مدخل إلى نشأة الطرقية في الإسلام
توفيق بن عامر
نعني بمصطلح”الطرقية” نظام الطرق الصوفية كما نشأ وتطور في تاريخ الإسلام، ونروم في هذا المدخل النظر في أصول هذه الظاهرة والبحث عن الظروف والعوامل التي هيأت لنشأتها وتطورها وانتشارها. ونريد بعبارة أخرى محاولة الإجابة عن جملة من الأسئلة التي تطرحها وذلك على النحو التالي:
متى وكيف مرت الظاهرة الصوفية من الفرد إلى الجماعة ؟ وما هي الظروف التي سوغت الانتقال من الطريق الصوفيإلى الطريقة الصوفية ؟ وماهي الملابسات الحافة بانتقال النشاط الصوفي من المسجد إلى الخانقاه ومن الرباط إلى الزاوية ؟ مع الإقرار بأننا لسنا أول من تولى النظر في هذه المسألة فكثيرون هم الذين أرخوا للظاهرة وتوقفوا عند مرحلة نشأتها، ولكن جلهم قد اكتفوا بالإشارة إلى بعض الدلائل المتعلقة بزمن النشأة وتاريخها دون التعمق في البحث عن العوامل والأسباب الكامنة وراءها.
1 النشأة بين موقفين:
إن أبرز ما يلاحظ في مواقف القدماء والمحدثين من تاريخ نشأة الظاهرة الطرقية في الإسلام هو تباينها واختلافها، وإن كان بالإمكان اختصار تلك المواقف المتباينة في موقفين رئيسيين : يرى أصحاب الموقف الأول أن الظاهرة قد نشأت في أواخر القرن الثاني للهجرة اعتمادا على ما ذكره الجامي في”نفحات الأنس” 1 من أول خانقاه قد أنشئت في هذه الفترة بالرملة من أرض فلسطين، بينما يرى أصحاب الموقف الثاني أن الظاهرة قد نشأت في أواخر القرن الخامس وبدايات القرن السادس للهجرة. استنادا إلى ما أورده المقريزي والقزويني من أخبار حول الطرق والخانقاوات والزوايا الصوفية في هذه المرحلة من التاريخ. 2
إلا أنه من الواضح أن الموقف الأول يجعل النشأة في طور مبكر جدا من تاريخ الحركة الصوفية أي في مرحلة تاريخية لم تتبلور فيها الأركان النظرية والعملية لتلك الحركة، بالإضافة إلى أن الحدث الذي يستند إليه قد كان محفوفا بملابسات خاصة لأن الخانقاه الوارد ذكرها قد أنشأها راهب مسيحي وكان تردد بعض الصوفية المسلمين عليها موضوع خلاف وجدل. وبناء على ذلك لا يمكن أن يفيدنا هذا الخبر بأكثر من وجود بعض المؤثرات الخارجية التي كان لها دور ضمن عوامل ومؤثرات أخرى في التمهيد لنشأة الظاهرة في أطوار لاحقة من التاريخ.
كما أن المتأمل في الموقف الثاني يلاحظ أن النصوص التاريخية التي يستند إليها تشير إلى طور اكتمال هذا النظام وترسخ قواعده ورسومه وانتشار مؤسساته أكثر مما تشير إلى ملابسات النشأة، فالتاريخ المشار إليه والذي يمكن تحديده بين سنتي 450 و 650 للهجرة هو تاريخ اكتمال الظاهرة وانتشارها ولا صلة له ببيان الظروف والعوامل المحددة للنشأة في المراحل السابقة لهذا التاريخ. وبناء على ذلك نرى من الأولى تفحص النصوص السابقة لنصوص المقريزي والقزويني مثل نصوص أبي طالب المكي وأبي نعيم الأصفهاني وأبي القاسم القشيري للوقوف على بعض الدلائل المفيدة في هذا المجال. وذلك لأن تلك النصوص وإن كنا لا نعثر فيها إلا نادرا على ذكر خانقاه أو رباط أو زاوية فإننا نجد فيها مع ذلك ذكرا لتجمع المريدين حول شيوخهم وتلقيهم لتعاليم التصوف عنهم مما يلقي بعض الأضواء على ظروف النشأة وملابساتها وهو ما لا نتبينه بجلاء في النصوص المتأخرة.
واعتبارا لكل هذه المعطيات لا يمكن في نظرنا تحديد نشأة الظاهرة بأحد الطورين المشار إليهما آنفا المبكر منهما والمتأخر، بل ينبغي البحث عنها في المراحل الفاصلة بينهما أي طيلة ما لا يقل عن قرنين ونصف من الزمان. لأن تلك النشأة قد استغرقت في اعتقادنا وقتا ليس بالقصير كما أنها لم تكن في تصورنا نشأة يسيرة وخالية من العوائق والصعوبات بل كانت كما سنرى ولادة عسيرة استغرقت وقتا طويلا وتدخلت فيها عوامل وملابسات عديدة ومرت بمخاض ثقافي واجتماعي عسير. وفي كل ذلك ما يخول لنا طرح سؤال النشأة من جديد محاولين الربط قدر الإمكان بين دواعي النشأة وتاريخها لأن الفصل بينهما لا يفضي بنا إلى نتائج مقنعة، فلماذا نشأت الطرقية إذن وفي أية ظروف ؟
2 بين الوظيفة والتاريخ :
الظواهر الدينية ذات صلة حميمة بالأوضاع والملابسات الثقافية والاجتماعية التي ظهرت فيها، لأن كل ظاهرة يعتبر وجودها استجابة لحاجة نابعة من محيطها وتلبية لتطلعات ذلك المحيط الذي نشأت فيه فوجودها بهذا المعنى هو وجود وظيفي وليس من قبيل الوقائع والأحداث الاعتباطية التي يمكن أن تخضع لأحكام الاتفاق وتكون نتيجة للمصادفة. وبناء على ذلك لا مراء من وجود علاقة ما بين وظيفة تلك الظاهرة وأسباب ظهورها وعوامل نشأتها. وهو ما يقتضي الانطلاق في البحث عن تلك الأسباب والعوامل من طبيعة الظاهرة ذاتها ومن أبرز وظائفها حتى نتمكن من الكشف عن العلاقات الخفية التي تشدها إلى الأوضاع والملابسات التاريخية التي نشأت بين أحضانها.
