لقد استحق الشيبي هذا العنوان في مقالنا هذا نظراً لما قدمه لأبي منصور الحلاج من دراسات وتحقيقات لديوانه الشعري وشروحات يعرفه القاصي والداني ممن جعل التصوف منهجاً بحثياً له.
ومقالنا هذا الذي أُقدمه هنا بمناسبة مرور 7 سنوات على رحيل حلاج بغداد المعاصر العالم المتفلسف كامل مصطفى الشيبي هو تكريماً ووفاءً لهذا العلم العراقي الكبير الذي توفي في (3/ 9/ 2006م)، وجزء من وفاء التلميذ للأُستاذ الذي تعلم هذا التلميذ من الأستاذ الكثير ولم يبخل عليه هذا الأستاذ يوماً لا بنصح أو مشورة، حتى وهو أستاذ مثله في الوسط الأكاديمي، وقيل في الأمثال من علمني حرفاً صيرني حراً، ولنجعل من ذكراه سُنة للأجيال اللاحقة بنا كيف تتعلم رد الوفاء لأساتذتها ومعلميها وتحفظ لهم حقوقهم في زمن قل فيه الوفاء للآباء فكيف بالمعلمين والأساتذة والعلماء؟. وقد تعرفت إلى الدكتور الشيبي منذ دخلت برغبتي في قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة بغداد عام 1978م، لأول مرة طالباً لهذا التخصص، فوجدت فيه الإنسان العالم المفكر الناصح الدءوب الذي لا يكل من طلب العلم ولا يخجل من السؤال عن الحقيقة، أوليس الفلسفة تساؤل عن الحقيقة والكشف عنها!!!!!.
تعمقت هذه الصلة بعد ذلك على كرسي الدراسة في السنة الثالثة البكالوريوس في القسم عندما أطل علينا بهيئته المبهرة ليدرسَّنا مادة فلسفة وحدة الوجود في الفصل الأول منها، ثم ليتلوه في الفصل تدريس مادة فلسفة الرازي (أبو بكر ) وإخوان الصفا، إذ لم يكن تدريسه لنا بالشكل المعتاد للتدريس في الدرس الأكاديمي من حيث متابعة المصادر والمراجع والعودة إلى النصوص كما كان يفعل غيره ممن يدرسونا الفلسفة ثم الوقوف عندها دون تحليل ونقد، بل بدأ درسه معنا في المنهج الواجب إتباعه للكشف عن الحقيقة في أي موضوع من موضوعات التفلسف، هذا المنهج كان يطلق عليه (المنهج اللغوي التاريخي)، وطبيعة هذا المنهج يقوم على متابعة اللفظ أو المفهوم الفلسفي أو الصوفي أو الكلامي من خلال جذره اللغوي وكيف نشأ ونما في الحضارة الإنسانية وكيف وصل إلينا بهذه الصيغة التي استقر عليها حتى سلمنا بذلك تداولاً له واتفقنا على دلالته فيما بيننا، وقد طبق الشيبي هذا المنهج على مصطلح (وحدة الوجود Pantheism )، الذي اقترن بالفيلسوف الصوفي الكبير الشيخ محي الدين بن عربي (ت.638هـ/ 1240م)، فكان المرحوم لا يقبل بهذا القول دون تمحيص ونقد، فتابع اللفظ عبر دلالته اللغوية والاصطلاحية وكيف نشأ في الحضارات الإنسانية الكبرى حتى وصل إلى ما وصل إليه عند ابن عربي ثم كيف تطور بعده إلى يومنا هذا، فقام بسياحة فكرية معمقة له منذ البابليين والسومريين والمصريين القدامى مروراً بالهنود والفرس فاليونان ثم عند الديانات السماوية الكبرى، ليقول في آخر الفصل أن هذا المفهوم يجب أن يدرس هكذا مع نصوصه وبالإمكان تطبيق هذا المنهج على أي مفهوم فلسفي أم فكري. وإن كان منهجه لربما لم يتفق معه فيه آخرون، لأنه يمثل شخصه الفلسفي واجتهاده في النظر إلى الأشياء والكشف عنها
ثم عرفنا فيما بعد أن هذا المنهج قد وجه به تلميذته النابهة وقرينة أُستاذها في دراسة التصوف الباحثة الجادة الدكتورة نظلة أحمد الجبوري، فكانت الحصيلة رسالتها عن فلسفة وحدة الوجود، أُصولها وفترتها الإسلامية والتي نالت بها درجة الماجستير في قسم الفلسفة جامعة بغداد عام 1982م، ثم طبعت كتاباً فيما بعد صدر في البحرين بطبعته الأُولى سنة 1409هـ/1989م، وكانت من نتيجة إشرافه على هذه الأطروحة أن غادر حلاج بغداد الدكتور الشيبي في ذات العام 1982 متقاعداً بإجباره على ترك وظيفة التدريس لأسباب سياسية بحتة، وإن كان سنه الوظيفي لا يؤهله بعد للتقاعد وهو ما زال في قمة عطاءه الفكري والفلسفي، ولم يكن خروجه من القسم بطلبٍ منه كما أخبرني فيما بعد، (بل لظروفٍ خاصة فرضت عليه وأوجبت مغادرته القسم)، فخسرنا نحن طلبته فضلاً عن زملائه الأساتذة الأجلاء بخروجه من القسم أُستاذاً بارعاً ومعلماً قديراً ومتصوفاً كبيراً. لكن بقيت ملازمتي لهذا العَلَم حتى يوم وفاته.
