مَعَ الصُّوفِيَّةِ فِي إِشَارَاتِهِمْ
بقلم: أسامة شفيع
جاء في “اليواقيت والجواهر” للشيخ عبدالوهاب الشعراني أن الحافظ ابن حجر شرح بعض أبيات من تائية ابن الفارض رضي الله عنه، وقدمها إلى الشيخ أبي مدين ليكتب له عليها إجازة، فكتب له على ظاهرها: ما أحسن ما قال بعضهم:
سارت مشرِّقةً وسِرْتَ مغرِّبًا ** شتان بين مشرق ومغرب
وحَكَى كذلك أن الفقيه العظيم ابن سريج تنكر وحضر حلقة الجنيد ليقف على صحة ما أشيع عن الصوفية في زمانه، فلما انتهى المجلس سئل عما سمع، فقال: لم أفهم شيئا، غير أن لكلامه صولةً ليست بصولة مبطل.
فهاتان الحكايتان وأشباهها تدلك على خطر النظر في كلام القوم استقلالا من غير سلوك؛ فإن الناظر وإن علم اصطلاحهم يفوته توجّه القلب الذي لهم، فلا ينقدح في نفسه حين يقرأ مثلُ ما انقدح في نفس الصوفي حين كتب، ولا قريبٌ منه، بل لا يصيب عينَ الجهة التي فوَّق إليها سهمه؛ وذلك أن “لونَ الماء لونُ إنائه”،كما قال شيخ الطائفة رضي الله عنه، فإذا المعاني الشريفةُ معكوسة، وإذا الإشارات المُنيفةُ مطموسة، وإذا السماء قد غدت في فهمه أرضًا، والأرضُ سماءً، وما ذاك إلا لما فاته من صحة التوجه، ألا ترى السماء لو صبت الماء كأفواه القرب لم تمتلئ منه الدِّلاءُ ما كانت مُنتكِسةً؟ وقد كان مما اختص به أهل هذا الطريق ـ علي ما ذكره صاحب الفتوحات ـ أن أصحاب البدايات في كل فن يمر بهم الزمان الطويل حتى يحذقوا فنهم، ويقفوا على معاني إشارات أساتذتهم، ولا كذلك الحال في هذا الطريق، فإن الصادق من سالكيها يفهم من أول قدم عن الأشياخ إشاراتهم، وإن كان جاهلًا باصطلاحهم، وسبب ذلك صحة التوجه، وإن شئت قلت: وحدة الوجهة.
فالحُجُبُ دون صحة الفهم على غير السالك الصادق متكاثفة مترادفة، فمنها ما ذكرناه آنفا، وهو أشدها لاتصاله بالقلب الذي له الإمرةُ على ما سواه من القوى، ومنها حجابُ اللسان، فإن معاني القوم دقيقة لا تكاد تضبطها العبارة، وقد تأبَّت ـ لشدة تعلقها بالغيوب ـ على الظهور والجلاء، فمهما رحت تقيدها بلفظ بقي جوهرُها مستترا إلا على من لقي غيبيتَها بغيبيته، وقد قال صاحب المواقف والمخاطبات:”قال لي: إن سكنتَ إلى العبارة نِمْتَ، وإن نمت متَّ، فلا بحياة ظَفِرتَ، ولا على عبارة حصلت”، وقال:”وقال لي: اخرج من الحرف تعلمْ علما لا ضد له، وهو الرباني”، وقال:”كلما اتسعت المعرفة ضاقت العبارة”.
