المولوية

المولوية

المولـويّـــة

د.سعاد الحكيم

 

حياة جلال الدين الرومي:

ولد جلال الدين الرومي، مولانا، في بلخ عام 604هـ/1207م. بدأ حياته العلمية على نهج والده بهاء الدين ولد وخلفه في التدريس، وكان في الثالثة والعشرين من عمره.

في الثامنة والثلاثين من عمره التقى بشمس تبريز الذي كان درويشاً جوالاً، ونشأت بين الشيخين رابطة عشق روحي هزت جذور ذاته من الأعماق، وذوّقته طعم المطلق بعد حدود الحروف والكلمات.. رأى القمر في السماء بعد أن كان يراه منعكساً على صفحة ماء إناء.. هذا الالتحام الوجداني بشمس تبريز أثر على تدريس جلال الدين، وعلى علاقاته بمحيطه.

بعد ثلاث سنوات غير متواصلة، توارى شمس نهائياً.. وهام جلال الدين في الآفاق بحثاً عنه.. وربما هنا تطلع إلى الأعماق بعد اليأس من الآفاق فوجد شمساً في نفسه مشعاً كالقمر..

بعد هذا الامتلاك الوجداني للمحبوب، كان يمضي أيامه في العبادة والتأمل وفي الدرس وأحياناً في مجالس السماع، وصار كل نغم يطرب جلال الدين.. وربما كان وشمس يدوران في خلواتهم تحت وطأة الحال، ولكنه رقص للمرة الأولى في سوق الصاغة في قونية. سمع طرقاً متناغماً في دكان صائغ ماهر، فبدأ يدور في وجد صوفي، وطلب من الصائغ أن ينضم إليه، فدار معه مدة ثم انصرف إلى عمله، وظل الرومي يدور لعدة ساعات.

في مناسبات حياتية نرى السماع والرقص أيضاً هو اللغة التي يعبر جلال الدين فيها عن حزنه أو عن فرحه، فإن حزن غنى ورقص، وإن فرح غنى ورقص.. احتفل بمولد طفلة لإنسان عزيز عليه رآها “زهرة جديدة في الحديقة”، بأيام من السماع.. وحين توفي عام 672هـ، ترك بعده جماعة على نهجه صلت عليه صلاة الجنازة واستمرت بالسماع والموسيقى لساعات وساعات.

يقول:

عندما تأتي لزيارة قبري

سيظهر لك قبري المسقوف راقصاً

لا تأت من دون دف إلى قبري، أي أخي!

لأن من استبد به الحزن لا يليق بمائدة الحق.

استلم سلطان ولد دفة إدارة الجماعة بعد والده جلال الدين، وهو الذي نظّم دوران السماع ونقله من حالة طرب ووجد شخصي إلى تقنية قابلة للتعلم والتعليم، وجزءاً من برنامج تدريب الدراويش للوصول إلى حال الفناء في الوحدة.

يبدو مشهد الدراويش على المسرح مهيباً جليلاً، قطعة من الرمز الجميل، وقد استعنت بصديقة لتفكيك رموز هذه اللوحة الفنية التي تزيل بحركة الدوران الحاجز ما بين الموت والحياة في عرس جماعي، وتحتفل بدخول الإنسان واعياً غائباً، صاحياً فانياً، حياً ميتاً، في حركة دوران الوجود كله، من الذرات إلى الأقمار والكواكب والمجرات.

فالسكة، وهي قبعة الرأس، ترمز إلى شاهد القبر. والخرقة، وهي العباءة السوداء، هي رمز الدنيا، ونلاحظ احترام المولوية للدنيا في تقبيلهم العباءة عند خلعها، قبل الدخول إلى أرض الميدان، واستعادتها ولبسها بعد الانتهاء للرجوع إلى الدنيا بما اكتسبوا من حال. والتنورة، وهي الثوب الأبيض، رمز الكفن. ووضعية البدن باستقامة قبل البدء بالدوران هي رمز لاستقامة الألِف، الواحد. والشيخ: رمز الشمس التي لا تتحرك، وجلوسه على فروة حمراء، إشارة إلى لون الشمس عند المغيب.

ونلاحظ أن الدراويش لا يدوسون على خط معين من المكان هو خط الاستواء المتخيل بين عالمين. ونظرة الدرويش في عين الدرويش معناها: أنت مرآتي.

تبدأ الاحتفالية بالانحناء أمام الشيخ تحية له، ثم في خطوة يقطعون خط الاستواء لتكريس الدخول إلى الفضاء المقدس إلى عالم آخر.

بعد الدخول يبدأ السير بهدوء حول المكان ثلاث مرات تحية للميدان.. ثم يتقدمون من الشيخ فيقبّل “السكة” علامة الإذن بالبدء بالدوران.

يتجه الدوران ناحية اليسار، باتجاه القلب الذي هو “البيت المعمور” والرأس يميل إلى اليسار والعين تنظر إلى القلب.. لكأنه دوران حول القلب، الرجل الشمال ثابتة في مكانها والرجل اليمين هي التي تتنقل، وكلما حط رجله اليمين في دورته على الأرض ينتظر ينابيع الحياة من الظلمات.. يداه مفرودتان، اليمنى مفتوحة الكف إلى جهة العلو للاستمداد من النعم الإلهية واليسار مفتوحة الكف غلى جهة الأرض رمز العطاء ومشاركة الكل من القلب بالنعم.

الدرويش يمارس الدوران وهو في حال ذكر الله سبحانه، وأيضاً في حال سماع للموسيقى يوقظ في ذاكرة روحه سماع الخطاب الإلهي “ألست بربكم”، لا ينظر حوله ولا يرى من حوله، رؤيته موجهة إلى عالمه الداخلي حاضر مع وجده وحبه. لذا يمتنع المشاهد عن التصفيق لأننا في حضرة ذكر.

يرمز دوران الدرويش إلى دوران الكواكب حول الشمس بل دوران كل جزيئات الكون من حي وجماد حول شمسه، في حركة لولبية، حركة تكبر وتتسع من المركز إلى الفضاء، ومن الأرض باتجاه السماء.

يقدم الدراويش عادة أربع وصلات من الدوران، ترمز إلى تقيدهم بالشريعة والطريقة والمعرفة والحقيقة، وتمثل أيضاً الفصول الأربعة.. بحيث لا يمكن الاستغناء بالواحد عن الثاني…

وأنزل الآن بثوبي الأسود، رمز الدنيا، لأترك الميدان فضاء مقدساً تدور فيه التنورة البيضاء تحلّق بصفائها، فيتوحد روح الدرويش وجسده في حركة واحدة نحو الفناء والحضور معاً.

 

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!