التصوف كخيار للإسلام الأوروبي

التصوف كخيار للإسلام الأوروبي

التصوف كخيار للإسلام الأوروبي*

إريك جوفروا

ترجمة: لحسن الصديق

 

تقديم المترجم: يعالج المفكر والباحث الفرنسي “إريك جوفروا” في هذا الحوار عدة قضايا أساسية تهم التدين بأوروبا. كما يقترح التصوف كتجربة روحية وملاذٍ لإنسان القرن الحادي والعشرين لملأ الفراغ الروحي الذي يؤرقه، كما يرى في هذا التوجه حلاً لمشكلات الاندماج للمسلمين في مختلف الدول الأوربية باعتبار أن التصوف هو ميلٌ للسلم والسلام والتعايش بين الأجناس والشعوب، وهو تجربة روحية لا تخص الإسلام وحده بل نجدها في اليهودية والبوذية… فهو إذن أرضية مشتركة بين هذه العقائد يمكن تطويرها لبلوغ السلام بين الشعوب والأديان.

 

عادة ما ترتبط المدارس الصوفية بزاوية، لكن ليس الأمر كذلك بالنسبة لكم فيما يتعلق بمؤسستكم “منظمة الوعي الصوفي“. لماذا؟

إريك جوفروا: يصنف البعض بنوع من التعسف، هيئتنا وكأنها نوعٌ جديد من الزاوية (1)  يشتغل بشكل سري. يجب أن نعرف أن نظام الزاوية لا يناسب عصرنا الحالي، حيث أن الزاوية تقوم أحياناً ــ وأكرر أحياناً ــ بنوع من خصخصة العمل الروحاني الذي تتميز به وتجعل نفسها منغلقة عن الآخرين، فتحرم الغير كنتيجة لذلك من الحكمة الصوفية عِوض أن تجعلها في متناوله، وهذا عكس ما تشتغل عليه منظمتنا.

من أجل ذلك، نجد أن الأعضاء المكونين لجمعيتنا قد كان جزء منهم مرتبطًا بزاوية من الزوايا. كما أنني شخصيا من مريدي الشيخ خالد بن تونس الذي يدافع هو أيضاً على فكرة خروج الزوايا والفكر الصوفي إلى جمهور الناس. نجد مثلاً أحد المنظمات غير الحكومية (الرابطة العالمية للصوفية العلوية) (2) (AISA) والمعترف بها من طرف هيئة الأمم المتحدة (ONU) تشتغل من أجل تحقيق هذا الهدف.

فإذا كان نظام الزوايا اليوم في نهاية السباق، فإن الانخراط في سلسلة روحية تصل إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) تعدُّ اليوم ضرورية وأساسية. وهكذا فمنظمتنا لا تقدّمُ نفسها كمبادرة فقط، بل إن أعضاءَ مجلسها يطمحون أن يكونوا مرافقين أو آباء روحيين (3) (accoucheurs) بالمعنى التوليدي. فنحن في أعماقنا مسلمون، ونعظّم ونبجّل انتماءنا للإسلام في معناه الكوني، كما نجد أن القرآن وأحاديث الرسول تؤكد ذلك تماماً.

 

وماذا عن عالمية وكونية ما يتم تعليمه وتلقينه داخل منظمتكم والذي تسمونه المبادئ الخمسة للمنظمة؟ هل هي موجهة فقط للأشخاص الذين يدينون بالإسلام؟

إريك جوفروا: يمكن التمييزُ ضمن أتباع منظمتنا بين ثلاثة أصناف. هناك أعضاء سابقون في زوايا أخرى، والذين تخلوا عنها لأسباب مختلفة (غياب شيخ حيٍّ، زوايا ذات امتداد عالمي حيث يصعب ملاقاة الشيخ، حركات دعوية حديثة…). وتتكون الدائرة الثانية من أتباعنا، وهي الأكثرية، من مسلمين لم يكونوا من قبل ملتزمين بمبادئ الإسلام. ونجد أن هؤلاء أكثر تعطشاً من الناحية الروحية، لكنهم يتجنبون أنظمة الزوايا المغلقة أو يرفضون شخص الشيخ الذي يعتبره أتباع الزوايا واسطة بينهم وبين الله. وتتألف الفئة الثالثة من أشخاص غير مسلمين يرفض نظام العلمانية الفرنسية.

