الحرية الدينية في تفسير النص القرآني
– نموذج الفهم الصوفي-
بقلم: د. سعاد الحكيم
إن الأصل، المعوّل عليه في الإسلام، هو الحرية الدينية لأجيال المسلمين في قراءة النص القرآني وفهمه وتفسيره، لأن القرآن الكريم هو كتابٌ: ألفاظه ثابتةُ (كلام الله القديم)، ولكن معانيه متجدّدةٌ متدفّقةٌ مفتوحةٌ على تفكُّر المتلقّي في كل زمان، من أجل إنتاج فهمٍ جديدٍ لا يلغي القديم وإنما يوسّع حدقة الرؤية.
وهذا يعني، أنه لا توجد أيّ سلطة – تملك شرعاً – حقّ مصادرة تفسير القرآن من علماء المسلمين، واحتكاره في طائفةٍ علميةٍ مكلّفةٍ بإنتاج “تفسير رسمي”، كما لا توجد سلطةٌ تملك حقّ حبس المعاني القرآنية في التفاسير التراثية، مهما كانت هذه التفاسير مقبولةً ومعتمدةً من جمهورٍ واسعٍ من الأمة.
وفي المقابل، ومنعاً للتسيّب العلمي والديني، فقد وضع العلماء جملة شروطٍ أو ضوابط علمية، يجب توافرها فيمن يتصدّى لتفسير القرآن ولطرح فهمٍ جديد. وهذه الشروط معلومةٌ ومتّفقٌ عليها ومدوّنة في كتب “علوم القرآن”[1]. وقد أراد العلماء أن تكون هذه الشروط/ الضوابط بمثابة الإطار للحرية الدينية في التعامل مع النص القرآني.
نترك بين قوسين الشروط الضابطة لحرية المفسّرين، لنلتفت إلى البحث في العوامل التي سمحت بوجود هذه الحرية لدى الإنسان الصوفي في فهم القرآن، وفي تدوين فهمه الجديد، مهما واجه من معارضةٍ أو من تشدّدٍ لدى بعض العلماء الذين يفضّلون الاكتفاء بالمعاني اللغوية أو القريبة والمباشرة.
وأكتفي بذكر سبعة عوامل، أرى أنها مفاتيح الحرية لدى الإنسان الصوفي في التعامل مع النص القرآني:
1 – غيابُ تفسيرٍ نبويٍّ للقرآن
إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الشخص الوحيد المكلّف ببيان ما أنزل الله سبحانه للناس[2]، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك قولاً وفعلاً؛ من خلال الحديث النبوي الشريف ومن خلال السيرة المحمدية الطاهرة. وقد كان بعض الصحابة يسأل عن معنى آيةٍ أو عن معنى كلمةٍ في آيةٍ، وكان صلى الله عليه وسلم يجيب السائل في حدود السؤال، وهذه المعاني محفوظةٌ في دواوين الحديث الشريف[3]. إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك بين يدي المسلمين تفسيراً للقرآن، ولو فعل لكان ذاك التفسير هو التفسير الرسمي الذي يشكّل مرجعيةً صارمةً لكلّ تفسيرٍ لاحق.
إن غياب تفسيرٍ نبويٍّ للقرآن، يفتح الباب لتعاون علماء الأمة في هذه المهمة، بحيث يساهم كل واحد في حدود اختصاصه العلمي وهمّه الحضاري (لغوي، فقيه، عالم عقيدة، مصلح اجتماعي) أو قوة استنباطه للمعاني العميقة وشعلة فهمه لدقائق النص.
وفي هذا الصدد، نلمح في ثنايا الكتابة الصوفية، أن الواحد من كبارهم يحمّل نفسه مسؤولية متابعة خطى النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس.. وبالتالي في بيان التنزيل وتفسير معاني القرآن. يورد محي الدين بن عربي، شيخ الصوفية الأكبر، الآية الكريمة: )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ( [الجمعة 2]، والآية الثانية: )قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي( [يوسف 108]، ثم يقول: فهو صلى الله عليه وسلم النبي “الأمي” الذي يدعو على بصيرةٍ مع أميّته. و”الأميّون” هم الذين يدعون معه صلى الله عليه وسلم إلى الله على بصيرة. و”البصيرة” هي العلم الإلهي اللَّدُنّيُّ الذي يناله “الأمّيّون”.