والآن نأتي إلى صميم بحثنا، لنقول: هناك من الدارسين من يقترن أسمهم بموضوعات معينة تبقى لصيقة بهم طوال حياتهم وبعد مماتهم وتكون علامة لهم بامتياز، ومنهم العلامة كامل مصطفى الشيبي الذي اقترن به درس التصوف في العراق المعاصر حتى أنه لا يذكر هذا التخصص إلا ويتبادر إلى الذهن شخص الشيبي، ذلك لأن صلته بهذا التخصص لم تكن عابرة أو لكسب مكانة في الجامعة يبغي من ورائها التدريس الحرفي فقط، بل هو الشخصية المميزة التي درست بعمق ودراية نادرتين التصوف الإسلامي وشخصياته وحققت بعض نصوصه وشرحت بعض دواوين كبار الصوفية في الإسلام، ولاسيما الحلاج وأبو بكر الشبلي وشهاب الدين السهروردي وعبد القادر الكيلاني. بعد أن سبق ذلك كله بإطروحتيه عن التصوف والتشيع والفكر الشيعي والنزعات الصوفية ، والتي أحدثت في حينها ضجة فكرية في العراق المعاصر تركت ردود أفعال عنيفة تجاه هذين الكتابين. ولهذا مجال آخر للحديث. وختم حياته بآخر بحثين له في التصوف نشرهما في مجلة مقابسات البغدادية، الأول ظهر في العدد الأول من المجلة وكان بعنوان (الغلو وأشكاله في المجتمع الإنساني) أما الثاني، فقد نشره في العدد الثاني من المجلة، وكان بعنوان ( الحلاج عند العرب وغيرهم)، ونحن بانتظار أن يصدر له في هذه المجلة وفي عددها الرابع بحثاً عن الشيخ عبد القادر الكيلاني. ولمن أراد المزيد عن الانجازات الفكرية والمساهمات العلمية للدكتور الشيبي فليراجع المقابلة الشخصية التي أجرتها معه مجلة الدليل البغدادية بعددها الثالث في تموز 2004 (ص ص52-59). وإن كان هذا الحكم من قبلنا على شيخنا الشيبي لا يعني إنا تغافلنا عن ذكر شيوخ وأساتذة كبار عراقيين في دراسة التصوف، منهم المرحوم الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح، والدكتورة نظلة أحمد نائل الجبوري، اللذان أسهما إسهامات فاعلة في دراسة التصوف تاريخاً ونظريات ومذاهب وفلسفات، وهذا ليس مجال بحثه هنا.
والذي نريد أن نسهم به في هذا البحث عن المرحوم الدكتور الشيبي، هي قراءتنا لآخر كتاب منهجي صدر له في مجال التصوف وقد بلغ الشيبي من العمر 70 عاماً، والذي وسمه بعنوان (صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي، صدر بطبعته الأولى في بيروت عام 1997م).