وقد يتبادر إلى الأذهان أن المنهج المتوخى في هذه المقاربة يستند إلى منهج معكوس لأن السائد في مقاربة مثل هذه الظواهر ومحاولة إيجاد تفسير لها هو الانطلاق من الوقائع والأحداث التاريخية الجارية في الحيز الزماني والمكاني الذي نشأت فيه عوضا عن الانطلاق من تحليلها والنظر في مكوناتها ووظائفها، لكن مثل هذا المنهج لا يؤدي إلى نتائج مضمونة
في هذه الحالة باعتبار أن الأوضاع الثقافية والاجتماعية في عصر من عصور التاريخ يمكن أن تتمخض عن عديد الظواهر التي قد لا تكون بالضرورة متماثلة أو حتى متشابهة لأن ردود الأفعال الإنسانية على تلك الوقائع وكيفيات تأثر الأوساط المختلفة بها والتفاعل معها تختلف من فئة اجتماعية إلى أخرى، بل إنها قد تختلف باختلاف الأفراد أحيانا ناهيك بالمجموعات التي من شأنها أن تكون أوضاعها النفسية وعلاقاتها الاجتماعية أكثر تشابكا وتعقيدا. ولذلك لا مناص للمحلل من الاهتداء بخصائص الظاهرة وبأبرز ملامحها ومكوناتها ليتمكن من رصد نقاط اللقاء أو التقاطع بينها وبين عناصر البيئة التي أفرزتها.
وبناء على ذلك يجوز لنا القول في بداية هذا التحليل وانطلاقا من طبيعة الظاهرة ووظيفتها أن الطرقية هي شكل من أشكال التصوف الجماعي الخاضع في مظهره لأسلوب محدد من النظام وفي جوهره ووظيفته لضرب من التعبد المنفرد بطقوس خاصة. ومن الطبيعي أن يؤدي بنا هذا التحديد إلى التساؤل عن الأسباب والعوامل التي أدت بالتصوف الذي كانت تمثله تجارب ذاتية ومواهب فردية إلى حدود القرن الثاني للهجرة إلى أن يتخذ شكل التصوف الجماعي؟ إن تفسير هذا التطور بالاستناد إلى مجرد ظاهرة التعدد والانتشار التي شهدتها تلك التجارب الفردية على مر الزمن أو إلى استفحال تأثيرها في السواد الأعظم من الناس مما ترتب عنه انتقال طبيعي من “تصوف النخبة” إلى “تصوف شعبي” لا يكفي وحده لتفسير الظاهرة ولا يعد مبررا مقنعا لتعليلها.
صحيح أن قانون التعدد والانتشار والتأثير قد كان له دور في هذا المجال٬ فكل التيارات والنزعات الثقافية والاجتماعية خاضعة في نشأتها وتطورها لهذا القانون٬ وكثيرة هي الدعوات التي صدع بها الأفراد ثم تبنتها المجموعات في التاريخ القديم والحديث. ولا يمكن أن تعتبر الظاهرة الصوفية استثناء في هذا المجال إذ لولا وجود للتصوف في مراحل سابقة من تاريخ المجتمعات الإسلامية لما كان للطرقية أصل تنتمي إليه. إلا أن كل ذلك لا يفسر لنا فيما يتعلق بنشأة هذه الطرقية ما حدث من تطور وانتقال في صلب التصوف ذاته ولا يفسر لنا ما اتسم به ذلك الانتقال في شكله الطرقي من أسلوب في النظام وفرادة في التعبد والطقوس. وذلك لأن في الطرقية طابعا نظاميا وطقسيا لا يمكن تفسيره بمجرد ظاهرة التعدد والانتشار أو بظاهرة التأثير المشار إليها٬ والسؤال الذي يفرض نفسه هو التالي: ما الذي يجعل بعض المجموعات في مجتمع له نظامه التعبدي وأسلوبه الطقسي تنفرد لنفسها بأسلوب أو نظام خاص في هذا المجال؟
3 من الفردية إلى الجماعية :
إن هذه الظاهرة لا يمكن أن تعلل وتفسر في نظرنا إلا بالحاجة إلى الرابطة الروحية التي تمثل سدى اللحمة بين أفراد مجموعة من المجموعات البشرية. ويبدو أن تلك الرابطة لم يكن لها حضور كاف إن لم تكن شبه منعدمة في البيئة التي تولدت فيها تلك الحاجة وفي المجتمع الذي نشأت فيه الطرقية. ولنا أن نستحضر هنا الأوضاع الدينية التي كانت سائدة انطلاقا من نهاية القرن الثاني للهجرة وهي أوضاع لم تكن الهيئات الممثلة لها من فقهاء ومتكلمين ورجال دين عموما 3 قادرة على ضمان تلك الرابطة وتأمينها ورعايتها٬ بل إن الدلائل كانت تشير إلى نقيض ذلك تماما أي إلى النزاع والصراع والافتراق سواء على الصعيد النظري والفكري أو على المستوى العلمي والسلوكي. كما أن نشاط تلك الهيئات قد كان يتحرك في معظمه في فلك النخبة ويجتهد في تلبية حاجاتها الثقافية بما لا يمكن أن يستجيب حتما لنفس الحاجات التي يتطلع إليها عموم الأمة٬ ولم يعد النظام التعبدي الذي يشمل الجميع بحكم العادة كافيا للتعبير عن الحاجات الثقافية والروحية الخصوصية لشرائح واسعة من المجتمع. لقد كان هناك إذن أزمة روحية وتهميش ثقافي أحوجا تلك الشرائح إلى البحث من جديد عن الطريق المؤدية إلى اليقين أي إلى مثلها الأعلى المتجسد في الذات الإلهية.
على أن تلك الرابطة الروحية المنشودة من قبل بعض الفئات الاجتماعية لا يمكن أن تفسر أيضا كل جوانب ظاهرة النظام الطقسي وما تكتسيها من أبعاد إلا إذا كانت مدعومة بالحاجة إلى رابطة اجتماعية جديدة بحكم التلازم والتفاعل الطبيعي بين البنىى الروحية والثقافية والاجتماعية 4 فإذا ما كانت الحاجة إلى الرابطة الروحية ناشئة عن أزمة روحية وتهميش ثقافي فإن الحاجة إلى تمثل جديد للرابطة الاجتماعية قد كانت ناشئة أيضا عن أزمة في العلاقات الاجتماعية وعن تهميش اجتماعي لفئات وشرائح معينة في المجتمع. ولا مناص من أن نستحضر في هذا السياق ما طرأ على المجتمع الإسلامي في هذه الفترة من تاريخه من تحولات في البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية 5 وما أفرزته تلك التحولات على مستوى التركيبة والبنية الهرمية للمجتمع من علاقات مستجدة بين الخاصة والعامة وبين السلطة المركزية وسائر الفئات المؤلفة لعموم الأمة 6.