ويقدّم ابن عربي في هذا السياق معنىً مختلفاً للأميّة، فيقول: الأميّة عندنا لا تنافي حفظ القرآن ولا حفظ الأخبار النبوية، أي إن الأميّة لا تعني عدم معرفة القراءة والكتابة وحفظ العلوم الأساسية، ولكن الشخص الأمّيّ هو الذي لم يتصرّف بنظره الفكري وحُكْمه العقلي في استخراج ما تحوي عليه آيات القرآن أو الأحاديث النبوية من معاني وأسرار. فإذا سَلِم قلبه من علم النظر الفكري كان أميّاً، قابلاً للفتح الإلهي ومستعدّاً لاستقبال العلم اللدني[4].
وهذا يعني أن فهم القرآن – عند الصوفي – لا ينتج عن استنباط المعنى من الدرس في الكتب أو من إعمال العقل في النص، ولكن من الرياضة والمجاهدة ليصبح القلب مستعدّاً لاستقبال الإلهام الرباني..
وتظلّ العلوم الأساسية (حفظ القرآن والحديث) ضروريةً “للأميّ”، لأنها تحفظ القلب من أن يزيغ أو يطغى عند قبول العلم المـُـلْـقَى فيه. وفي هذا التنبيه يقول الجنيد: «علمُنا مشبوكٌ بالكتابة والسنة»[5]. أي مع أنّ علمهم لَدُنيّ إلهاميٌّ، إلا أن القلب لا يقبل الإلهام إلا إنْ شَهِدَ له على صدقه شاهدان عَدْلان هما: الكتاب والسنة[6].
2 – مقاصد الله عز وجل من كلامه لا يحيط بها إنسان
إنّ للآية الواحدة في القرآن، ومهما كانت مُحْكَمَةً – بل للكلمة الواحدة – مقاصدَ عديدة. ولا يملك إنسانٌ أن يقول: إن المعنى الذي أُعطيه لهذه الكلمة القرآنية هو المقصد الإلهي الوحيد منها. لذا، نجد أئمة المفسرين يَعْرضون قولهم وأقوال غيرهم ويشيرون إلى عجزهم عن الإحاطة بالمعاني أحياناً بعبارة “والله أعلم”، ثم يتركون المعاني القرآنية مفتوحةً على تدبُّرٍ جديدٍ وفهمٍ جديدٍ.
وهذا ما سمح لكبار الصوفية بأن يشاركوا الأمة في فهم القرآن، وفي تقديم معانٍ غير مسبوقة. ومن الأمثلة العديدة على ذلك نختار ثلاثة:
- قوله تعالى: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ( [الإسراء 23].. يرى ابن عربي أن الآية لا تدلّ عما يجب أن يكون، بل تخبر عما هو كائنٌ فعلاً، لأن الله عز وجل عندما يقضي أمراً فهو واقعٌ لا محالة. وينتج عن هذا الفهم، أنّ كلّ من عَبَد شيئاً ولو كان غير الله U، فهو في الحقيقة – وتحت قهر القضاء الإلهي – يقصد بعبادته الله، وإن ضلّ السبيل إليه[7].
- وقوله تعالى: )وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ([الإسراء 44].. استدل ابن عربي بهذه الآية الكريمة على أن الحياة ساريةٌ في كل شيء في الوجود، لأن التسبيح دليل حياة، فلا يسبّح إلا حيّ.. ومن هنا، فكلّ شيء حيٌّ حتى ما تعارف الناس على أنه جماد، من حجرٍ وشجرٍ وغيره[8].