وهذا الكتاب قد أُنجز من قِبله بشكلٍ مغاير عن بقية كتبه السابقة، سواء في المنهج أم في الموضوعات التي تناولها بالدرس والتحليل فيه. إذ وضع فيه خلاصة علمه ومعرفته بالتصوف ومنهجه الذي اختطه لنفسه وهو يؤسس لمدرسة فلسفية عراقية معاصرة في الدراسات الصوفية المقارنة، إذ يقول في مقدمة هذا الكتاب (أنه كتاب غريب بين كتبي ، إذ هو الكتاب المدرسي الأول الذي يكرر ما سبق أن قيل ويبسطه ويتحرى أن يكون قريباً من الأذهان بغير مفاجأة أو إزعاج ) ، ولكن سرعان ما يقف الدكتور الشيبي عند هذه النقطة التي أشار إليها ليقول: (إن ما أتوق إلى تحقيقه منه أن يغني عن المراجعة والتحقق مما فيه مع علمي بأن شيئاً كهذا بعيد المنال في حالِ كتابٍ مثل هذا).
والمنهج الذي يطبقه الدكتور الشيبي في هذا الكتاب من الناحية الشكلية والذي يعتقده صواباً بعد طول بحث وتحقيق وتأليف، هو أن يُخليه من الهوامش والإشارات والمراجع، ويكتفي بالنزر اليسير الذي ذكره في متن الكتاب، والسبب يعود بنظره إلى (إراحة القارئ العام فضلاً عن المتخصص بين أسفل الصفحة وأعلاها، مع بقاء عامل الثقة وحسن النية الذي أود أن يتحقق بيننا). فضلاً عن أن هذا الكتاب بنظره يمثل عمل تدريسي جامعي طال عليه الزمن، أي أن الشيبي في هذا الكتاب أراد أن يُخرج للقارئ المتخصص فضلاً عن المثقف كتاباً في التصوف فيه من البساطة ما يجعله مقبولاً ومرغوباً به ومفهوماً لديه، وكأنه كان يعاني من هذه المعارضة الظالمة للتصوف في الوسط الفكري عند قرائه ومعارضيه ومنتقديه، إذ أنه كان يأمل من هذا الكتاب أن تقبله النفوس وتنعكس منه الفائدة. لاسيما أن هذا الكتاب قد صدر بعد أن تغيرت المواقف الفكرية والسياسية في العالم الإسلامي بعد انهيار المنظومة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وكأنه كان يتحسس ذلك في كتابه هذا وفي آخر نص منه إذ يقول: (أن غياب التنافس الذي أحدثته سقوط الشيوعية ودولها في أوروبا الشرقية وظهور [منطقة الفراغ] التي ملئت بالنشاط الإسلامي المنظم الذي يقف عند حد تبادل الآراء،….، بل استمر هذا النشاط في حدته وتطرفه حتى ألب الحكومات العربية والإسلامية عليه مما جعل على هذا النشاط هدفاً رئيسياً من أهداف الحكومات ، فأُفسح المجال للتصوف ليخفف من هذه الحدة ويسبغ شيئاً من المرونة والتوّاد والتفاهم بين الجماعات المتصارعة والمتنافسة على قيادة المجتمع والمستقبل القريب سيبين الدور الذي يدخره له ) ، ولكن هل نجح التصوف فعلاً كما كان يريد له الشيبي في تخفيف حدة هذا التطرف؟. والجواب عندنا فيه تأمل ونظر ليس هذا مجال نقاشه وتوضيحه.
وكما أسلفنا فإن هذا الكتاب قد خرج عن السياق المعهود في التأليف المنظم للكتب المنهجية، فانعكس هذا الأمر على مضمونه، إذ خلى الكتاب من الفصول والأبواب والمباحث التي عادة ما تصنف بها الكتب من هذا القبيل، فجاء على محاور خمسة رئيسية( لم يشر الشيبي إلى أنها محاور) ضمت بين ثناياها عدة موضوعات مختصة في الزهد والتصوف وشخصيات هذا اللون من المعرفة والسلوك ، فهو كتاب ليس مفهومي فقط بل تأريخي في مضمونه.