فإذا ما كانت بعض الفئات قد تمركز موقعها حول الجاه والسيف و البعض الآخر حول المال والأرض بعد أن أخذ نجم العصبيات في التحلل والأفول وتغير المشهد الإثني والنسيج العرقي بشكل يكاد يكون أساسيا فإن الفئات الأخرى البعيدة عن هذه المواقع قد كانت في حاجة إلى تأسيس موقع لها في هذا النسيج الاجتماعي الجديد، ويبدو أنها قد كانت مضطرة إلى أن تختار تأسيسه على المبدأ المفقود في هذا المشهد ونعني به مبدأ التضامن لأنه الكفيل وحده بإثبات وجودها تجاه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة حينئذ٬ إذ لا يخفى أن التمركز في هذا الموقع يشكل رد فعل على كل تلك الأوضاع المشار إليها ويكتسي طابع الموقف من كل ما تمثله من أبعاد. وإذا ما كان ذلك الموقف يستمد شرعيته من طبيعة الواقع المعيش ومن ملابساته الحرجة فإنه قد كان يستمدها أيضا وبشكل متزامن من الأوضاع الروحية المأزومة المحايثة لذلك الواقع والناجمة عنه في آن. فلم يبق من حل في مثل هذه الحالة إلا التسامي نحو المثل الأعلى المشترك والإعلاء من شأنه والاحتماء به 7 وهو المثل المتجسم في الطريق إلى الله أي إلى “الحق” بمعناه الصوفي الذي لايوحي بمعنى الحقيقة واليقين فقط وإنما يعنى فيما يعنيه الاستحقاق أيضا 8.
وهكذا كان النموذج الروحي للرابطة المنشودة متلبسا بنموذج اجتماعي٬ ومن البديهي أن يكون إنجاز مشروع هذه الرابطة الروحية والاجتماعية في حاجة إلى نظام وجهاز رمزي مميز لها وهو ما مثل الهيكل العام للطرقية انطلاقا من نموذج المكان الموحي بمفهوم الرابطة (الرباط) ونموذج المؤسس المشار إليه تارة بلقب ( سيدي) وأخرى (مولاي) وصولا إلى شروط الانضمام والانخراط وأسلوب التعبد وأشكال الطقوس 9 كما كان من الطبيعي أن يكون لتلك الرابطة بعد تأسيسها وأثناءه وظيفتان متكاملتان إحداهما روحية والأخرى اجتماعية بمعناها الشامل للمشاغل الاقتصادية والسياسية. وقد كانت الوظيفتان في تفاعل دائم تتغذى إحداهما من الأخرى فتصطبغ الأبعاد الروحية بصبغة الأوضاع الاجتماعية كما تستمد الوظائف الاجتماعية شحنتها ومددها من تلك الأبعاد الروحية وهو ما يفسر ظاهرة التنوع والتلون التي اتسمت بها الطرقية عبر الأزمنة والأمكنة المختلفة 10
4 من الخطيب الواعظ إلى الشيخ الروحي :
أما عن تـأسيس هذه الرابطة فمن المرجح أنه قد كان على مراحل استغرقت من الزمن ردحا ليس بالقصير ذلك أن المرور من الطريق الصوفي إلى الطريقة الصوفية 11 لم يكن سهلا ولا خاليا من العقبات والصعوبات٬ ففي البداية تروي لنا المصادر أن كبار الصوفية كان لهم “أتباع” وأن هؤلاء الأتباع أصبحوا يمثلون “فرقة” 12 أو طائفة 13. ولكن المتتبع لهذه الروايات في تراجم بعض الأعلام يلاحظ أن الحديث أصبح عن “المريدين” الذين يرتادون مجالس “الشيخ” وفي هذه المرحلة بالذات يبدأ الانتقال٬ إنها المرحلة النواة التي ستتشكل حولها الطريقة 14 فكيف حدثت هذه النقلة وبأية وسيلة؟
إن أداة هذه النقلة قد كانت متمثلة في إرساء تقليد جديد في صميم الحركة الصوفية يقوم على التعليم والدعوة٬ وكان لابد من مرور عقود من الزمن لتشكل مثل هذا التقليد في المجال الصوفي. وذلك لأن الصوفية إلى حدود القرن الثاني للهجرة لم يكونوا أصحاب دعوة ولا أرباب تعليم ويعزى ذلك إلى خصوصية التجربة الصوفية وفرديتها من ناحية وإلى الصبغة الباطنية لتلك التجربة من ناحية أخرى بينما كان التعليم مرتبطا بعلوم الظاهر كما كانت الدعوة ذات طابع عملي يقوم على نشر تعاليم معينة بين عموم الناس. إلا أن أسلاف الصوفية من الوعاظ قد كانوا متمرسين بمثل تلك التقاليد الدعوية والتعليمية إذ كانوا ينتصبون بالمساجد بعد صلاة الجمعة وفي غيرها من المناسبات الدينية كما كانوا ينتصبون في المجالس الخاصة وفي الساحات العامة.
ويبدو أن الذي حدث هو انتقال ذلك التقليد من المجال الوعظي إلى المجال الصوفي أي من نشر تعاليم الظاهر العملية على يد خطيب واعظ إلى نشر تعاليم الباطن الروحية على يد أستاذ أو شيخ صوفي. إلا أن المرور من مجال عملي إلى مجال روحي ومن تلقين تعاليم الظاهر إلى الإيحاء بأحوال الباطن لم يكن متاحا بسهولة لولا توسط حلقة رابطة بينهما ونعني بذلك حلقات الذكر ومجالسه. وهكذا يجوز لنا أن نرسم خطا بيانيا لهذا التطور ينطلق من مجالس الوعظ إلى مجالس الذكر وصولا إلى مجالس الشيوخ والمريدين. إنه تطور من خطاب تلقيني موجه إلى السامع إلى خطاب ابتهالي موجه إلى الله إلى خطاب إيحائي موجه إلى نفس المريد٬ فمجالس الذكر إذن بما فيها من إعداد للنفس عن طريق الابتهال وتركيز للوعي على ما وراء الحسي قد كانت هي الطريق المؤدية إلى تحريك الباطن بواسطة الإرشاد الروحي.
