الشمس المنتصرة .. حكاية الرومي كما ترويها شيمل
مختار خواجه
تمضي بنا أنا ماري شيمل (1923-2003) عميدة الاستشراق الألماني في حضرة مولانا جلال الدين الرومي متنقلة بنا عبر كتابها الشمس المنتصرة من جزء لآخر بدون أن تشعر، فتجد نفسك في ختام الكتاب ممتلئا بروح ذلك الشاعر، ومدركا لكثير من أبعاد تجربته الإنسانية الثرية.
ولا شك أن جلال الدين محمد بن بهاء محمد (ولد) البلخي مولدا والقونوي وفاة (ت: 672 هـ)، قد ترك بصمة عميقة في مسار التصوف الإسلامي، وإن كان إدراكنا نحن العرب لجوانب عظمته متأخرا، لكنه كان قويا كذلك، وقد حظيت برفقة العارف بالله الدكتور محمد السعيد جمال الدين، حيث طاف بنا مطولا في مدارك الرومي من منظار الشاعر والمفكر الكبير محمد إقبال، كاشفا عن أبعاد توضح وبدقة قوة عمل أنا ماري شيمل وجودته لأسباب سأوضحها في ما يأتي.
وقد كان من حسن حظ الكتاب أن يجد مترجما متمكنا بقوة وتدفق الدكتور عيسى العاكوب الذي نقله من الإنجليزية للعربية، بقوة تجعلك تحسب لولا بعض التراكيب أنه كتب بالعربية أصلا، وقد قام المترجم بمطابقة الترجمة الإنجليزية للأبيات الفارسية المترجمة للإنجليزية مع الأصل الفارسي، وقام بترجمتها مجددا محافظا بذلك على جمالياتها.
لقد كان المثنوي سلوى أنا ماري شيمل خلال اعتقالها إبان الحرب العالمية الثانية، كما أنه كان أحد أهم مجالات تخصصها المتعمق في التصوف الإسلامي بلغاته العربية والتركية والفارسية والأوردوية.
مقدمة المؤلفة:
تكشف مقدمة المؤلفة عن قدرة عالية على الربط بين الرومي ودارسيه، وهي تقدم رؤيتها الخاصة عنه، مصرحة بأنه وإن كان اتجاه الرومي خليطا من الأفكار المتصلة بوحدة الوجود والأفلاطونية المحدثة، إلا أنه من زاوية أخرى لا يمكن فهم الرومي –وهذا ما تراه المؤلفة- عبر الشارحين المتأثرين بفلسفة ابن عربي، كما فضلت على تلك الشروحات شروحات محمد إقبال له في أعماله المختلفة، تشير شيمل للطبيعة الديناميكية – والتعبير من عندي- لتصوف الرومي، حيث كان الرومي يهدف لأخذ الناس بعيدا عن الدنيا، ليعيدهم إليها مؤمنين صالحين، كما أشارت لإيمان الرومي العميث بقدرة الإنسان على مغالبة الشر، وتحقيق الانتصار عليه.
الرومي في سياق تاريخ التصوف:
تتفتح شيمل كتابها بهذا الحديث الثري عن النزعات الصوفية في الإسلام، وتؤرخ لها بسلاسة، متناولة ومشيدة –في الحقيقة- بمدرسة بغداد التي ارتكزت على محاسبة النفس، وتشير لأبرز أعلامها كالجنيد والمحاسبي من قبله، موضحة الفارق بين التصوف البغدادي والفارسي، حيث رأى الفرس في حب مظاهر الجمال الطبيعي المتنوعة وسيلة للوصول لله تعالى، بينما بقيت أفكار الحلاج كامنة تحت السطح عندهم.
وأشارت لرفض المتصوفة المبكر لتأويل المعتزلة العقلي للنص الديني، وأوضحت دور الأربطة الصوفية الدفاعي عن العقيدة السنية في مواجهة تجمعات الإسماعيلية، حيث عمل الصوفية على توفير بديل شعبي للناس، يعوض ما توفره الإسماعيلية من حرية من القيود الشعائرية المختلفة، عبر توفير طاقة روحية كبيرة للعامة.