فالمحور الأول من الكتاب اختص بدراسة كلمة صوفي Sufism أوMysticism، إذ يرى الشيبي أن هذه الكلمة قد تعددت الآراء حولها كما رُشحت لهذه الكلمة أصول كثيرة منها ما يوافق صورتها من الناحية الاصطلاحية ومنها ما يخالفها، قائلاً: أن كلمة (صوفي) لم تظهر في الاصطلاح إلا بعد سنة (150هـ/767م) وهي السنة التي توفي فيها أول زاهد لقب بالصوفي في المجتمع الإسلامي (أبو هاشم عثمان بن شريك الكوفي الصوفي)، وفي هذا السياق فإن الألفاظ التي يمكن أن تُعد أصلاً لهذه الكلمة هي (الصفاء، الصُّفَّة، الصفوة، الصوفانة، سوفيا، صوفة القفا، الصوفة المرمية، بنو صوفة، الصوف)، فيأخذ الشيبي بمناقشتها لفظة لفظة لمتابعة أي منها يمكن أن تكون هي الدالة على كلمة الصوفي ، فمثلاً لفظة الصفاء لا يقبل بها أصلاً للتصوف لعدم قيام دليل تاريخي يعضدها، فضلاً عن أنها لا تصلح لهذا الأصل من الناحية الصرفية أيضاً، إذ أن النسبة إليها (صفائي). في حين كلمة (الصُّفَّة) هي الأخرى لا يقبل بها أصلاً لأنها تصطدم بالناحية الصرفية لها (صُفّي)، ولهذا لا يجد مسوغاً لتحويل هذه الكلمة إلى الصوفية بأية صورة من الصور.
أما كلمة (الصفوة) فهي الأخرى لا تستقيم عنده لأن دعوى القائلين بهذا الأصل يحتاج إلى دليل نفتقر إليه هنا، بالإضافة إلى أن النسبة إلى هذه الكلمة تكون (صفوي). أما لفظة (الصوفانة) فتعني البقول الذي ينبت من تلقاء نفسه ويهمله الناس لعدم الحاجة إليه، وبالتالي فإن النسبة إليها هي الأخرى غير واردة لأنه بنظر الدكتور الشيبي لا يستقيم هذا الفرض مع الحقائق العلمية لأنه يتصل بوجه شبه بين هذا النبات والصوفية لا أكثر، فضلاً عن أن هذه النسبة إلى صوفانة هو صوفاني، وما أبعد هذه الكلمة عن مرادنا.
وتبقى لفظة (سوفيا) وهي المقطع الثاني من الكلمة اليونانية فلسفة ( = فيلوسفيا)، وهذه اللفظة أفترضها البيروني (ت441هـ/1049م) في أصل كلمة صوفي، ويرى الدكتور الشيبي أن هذا الفرض على ما فيه من تأخر واضح عن بداية ظهور الكلمة، فضلاً عن أن اللفظ ينسب إليه على صورة (سوفي) بالسين لا بالصاد، وإن كانت أدلة الداعمين لهذا الرأي حسب قول الشيبي إنما تقوم على بعض آراء المتصوفة في القرن الخامس الهجري الذين مزجوا الفلسفة بالتصوف فحاولوا أن يجدوا أصلاً لهذه الكلمة من الفلسفة ، وهو مما لا يقبل به الشيبي ، لان الكلمة تعبر عن ملاحظة مرحلية من مراحل الثقافة الصوفية. ليقف فيما بعد عند لفظة (صوفة القفا) ليعدها أول كلمة تصلح لأن تكون مشتقة منها كلمة صوفي من الناحية الصرفية، غير أن دلالتها المحدودة على التصوف باعتبارها تعني إهمال حلاقة مؤخر الشَعَر لا تصلح أن تستغرق الصوف كله إلا ما تعارف عليه أكثر الصوفية الذين لم يتبعوا هذا التقليد.
إذن، أولى الألفاظ بنظره تصلح لهذا المعنى بتمامه عبارة (بنو صوفة) التي تعبر عن أعضاء قبيلة يمانية أُطلق عليها هذا الاصطلاح قبل الإسلام، وقد لقب أوُّلهم (الغوث بن مر) لمّا نذرته أُمه لبيت الله الحرام وعلقت على رأسه في صغره صوفة وسماه الناس (ربيط البيت). وقد استقر هذا المعنى في أذهان العرب قبل الإسلام حتى لقد ربطوا بعض مناسك الحج بحضور أفراد هذه العائلة التي صار لها بامتيازها الروحي فلم يكن الحجاج يفيضون من عرفات أو يرمون الحجارة إلا بحضور رجل من هذه الأُسرة الروحية. ليخلص بعدها إلى كون كلمة (صوفي) مشتقة من لفظة (صوفة) وإن كان هذا الاشتقاق لا من حيث دلالته التاريخية بقدر بعده الرمزي.