وقد أدركت الأوساط الصوفية في وقت مبكر 15 أهمية الذكر ودوره في تهيئة القلوب وصونها عن طوارق الغفلة٬ وأصبحوا يفضلونه على خطب المحترفين من القصاص والوعاظ لأن”ذكر اللسان” طريق إلى “ذكر القلب” 16 بل فضلوه حتى على الصلاة لأنها عبادة موقوتة بينما “الذكر في القلب مستدام في عموم الأحوال ” 17 ونظرا إلى تلك الوظيفة التي اضطلع بها الذكر في الحياة الصوفية المبكرة باعتباره مرحلة من مراحل تطورها أصبح يعتبر فيما تلا من عصور ركنا قارا من أركان العبادة الصوفية وطقسا من طقوسها الثابتة. يقول القشيري عن الذكر معتبرا إياه ركنا من أركان الدين: إنه “ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى بل هو العمدة في هذا الطريق ولا يصل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر” 18.
لكن الذكر في مراحله الأولى قد كان حرا وعلى غير نظام وقد كان لابد أن تستقر مجالسه بالمواظبة عليها والتحلق حول شيوخها لتشكل بعد ذلك الإطار الملائم للتدخل فيها بالإرشاد الروحي والتعليم الباطني. والملاحظ أن المبادرة بالتدخل في هذا الشأن عن طريق الإرشاد والتعليم قد كانت عملية محاطة بكثير من الحرج كما قامت دونها العديد من العوائق والصعوبات. لقد كان هناك حرج إزاء الذات تمثل في تردد كبار الصوفية الأوائل في الإقدام على المهمة التعليمية خوفا من أن تنظر إليها الأوساط الدينية على أنها بدعة لم تجر بها العادة إلا في مجالات محددة من العلوم الشرعية٬ وقد واكب هذا التردد المرحلة التي كان التصوف ينتقل عبرها من مجرد تجارب ذاتية إلى علم ديني قائم الذات بدأ يشق طريقه بين العلوم الشرعية وسط اللغط والصراع بين دعاته ومعارضيه.
ولنا صورة عن كل ذلك فيما رواه الهجويري عن تردد الجنيد في تعليم مريديه وعن استشارته لأستاذ السري السقطي في ذلك عندما أمره النبي في المنام بالحديث إلى الناس والكلام في التصوف. يقول الهجويري: “من المأثور عن الجنيد البغدادي أنه كان يرفض الكلام في التصوف في حياة أستاذه السري السقطي٬ ولكنه ذات ليلة سمع النبي يقول له في منامه: يا جنيد تحدث إلى الناس فقد جعل الله من كلامك سببا لنجاة كثير من الخلق…..فلما استيقظ خطر في نفسه أنه أفضل من سري لأن النبي أمره أن يعظ الناس. ولكن لما أصبح الصباح أرسل سري إلى الجنيد أحد مريديه ومعه الرسالة الآتية: إنك لم تتحدث إلى مريديك عندما ألحوا عليك بالتحدث إليهم ورفضت في ذلك شفاعة شيوخ بغداد وتوسلي الخاص. والآن وقد أمرك النبي فلا بد لك من إطاعة أمره. فقال الجنيد: فعلمت أن مرتبة سري أعلى من مرتبتي لأنه كان على علم بأسرار نفسي فذهبت إليه وطلبت منه العفو وسألته كيف عرف أنني رأيت النبي في المنام فقال: إنني رأيت الله في المنام فأخبرني أنه أرسل إليك رسول الله ليأمرك بالخروج إلى الوعظ” 19.
وتوحي لنا هذه الصورة بنوع ﺁخر من الحرج استشعرته الذات الصوفية إزاء الكلام في التصوف وهو اعتقادهم بأن معارفهم لدنية مستوحاة من المعلم الأعلى الذي لا يؤتمن على أسراره إلا الكاملون والراسخون في الطريق الصوفي. فليس لأحد أن يطلع عليه إلا خاصة أهل الله 20 ٬ وفي ذلك دليل على إحساسهم بالأمانة والمسؤولية في صون التجربة عن غير أهلها ومستحقيها، وهذا الموقف الباطني قد شكل هو الآخر عائقا دون اقتحام مجال الإرشاد والتعليم. يضاف إلى ذلك نوع ثالث من الحرج إزاء السلطة الدينية والسياسية القائمة حينئذ إذ كان فقهاء السلطة بالمرصاد لما يقوله هؤلاء٬ وكان الوشاة والرقباء يتحينون الفرص للإيقاع بهم مما أحوج بعضهم إلى التقية واضطر معه البعض الآخر إلى الهجرة مثلما حدث في الفتنة التي نشبت ببغداد واشتهرت بمحنة غلام خليل٬ إذ كان الجنيد خلالها يعلم التصوف سرا في بيوت خاصة وفي السراديب واضطر أبو سعيد الخراز إلى الفرار إلى مصر 21.
إلا أن الصوفية قد تمكنوا من التغلب على كل هذه المحن لإحساسهم بأن لهم رسالة هي هداية الناس إلى سبيل الله ولشعورهم بأن في إمكانهم أن يكونوا “سببا لنجاة كثير من الخلق ” 22، إنها رسالة الولي التي تعتبر في اعتقادهم مواصلة واستمرارا لرسالة النبي فعملوا على تحقيق هذه الغاية مع حرصهم على المحافظة على “أسرار الله” انطلاقا من التحري في تربية المريدين وتلقينهم ﺁداب الطريق. ومما زاد في حرصهم على هذا الإعداد النفسي والإرشاد الروحي لمريديهم ما تسببت في محنة الحلاج الصوفية في عصره من ويلات جراء “كشفه للسر”. فقد استخلص الصوفية العبرة من التجربة القاسية واتخذوا التدابير الضرورية للانضباط في سلوك الطريق وتلقين آدابه في كنف رعاية “الشيخ” وتحت رقابته٬ وأصبح الصوفية منذ ذلك التاريخ يصرحون بضرورة الشيخ للمريد في سلوكه للطريق وبوجوب طاعة المريد لشيخه وأثر عن بعضهم قوله:”من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان” 23 .
5 من الطريق إلى الطريقة :
وهكذا أمكن للتعليم الصوفي أن يتأسس وأن تتبلور في إطاره ملامح “الشيخ” المعلم وأن يضطلع بدور التعليم كبار الصوفية ابتداء من القرن الثالث للهجرة 24 إلا أنه قد كان لابد من أن يتحدد موضوع التعليم وتضبط برامجه ويتوضح محتواه لكي يكتمل الإطار النظري الضروري لظهور مدارس أو”طرق” في هذا المجال. فماذا كان محتوى ذلك التعليم؟ إن آداب سلوك الطريق الصوفي قد كانت هي موضوع التعليم٬ فالطريق الصوفي هو الأساس النظري والعلمي الذي قامت عليه “الطريقة” باعتبارها مدرسة نظامية للتعليم الصوفي. لكن المرور من “الطريق” باعتباره تجربة فردية حرة تتنوع بتنوع أصحابها إلى “طريقة” نظامية جماعية ذات قواعد ورسوم لا بد فيه من قطع مراحل تتمخض خلالها تلك التجارب الفردية المتنوعة عن قواسم مشتركة بالرغم مما تتفرد به من خصوصيات.