ومن الحجب كذلك حجاب العقل، وإنما كان حجابا في هذا الباب لأن مبنى معارفه على الحس، وغايتُه في العمل بعد ذلك حملُ مجهول على معلوم في الحكم لاشتراكهما في علته، وهو القياس، مفخرة العقل الكبرى، وعنوان ذكاء الأذكياء من زمرة العقلاء، قد أجمع الناس على إجرائه في العاديات، واختلفوا فيه في الشرعيات، فمِن مثبتٍ لهو منكر، وكلا الفريقين يطلب في الكتاب سندا، ومن كلام الأولين عَضُدًا، وهو ـ كما علمت ـ يرجع إلى طريق الحس ثم يبنى عليه، فإذا البناء على جُرُفٍ هار؛ وذلك أن الاستدلالات العقلية مهما تكن محكمةً ففيها من الوهن ما لا يخفى على لبيب، ألا ترى أن نقض لَبِنة واحدة من البناء يهدم البناء كله؟ ولما كان طريق القوم خارجا عن الحس جملة لم يناسبه أن تَتَخذَ له العقلَ آلةً لما قدمنا، وقد قال العارف في صفة القوم:
مجانينُ إلا أن سرَّ جنونهم ** عزيزٌ على أعتابه يسجد العقلُ
ولما عرف حجة الإسلام الغزالي مذهبهم من كلامهم، قال في “المنقذ من الضلال”:”..فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، وكم من الفرق بين أن تعرف حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما وبين أن تكون صحيحا وشبعان؟ وبين أن تعرف حد السكر، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر، وبين أن تكون سكران؟ بل السكرانُ لا يعرف حد السكر، وعَلِمَهُ وهو سكران، وما معه من علمه شيء، والصاحي يعرف حد السكر وأركانه، وما معه من السكر شيء”، ثم قال:”فعلمت يقينا أنهم أرباب الأحوال، لا أصحاب الأقوال”.
وقد أخطأ لذلك من مزج الفلسفةَ بالتصوف والفلاسفةَ بالصوفية، فإن الفلسفة في أصل معناها حبُّ الحكمة، فهي إذن ـ كما يقول رُنيه جينو (عبد الواحد يحيى) ـ شيء مغاير للحكمة، وما كل من أحب شيئًا أدركه.والتصوف ـ عند أربابه ـ اتصال بالحكمة العليا، وهو معنى وصفِ الغزالي الصوفيةَ بأن”جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به”.
****
وقد بدا لي أن أورد في هذه العجالة طائفة من كلام القوم مشفوعةً بمقاربات مما يسر الله في فهمها، عسى أن تصيبنا كرامة الجوار. فمن ذلك قولهم:
(١) أَكْثِرْ ذكرَ الله حَتَّى يَقُولُوا: مَجنُون!
وذلك أن الذاكر لم يزل في شُغُلٍ بالمذكور حتى يحبَّه، فإذا أحبه غَيّبَتْه حُجُب الغيرة، فإذا هو قد أصبح غريبًا، يُرى في الناس وليس منهم، قد أقبل على ما أعرضوا عنه، وأعرض عما أقبلوا عليه، فإذا رأوْه على هذه الحال، ظنوا به الظنون، “وقالوا يا أيها الذي نُزِّل عليه الذكرُ إنك لمجنون”!
لا جرم أن مَن مَشَى على رأسه يرى الخللَ في الاعتدال، وفاقدُ العقلِ يرمي الناسَ بالخَبَلِ!
وقد رُمي بالجنون طوائفُ من الفضلاء، حسبك منهم خير التابعين أويس القَرني رضي الله عنه، كان إذا ذكر الله تعالى، قالوا: هذا جنون! فيقول: هذا دواء الجنون! وقال الحسن البصري رضي الله عنه: “أدركت سبعين بدريا، لو رأيتموهم لقلتم: مجانين!”.
فتأمل كيف رُتِّبتْ المعاني على مراتب الأحوال! وأنشدوا:
ولمَّا اجْتلاكَ الفكرُ في خَلوةِ الرّضا ** وغُيِّبتُ، قال الناسُ: ضَلت بي الأهْوا
لَعمرُك ما ضَلَّ المحبُّ، وَما غَوى ** ولكنَّهمْ لمَّا عمُوا أخطأوا الفتوى
ولو شَهدوا معنى جمَالِكَ مثْلما ** شهدْتُ بعينِ القلبِ ما أنكروا الدعوى
(٢) “الْأَدَبُ مَعَ الحِجَابِ خَيْرٌ مِنَ اطِّرَاحِ الْأَدَبِ مَعَ الْكَشْفِ”.
