الحبّ والجمال: قراءة في شعر النجّار

الحبّ والجمال: قراءة في شعر النجّار

قراءة في شعر”محمد غازي النجار”

بقلم: لبنى المقراني 


ما أحوجنا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى قراءة الشعر وتأمّل معانيه ومواطن الجمال فيه. ندرك حاجات أجسامنا ونجهل أو نتجاهل ما تتوق إليه أرواحنا، حتى تضمر فتختفي البهجة من قلوبنا. قصائد “محمد غازي النجار” أشجار وارفة مورقة نستظل تحتها خلال رحلتنا، فتميل علينا أغصانها المثقلة بقطوفها الدانية وتحثّنا ثمارها البعيدة على التسلّق إلى قممها العالية. يكتب “النجّار” للحبّ والجمال ومن وحيهما في أغلب قصائده المهداة لحبيبته وأسطورته الأبدية، وهو لم يكتب الشعر إلاّ بعد تلك التجربة العاطفية العميقة التي تمثّل حالة عشق نادرة الوجود. يعيش الشاعر على ذكرى حبيبته الحاضرة بقوة في معظم قصائده، فيلمس القارئ بصدقه وعذوبة كلماته. يصف بأسلوبه المميّز وصوره الشعرية الخلاّبة نعيم العيش بقربها وجحيم البعد عنها، ويتغزّل في مفاتنها بعيني عاشق فنّان. يتّسم شعر الغزل عنده بالمواربة حينا وحينا بجرأة تستدعيها حرارة المشاعر في مواطن، فيكون لها تأثير وقوّة. وفي الحالتين يجد خيال القارئ براحا وأفقا ينطلق فيه أنّى يشاء.

هو شاعر الحبّ والغزل بامتياز، غير أنّ قصائده في غير ذلك لا تقلّ روعة وجمالا. بعضها ذات طابع سياسي أو اجتماعي أو فكري، نابعة من حبّه لبلده واعتزازه بهويته، وأمله في رؤية واقع أفضل، وأخرى هي أقرب إلى الفلسفة الوجودية، حيث تعبّر عن رؤيته الخاصّة التي تشكّلت من خلال تجاربه وتأملاته وقراءاته المختلفة. للمعاناة والألم والحيرة مساحة ملحوظة في شعر “النجّار”، سواء كان ذلك لأسباب خاصة كفقدان حبيبته الذي ترك أثرا بالغا في حياته أو لأسباب إنسانية وجودية تتمحور حول كنه ومغزى الحياة، وسط عالم مليء بالآلام والمآسي، يقابل تساؤلات العقل البشري بأجوبة جاهزة تارة وأسئلة أكثر تعقيدا تارة أخرى.

تتميّز أغلب أشعار”النجّار” بكثافة المعاني والمقاصد في صورها وأفكارها المختلفة، فهي قابلة للقراءة والفهم من زوايا عدّة، فيّاضة، متجدّدة، لا تمل القلوب من قراءتها. وتعود هذه الميزة الكبيرة إلى حسن اختياره للكلمات و التعابير التي تقارب أحاسيسه دون حصر أو تقييد لفهم وخيال القارئ. وما الشعر في النهاية سوى محاولة لإيصال ما يصعب التعبير عنه لعمقه وقوّته أو لتفاصيله الكثيرة المتداخلة، وقد نجح شاعرنا وأبدع في ذلك.

لا يمكن الحديث عن شعر “النجّار” دون التطرّق إلى جمال اللغة التي يلوّن بها لوحاته وينقش بها معانيه، هي العربية الفصحى في أبهى تعابيرها وتراكيبها، تلك التي قرأناها في روائع الشعر العربي، بما في ذلك القديم منه، يحييها “النجّار” بفضل لغته القويّة ومن خلال توظيفه لكلمات قديمة غير شائعة الاستخدام.

في هذا المقال نسلّط ضوءا خاطفا دونما توسّع أو تعمّق على ثلاث قصائد من نوع النقد السياسي والاجتماعي والفكري مكمّلة لبعضها كموضوع، وهي تبتعد عن كونها قصائد بكاء ونواح على واقع غير مرض أو مرير لمصر والعالم العربي والإسلامي عموما، ولكنّها توجّه العقول إلى الأسباب والعلل ومواطن الضعف. 