- وقوله تعالى: )بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ([ق 15].. ذهب معظم المفسرين إلى أن هذه الآية تجد دلالاتها في الحياة الآخرة، إلا أن ابن عربي بنى عليها رؤيته للمخلوقات كلها. فالكائنات كلُّها، أي كلُّ ما سوى الله عز وجل – طبيعتها الذاتية هي “العدم الممكن”، وبالتالي فهي تحتاج لتظلّ موجودةً إلى الخلق الإلهي المستمر مع الأنفاس، ففي كل نَفَس يسقط الكائن في العدم ويخلقه الله في النَفَس التالي خلقاً جديداً. والعالم كله في لَبْسٍ من هذا الخَلْق المستمرّ مع الأنفاس: لسرعته أولاً، وثانياً: لأن الصورة اللاحقة للكائن هي نفس صورته السابقة[9].
3 – الكلام الإلهي لغير الأنبياء
نعرف من حديثٍ نبويٍ شريف، أنّ الله عز وجل يكلّم – أو يحدّث – بشراً ليسوا بأنبياء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدّثون، فإن يكن في أمتي منهم، فإن عمر بن الخطاب منهم»[10]، وفي نصٍّ آخر: «رجالٌ مكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء»[11].
وقد حفل التاريخ الصوفي، بأعلامٍ كبارٍ أخبروا بأن الله سبحانه يخاطبهم، فرابعة العدوية تقول: «وجعلتك في الفؤاد أنيسي»، والنفري يقول: «أوقفني وقال لي»[12]، والجنيد البغدادي يقول: «أقبَلَ بك كلّكَ عليه… فأنتَ حينئذٍ يُقال لك وأنت قائل»[13]، وأبو يزيد البسطامي يقول: «أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت»[14].
وهذا الكلام الإلهي للبشر- أنبياء وغير أنبياء – يأخذ أسماءً عديدةً؛ فيسمّى “قولاً” عندما يُسمع المعدوم؛ ويسمّى “كلاماً” عندما يُسمع الموجود؛ ويُسمّى “وحياً” إذا كان إلقاءً في القلب على جهة الحديث، وصفة الوحي السرعة والسلطة؛ ويسمّى “من رواء حجاب” إذا كان مُلْقَى على السمع لا على القلب، وغير ذلك.
بناءً عليه، فإن الوحي الإلهي الملقى في القلب على جهة الحديث لم ينقطع بانقطاع النبوة والرسالة، وإنما انقطع الوحي التشريعي.. وينتج عن هذا الوحي التفسيريّ العلميّ، أن الشخص الذي يُلقى في قلبه وحيٌ إلهيٌّ لمعنىً قرآنيٍّ، فإنه يقبله ويدوّنه ويطيعه ويعدّل رؤيته للعالم وللإنسان وأيضاً سلوكه وفقاً لما ورد فيه.
ويستدلّ ابن عربي على سلطة الوحي الإلهي وقهريته، بأن أمّ موسى عليه السلام حين أوحى لها الله عز وجل إن خافت على ابنها أن ترضعه وترميه في اليمّ، فقد فعلت ذلك، مع أن الطبْع البشري يحكم على الإنسان بإخفاء ما يخاف عليه[15].
4 – تنزُّل القرآن الدائم على قلوب كبار عباد الله
يورد ابن عربي قوله تعالى: )رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ( [غافر 15]، وقوله تعالى: )يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ( [النحل 2]. ويفسر لفظ “الروح” بمعنى “العلم”، وذلك لأن العلم تحيا به القلوب كما تحيا بالأرواح أعيان الأجسام كلها.. وبناءً على تفسير الروح بالعلم يستدلّ بالآية الأولى على الإلقاء الإلهي للعلم في قلوب عباده وعلى وحيه عزّ وجلّ من غير واسطة، ويستدلّ بالآية الثانية على تنزيل الملائكة بالعلم[16].
وفي هذا السياق نفسه، سياق تنزيل العلم، يقول ابن عربي بأن الرسالة والنبوة انقطعت وسُدّ باب تنزّل الحكم الإلهي (= أحكام الشريعة) على قلب البشر بواسطة الروح، أما الذي بقي فهو تنزُّل القرآن على قلوب الأولياء، مع كونه محفوظاً لهم. ويورد في الفتوحات المكية، وفي أكثر من موضع، بأنه رُوي عن أبي يزيد البسطامي «أنه ما مات حتى استظهر القرآن».. ومن البديهي، بأن عبارة “استظهر القرآن” لا تدلّ على حفظه غيباً، فهذا موجودٌ بكثرةٍ بين المسلمين، ومعظم علماء المسلمين حفظوا القرآن كاملاً وهم دون العاشرة من عمرهم، ولا شك أيضاً أن أبا يزيد البسطامي كان حافظاً للقرآن قبل موته بكثيرٍ، إن لم يكن من طفولته.