هو كقولهم: “العارف من لم يطفئ نورُ معرفته نورَ ورعه”، وذلك أن الولي يبلغ في السير مرتبة يذوب فيها تحت سلطان القهر، فلا يرى فاعلا على الحقيقة إلا الله تعالى، وتسقط النِّسبُ الكونيةُ من عينيه، وهي المرتبة التي يسمونها في اصطلاح القوم “الجمع”، وهي مزلة قدم إن لم يدرك الله تعالى وليه بشيخ مربٍّ يخرجه منها إلى ما بعدها، وهي “جمع الجمع”، أو “الفرق بعد الجمع”، وفيها ينظر العارف بالعينين، وتصح عنده النسبة للجهتين، فلا تصرفه الحقيقةُ عن مراعاة آداب الشريعة، ولا يشغله سرُّ القدر عن تصحيح نسبة الأفعال إلى البشر، فظاهرُه كأهل الحجاب، وباطنُه ناطق بالوحدة من غير ارتياب، يؤمن بالكتاب كله، لا يميل به تدللالعارف عن تذلل العابد، فهو صاحب الولادتين، الناظر بالعينين، الساعي بالقدمين، الطائر بالجناحين، ورعُه في عرفانه نورٌ على نور،ومن لم يدرك هذا المقام من السالكين، وبقي مع الكشف الجمعي خُشي عليه المكر الإلهي، وقيل له آنئذٍ: الأدب مع الحجاب خير من اطراح الأدب مع الكشف، والله أعلم.
(٣) “ربما فَتَحَ لك باب الطاعة، ولم يَفْتَحْ لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب ، فكان سببا في الوصول”.
طلبت معنى هذه الحكمة العطائية في كتاب الله تعالى، فرأيت شطرها الأول في قوله سبحانه:”واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا”، فهذا قوله: “فَتَحَ لك باب الطاعة” ، ثم قال ربنا:”فتُقبِّل من أحدهما و لم يُتقبل من الآخر”، فهذا قوله:” ولم يفتح لك باب القبول”.
أما شطرها الآخر، وهو “وربما قضى عليك بالذنب ، فكان سببا في الوصول”، فتراه في قوله جل شأنه:”فتلقى آدمُ من ربه كلماتٍ فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم »، وهو آكد في قراءة ابن كثير: بنصب آدم ورفع كلمات، فإنها قراءة كمال العناية.
(٤) “رِزقُ العَبْدِ فِي طَلَبِ مَرزوقِه دَائرٌ، وَالعبدُ في طلب رزقِه حائرٌ، وَبِسُكونِ أحدِهمَا يتحرَّكُ الآخَرُ، فلا يُقال: السعيُ أفضلُ مطلقًا، ولا تَركُ السعيِ أفضلُ مطلقًا، كما يظنُّه من ليس عنده تحقيقٌ، بل هُوَ على قسمين: رزقٌ يَأتي إليكَ بلا سَعي، فلا يقال في هذا: السعيُ أفضل، ورزقٌ لا بدَّ في وصولكَ إليه من السَّعيِ، فلا يقال: لو تَرك هذا السعيَ كان أفضَلَ ، فافهم!”
(من كلام الشيخ علي الخواص قدس سره)
ما يأتيك من الرزق دون سعي هو الذي يأتيك من حيث لا تحتسب، و هو من ثمرة التقوى، وليست سببا خاصا في تحصيله، وإنما هي أصل قائم برأسه، مقصود بنفسه، قد جلت عن أن تنزل إلى رتبة الوسائل، كيف وهي المقصد الأسنى، والمطلب الأعلى؟! وحصول الرزق بها من ثمارها الحاصلة بالعرض، لا بالأصالة.