لا يمكننا نفيُ أو تجاهلُ وجود حاجة وعطش روحي داخل المجتمع، ونجد النساء في المرتبة الأكثر تعطشا واللائي يعبرن عن هذه الحاجة، وهن أقل تقوقعا على أنفسهن من الرجال. كما نلاحظ أن جمهوراً واسعاً من أعمار مختلفة يهتم بما نقترحه، كما أننا نتلقى طلبات الانخراط ليس فقط من داخل فرنسا، بل من سويسرا وبلجيكا والسنغال ودول مغاربية متعددة.

 

يُلاحظُ أن معرفة الجمهور بالتيار الصوفي تسير بشكل بطيء جداً. هل يمكن تفسير ذلك بكون هذا التيار كان مهمّشا؟

إريك جوفروا: لقد قام التيارُ الوهابيُّ ودعاةُ السلفية بما يشبه عمليةَ مسح الدماغ لدى فئة من الجمهور، إذ قدموا التيار الصوفي على أنه أحدث بدعًا في الدين. وعكس ذلك نجد أن كبار العلماء في العالم الإسلامي وحتى أولئك المتشددين مثل ابن تيمية (1263-1328) كانوا متصوفة. والآن بعد أن تم إعلان أن التيار الوهابي لا ينتمي لأهل السنة كما عبر عن ذلك مؤتمر الشيشان (Tchétchénie). يضاف إلى ذلك أن أغلب القائمين على تدبير الشأن الديني في العالم الإسلامي نجدهم ينتمون إلى التيار الصوفي أو أنهم قريبون منه (شيخ الأزهر، كبار المفتين، وزراء الشؤون الدينية…). إن قدرًاً كبيراً من عملية تهميش التيار الصوفي تتحملُها وسائلُ الاعلام، حيث لا يعطى له الوقت الكافي للتعبير عن نفسه.

 فإذا أخذنا وسائل الاعلام الفرنسية مثلاً فلا نجد إحداها سبق وأن استجوبت الشيخ ابن تونس مثلاً. كما أنه خلال سنة 2006، تم تنظيم ملتقى عالمي جمع الأئمة المسلمين مع الريبيين اليهود في مدينة اشبيلية (seville) بإسبانيا. وقد خصصت نشرة الأخبار الفرنسية دقيقة واحدة في نهايتها لهذا الحدث والذي قدم بعد أخبار الرياضة. فهل هناك رغبة حقيقية في السلام؟

في كتابكم الذي سميتموه “الإسلام سيكون روحانيًّا أو لن يكون” (L’Islam sera spirituel ou ne sera plus, Seuil, nouvelle edition,2016)، يلاحظ أنكم تدافعون عن “روحانية واضحة تقضي على النفاق الديني والسياسي”. إلى أي حد يتم أخذ هذا المعطى بعين الاعتبار في النقاشات السياسية؟

إريك جوفروا: لقد شكّل ارتفاع نسبة الوعي بأهمية الممارسة الروحية لدى الأشخاص هاجساً أمام سرعة التحديات العالمية. لقد فهمت الجزائر مكانة التصوف وأهميته فأولته عناية خاصة مند تولي بوتفليقة، فسمح بممارسة التصوف من أعلى هرم السلطة (رئاسة الجمهورية) إلى مختلف الوزارات على الأوساط الجامعية لما يقوم به من إشباع حاجات روحية للأفراد. إنه أيضاً وسيلة لإقامة حوار بين الأديان، لذلك يجب توجيهُ التصوف، نظراً لما يتمتع به من روح دفاعية، إلى الاهتمام بالسياسة.