فضلاً عن ذلك يرى الشيبي أن نسبة الصوفية إلى الصوف، يلاحظ كونه رمزاً لإهدار القيم المادية التي تعارف عليها الناس بعد إهمال القيم الإسلامية من جانب الحكومات التي صار همها الإبقاء على سلطتها مهما كان الثمن، وبذلك تلتقي دلالة الصوف مع دلالة صوفة من حيث رمزها إلى الحيوان الهالك وفناء الوجود الإنساني، وذلك بإهمال الزاهد للجوانب المادية من الحياة بوصفها مؤدية إلى التميز بكافة أشكاله، وهي تفرق لا تجمع وتؤدي إلى التناقض مع المثل العليا التي يتبناها الأديان جميعاً ولا سيما الدين الإسلامي.
أما تحديد وتعريف (التصوف)، فيرى الشيبي فيه أن وضع حد أو تعريف لهذا الاصطلاح بالمعنى المنطقي للتعريف التام من الصعوبة بمكان، مثله مثل لفظة فلسفة، لتضارب الآراء في شأنه تضارباً شديداً لمّا يستقر حتى الآن، وهذه الصعوبة مردها بنظره لأسباب. منها: ارتباط التصوف بالفلسفة منذ القديم ، إذ عرفه الشيخ معروف الكرخي (ت200هـ/815م) هو: الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق. وهو تعريف شبيه بعبارة الكندي في تعريف الفلسفة أنها: علم الأشياء بحقائقها بحسب طاقة الإنسان. ومنها: أن ما زاد في صعوبة التعريف هو أن من مارسَّ هذا المشرب إنما فعل ذلك وفي عرفه أنه مجموعة من الحالات النفسية وربما النوبات العصبية ومواقف يفقد فيها الإنسان توازنه النفسي وربما ما غاب عن حسه. ومنها: أن ما يعقد هذه المسألة في وضع حد للتصوف هو أن كيان التصوف العملي والنظري قد أصابه تطور سريع منذ ظهوره في بداية القرن الثالث الهجري إلى أن وصل إلى أوجِه في القرن السابع الهجري، بحيث بدأ في كل قرن وكأنه موضوع جديد له تمام الاستقلال عن صورته في القرن الذي سبقه، فمثلاً تصوف القرن السادس الهجري يبدو في صورة فلسفية بحتة تستمد عناصرها من الأفلاطونية المحدثة والغنوصية كما في حكمة الإشراق للسهروردي، وفي القرن الخامس الهجري كان مزاج التصوف من الزهد الشديد وعلم الكلام والفلسفة الذي أخذت تتسرب إليه إبانه. وإذا ما تقدمنا في الزمان إلى القرون المتأخرة من العصر الحاضر نجد أن التصوف قد فقد أصالته وصار في المشرق على الأقل مجموعة من الأفكار الساذجة مقرونة بمظاهر مادية يعدُّها الصوفية المحدثون كرامات وخوارق.
وبعد هذه المقدمة التي عرض فيها الدكتور الشيبي للإشكاليات في وضع تعريف للتصوف يقول: أن تعريفات التصوف قد تجاوزت (الألف عداً) بنص قول الشيخ عمر السهروردي (ت632هـ/ 1234م) في كتابه عوارف المعارف، وموضوع له ألف تعريف من الصعوبة بمكان تناوله وبحثه. ولذا يقترح هو وضع تصنيف لهذه التعريفات بحسب الموضوعات وتأجيل البحث التاريخي فيها إلى ما بعد تبلور النتائج المتصلة بهذه التجميعات المصنفة، وهي بحسبه ثلاث مجموعات، بسيطة ومركبة ذات جوانب متعددة وجامعة تتميز بالنضوج والإحاطة والعموم.
فمن أمثلة التعريفات البسيطة تعريف أبي الحسين ألنوري (ت295هـ/ 908م) التصوف هو السكون عند العدم والإيثار عند الوجود. كما ويعلق الشيبي على نماذج أُخرى يوردها من هذا التصنيف، من أن التعريفات تعكس في الحقيقة روح الفتوة التي هي المعنى الذي ينطبق عليه فكرتا المروءة والسخاء.
أما التعريفات المركبة، فيورد الشيبي منها تعريف الصوفي أبي على الروَّذباري: أن الصوفي من لبس الصوف على الصفا وأطعم نفسه طعم الجفا ونبذ الدنيا وراء القفا وسلك سبيل المصطفى. وهذا الصنف من التعريفات إنما يمثل بنظره جوهره وملاك أمره، مع دعم بالجوانب التنظيمية والتقاليد الروحية والمظاهر النفسية فقرنوه بفكرة فناء الإنسانية.