ويلاحظ المتتبع للتجارب الصوفية في هذه المرحلة التاريخة اهتماما من قبل كبار الصوفية بوصف مراحل الطريق وبيان أبعادها وحدودها وسعيا إلى ضبط المقامات والأحوال وبيان العلاقات القائمة بينها. ولعل من أبرز النصوص التي مثلت وصفا دقيقا للمجاهدات وللرياضات في السلوك الصوفي ما حكاه أبو يزيد البسطامي عن تجربته حين قال:”كنت اثني عشر عاما حداد نفسي ألقيت بها في كور الرياضة وأحرقتها بنار المجاهدة ووضعتها على سندان المذمة وطرقتها بمطرقة الملامة حتى جعلت منها مرآة. وكنت خمس سنين مرآة نفسي أصقلها دائما بأنواع من العبادات والتقوى وسنة أنظر فيها بعين الارتياح إلى الأعمال فعملت خمس سنين حتى انقطع ذلك الزنار واعتنقت الإسلام من جديد ونظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات ورجعت من جنازتهم جميعا ووصلت إلى الله بعون الله وحده من غير وسائله من الخلق” 25.
وقد تمخضت أمثال تلك التجارب الفردية لكبار الصوفية عن أبرز مراحل الطريق٬ واشتهر بعضهم بالتركيز على مقام بعينه أو حال بعينها فكان من بينهم من اشتهر بمقام الزهد ومنهم من اقترن ذكره بمقام التوكل وأثر عن غيره الاستغراق في محبة الله بينما اختص بعضهم بمقام الفناء وأوغل آخرون في الحديث عن المعرفة 26. وبعد أن تأسست مراحل الطريق الرئيسية وقع الاهتمام بتقنيتها وتقعيدها اعتمادا على الرصيد المشترك بين تلك التجارب مع الاحتفاظ بهامش من الحرية المتمثلة في بعض الخصوصيات. فما إن حل القرن الرابع للهجرة حتى اهتم علماء التصوف بضبط المقامات والأحوال الصوفية وتحليلها وشرحها وتأصيلها عن طريق الاحتجاج لها من القرآن والسنة 27.
لكن تلك المنظومة المقوعدة والمنظرة للطريق الصوفي قد ظلت ذات طابع نظري ولم يقع العمل على تجسيمها في تعاليم وطقوس ورسوم إلا في أواسط القرن الخامس للهجرة. ولذلك لم يشع ذكر “الطريقة” بمعناها الاصطلاحي في الأدبيات الصوفية قبل هذا التاريخ والأرجح أنها كانت تطلق على ما أشرنا إليه من اختصاص بعض الصوفية بالتركيز على مرحلة معينة من مراحل الطريق إذ تعددت كما رأينا طرق التجارب وأساليبها.ومما تذكره المصادر في هذا المجال ما أورده صاحب “تذكرة الأولياء” على لسان يحي بن معاذ الرازي ( ت258هـ) حين قال: “إذا رأيت الرجل يعمل الطيبات فاعلم أن طريقه التقوى وإذا رأيته يحدث بآيات الله فاعلم أنه على طريق الأبدال وإذا رأيته يحدث بآيات الله فاعلم أنه على طريق المحبين وإذا رأيته عاكفا على ذكر الله فاعلم أنه على طريق العارفين” 28
لكن المعنى العام والمتعدد للطريق لم يلبث أن نزع نحو الاختصاص والتوحد وتولد منه مفهوم الطريقة باعتبارها نهجا مؤسساتيا يستند إلى مبادئ ثابتة ورسوم معلومة٬ ويبدو أن بداية هذا الانتقال قد حدثت في أواسط القرن الخامس للهجرة إذ تروي لنا المصادر أن الصوفي أبا سعيد بن أبي الخير (ت450هـ) قد كان أول واضع لمبادئ الطريقة ورسومها وقوانينها 29 لكننا نستبعد أن تكون تلك المبادئ والرسوم قد وضعت دفعة واحدة وعلى يد شخص واحد بعينه مهما كان دور أبي سعيد هذا في عملية التأسيس٬ لاسيما إذا استحضرنا التقليد الذي درج عليه القدامى والمتمثل في حرصهم على تعيين أفراد مؤسسين لكل الظواهر استنادا إلى ما كان لهم من دور بارز في ظهورها. فمن العسير أن يعزى تاريخ ظاهرة ما إلى فرد بعينه وإن كنا لاننفي ما يمكن أن يكون قد قدمه ذلك الفرد من مساهمة بارزة في ذلك التاريخ، فنشأة الظواهر الاجتماعية تقتضي تعدد المساهمات في مرحلة محددة من التاريخ. ولذلك نعتبر أن أهم ما تفيدنا به المصادر هو تحديد تلك المرحلة، كما نعتبر أن مرحلة التأسيس تختلف مبدئيا وعمليا عن مرحلة الاكتمال. وبناء على ذلك نرجح أن تكون أركان الطريقة قد ترسخت بصورة تدريجية وعن طريق تراكم تجارب متعددة. كما كان لانتشار الطرق وتعددها انطلاقا من هذه المرحلة إلى أواسط القرن السابع للهجرة أي خلال قرنين من الزمان دور كذلك في ترسيخ التقاليد الطرقية واكتمالها.
6 من المسجد إلى الرباط والزاوية:
تلك بعض ملابسات الوضع الانتقالي في الحياة الروحية الإسلامية من الفردية إلى الجماعية وهي ملابسات لها صلة كما رأينا بالأوضاع الاجتماعية والثقافية وبما طرأ من تطور على الحياة الصوفية تمثل خاصة في ظهور الحركة التعليمية التي تمخضت عن العلاقة النموذجية بين “الشيخ” و “المريد” وعن حركة الانتقال من مفهوم “الطريق” إلى مفهوم “الطريقة”٬ لكن تلك المعطيات الجديدة لم تكن تمثل السمة الوحيدة الدالة على ذلك الوضع الانتقالي٬ إذ وجدت سمات أخرى مادية هي بمثابة التعبيرات الموضوعية عما حدث من تطور لأن من خصائص التحولات الاجتماعية والثقافية التلازم بين مضامينها وأشكالها أي بين الثقافي ذي الأبعاد المعنوية والقيمية والاجتماعي ذي الأبعاد المادية والإجرائية. والملاحظ في هذا السياق هو الانتقال في الحياة الروحية الإسلامية من إطار مادي إلى آخر أي من إطار المسجد إلى إطار الرباط والزاوية.