ختم “محمد غازي النجّار” ديوانه الأوّل “متيّم أنا” بقصيدة  “متى تشرق في بلادنا الشمس؟”، مبشّرة بما سيأتي بعدها من قصائد ضمن هذا اللّون من الشعر. هي قصيدة تطغى عليها مشاعر الألم والحسرة والأسف على واقع العالم العربي، يزيدها جرس القافية تأثيرا وعمقا، فلحرف السين حدّة السّيف الفاصل بين الحق والباطل، في مقام صدق وحقيقة. تبدأ القصيدة بالقضية المركزية (القضية الفلسطينية) وبفضح النفاق السياسي والاجتماعي الذي يدّعي العداء لإسرائيل أو الغرب عموما، من خلال خطابات وشعارات رنّانة، في حين تعمل ماكينة القتل التي تقودها الأنظمة القمعية والجماعات الإرهابية دون هوادة في بني جلدتنا والأبرياء من الناس. وليس في ذلك أيّ دعوة إلى العنف أو الحرب ولكن إلى الكفّ عن زيف الكلام وخداع البسطاء:

نَقْتُلُ بَعْضَـنا.. ونَقُولُ لا بَأْسْ

ونَعِيشُ مَعَ أعدائنا بِسَلامْ .. ونَدَّعي العَكْسْ
نَقتلُ بعضَنا ..
سَعْيًا إلى الفِرْدَوْسْ
وأعداؤنا ..
يَرْتَعُونَ في القُدْسْ

ثمّ يتطرّق الشاعر على سبيل المثال لا الحصر إلى سفاسف الأمور التي تشغل المجتمع العربي فتحيده عن مسار الإنسانية وتبعده عن خطاها المسرعة بالعلم والعمل. وتزيد المقارنة مع الغرب شعور الحرقة والغضب استعارا:
يَحْتَسُونَ كُؤوسَ العِزِّ
ونَحْنُ غَرْقَى ..
في البُؤْسْ

هُمْ يُحَلِّقُونَ بَيْنَ الكَواكِبِ

ونَحْنُ نَقْتَدِي بِبَنِي عَبْسْ

هُمْ يُحاوِرُونَ الـمَجْدَ في الـمَجَرَّة

ونحنُ نُجادِلُ ..

في غِطاءِ الرأسْ
لا نَخْشَى أَنْ نُفَجِّرَ بعضَنا

ونَخْشَى الحُبّ و الجِنْسْ

وبنو عبس، قبيلة عاشت قديما في شبه الجزيرة العربية، كما هو معروف، فهي ترمز إلى الزمن البائد بتقاليده وعاداته، ولا يخلو الأمر ربّما من إشارة إلى بعض المتديّنين شكليا وحرصهم على التقليد الأعمى لنمط حياة خاص بفترة معيّنة. ويمكن قراءة تطرّق الشاعر لموضوعي الحجاب والجنس كتعبير صريح عن فكره التحرّري، الملتزم في الوقت ذاته بالأخلاق النابعة من البوصلة الداخلية للإنسان، وكدعوة تهزّ العقول إلى الاهتمام بما هو أجدى ومحاربة ما يستحقّ المحاربة فعلا كالجهل والإرهاب.

يبدي الشاعر خيبته من ثورات ما يسمّى “الربيع العربي”، التي ولّدت مزيدا من العنف والقتل والخراب والتخلّف، ومن بلد عربي لآخر قد يختلف “أبناء النّحس” في هويّاتهم وتوجّهاتهم وأساليبهم، غير أنّم يتّفقون في دورهم، المتمثّل في إجهاض تلك الثورات:

وكُلَّما أَسَّسْنا لِلْحُريةِ بِناءً

هَدَمُوهُ منّا أَبْناءُ النَّـحْسْ

وكيفَ ينمو نبتٌ شتلناهُ

إذا كنا نغرسُ ونخلعُ الغرسْ
تنتهي القصيدة بتساؤل يائس وحائر، نابع من الشعور بعدم استيعاب دروس التاريخ المتكرّرة والواضحة لمن يقرأها:

يَـوْمُـنـا كَـغَـدِنـا وغَـدُنـا كالأَمْـسْ

فَـمَـتَـى تُـشْـرِقُ في بِـلادِنـا الـشـمـسْ ؟!