ولعل قصة حمال الإمام أحمد رضي الله عنه تكشف وجوه المعاني في كلمة الشيخ علي الخواص قدس سره، وخلاصتها أن الإمام أحمد استأجر حمالا ينقل الدقيق إلى داخل داره، فلما فرغ أخذ أجرته، فهذا رزق حاصل بالسعي، فأراد عبدالله بن أحمد أن يعطي الحمال ـ وكان من الصالحين ـ رغيفا فأبى، فلما ولى، قال الإمام لابنه: الآن إن أعطيته الرغيف قبله، فأسرع في إثره ليعطيه الرغيف، فقبله، فتحير عبدالله: فيم كان الرد ثم الأخذ،فقال له أبوه : حينما أعطيته أول مرة خشي أن تكون نفسه قد تعلقت بما رأى من الخبز، فآثر خلافها، فلما ولى وأيس من العطاء ، وجاءه الرغيف من غير سابق تعلق نفس قَبِلَه. فهذا معنى قول الشيخ “رزق العبد في طلب مرزوقه دائر”، وقوله:”وبسكون أحدهما يتحرك الآخر” ؛ فإنه لما سكنت نفسه عن الطلب ، تحرك الرزق إليه.
فإن علونا عن رتب الحس، فإن القوم متفقون على أن الواردات كثيرا ما تفجأ العبد في ساعة الفترة؛ لئلا يدعى فيها الاستحقاق بسابق الاستعداد، قال العارف ابن عطاء الله:”قلما تكون الواردات الإلهية إلا بغتة لئلا يدعيها العُبَّاد بوجود الاستعداد”، فهذا رزق حاصل بغير سعي، و الله أعلم.
(٥)التَّوَكُّل.
يكثر في كلام القوم الحديث عن اطراح الأسباب جملةً، والخروج عن مألوف العادات في اتخاذ الأُهب، ومراعاة السنن التي بني عليها الوجود، ومن أمثلة ذلك سياحتهم الأيامَ والليالي في الفيافي والقفار دون زاد أو ماء، حتى اتخذ ذلك من لا عِلْمَ له بطريقهم ذريعةً للنيل منهم، والحط من شأنهم، و الحق أن هذا برزخ في السير بين طورين:
أحدهما: مقام أهل البدايات الذين تضطرب بواطنهم للفقد، وتهدأ مع الوجود، فهؤلاء أقيموا مع الأسباب، فلا يتخلصون منها إلا بشيخ مربٍّ، يتعهد بواطنهم حتى تخلص من الركون إليها جملةً، ثم يطلبون الرسوخ في هذا المقامـ بإذن الشيخ وإشارته ـ باطراحها جملة، فلا يرقون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون، كما جاء في السنة، فهذا هو البرزخ المشار إليه .
فإذا استووا على هذا المقام، ترقوْا في الباطن بتنزلهم في الظاهر، وعودتهم إلى الأسباب مرة أخرى، لا ركونا إليها، ولا اعتمادا عليها، ولكن أدبا مع الشرع الشريف فيما أمر به، ونهى عنه، مع انصراف باطنهم بالكلية إلى الله تعالى؛ ولذلك قال الشيخ الأكبر قدس سره ما حاصله أن “الأسباب من وضع الله في العالم، ولا سبيل إلى رفع ما وضعه الله، فمن حاجَّك فيها، فقل له: هلا سكتَّ، ولم تتوسل بالكلام إلى بيان حجتك؛ فإن حاصل مذهبك أن يقع لي الفهم عنك دون تفهيم منك، فحينئذٍ ينقطع” اهـ بمعناه.