واختتمت حديثها هذا بالوقوف عند محطة القرنين السابع والثامن الهجري وظهور الطرق الصوفية بمنظومتها المتعارف عليها، وظهور شعر ابن الفارض وفلسفة ابن عربي.
لتضع ترجمة وافية لجلال الدين الرومي، ورحلاته الكثيرة موقفة مطولا عند علاقته بشمس الدين التبريزي الدرويش الجوال، مشيرة لاحتمال لقاء الرومي بابن عربي، وأن التبريزي أبعده عن فلسفته، حيث يظل الرومي متعلقا بالتبريزي الذي دله على طريق الحب، حيث يختفي التبريزي ليبحث عنه الرومي مطولا، ثم يجده، ثم يختفي مجددا للأبد.
تشير المؤلفة لاختلاط الرومي بالحرفيين والناس العاديين، واختياره مريديه المقربين منهم، حيث استطاع كسبهم لصفه، وإدخالهم دائرته، حيث أوضح أنهم إن كانوا صالحين فسيكون هو مريدهم، وإن لم يكونوا كذلك، فسيجتهد ليجعلهم صالحين.
توضح المؤلفة كذلك جانبا مؤثرا من علاقة الرومي بمحيطه، حيث كان يحبذ السلوك المهذب والميال للبيئة الحضرية، نابذا الأسلوب الفج للقزلباش والبكتاشيين، ما جعله كذلك شخصا محببا وسط بيئته بدرجة كبيرة.
التراث الشعري:
في هذا الجزء من الكتاب تناولت المؤلفة المنابع الأصلية للصور الشعرية المجازية، والفكرة الأساسية عند الرومي، حيث أكدت أن المحور الأساس لنظرة الرومي للكون كانت مبنية على التأمل في الكون لمعرفة آثار صفات الله تعالى، مستمدا قصصة وصوره الشعرية من قصص القرآن الكريم والحديث الشريف وكتب التصوف كالإحياء وقوت القلوب، وأشعار فريد الدين العطار وسنائي، إضافة لمجموعة من القصص الشعبية كالشاهنامة ومقامات الحريري.
أما في حديثها عن الصور المجازية والرموز عند الرومي، فقد أسهبت في إيراد الصور والرموز المتنوعة، وقدمت رؤية فنية أدبية فلسفية جلية المعاني لها، فتناولت الشمس كرمز مهم عند الرومي، يشير للقيم والأخلاق العليا، كما تناولت الحيوانات ورمزياتها عند الرومي، فالجميل مثلا يرموز لرحلة الروح، بينما يرمز الثعلب للكذب، والخنزير للمعاصي.
تناولت رمزيات الفصول الأربعة عند الرومي، فالربيع هو زمن الوصال والشتاء زمن الهجر، أما الأشخاص التاريخيون فيبرز الخلفاء الأربعة رمزا للعدالة والشجاعة والعلم والصدق، ويظهر رجال التصوف كالجنيد وابن أدهم كرموز للولاية والزهد.
كما حظيت القصص ورمزياتها بعناية المؤلفة الخاصة، ومن أبرزها قصة حبات الحمص، التي تغليها حرارة العشق، لتصبح ناضجة مستوية، رغم أنها تقلق وتتطاير في القدر، حتى ينتهي القلق بنضجها، وتبرز عددا آخر من القصص التي يحكيها الرومي.
المباحث الإلهية عند الرومي:
يمكن القول بأن هذا الجزء هو لب الكتاب من حيث الفكر والفلسفة المستنبطان من أبيات الرومي، فتناولت موقف الرومي من الله والألوهية، وتنزيهه لله تعالى، واعتقاده بتمايزه عن الكون، وأنه تعالى يقود الناس إليه ليتعروفا عليه، ويركز الرومي على صفات الله تعالى ليبعد الناس عن المعاصي، ويقربهم من الله تعالى بطريق الحب، كما يؤسس لفهم القدر عبر الصفات المتقابلة لله تعالى.