وهنا يخلص الشيبي من جانبه إلى وضع تعريف إجرائي له هو: الظاهرة الثابتة للشوق الكلي الذي يُبديه الروح الإنساني في سبيل الاتصال الشخصي بالله.
أما نشأة التصوف، فنجد الشيبي يرى فيه نزعة إنسانية لا يحدها مكان ولا زمان وهو في حقيقة جوهر التوحيد لانبعاثه من الإيمان بالعالم الروحي الذي هو أساس الدين ولتأسسه على التوجه إلى هذا العالم.
وتساوقاً مع منهجه اللغوي التاريخي الذي عرض فيه أصل التصوف وتعريفاته، يرى الشيبي أن التصوف له أساس في الحضارات الإنسانية، فمثلاً أن من بين مجوس الفرس صوفية أطلقوا على أنفسهم ما ترجمته (مُشرق القلب)، أو الناظر إلى الواحد، وتمثل الصوفية عند المسيحيين بالرهبان وعند البوذيين بهذا الاسم أيضاً وكذلك عند الهنود، وأطلق عليهم العرب لفظ النُساك والزهاد قبل تبلور هذا الاسم بعد ظهور الإسلام. لينطلق من هذا التقسيم إلى الوقوف ملياً أمام لفظ الزهد ليدرس فيه الزهد قبل الإسلام بعد أن عرَّف معناه اللغوي وهو عدم الاهتمام بالشيء سواء حصل أم لم يحصل، إذ ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في مواضع من سورة يوسف ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف : 20])، كما أن الزهد له أصول ظهرت في الجاهلية وكان مجتمع مكة والمدينة من حواضر الحجاز وكذا في اليمن وغيره زُهد وزهاد.
أما في الإسلام فنجد أن السابقين الأولين من المسلمين فيهم مجموعة الزهاد قد فهموا من هذا الدين كونه مجموعة من المثل العليا تتجه نحو القيم الروحية لا المادية، وسلموا أن لكي يحظى الإنسان بالسعادة المادية في الآخرة ينبغي أن يتخفف منها في الدنيا، ومن أمثال هؤلاء نجد الأمام علي بن أبي طالب والخليفة عمر بن الخطاب وأبي ذر الغفاري وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ( رضوان الله عليهم جميعاً)، إذ هم مجموعة من الزهاد صاروا نماذج للصوفية فيما بعد وأُسوة وقدوة.
أما الزهد فيرى فيه الشيبي خصائص تبعاً للأمصار الإسلامية (الكوفة، البصرة، خراسان، الشام، مصر)، فهي مثلاً في الكوفة تمتاز بخصائص لم نجدها عند زهاد المسلمين في الأمصار الأُخرى، ومن ذلك أن بعض زهاد الكوفة اعتزلوا الناس في بيوتهم لا يخالطون أحداً، كما بالغ هؤلاء في العزلة حتى اندفع فريق منهم إلى التعبد في المقابر هربا من عالم الأحياء الذي لم يؤدِّ إلا إلى زيادة في القلق النفسي والخوف من عذاب الآخرة، فضلاً عن أن الزهد في الكوفة برزت فيه ظاهرة تعذيب النفس، واستحباب الزهاد هناك طول العذاب أثناء النزع. ليخلُص الشيبي من ذلك إلى أن هذه السمات للزهد في الكوفة إنما تأثرت بالأحداث التي جرت في هذا الجزء من العالم الإسلامي، فانعكس منها بأشكال جديدة لم يألفها المسلمون الأولون، وتمثل في لبس الصوف واستحباب العذاب عند الموت والانقطاع في المقابر والرعب الشديد من عذاب الآخرة.