الروحانيةُ اليومَ تعيدُ إحياءَ نقاشات، غالباً ما كانت تعتبر عديمة الجدوى من قبل، وتمنحها مضموناً ونكهة. إن الوعي الإخلاقي يمرّ بالضرورة عبر انفتاح روحاني، لأن الروحانية تمنح مفاتيح فهم الكون، ففرنسا لن تتمكن من حل مشكلاتها المعقدة عبر خطابات التطهير والتعقيم مثل “يجب عليك أن تكون مواطناً” أو بعبارة “أنتم مسلمون مواطنون” أو بالقول “لندافع عن العلمانية”، بل يجب عليها أن تعطي لذلك معنى وتشجع علمانية الانفتاح كما يسميها “ريجيس دوبري” (Regis Debray) في تقريره المنجز سنة 2002.

 

يلاحظ أن الحكومة الفرنسية تميل إلى اعتماد هذه المعايير أو تسير في ذلك الاتجاه. كيف تعلقون على تأسيس منظمة من أجل الإسلام في فرنسا التي أعلن عنها بيرنارد كازنوف (Bernard Cazeneuve) خلال شهر غشت الأخير؟

إريك جوفروا: لقد انتقدت النائبة البرلمانية عن منطقة باريس “بريزة خياري” بحدة أن يكون على رأس هذه المنظمة شخص غير مسلم مثل (Bernard Cazeneuve) وتساءلت: “ألا يوجد أي شخص مسلم قادر على قيادتها؟”. ونجد الكاتب “الطاهر بن جلون”، والذي أكن له احتراما كبيرا ضمن مجلس إدارة هذه الجمعية، لكن كيف يمكن للمسلمين أن يتعارفوا عبر تمثيل أمثاله لهم؟ إن الدولة الفرنسية تختار بعناية النخب والمثقفين البارزين الذين لهم أفكار وميولات قريبة منها.

في مقابل ذلك، نجد في ألمانيا خمس جامعات تيولوجية قد فتحت أبوابها خلال هذه الفترة الأخيرة وتشتغل بشكل جيد. أما في فرنسا، فنلاحظ نوعا من الإرتياب والخلط، إذ نلاحظ فتح بعض المناصب في الإسلامولوجيا في الجامعات، لكن ماذا يقدم للإنسان والمواطن العادي عن الإسلام؟ يجب الاشتغال إذن على مستويات متعددة، أي يجب تكوين جمهور محترف قادر على التواصل مع الثقافات الأخرى. ونجد هذا من بين اهتمامات مؤسستنا، إذ نركز على تحسيس جمهور مهني عريض بما فيهم الصحفيين بخطاب مختلف عما ألفوه عن الإسلام.

أضف إلى ذلك أن المجال الوسائطي الفرنسي يسير في هذا الإتجاه. فقد سمعت من العديد من الصحفيين أنهم ينتظرون سماع خطابات مغايرة عن الإسلام غير تلك التي يروج لها السياسيون. إني شخصياً أقدم محاضرات ودروس داخل السجون باسم جمعيتنا. وستقوم هذه الأخيرة بالإعلان عن برنامج من الندوات والملتقيات للتحسيس بأهمية الروحانية، وهي موجهة أساساً للشباب والمراهقين خاصة في الأحياء الهامشية التي في أشد الحاجة اليها. كما أن لدينا العديد من الشراكات مع متدخلين هي في أطوارها الأخيرة للتوقيع.