أما الإنسان فهو عند جلال الدين الرومي قمة المخلوقات الإلهية، مشددا على أهمية الفطرة وتجنب الجدال الكلامي، حيث يظهر الرومي ذا موقف سلبي من المدارس الكلامية وجدالها العقلي، وقد اهتم بقضية حرية الإرادة اهتماما كبيرا، ورفض التواكل والجبرية، وحارب الميل للشهوات المحسوسة.
وقد اعتبر الرومي الأنبياء قمة البشر والأولياء، وقد اهتم بالأحاديث الشريفة، وأكثر من الاستشهاد بها، وكان يؤمن بنورانية النبي صلى الله عليه وسلم، وأن وجوده هو غاية وجود الكون، ويعتبر نوره النبوي مصدر الإلهام الإيماني.
أما المحور الأبرز الذي اشتغل عليه الرومي، فكان الترقي الروحي للإنسان المؤمن، وقد أكد على نبذ الفلسفة العقلية والجدال الفكري في شؤون الغيب، وشدد على حب الله تعالى كسبب للطاعة والعبادة، وعلى أن هذا الحب لا ينقطع لأنه مرتبط بكمالات الله التي لا تنتهي، وعلى أهمية الشعائر في تحقيقه، وكان يهتم بإيضاح الجوانب الروحانية للشعائر الظاهرية، ولم يحدد تراتبية معينة للأحوال والمقامات، وركز على الحب والزهد والشكر والصبر.
الرومي في الشرق والغرب:
تناولت المؤلفة حفاوة الناطقين بالفارسية بالمثنوي، الأمر الذي ظهر في تنوع الشروحات المتعلقة به، كما عني به الأتراك منذ وقت مبكر، وحظي المثنوي بترجمات متنوعة في العالم الإسلامي الناطق بالفارسية، ولاحقا جرت ترجمته للتركية، وتأخر تعرف العرب عليه حتى أواخر القرن التاسع عشر.
توضح المؤلفة التجربة الخاصة بالشاعر والمفكر الهندي المسلم محمد إقبال الذي اهتم بفكرة وحدة الوجود عند الرومي، لكنه انثنى عن هذه الفكرة برؤيا منامية رأى فيها الرومي، يأمره بكتابة مثنوي جديد، حيث شرح فيه أفكار الرومي بجلاء، وقد أشار الدكتور محمد السعيد جمال الدين في إحدى محاضراته الأكاديمية إلى حقيقة أن إقبال التقط الفارق في شعر الرومي بين الفناء وبين ما يدخل في سياق وحدة الوجود، مشيرا إلى أبيات الرومي التي تعتبر تجربة الفناء انصهارا للحديد في النار، لكن الحديد يبقى حديدا والنار تبقى نارا، وهو ما أقام لدى إقبال الفارق بين الفناء كتجربة صوفية ووحدة الوجود كفلسفة هاجمها إقبال بسبب خللها الاعتقادي والعملي والأخلاقي في آن معا، وبتقدير الكاتب المتواضع أن الرومي أعاد الاعتبار لمرحلة البقاء التي كان الصوفية البغداديون يلحون عليها، ويشيرون إليها، بحسبان الفناء تجربة روحية يمر بها المتصوف، ويعبر منها لما بعدها.
أما في الغرب، فقد حظي الرومي باهتمام الألمان منذ القرن الثامن عشر، حيث ترجم هامر المثنوي، ليقوم روكرت بتقديم الرومي بشكل صحيح وسليم للألمان، ليتبعه في الاهتمام بالرومي مستشرقون كُثر من أبرزهم نيكلسون الذي ترجم المثنوي، وترجمه لاحقا مصححا بتأثير من محمد إقبال.