لا جدال في أن الإطار الأصلي للحياة الروحية الجماعية في الإسلام هو المسجد باعتباره المكان المفضل للعبادة وحتى محاولات “الاعتكاف” الفردية الأولى قد كانت تجري في ذلك الإطار. ففي المسجد كان الوعظ وفيه كان الذكر وفي إطاره ظهرت بوادر التعليم الصوفي. لكن الأوضاع الجديدة للحياة الروحية قد اقتضت التجديد في الإطار أيضا فكانت الاستعاضة عن الفضاء العام للحياة الدينية بفضاء خاص، ولم تكن المسألة مرتبطة حتما بمجرد الحاجة إلى التميز الشكلي وإثبات الوجود الخاص بالقياس إلى الوجود العام وإنما المسألة أعمق من ذلك وإنما المسألة أعمق من ذلك ولها صلة بطبيعة الحياة الروحية الجديدة ذاتها ونعني بذلك الشعور بالحاجة النفسية إلى الخلوة.
وغني عن التذكير أن العزلة والانقطاع إلى الله قد كانت نتيجة طبيعية لنزعة الزهد منذ وقت مبكر، وقد عبر الزهاد الأوائل عن ميلهم إلى العزلة وتجنب مخالطة عامة الناس، وفضل بعضهم الإقامة في الكهوف والفيافي كما تجل على ذلك سيرهم. لكن ذلك السلوك لم يكن سنة ثابتة وشاملة لجميعهم ولم يكن يتجاوز مواقف بعض الأفراد 30 بل عارض بعضهم هذه النزعة 31 ورأى فيها بعضهم الآخر ضربا من الرهبانية حيث “لا رهبانية في الإسلام” 32 . إلا أن مرحلة الانتقال من الزهد إلى التصوف قد اتسمت بانتقال هذه النزعة وتجذرها في الصوفية الأوائل حتى غدت سنة من سنن السلوك الصوفي عبر عنها بعضهم بأساليب وتعبيرات متنوعة من ذلك تعريف الجنيد للتصوف بقوله :” هو أن تكون مع الله بلا علاقة” 33 وفي ذلك تعبير عما يقتضيه سلوك الطريق من توحد وتأمل واستغراق روحي.
لكن “الخلوة” الفردية التي كانت تقع في أماكن متنوعة حسب اجتهادات أصحابها قد تحولت إلى”خلوة” جماعية أحوجت إلى مكان مختص، وقد تمثل ذلك المكان في مؤسسات أنشئت للغرض كالخانقاه والرباط والزاوية، وإذا ما كانت الخانقاه 34 متمحضة منذ نشأتها للعبادة فإن مؤسسة الرباط 35 قد كانت ذات وظيفتين : جهاد الكافر وجهاد النفس أي “الجهاد الأكبر” و “الجهاد الأصغر” 36 وسر الجمع بينهما أن كلا منهما يمثل نوعا من “المرابطة” : رباط الخيل بالثغور لتحصينها ورباط الإرادة والعزيمة لحماية النفس من طوارق الغفلة وأخطارها. كما أن كلا منهما يمثل الطريق إلى الله وسبيل الروح إلى خلاصها، وكلا منهما يؤدي إلى “الشهادة” فإحداهما تحققها عن طريق الاستشهاد بينما تحققها الأخرى عن طريق الفناء في المشاهدة أو الشهود.
وهكذا يتضح أن المصطلحات الصوفية لم تكن غريبة في صياغتها عن المصطلحات الجهادية إذ كانت الوظيفتان في تداخل أوتكامل واضح، وقد اضطلع بهما صوفية الأربطة في مراحل مختلفة من التاريخ وإن كانت تلك الأربطة في أول نشأتها مؤسسات دفاعية وحمائية ثم اختص بعضها بمرور الزمن بوظيفة العبادة. أما بالنسبة إلى الزاوية فمن المرجح أنها كانت متمحضة منذ نشأتها للعبادة وإن حدث أن اضطلعت في بعض العصور وبصفة ظرفية وثانوية بوظيفة جهادية. وإذا ما كانت الخانقاه مؤسسة مشرقية فإن الزاوية قد عرفت انتشارا واسعا خاصة بالغرب الإسلامي، أما الأربطة فقد كانت منتشرة بالمشرق والمغرب على حد سواء 37 ولا مراء في أن كل هذه المؤسسات قد اصطبغت بطابع البيئة التي احتضنتها وبنمط التركيبة الاجتماعية التي نشأت فيها 38 لأنها نابعة من الواقع الاجتماعي، وذلك بالرغم مما في تقاليدها وطقوسها من تأثر ببعض العوامل الخارجية 39.
لكن ما يعنينا في هذا السياق هو أن هذه المؤسسات الصوفية قد كانت كلها ودون استثناء استجابة لتلك الحاجة الماسة إلى فضاء خاص تتحقق فيه “الخلوة” العامة. وليس من باب الاتفاق والصدفة أن أدرجت تلك المؤسسات ضمن طقوسها الروحية تقليدا يتمثل في اعتبار “الخلوة” مرحلة أساسية من مراحل ترقي المريدين في الطريق الصوفي 40. وهي المرحلة التي تلي مباشرة مرحلة “الخدمة” وقد خصصت لها أماكن خاصة متميزة عن “بيت الجماعة” وذلك لأن “الخلوة” العامة هي الإطار الضامن لتحقيق “الخلوة” الخاصة، ولم تكن تلك “الخلوة” مقتصرة على ما يلزم به المريد نفسه في الظاهر من عزلة وانفراد وإنما هي “خلوة” باطنة أيضا تتجرد فيها النفس من علائقها مع العالم الخارجي ويتعطل فيها نشاط الحواس مع استغراق روحي كامل في ذكر الله 41. وليس المجال سانحا لتفصيل دقائق هذا الطقس الروحي كما مارسته مختلف الطرق الصوفية واستقر في تقاليدها وإنما هدفنا في هذا التحليل أن نوضح المكانة التي تحتلها هذه الخلوة في الحياة الصوفية باعتبارها عاملا من عوامل الانتقال من فضاء تعبدي إلى آخر وبصفتها كذلك طقسا أساسيا من طقوس السلوك الصوفي يضمن الانتقال من حياة الظاهر إلى حياة الباطن.