***

مسار إريك جوفروا

وُلِد إريك جوفروا سنة 1956 ببيلفورت (Belfort) وتلقى تعليمًاً وتربية مسيحية كاثوليكية. وكان في أثناء مرحلة مراهقته مثل باقي الشباب، عضواً في فرقة موسيقية للروك. أصيب خلال إقامته في اِفريقيا وهو في سن الثانية والعشرين بعدوى على مستوى جهازه الهضمي والتي أثرت بشكل كبير على صحته. وقد أوّل هذه المعاناة التي أصابت داخله بأنها أيقظت فيه صوتًا خفيا. فهم إريك جوفروا من ذلك أنه يلزمه القيام بسفر داخلي عِوض السفر الخارجي الأفقي الذي بصدد القيام به. وحينما شفي من مرضه مارس عدة طرق روحانية منها البوذية وقرأ كتابًا   لـ الشيخ عبد الواحد يحيى (Réné Guénoun) [1886-1951] الذي أصبح هو الآخر عالمًا مسلمًا صوفياً. وصرح أنه أعاد اكتشاف شخص المسيح داخل مركز تيبتي لتعلم البوذية، كما أكّد أن الذي كان ينقصه في البوذية قد وجده في الإسلام. يتعلق الامر بمبدأ الوحدانية الذي شكل بالنسبة له فتحا عظيما. تابع تعليمه لتعاليم الدين الإسلامي بالقاهرة بمصر قبل أن يعود إلى فرنسا التي يدرس الإسلاميات في العديد من جامعاتها كجامعة ستراسبوغ وغيرها، وهو اليوم مؤلف للعديد من الكتابات والإنتاجات العلمية، وقد ترجم العديد منها إلى لغات مختلفة. يعتبر إريك جوفروا عضواً في العديد من فرق البحث العالمية ويتم الرجوع إليه غالباً في مواضيع محددة مثل الإسلام والتصوف، كما يقوم بتنشيط ندوات علمية في أوروبا والعالم العربي وِاِفريقيا وآسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

 

***

الهوامش

* ــ نُشر الحوارباللغة الفرنسية في مجلة عالم الأديان الفرنسية على الرابط: http://www.lemondedesreligions.fr/une/eric-geoffroy-on-ne-peut-nier-le-besoin-spirituel-en-france-12-10-2016-5835_115.php وتُرجم إلى العربية في مجلة “أفكار”، العدد 12، ديسمبر 2016.  

(1) ــ  مؤسسة دينية عرفت في تاريخ الإسلام كانت تقوم بوظائف مختلفة كالتعليم الديني والتكافل الاجتماعي و تنظيم الجهاد ضد المستعمر في أغلب الدول المغاربية. إلا أن دورها في العصر الحالي يقتصر على تلقين الأوراد لأعضائها والغرق في عالم من الروحانية، وهو الأمر الذي يرفضه  جوفروا إذ يدعو الى نشر التصوف كرغبة في الطهر والسلام، كبديل للتصورات المتشددة المنتشرة في مختلف دول أوروبا التي تدعو الى رفض الاخر الأوربي وتدعو الى جهاده.

(2) ــ رابطة عالمية تضم أعضاء لهم ميولات صوفية. تهدف ISA الدولية للمنظمات غير الحكومية في المقام الأول إلى تعزيز ثقافة السلام. كما أنها تسعى الى المساهمة في ظهور مجتمع عالمي متعايش يعتمد على التراث الروحي. وتعمل في مجال كرامة الإنسان والمصالحة بين الشعوب والأخوة العالم. وتعتبر الرابطة الدولية الصوفية العلوية شريكاً معتمداً رسمياً مع الأمم المتحدة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي في (المجلس الاقتصادي والاجتماعي) نظراً لخبرتها في مجالات متعددة.

(3) ــ يقصد بالأبوة الروحية نوعا من علاقة الانتساب بين الشيخ والمريد، إذ يصبح الشيخ بمثابة أب ثاني للمريد يولد على يديه من خلال إخراجه من عطشه الروحي الى الإرتواء من نور الإيمان الذي يكون للشيخ سبق فيه.

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!