كتب بعدها “النجار” قصيدة “بلا رأس” ذات الطابع الرمزيّ المخفّف، وتتّسم بالرّهبة في مشهدها الرئيسي المتمثّل في تقدّم الرجل بلا رأس، الفاقد للعقل والقلب، عبر المدينة، مدّعيا الصلاح والإصلاح:

الـرَّجُـلُ بِـلا رأسٍ

يَـتـقـدّمُ عَـبْـرَ الـمـديـنـةْ

يَـنْـشُـرُ الـفـزعَ و الـسـكـيـنـةْ
يَـنْـزَعُ عـنِ الـنـاسِ رءوسَـهـمْ

يُـبْـدِلُـهـا بـرؤوسٍ مِـنْ صـفـيـحٍ

ويـخـبـرُهـمْ بـأنّـهـا ثـمـيـنـةْ

هو شخصية “كابوسية” إن صحّ التعبير، مثيرة للخوف شكلا وفعلا، ولا يمكن أبدا الوثوق في أقواله التي تخفي وراءها نواياه الحقيقية. الديماغوجية سياسته وأسلوبه، فهاجسه كما يشير الشاعر من خلال صورته الرمزية تبديل الرؤوس برؤوس من صفيح، مفرغة من العقول المفكّرة والحواس المساعدة على الإدراك، متماثلة، مغلقة معتمة لا يجد النور إليها سبيلا، صلبة فاقدة للمرونة ويمكن ملؤها بأيّ شيء. قد تكون هذه الشخصية رجل دين ذي فكر رجعي متحجّر، ينتهج إثارة الفتن والترويج للخرافات والأوهام بين الناس:

الـرَّجُـلُ بِـلا رأسٍ

ورُبَّـمـا ذُو لِـحْـيَـةٍ

يَـتـقـدّم عَـبْـرَ الـمـديـنـةْ

يَـنْـثُـرُ عـلـى الأرجـاءِ

بـارودَ الـوقـيـعةْ

يُـشْـعِـلُ بَـيْـنَ الأشِـقّـاءِ

فـتـيـلَ الـضـغـيـنـةْ

وإنْ يـسـألـوهُ عـنْ فَـعْـلَـتِـهِ

يَـقُـلْ : هـذي بـُذورُ الـرحـمـنِ

أنـثـرُهـا؛ كـيْ تَـنْـبُـتَ الـسـكـيـنـةْ

هـلْ تـشُـكُّـونَ في آيـاتـهِ الـمـبـيـنـةْ؟!
أو دكتاتورا عسكريا، يعتمد أسلوب الاستخبارات والقمع من ناحية، والوعود والشعارات الكاذبة من ناحية أخرى:

الـرَّجُـلُ بِـلا رأسٍ

ورُبَّـمـا ذُو شـاراتٍ مَـهـيـبـةْ

يَـتـقـدّمُ عَـبْـرَ الـمـديـنـةْ

يَـنْـزَعُ عـنِ الـنـاسِ رؤوسَـهـمْ

يـخـبـرُهـمْ بِـأنَّهُمْ بَـيْـنَ أيـدٍ أمـيـنـةْ
يُـخَـدِّرُ نـفـوسَـهـمْ

يُـفَـتِّـشُ رءوسَـهـمْ

عَـلَّـهُ يَـجِـدُ بَـيْـنَـهُمْ خـائـنـا

أَبـَى أَنْ يُـسَـلِّـمَ رأْسَـهُ

أَوْ رَأَى الألـوانَ عـديـدةْ
يـخـبـرُهـمْ بِـأنَّ الـعَـدْلَ قـادمٌ

وأنَّ الـرخـاءَ سـيَـعُـمُّ الـمـديـنـةْ

ولكلّ هؤلاء رؤية وحيدة يسعى إلى نشرها بطرق مختلفة، لأنّها تضمن بقاءهم، تشترك في حجب الحقائق وفرض الفكر الأحادي وتغييب التنوّع بجميع أشكاله.

وينهي الشاعر قصيدته بتساؤل كما في القصيدة السابقة، يمتزج فيه اليأس بالأمل، عمّن يستطيع أن يتصدّى لمثل هؤلاء أو يدين جرائمهم، فهو نداء استغاثة يطلقه، لعلّه يُسمع!

فَـمَـنْ يـُوقِفُ زَحْـفَـهُ
مَـنْ يَــتــصــدّى لَــهُ
كـيْ يُـدِيــنَـهْ؟!

 

يدرك الشاعر تماما نوع البيئة الحاضنة التي يهيّئها هؤلاء الطواغيت ويسعون دائما إلى انتشارها، لذلك كانت “صرخة نذير من مصقع”، قصيدته التالية، مدوّية في الفضاء، كمن ينفخ في الصُّور معلنا بين الناس قيامة وشيكة. والمصقع هو الشخص الفصيح البليغ، ذو البيان الدامغ:

صـرخـةُ نـذيـرٍ مِـنْ مِـصْـقَـعْ

إلـى الـبـلادِ الـتـي ..

خـفـتَ فـيـهـا

صـوتُ الـمُـبْـدِعْ
وغـفـا الـعـقـلُ فـيـهـا

وصـحـا الـنـقـلُ تِـيـهـا

وتـوقّـفَ هـديـرُ الـمـصـنـعْ

صـرخـةُ نـذيـرٍ لـهـا ..

