس الصوفي اليوم و ما يستلزمه على المستوى العلمي، و هي معالم تسهم في رسم صورة تقريبية عن حالة التصوف اليوم ممارسةً و مدارسة، مثلما تشي بما يقتضيه سؤال أفق الدرس الصوفي من تأمل عميق ينظر بعين ناقدة للحاجة إلى هذا الدرس و حالته، و يستشرف إمكانات تجديده معرفيا وعرفانيا.

ج-سؤال الأفق

   غني عن البيان أن هذا السؤال يشكل تثميراً لرصد الحاجة إلى الدرس الصوفي وقراءة حالته اليوم، فمن خلال الاقتراب من السؤالين السالفين تبينت، بجلاء و وضوح، ضرورةُ الدرس الصوفي على المستوى العلمي المعرفي، مثلما ظهرت أهميته على المستوى الروحي العرفاني، وهما مستويان متواشجان تواشج المدارسة و الممارسة في النسق العلمي الصوفي، و متوالجان توالج المذاكرة و الذكر في النسق الروحي العرفاني؛ بحيث يستحيل الفصل التام والحدي بين المستويين. و كيما نفتح سؤال الأفق على مختلف الأبعاد المتفرعة عن هذين المستويين، و طلبا لتفعيل الدرس الصوفي علما وذوقا، مقالا وأثراً، معرفة وعرفانا؛ نقترح الاقتراب منه من خلال ثلاثية رئيسة هي: الاعتراف والاستئناف والاكتشاف.

ونعني بـ”الاعتراف” العمل على تظهير وإبراز مجهودات الأجداد في التأليف وتجاربهم في الذوق و أساليبهم في التربية؛ وذلك من خلال التعريف بأعلام التصوف و بمساراتهم الروحية المختلفة، والعمل على الترجمة لهم وتحقيق نصوصهم ودراسة ومقالاتهم ومقاماتهم، والتأريخ لمدارسهم وطرقهم ومراكزهم، والبحث في تجاربهم في مختلف أبعادها العلمية والعملية، الفقهية و الروحية، الأخلاقية و التربوية، التاريخية والاجتماعية، السياسية والحضارية، الأدبية والطربية .. إلخ.

   فيما نعني بـ”الاستئناف” محاولة تثمير هذه المعارف على صعيد الممارسة الخُلقية والتربوية الروحية. وإذا كان هذا الأفق من شأن أهل الممارسة وأرباب الذوق بالدرجة الأولى، فمن شأن أهل المدارسة الإفادة من الثراء المعرفي والتربوي والبيداغوجي للتجارب الصوفية من أجل تفعيل البعد القيمي للممارسة العلمية والبحثية، وكذا من أجل توهيج البعد الروحي في مقاربة التدين، بعيدا عن كل أصناف التعصب والانغلاق والإقصاء، وذلك طلبا لمنح نَفَس آخر للدين يستنفر فيه صورته الرحموتية ببعديها المتعالي الروحي والكوني الإنسي اللذين يحتاج إليهما الإنسان اليوم.

     وهنا نأتي إلى “الاكتشاف” الذي نشير به إلى معاني التجديد المعرفي والعرفاني على حد سواء. و نعني بالتجديد المعرفي هنا تجديد الفهم واكتشاف آفاق أخرى ضامرة في المبحث الصوفي تخص مختلف الأبعاد المعرفية، فلسفة و فقها و أدبا و فنا، و ذلك بعد إجراء مراجعة نقدية شاملة لكثير من المسبقات والمغالطات السائدة عن التصوف و أهله؛ كالمماهاة بين التصوف و الاتكالية؛ أو بينه والانعزالية؛ أو بينه و الخرافية؛ أو بينه و الطرقية…إلخ، أو كالنظر إلى الخطاب الصوفي من خلال ثنائيات حدية مُضلِّلةٍ لا تراعي تاريخية المفاهيم و لا الجدلية الشغالة بين أطراف تلك الثنائيات، أشير هنا تمثيلا إلى ثنائيات: الحس / المعنى؛ الظاهر/ الباطن؛ الشريعة/ الحقيقة؛ العقل/ القلب؛ التصوف النظري/ التصوف العملي؛ التصوف الأخلاقي/ التصوف الإشراقي؛ التصوف السني/ التصوف الفلسفي…إلخ. و هذا ما يقتضي مراجعة منطلقات القراءة و إوالياتها من أجل تحصيل ثمار هذا السعي التجديدي.

     أما التجديد على المستوى العرفاني، فنشير به إلى ما يقتضيه التصوف اليوم، بما هو تجربة و ذوق و ممارسة، من بذل عرفاني صوفي محض؛ طمعا في آفاق كسبية أو وهبية تأتي بفتوح و كشوف و إشراقات تفعل في النفوس و الأٍرواح، من إيقاد دهش الإيمان وتوهيج الشغف بالمطلق و إرواء الظمأ الأنطولوجي للمعنى، ما ظلت تفعله فتوحات كبار العارفين في أهل زمانها أو في من وجدوا فيها رواء أرواحهم عبر الأزمنة و الأمكنة. من هنا ضرورة أن ينخرط في هذا الأفق التجديدي أربابُ الذوق لـ “يطعمونا لحماً طريا لا لحم القديد” حدَّ عبارة العارف الكبير أبي مدين الغوث، ويكشفوا لنا عن أنماط “فتوح” جديدة تتعلق بالأسئلة الروحانية المحيرة التي تحتاج إلى صوت آخر يبعث معنى التعالي في وجداننا بما يلائم وقتنا ورهانات زماننا، بل وبما يكشف الحاجة إلى هذا المعنى العرفاني من داخل معقولية زماننا، ويلبيها بما يحررنا من أسر قيود هذه المعقولية؛ دون أن يقع في ما تجاوزته هذه المعقولية و ألقت به في خانات “الخرافة” و”الأسطورة” (بمعناها القدحي) و “التخلف العقلي”.

   هذه مداخل ثلاثة نقترحها طلبا لارتياد آفاق أخرى في التعامل مع الدرس الصوفي، مداخل لا ندعي أنها استوفت كل مناحي سؤال أفق هذا الدرس، بقدر ما طرحنا فيها ما انتهت إليه قراءتنا المتواضعة- ضرورة لا فضيلة- لسؤالي الحاجة إلى الدرس الصوفي و حالته اليوم… هي أفكار للتأمل و التطارح المعرفي انطلاقا من رهانات الهنا و الآن، فيما يبقى الذوق العرفاني مما لا ينقالُ، إذ هو ضوء هارب لا تطوله الكلماتُ، “ما إنْ ترُمْهُ عَادَ فَيْ” إذا استعرنا إشارة من إشارات العارف أبي الحسن الششتري.

 

[*] : محمد التهامي الحراق أستاذ مغربيٌّ تخصص في قضايا الفكر الإسلامي والتصوف، وحصل على درجة الدكتوراه في هذا الاختصاص، تركّزت دراسات وممارساته العملية على قضايا السماع والموسيقى والمديح والأدب الصوفي. تلقى تكوينه العلمي جامعًا بين الأصالة والمعاصرة، مما جعله منخرطًا في المجتمع مشاركًا فيه بما أوتي من علم ومعرفة، فهو نائب رئيس لمؤسسة “مولاي إدريس للدراسات الشرعية والتاريخية”، وأمين عام لـ” نادي الإبداع والفكر بالرباط”؛ وإلى جانب عمله الفكري قام بإعداد وتنسيق برامج تلفزية وإذاعية ثرية الفوائد منها :”أنفاس المغاربة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم” و”محاسن المجالس” و”قيم ومعاملات”.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!