الكتاب نظرة عامة:
لا شك أن المستشرقة الألمانية أنا ماري شيمل اسم لا يمكن تجاوزه من قبل دارسي التراث الإسلامي الصوفي، وتتمتع بحاسة عالية في مجالها هذا مكنتها من تقديم الفكر والقالب الأدبي والتجربة الروحية والنفسية الصوفية معا، وهو أمر لا يتأتى إلا لقلة من الدارسين.
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن النظرة الإقليمية المؤسسة على التقسيم العرقي المتداول لدى المستشرقين، ظهرت عند المؤلفة كذلك في تقسيم التصوف إلى تصوف بغدادي وآخر فارسي، وهو ما يرفضه الدكتور السعيد جمال الدين، معتبرا إياه خللا معرفيا، وذلك في محاضرة له حول إقبال والحكمة الإيمانية.
ويرى كاتب المقال، أن لهذه القسمة ما يبررها، إلا إن كان التقسيم ذاته ناتجا عن تصور عرقي (عرب- فرس مثلا)، فهنا يكون مرفوضا، لكن للإنصاف، فإن الكتابات الصوفية الفارسية حتى ما ترجم منها للعربية أو كتب بالعربية في بلاد تتحدث الفارسية، فإنه كان مختلفا عن الاتجاه السائد في العالم العربي، ولل أبرز مظاهر ذلك الاختلاف بين البغداديين والخراسانيين في توصيف الرضا وما إن كان مقاما أو حالا؟ والذي أشار له عبد القادر الجيلاني في كتابه الغنية لطالبي طريق الحق والدين، إضافة لما يظهر من تركيز المتصوفة في المشرق على الفناء أكثر من البقاء، وهو من أبرز نقاط الاختلاف بين الهروي صاحب منازل السائرين وابن القيم شارح الكتاب نفسه باسم مدراج السالكين، ولكن أعتقد أن المؤلفة كان ينبغي أن تضيف إضاءة أكثر على هذا الجزء لتعليله، مع العلم أن القصد من الكتاب ليس هذا الأمر، ولكن بما انه ذكر، فكان من الأولى إيضاحه.
وقد تكرر استخدام مصطلح وحدة الوجود بشكل مربك، ففي حين تنفي ارتباط الرومي بهذه الفكرة تعود في مواضع لتثبت أنه كان يؤمن بشكل من أشكالهاا، مع العلم أنها تعود مجددا لتوضح أن الرومي ركز على الأسماء والصفات الإلهية، وانفصال الله عن الكون، وأعتقد أن هذا الإرباك عائد للمترجم، ولإشكالية في مفهوم وحدة الوجود بين ما يعرف بحالة الفناء أو وحدة الشهود وبين وحدة الوجود كفلسفة.
وقد تجاهلت المؤلفة حقيقة ارتباط القزلباشية والبكتاشية – رغم تناولها لهجوم الرومي على الفرقتين- بالتشيع، وهذا ما قصر رؤيتها لاستشهاده بالخلفاء الراشدين على التصوف، في حين يرى كاتب المقال أنه من الجلي في هذا السياق التاريخي أن الرومي كان يعمد لتأكيد صحة خلافة الخلفاء ظاهرا وباطنا، مكسبا إياها بعدا صوفيا.
وفي الختام، لا شك أن الرومي نفسه قد وقع في إشكاليات تتصل بأنماط العقائد التي راجت في عهده من توسل بالأولياء ومغالاة فيهم والاعتقاد بالنور المحمدي، إضافة إلى الاستشهاد بالضعيف والموضوع من الأحاديث الشريفة، لكنه وبلا شك أحد أعظم العارفين والمتصوفين الذين امتازوا بقدرة فائقة على تمثيل التصوف السني في طوره الذي سبق مباشرة تبلور الطرق الصوفية بصورتها التي نعرفها، والدفاع عن العقائد الإسلامية الصحيحة، ودفع الإنسان للعمل الجاد والصالح في هذه الحياة الدنيا للوصول للفلاح الأخروي المنتظر.