إذن فإن للعبارة معنى آخر. ومعناها: أن أبا يزيدٍ ما مات حتى أخذ القرآن كلَّه عن إنزال. وإلى هذا نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن حفظ القرآن، يعني على وجه الإنزال، بأن النبوة قد أُدرجت بين جنبيه، ولم يقل في صدره[17]. وهذا من باب الفرق بين تنزيل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وبين تنزيله على الوليّ[18].
5 – تنزّل المعاني القرآنية (تنزُّل الفهم)
تتعدّد السياقات التي يصل منها ابن عربي إلى مقولةٍ مفادها: أن الفهم الحقّيّ لمعاني القرآن لا يتم بمعالجة الألفاظ اللغوية ولا بالدرس والتمحيص للكتب والتاريخ، وإنما هو رزقٌ لَدُنيٌّ يتنزّل على قلب “ولي الله”، إما عند تلاوته للقرآن، أو عند سماعه، أو عند ذوقه لتنزّل الآيات القرآنية، أو عند رؤيته في واقعةٍ من الوقائع[19].. باختصار، إن الفهم الحقّيّ هو الفهم عن الله عز وجل[20].
وهنا، فإن المعاني تتعدّد وتتراتب، لأن الأرزاق العلمية تتباين بتباين منازل القوم في مقامات الولاية.. ومــــــــن هنا، نفهم الحـــــــوار الصوفي-الصوفي عبر الزمان، ومنه حوار ابن عربي مع الجنيد وأبي يزيد وأبي مدين في كتاب “التجليات”[21].. والإجابات التي قدّمها ابن عربي (ت 638) لأسئلة الحكيم الترمذي (ت 320هـ) رغم أنه يفصل بينهما أكثر من ثلاثة قرون[22].
وفي إطار هذا الحوار – النقدي حيناً والتعريفيّ أحياناً – حول تفسير النص القرآني، نجد أن ابن عربي انتقد السيدة رابعة التي سمعت قارئاً يقرأ قوله تعالى: )إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ( [يس 55 – 58]، فقالت: «مساكين أهل الجنة في شغلٍ هم وأزواجهم». وفحوى نقده: أن السيدة رابعة لم تعلم أنها حين نَسَبَتْ إليهم الشغل بغير الله، فقد وقعت في المكر الخفيّ بالعارفين، لأنها جرّحت الغير ببادي الرأي، وعرّضت في حقّ نفسها أنها منزهة عن ذلك.. والحقّ: أن أهل الجنة في شغلٍ هم وأزواجهم بالله عز وجل[23].
وفي إطار الحوار التعريفي – عبر الزمان – حول معاني النص القرآني، نجد ابن عربي يشرح لأبي يزيد البسطامي الذي توفي قبله بحوالي أربعة قرون، قوله تعالى: )يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ( [مريم 85].. وذلك أن أبا يزيدٍ عندما سمع هذه الآية طار الدم من عينيه حتى ضرب المنبر وقال: عجباً كيف يَحْشُر إليه من هو جليسه. فإن الله يقول: أنا جليس من ذكرني، والمتّقي ذاكرٌ لله. ويتولّى ابن عربي تفسير موقف أبي يزيدٍ فيرى أن دموعه هي دموع فرح لا دمع حزن وخوف، لأن في حَشْر المتقين إلى الرحمن، بشارة بالأمان[24]. ثم في موضع آخر، يفصّل، بأن المتقي في الدنيا هو جليس الاسم الإلهي الذي يقع منه الخوف في قلوب العباد (القهار، شديد العقاب، الجبّار…)، وفي هذه الآية بشارةٌ للمتّقي بأنه في الآخرة سوف يُحشر إلى الاسم الرحمن (وليس إلى اسم: شديد العقاب)، فيحدث له – من هذه البشارة القرآنيّة – الأمان في الدنيا، لأن مآله إلى الرحمة[25].