لـعـلّـهـا ، لـعـلّـهـا .. تَـسْـمَـعْ

صرخة نذير من مصقع قصيدة مزلزلة، يزيدها جرس العين قوّة وصدى. بدأ الشاعر قصيدته الرائعة بذكر أصل الداء وأكثر ما يميّز المجتمعات المتخلّفة التي يوجّه إليها خطابه: غياب الإبداع، تغييب العقول وضياع قيمة العمل. وللنقل هنا أكثر من معنى، حيث يشير من ناحية إلى اعتبار النصوص الدينية مرجعا لحل قضايا معاصرة، وأيضا إلى الأخذ بحرفيّتها دون مراعاة تغيّر المكان والزمان وأحوال الإنسان. ومن ناحية أخرى إلى التقليد الأعمى للحضارة الغربية في أمور شكلية لا تجدي نفعا. إذ لا ضير في اقتباس النور من مشعل الحضارة الإنسانية مهما كانت اليد التي تمسك به، بل إنّ هذا مطلوب، غير أنّ واقع الأمر مختلف وبعيد جدا عن هذا النوع من الاقتباس المفيد والمُغني. والنقل عموما نقيض الإبداع في كلّ شيء و دليل إفلاس وانعدم الثّقة بالنفس. 

وفي غياب ثالوث الحضارة والرقي (الإبداع والفكر والعمل) ماذا يمكن أن يكون البديل سوى القمع والحروب والفقر والسقم الروحي والفكري والجسدي؟!

 

صـرخـةُ نـذيـرٍ مـنْ مِـصْـقَـعْ

إلـى الـبـلادِ الـتـي ..

عَـلا فـيـهـا صـوتُ الـمِـدْفَـعْ
والـتـقـمَ أهـلُـهـا ثـديَ الـسـقـمِ

والـتـقَـوا فـي فـقـرٍ مُـدْقِـعْ

يكرر الشاعر عبارة “لعلّها تسمع” عدة مرات في إشارة إلى حالة اليأس التي تغلب عليه والتي تظهر بوضوح آخر القصيدة وفقدانه الثّقة في هذه الشعوب ورغبتها الحقيقية في النّهوض. ينذرها ويحّذّرها رغم بلوغها تلك الحال المزرية بدافع الحبّ وبقايا الأمل الذي لم يمت تماما بداخله، ولأنّه يؤمن رغم كلّ شيء بإمكان الإصلاح، إن هي استدركت أخطاءها وعادت إلى تفعيل عوامل النجاح. ينذرها ويهزّها بقوّة لأنّه يرى بعين المستقرئ حالا أسوء و زوالا قريبا لآخر ما تبقى من حضارتها التليدة، وهو لا يراها شعوبا مغلوبة على أمرها ولا يلتمس لها العذر أبدا، بل يدين خنوعها لدى الحكام ورجال الدين، كما أدان القمع وسياسة التجهيل في قصيدته السابقة.

رغم جدّية الموضوع إلاّ أنّ القصيدة لا تخلو من روح السخرية في بعض مواضعها، فالمصقع يغيّر أساليبه ولا ينتهج طريقا واحدا، لأنّه يريد الإصلاح وخير الناس، ولا يملك سوى فصاحته وقوّة بيانه وسيلة. يريهم أنفسهم بشكل كاريكاتوري أحيانا ليضحكوا قليلا، ثمّ يبكون كثيرا على حالهم، لعلّهم بعد بكائهم يستفيقون:

وتـضـرّعَـتْ:

أوجِـعْـنـا يـا سـيـدي الـحـاكـمُ أوْجِـعْ

ولا، لـنْ نَـفْـزَعَ، أوْ نَـجْـزَعْ

وأنـشـدتْ:

نـحـنُ عـبـيـدٌ لِـسَـوْطِـكِ الأروعْ

مـالـكُـنـا أنـتَ، وحـاكـمُـنـا الأبـرعْ

ينهي الشاعر قصيدته بإعلان يأسه من سماع الشعوب لصرخته تلك، لأنّها مع الأسف اعتادت على القمع والخنوع وارتضته:

فـقَـبِـلَـتِ الـذُّلَّ .. ألـوانـا

وعـبـدتِ الـجـهـلَ .. سـبـحـانـهْ

ولا، لا .. لـنْ تَـسْـمَـعْ

 

وبين الأمل الذي يلوّح في الأفق بين الحين والحين واليأس الذي يفرضه الواقع، يحيا “محمد غازي النجّار” ويخط كلماته بقلم مداده الحبّ والفكر الحُرّ.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!