إلا أن نشوء فضاء الخانقاه والرباط والزاوية لم يكن استجابة للحاجة النفسية والروحية التي اقتضاها النشاط الصوفي فقط بل كان استجابة أيضا للحاجات الاجتماعية التي أفرزت ذلك النشاط واتخذت منه شكلا من أشكال التعبير الديني. وانطلاقا من تلك الحاجات اكتسى ذلك الفضاء طابعا اجتماعيا فكانت فضاء مفتوحا لقاصديه دون تمييز، وكان مجالا لإرساء علاقات اجتماعية من طراز جديد عمادها التآخي في “الصحبة” 42 والتصافي والتكافل مما خول لذلك الفضاء أن يضطلع بوظيفة ثالثة هي الوظيفة الاجتماعية بقطع النظر عن نوع المؤسسة التي تشكل فيها، وسواء كان خانقاه أو رباطا أو زاوية فجميعها لم يعدم هذه الوظيفة عبر التاريخ رغم ما وجد بينها من تفاوت في هذا المجال. ولئن لم تكن تلك الوظيفة بارزة بروزا كافيا في طور التأسيس ولم تكن لها الأولوية بالقياس إلى الوظائف الأخرى في مرحلة النشأة 43 فإنها ما فتئت أن تبلورت وتطورت على مر الأيام وأصبحت قادرة على الاضطلاع بدورها على مختلف الأصعدة العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك السياسية 44 .
7بين الأصالة والمشافهة:
لقد اقتصرنا في هذا المدخل إلى حد الآن على تحليل ما رصدناه من عوامل تاريخية واجتماعية وثقافية كان لها دور فعال في نشأة الظاهرة الطرقية، وهي عوامل ذات طابع محلي إذ هي نابعة من صميم الحياة الإسلامية، لكن البجث عن عوامل نشأة تلك الظاهرة لاينبغي أن يقتصر على تلك المعطيات المحلية. فالنظر الموضوعي يقتضي البحث كذلك عن العوامل الدخيلة والمؤثرات الخارجية، إذ لم يكن المسلمون في أي طور من أطوار تاريخهم يعيشون بمعزل عن الثقافات والحضارات الأخرى في هذا العالم. كما أن ظاهرة التجمع حول مبدأ المؤاخاة في الدين لم تكن حكرا على المجتمعات الإسلامية إذ عرفتها الحضارات السابقة والمعاصرة لظهور الإسلام وانتشاره.
وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن نظام الرهبنة قد عرفته مختلف الأديان عبر التاريخ وأنه كان موجودا في الديانات الشرقية عند ظهور الإسلام وزمن انتشاره ونخص بالذكر هنا نظام الرهبنة المسيحية الذي كان منتشرا في أماكن مختلفة من بلاد الشرق، وليس من باب الصدفة أن تذكر لنا المصادر الإسلامية أن أول خانقاه أنشئت في الإسلام هي تلك التي أنشأها راهب مسيحي بالرملة من أرض فلسطين. 45 وليس من المستبعد أيضا أن يكون للأشكال الأخرى من الرهبنة في الأديان القديمة أثرها في صياغة تقاليد ورسوم الطرقية الإسلامية. وذلك على غرار ما كان للديانات الهندية والفارسية من تأثير في بعض التقاليد والرسوم. 46 إلا أن تأثر الطرقية الإسلامية بأنظمة الرهبنة القديمة ما يزال في حاجة إلى مزيد الدرس والتنقيب والمقارنة حتى يتسنى الكشف عن الأصول الدخيلة والعوامل الخارجية التي لعبت دورا إلى جانب العوامل المحلية في صياغة نظام الطرق كما استقر في تاريخ الإسلام.
وهكذا يتضح أن البحث عن أصول الطرقية في الإسلام يفضي بنا إلى الوقوف على ثلاثة روافد أساسية قد تظافرت لتفرز هذه الظاهرة على الشاكلة التي انتهت إليها في المجتمعات الإسلامية. ونعني بها الرافد الديني بأبعاده الروحية والنفسية والرافد الاجتماعي بأبعاده السياسية والثقافية والرافد الأجنبي بأبعاده التاريخية. وقد لعبت هذه الروافد دورا كذلك في تلون هذه الظاهرة بخصائص البيئة التي احتضنتها مشرقا ومغربا وبطبيعة الفترات الزمانية التي نشأت وتطورت فيها. فكان للعوامل المحلية دورها في عملية النشأة والتأسيس ثم التطور والانتشار، كما كان للمثاقفة أيضا أثرها في كل ذلك وهو ما يفسر الكثير من أوضاع هذه الظاهرة وخصوصياتها عبر التاريخ.
الهــــوامـــــش
1) الجامي: نفحات الأندلس، طبعة كلكتا، 1859، ص 34.
2) المقريزي: الخطط، طبعة بولاق 1270هـ، ج 2 ص 414.
القزويني: آثار البلاد، طبعة وستنفلدwestenfield ، ص41.
راجع: ـ رـ أ ـ نيكلسونR-A- Nicholson ـ في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة أبي العلاء عفيفي، القاهرة، 1956، ص 57.
3) نشير هنا إلى اقتصار الفقهاء على تقنين طقوس العبادة دون النظر في معانيها كما نشير إلى مبالغة المتكلمين في اعتماد المقولات النظرية المجردة في شؤون الاعتقاد ـ يقول المستشرق رينولد ـ أ ـ نيكلسون في كتابه “الصوفية في الإسلام” متحدثا عن علم الكلام ودوره في رد ” الطبيعة الإلهية إلى وحدة صرفة جامدة لا تتغير وإرادة مجردة قد عرت من جميع العواطف والمشاعر وقدرة خارقة تعز على الحصر لا يستطيع بشر أن يعقد معها أواصر صلة شخصية أيا ما كانت….ومن هنا كان الخيار فاختيرت الصوفية” ص 27.
4) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة: يوسف حلاق، دار الفارابي، بيروت 1982، ص 135.
5) إشارة إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية من العهد الأموي إلى العهد العباسي كازدهار التجارة في العصر العباسي الأول ثم ظهور الإقطاع العسكري في العصور الموالية.