6 – العلاقة التفاعلية الحياتية بين الصوفي والقرآن
إن كبار الصوفية يقيمون علاقة تفاعلية مع النص القرآني، فالواحد مثلاً أثناء تلاوته للقرآن ينظر في ذاته ليرى أين هو مما يقرأ.. وها هو أبو يزيد وقد سمع قارئاً يتلو: )إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ( [البروج 12]، فقال: “بطشي أشدّ”. أي إن بطشي أشدّ من بطش الله عز وجل.
ويفسر ابن عربي هذه العبارة الغربية، بأن المخلوق إذا بطش فلا يكون في بطشه شيءٌ من الرحمة، بل قد يخالطه الانتقام فيزيحه عن العدالة، أما بطش الله عز وجل وإن كان شديداً ففيه رحمةٌ بالمبطوش به[26].
ومثالٌ آخر عن علاقة الصوفي التفاعليّة بالقرآن، يقول ابن عربي عن حياته، بأنه حصلت له “الفترةُ التي لا بدّ منها لكلّ داخل في الطريق”، وهي فترةٌ قد يعقبها رجوعٌ إلى الحال الأول من العبادة والاجتهاد إن كان السالك من أهل العناية، وإلا فإنه لا يفلح أبداً. فلما تحكّمت بابن عربي هذه “الفترة” رأى الحقّ في الواقعة وتلا عليه الآيات: )وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ( [الأعراف 57 – 58]، فعلم أنه هو المراد بهذه الآية.. وفهم الرسالة الموجودة فيها، وأدرك الإشارات القرآنية، فقوله تعالى “بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ” إشارةٌ إلى كونه اهتدى إلى الطريق على يد عيسى وموسى ومحمد سلام الله على جميعهم. و”البلد الميت” هو ابن عربي نفسه. فـ”أحيينا به الأرض” هو ما ظهر عليه من أنوار القبول والعمل الصالح وهكذا[27].
7 – الصدق مع الله والصدق مع الذات
أختم المقالة بهذا المفتاح السابع للحرية الصوفية في تفسير النص القرآني، وأقول: لا شكّ أن الوحي الإلهي العلمي للصوفي قاهرٌ، وله سلطانٌ لا يملك معه الإنسان إلا أن يرضخ ويطيع. ولكن قد يرضخ المرء لما ورد عليه من وحيٍ علميٍ، ويتركه سرّاً بينه وبين نفسه ولا يذيعه للناس، وقد لا يُطلع عليه أحداً. وهذا يشبه موقف الإمام الغزالي في قوله المشهور:
وكان ما كان مما لستُ أذكره فظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخَبَرِ
وفي مقابل الغزالي الذي فضّل عدم البَوْح بما جرى معه، نجد ابن عربي يدوّن مشاهداته وأحداث حياته في كتبٍ تُقرأ وتُنشر وتشكّل إرثاً للأجيال.. ويخبرنا بأنه مأمورٌ بذلك الإخراج إلى الناس[28].
إن الإنسان الصوفي صادقٌ مع الله وصادقٌ مع نفسه، فإن كانت خبرته تنفع الناس أذاعها، وإن حدّثه قلبه عن ربه بمعنى قرآنيٍّ يرقّي إنسانية الإنسان دوّنه ونشره.. وهذا الصدق هو الوجه الآخر للحرية.
[1] – انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة، ج 4، ص 200. وكذا: مناع القطان، مباحث في علوم القرآن، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط 3، 2000م، ص 340.
[2] – إشارة إلى الآية [النحل 44]: )وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ(.
[3] – راجع: صحيح البخاري، كتاب التفسير وفيه أبواب، ج 4، ص ص 1621 – 1852. وصحيح مسلم، كتاب التفسير، ج 4، ص ص 2308 – 2323.
[4] – انظر الفتوحات المكية، ج 2، ص ص 644 – 645.