كما ويتحدث الشيبي بعد ذلك عن خصائص الزهد في الأمصار الإسلامية الأُخرى، فمثلا من خصائص الزهد في البصرة، أنها تقبل التأثر وتصدر عنه ولا قِبَلَ لها بمقاومته لكثرة الأعاجم من سكانها قد طبعها بطابع مزجي يتبين فيه الفرق بينه وبين الأمصار الأُخرى في وضوح وجلاء. في حين يتسم الزهد في الشام في قوالب معينة صاغتها الظروف التي مر بها هذا المركز الإسلامي كونه مركزاً حضارياً تأَلَفَ النظام وتَطَبَقَ القوانين الرومانية ويعش سكانه كعيش الرومانيين. ولكن سمات زهاد خراسان هي الأُخرى نجد فيها زهد فارسي في ثياب إسلامية، وكان طابعه يتمثل في الانتقال المفاجئ من الحياة المادية إلى الحياة الروحية بفعل هزة نفسية في فترة معينة، في حين الزهد في مصر يتسم بسمات خاصة كما يقول الشيبي، في كونه زهد اقترنت به الرواسب القديمة، لأن بيئة مصر كانت أقرب البيئات التي تمثل روح الاتجاه إلى الآخر والصدور عنها في الحياة اليومية وذلك للتشابه التام في هذا المظهر الديني عند الفراعنة ثم النصارى وأخيراً عند انتشار الإسلام بينهم، مما نتج عن ذلك أن الزاهد فيها كان إيجابياً يعمل بما فيه من إيمان بالمثل العليا والتزام في تطبيقها على تحقيق ما آمن به بالعمل الإيجابي الذي يناسب هذا التوافق في المزاج والمسلمات ، وكان من تسرب المُثل الفرعونية إلى الزهد المصري أن اقترن العمل بالأسرار الدينية واستخلاص البواطن التأويلية من الظواهر الشرعية ، وظهرت ملامحه عند الزهاد ذنون المصري وعثمان بن سويد الأخميني.
وأخيراً يقف الشيبي طويلاً أمام رجالات التصوف ومدارسه التي اهتم منها فقط بمدرستين هما مدرسة بغداد الصوفية والمتمثلة بالشيخ معروف الكرخي والحارث بن أسد المحاسبي والجنيد البغدادي، ومدرسة التصوف الفارسي الغائب عن الحس، والمتمثل بمعنى الفتوة والملامتية مع دراسة لشخصيات التصوف الفارسي من أمثال أبي يزيد البسطامي والسهروردي المقتول وابن عربي، ليعرج بعدها على دراسة الطرق الصوفية القديمة والمتأخرة الشاذة، فضلاً عن دراسة التصوف في الأدب الحديث والمتمثل بالنتاج الشعري للزهاوي عن مسرحيته بعنوان ثورة في الجحيم جاعلاً الحلاج من أبطالها ، وقصيدة الشاعر اللبناني أدونيس (علي محمد سعيد) والشاعر عبد الوهاب البياتي عن الحلاج وغيره.
ويعتقد الشيبي أن التصوف حركة منظمة بدأت مع انتظام الزهد وتجميع مثله الجديدة والقديمة في مذهب واحد منهجي له صفة التكامل الظاهر والثقافة والتنظيم الاجتماعي والمنهج المدرسي، وبهذا المعنى يضع حداً تاريخياً لظهور التصوف كمصطلح مستقر في داخل دائرة الثقافة الإسلامية بشكله العملي واستقلاله عن الزهد وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري ، إذ جاء أول ذكر للصوفية عند الجاحظ في آثاره، مع استقرار للتصوف بهذا البعد نهائياً على يد الشيخ معروف الكرخي، وأن بداية ظهور التصوف كان معاصراً لبواكير الإنتاج الفلسفي الإسلامي، مع إصرار من قبل الشيبي بوجود شبه بين الفلسفة والتصوف في عبارات الفلاسفة والصوفية بحيث يمكن اعتبار التصوف صورة جديدة من الفلسفة طوَّرها أصحابها استقلالاً بها عن صور الإنتاج الفلسفي، كما فعل ذلك المتكلمون قبلهم بقليل، وإثباتاً لدليله هذا يورد في كتابه هذا نماذج من تعريفات الفلسفة عند الكندي والفارابي وابن سينا ليخلص منها إلى وجود تقارب بينها وبين تعريفات التصوف كما وردت عند الصوفية.