6) يلاحظ في هـذا السياق تغير مفهومي الخاصة والعامة بتغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
7) المقصود هنا بالإعلاء دلالته الاصطلاحية كما تواترت في علم النفس وهو تعريب لمصطلحsublimation ( انظر تعريفه في موسوعة لاروس ).
8) ينفرد الصوفية بإطلاق اسم “الحق” على الذات الإلهية ـ وله عندهم أكثر من دلالة ـ ففيه إشارة إلى ما يبحثون عنه من حقيقة دينية، وأضحى عندهم دليلا كذلك على الحقيقة الوجودية، وهو في الأصل اسم من أسماء الله الحسنى مطلق المعنى بشكل يجعله نقيضا للباطل والضلال والخطأ.
9) نشير هنا إلى المصطلح الطرقي يشي بمفهوم الرابطة المشار إليها ويرمز إلى الانخراط في مجتمع من طراز جديد.
10) محمد مفتاح، الخطاب الصوفي مقاربة وظيفية، الطبعة الأولى 1417هـ/1997م، توزيع مكتبة الرشاد.
11) مصطلح الطريق يدل على المراحل التي يقطعها السالك في معراجه الروحي وهي المقامات والأحوال، أما الطريقة وإن كانت تشتمل على مراعاة مراحل الطريق في السلوك الفردي إلا أنها تعني تنظيما اجتماعيا دينيا من نوع خاص.
12) كالملامتية على سبيل المثال.
13) تطلق الطائفة على مجموع المتصوفة في منطقة محددة فيروى مثلا أن الجنيد في بغداد كان يلقب بسيد الطائفة والمقصود بها طائفة الصوفية.
14) إن التسليم بشرعية “الشيخ” مرحلة أساسية في نشأة الطرقية وقد أثارت تلك المشروعية مجادلات بالمشرق في زمن مبكر وكذلك بالمغرب في القرن الثامن للهجرة.
15) كانت مجالس الذكر تعقد في عصر بني أمية ومن أشهرها مجالس الحسن البصري الذي كان يشبه الذكر بالنور.
16) القشيري، الرسالة، طبعة مصر 1287هـ ص101.
17) المصدر نفسه، ص102.
18) المصدر نفسه، ص101 ـ انظر أيضا: رـ أ ـ نيكلسون، R-A- Nicholson في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص52 ـ 53.
19) الهجويري، كشف المحجوب، ترجمة: رـ أ ـ نيكلسون. سلسلة جب 1911م، ص129 ـ راجع في ذلك تعريب أبي العلاء عفيفي لكتاب “في التصوف الإسلامي وتاريخه”، المستشرق نفسه.
20) المرجع نفسه، ص74.
22) ولموقفهم ذلك علاقة بنظرية الفداء التي تبلوت بوضوح مع البسطامي والحلاج.
23) ينسب هذا القول لأبي زيد البسطامي ـ راجع: القشيري، الرسالة طبعة مصر 1330هـ، ص 181.
وتدل المجادلات التي جرت بالمغرب الإسلامي في القرن الثامن للهجرة حول ضرورة الشيخ بالنسبة للمريد على ما تكتسيه هذه المسألة من أهمية في تاريخ الانتقال من التصوف الفردي إلى التصوف الجماعي ـ راجع في ذلك “شفاء المسائل” لابن خلدون ورسائل الرندي.
24) من أوائل الصوفية الذين تصدوا للتعليم مثل السري السفطي (253هـ) ويحي بن معاذ الرازي(ت 258هـ) وأبي حمزة البغدادي (ت 289هـ ) والجنيد البغدادي (ت 297هـ) وأبي بكر الشبلي (ت 334هـ).
راجع أيضا رأنيكلسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص 20.
25) المرجع نفسه،ص25.
26) ارتبط مصطلح التوكل بشفيق البلخي (ت 194هـ) ومصطلح المحبة برابعة العدوية (ت180هـ) ومصطلح الفناء بأبي يزيد البسطامي (ت261هـ) ومصطلح المعرفة بذي النون المصري (ت245هـ)، راجع: رأنيكلسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص 7074.
27) من أشهر من اهتم بذلك الكلاباذي في كتاب “التعرف” والطوسي في كتاب “اللمع”.
28) العطار (فريد الدين)، تذكرة الأولياء، طبعة 1905/1907، ج1 ص305.
29) القزويني، آثار البلاد، ص41.
راجع أيضا: رأنيكلسون، في التصوف الإسلامي تاريخه، ص57.
30) مثل ابراهيم بن أدهم (ت161هـ).
31) مثل أبي تراب النخشبي (ت245هـ) الذي كان يذكر القعود في الخانقاوات، راجع الأصفهاني، حلية الأولياء،ج10، ص46، ط القاهرة 1932هـ.
32) اعتبر القرآن الرهبانية بدعة، سورة الحديد، الآية 28، كما ورد في جديث مشهور قول الرسول: “لا رهبانية في الإسلام”.
33) القشيري، الرسالة، ص148 يبرر الصوفية العزلة بالخوف من الأخطار المنجرة عن مخالطة الجماعة.
34) الخانقاه: تسمية فارسية الأصل وكان انتشارها بالمشرق الإسلامي
35) الرباط: تسمية عربية الأصل وجدت بالمشرق والمغرب على حد السواء.
36) تروي كتب االسيرة أن الرسول قد قال عند رجوعه من إحدى الغزوات: “عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”.
37) محمد مفتاح، الخطاب الصوفي، ص3142.
38) المرجع نفسه، ص7376.
39) مثل تقليد المغاربة للمشارقة في بعض رسوم هذه المؤسسات وكذلك التأثر على مستوى معمار الأربطة ببعض المؤثرات الخارجية، المرجع السابق، ص 7172.
40) السهروردي (شهاب الدين بن عمر)، عوارف المعارف، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1966، من الفصل 26 إلى الفصل 28.
وراجع أيضا رأنيكلسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص5960.
41) المصدر نفسه، والمرجع نفسه.
42) لقد ألف الصوفية في موضوع “آداب الصحبة” وبين هذه المؤلفات ما كتبه أبو القاسم الجنيد.
43) محمد مفتاح، الخطاب الصوفي، الفصل الثاني، حيث يتحدث المؤلف عن زاويتين في عهد بني مرين تميزتا بوظيفة اجتماعية بارزة منذ عهد التأسيس.
44) المرجع نفسه.
45) المرجع نفسه، ص56، نقلا عن الجامي في نفحات الأنس.
46) المرجع نفسه، ص38 و75، ومن تلك التقاليد المستعارة حمل السبح وكذلك التأثر بالعادات البوذية.