[5] – انظر: الجنيد البغدادي، الأعمال الكاملة، دراسة وجمع وتحقيق: سعاد الحكيم، ص 174.
[6] – يقول أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النُّكتة من نكت القوم أياماً، فلا أقبل منه إلا بشاهدَيْن عدلَيْن: الكتاب والسنّة. الجنيد البغدادي، الأعمال الكاملة، ص 177. والنكتة هي الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس، أو المسألة العلمية الدقيقة. المعجم الوسيط، مادة: نكت.
[7] انظر: سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، مادة “إله المعتقدات”، دندرة للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، 1981.
[8] انظر: المعجم الصوفي، مادة “حياة”.
[9] انظر: المعجم الصوفي، مادة “خلق جديد”.
[10] صحيح مسلم، ج7، ص115.
[11] انظر: زين الدين العراقي، طرح التثريب، ج 1، ص 188.
[12] – راجع كتاب النفري، المواقف والمخاطبات.
[13] – انظر: الجنيد البغدادي، الأعمال الكاملة، دراسة وجمع وتحقيق: سعاد الحكيم، ص 307.
[14] – انظر: ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص ص 253 – 254.
[15] – انظر: مؤتمر أقامته وزارة الثقافة في دمشق بالاشتراك مع وزارة الثقافة في مرسية، الندوة العالمية: “من فلسفة الإنسان إلى فلسفة الوجود”، دمشق 1997، ورقة مشاركة د.سعاد الحكيم تحت عنوان: “الوحي الصوفي“. وابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص 87.
[16] – انظر: ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص ص 255 – 356.
[17] – انظر: ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص 258. كما يراجع في الفتوحات المكية، ج 2، ص 20، وج 2، ص 447.
[18] – راجع تفصيل هذا الفرق في الفتوحات المكية، ج 2، ص 194.
[19] – انظر مثلاً: رؤية ابن عربي لسورة الإخلاص في الكشف الصوري بيتٍ قائمٍ على خمسة أعمدة، ولا باب له مفتوح، فليس لأحدٍ فيه دخولٌ بوجهٍ من الوجوه، نفهم من هذا الكشف أن الأعمدة الخمسة تدلّ على عدد آيات سورة الإخلاص، أما كون البيت لا باب له، فلأن سورة الإخلاص، لا تحتوي إلا على أسماء التنزيه التي لا سبيل إلى التخلّق بها. انظر: ابن عربي، الفتوحات، ج 2، ص 581. وعبد الباقي مفتاح/ ختم القرآن، دار القبة الزرقاء، ط 1، 2005، ص ص 47 – 48.
[20] – انظر ورقتنا: “فكرة الختمية وأثرها على تاريخ الولاية”، في الملتقى الدولي “طرق الإيمان” الذي ينظمه المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتي تمحور حول إشكالية “ختم الولاية”، في الجزائر، بتاريخ ١٦ إلى ٢٠ كانون أول/ديسمبر ٢٠١٣
[21] – انظر ورقتنا بمهرجان ابن عربي – إسبانيا، عنوانها: “لقاءات حقيقية في عالم الخيال” بتاريخ 8-9 آذار 2013.. وقد ترجم إلى اللغة الفرنسية.
[22] – انظر ورقتنا: “فكرة الختمية وأثرها على تاريخ الولاية”، في الملتقى الدولي “طرق الإيمان” الذي يظمه المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتي تمحور حول إشكالية “ختم الولاية”، في الجزائر، بتاريخ ١٦ إلى ٢٠ كانون أول/ديسمبر ٢٠١٣.
[23] – راجع: الفتوحات المكية، ج 1، ص 321، وج 1، ص 641، وج 1، ص 743.
[24] – الفتوحات المكية، ج 1، ص 511.
[25] – الفتوحات المكية، ج 2، ص 87. كما يراجع ج 1، ص 210، وج 3، ص ص 212 – 213.
[26] – الفتوحات المكية، ج 2، ص 412.
[27] انظر تمام التفسير لإشارات الآية، الفتوحات، ج 4، ص 172.
[28] – انظر : ابن عربي، فصوص الحكم، المقدمة.