ويصرح الشيبي أنه مع بداية القرن الثالث الهجري قد انجلى الموقف عن مدرستين صوفيتين، إحداهما تصدر عن روح نظرية تعتمد على آراء جديدة في علم الكلام والفلسفة وهي مدرسة بغداد الصوفية، وأُخرى تصدر عن روح عملية تستمد طاقتها من مُثُل الفتوة والملامتية من ناحية ومن الغيبة عن الحس وإفناء الذات الإنسانية إلى حد إهمال الواجب الشرعي المعتاد ظاهرياً من ناحية ثانية، وتلك هي مدرسة نيسابور الشطحية أو الفانية عن الحس أو ما يصطلح عليه بمدرسة (السكر) فهي مدرسة تقابل مدرسة (الصحو) في بغداد. معتقداً أن الموجات الفلسفية العقلية التي تعاقبت على بغداد هي الأساس في إصدار روح التصوف فيها هذا الطابع النظري، بينما كانت الحركات الثورية والغليان القومي والتقاليد القديمة في إيران والبعد عن مركز السلطة ورقابتها هي المسئولة عن إفراغ التصوف الإيراني في قالب ذي شكلين متقابلين متناقضين من ناحية المظهر ومتناسقين من حيث الأساس، هي الملامتية العملية من ناحية، والشطح والغائب عن الحس من ناحية أُخرى. فمثلاً يعتبر الشيبي أن الشيخ معروف الكرخي أول زاهد استحق اسم الصوفي لا عن لقب ونسب وإنما عن فكرٍ ومنهج ورأي، أما الحارث المحاسبي (ت243هـ/857م) فيعتبره الشيبي صوفياً عن بينة واختيار، في حين يكون الجنيد البغدادي (ت298هـ/911م)بنظره قمة المدرسة البغدادية الواعية في التصوف، في حين يوجه الشيبي سهام نقده نحو التصوف الفارسي الغائب عن الحس، فيقول عن أبي يزيد البسطامي (ت261هـ/857م) أن أفكاره بقايا من رواسب المجوسية، ذلك أن في كلامه نجد مضمنات للفظة (الزنّار)الذي كان حزاماً من الصوف يشده المجوس على أوساطهم، إذ صار الزنّار في كلام البسطامي رمزاً للجانب الفاني من الإنسان الذي يحيا حياته المثالية الروحية بعيداً عن علاقةٍ مادية، في حين يشير الشيبي إلى تصوف الحلاج أنه خير معبر عن مدرسة السكر الصوفية، وهو في أقواله وأرائه قريب الشبه بأبي يزيد البسطامي ولا سيما فيما يتصل بشطحاته التي تعبر عن (السَفَر الثالث) المتمثل في التعبير عن نفسه في حال من الاندماج في العالَم الروحي لا يتناسب مع متعارفات المجتمع، في حين يكون السهروردي المقتول (ت586هـ/1190) بنظره خير من يمثل الثقافة الفلسفية الموسومة بفلسفة الإشراق، والتي تعتبر تطوراً لنظرية الحلاج في الوجود على صورة تدخل في تكوينها العناصر الفلسفية في وضوح وجلاء، فضلاً عن أن هذه الفلسفة السهروردية دخل في تكوينها أيضاً عنصر يتصل بالأفكار الفارسية القديمة التي تعتبر فكرة (النور) أساس التدين الفارسي الذي يعد الإشراق وتنقل النور الإلهي في الملوك من لوازمها.
أما ابن عربي فيعتبر على وفق الشيبي إن أهم فكرة قدمها إلى المعرفة الإنسانية قي فكرة أو فلسفة وحدة الوجود التي استقاها من مصادر لا تحصى من الأبحاث المختلفة التي خاض فيها جَمْعٌ من ذوي الاتجاهات المتنوعة من الإسلاميين وغيرهم من اليونانيين والفرس.
إن هذه الآراء التي دبجها قلم المرحوم الشيبي في آخر كتاب له عن التصوف لتدل دلالة واضحة بيّنة على طول باع هذا الرجل في الدرس الصوفي ومنهجه وتحليل أصوله والوقوف عند أبرز آراء شخصياته وقوف العالِم المتبصر المتبحر لا المردد المقلد، ومرد ذلك كله إلى الطابع المنهجي المحكم الذي يؤطر عمله مع خبرة متراكمة من جراء العمل الأكاديمي الرصين الذي عمل في وسطه وأفاد به طلبته ومريديه، حتى أن الباحث يستطيع أن يرسم خارطة فكرية تاريخية عن التصوف الإسلامي من هذا الكتاب، فهو كتاب فيه كتب، غني بالآراء العلمية والالتفاتات النقدية المحكمة والمرجعيات الموثوقة من أُمهاتها.
لكن يبقى ثمة سؤال نود أن نطرحه هنا وبهذه المناسبة التي نستحضر فيها فكر وفلسفة أُستاذنا المرحوم الشيبي، ألا وهو: هل كان الشيبي في كل هذا النتاج عن التصوف الذي تركه لنا صوفياً وصاحب طريقة في المسلك العملي والنظري لهذا اللون من التفلسف؟.
والجواب متروك للدارسين لهذه الشخصية الفلسفية العراقية الفذة أن ينقبوا في نتاجها ويعمقوا البحث والدرس فيها.
كتابات