وهذا هو الطور الثاني، وفيه حل الإشكال الذي ذكره الفقهاء عند شرحهم لحديث المتوكلين الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فإن طائفة منهم استشكلت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رقَى، وما وقع لهم أن الرقية إنما وقعت ممن عبر بحر التوكل، وجاوز البرزخ إلى ما وراءه، على ما ذُكر آنفا!
وههنا مزلة قدم، وهو أن من لا علم له بالطريق وأهله ربما رأى الكامل من الرجال على صورة من الحرص على الأسباب تشاكل صورة أهل الدنيا، فيحسب أن الاشتراك في الظاهر يوجب الاشتراك في الباطن، ولا يعلم المسكين أن السادة رضي الله عنهم عاملون في ذلك على الأدب مع ظاهر الشرع، بعدما استقام لهم باطنه، والله أعلم.
(٦) أَرْكَانُ الْوَلَايَةِ.
قال بعض العارفين:
بيتُ الولايةِ قُسِّمت أركانُه ** ساداتُنا فيهِ منالأبدال
ما بين صمتٍ ، واعتزالٍ دائمٍ ** والجوع ِ ، والسهرِ العزيز الغالي!
تفكرت في البيت الثاني وما فيه من ترتيب الأركان الأربعة، فإذا هي قد رُتبت على أحسن نظام وأوفاه، بحيث لو تقدم أحدها أو تأخر عن موضعه الذي ورد فيه لاضطرب المعنى واختل.
فالصمت بالمحل الأول ولابد؛ لأن من ألِفت نفسُه “قيل وقال” شقَّ عليه الاعتزال، بل لا يكاد يحاوله حتى يُجن أو تخرج نفسُه عن طور الاعتدال، فلا بد من مزاولة الصمت أولا، وطريقتُه أن يسكت كلما اشتهى القول، فإن تكلمفبميزان الذهب: لا إفراط ولا تفريط.
فإذا تمكن في الصمت انعطفت نفسه نحو العزلة وهي بين المسامحة والمنازعة؛ وذلك أنها لما فقدت حظها من الرياسة والتقدم بالكلام في المجالس صدفت عنها؛ إذ لم تعد تصلح محلا لظهورها.
والعزلة تحمل على التقلل من الطعام بقدر ما تحمل المخالطةُ على الاستكثار منه؛ فلذلك أُخِّرَ الجوع عنها في الترتيب؛ إذ هي الوسيلة إليه.
ويوشك أن يُسهِرَ الجائع ليله؛ إذ النومُ لازمُ الشِّبِع؛ ولذلك ظهر السِمن بعد انصرام القرون الفاضلة الثلاثة؛ فكأنه أمارة نقص الباطن، ولعزةِ السهر تأخر ذكرُه، فهو”العزيز الغالي”؛ لأنه لا يُنال إلا بما تقدم من المجاهدات والرياضات.
ثم إن الولي إذا استقامت له هذه الأركان، ورسخت قدمه في واحدٍ واحدٍ منها، لم يضرَّ باطنَه انفكاكُ ظاهرِه عنها أو عن أحدها في بعض الأحيان:
– فهو إذا تكلم لم تعزُب عنه فضيلة الصمت؛ إذ كان كلامه بنفسه، ثم أضحى بالله، ومن أضيف إلى الله تعالى كان في زيادة لا خسران فيها.
– وهو إذا خالط الناسلم تفته فضيلة العزلة، قالت العارفة رضي الله عنها :
وَلَقَدْ جَعَلْتُكَ فِي الْفُؤَادِ مُحَدِّثِي ** وَأَبَحْتُ جِسْمِي مَنْ أَرَادَ جُلُوسِي
فَالْجِسْمُ مِنِّي لِلْجَلِيسِ مُؤَانِسٌ ** وَحَبِيبُ قَلْبِي بالْفُؤَادِ أَنِيسِي!
فمن كان كذلك لم تضره الخلطة ؛ لأن عزلتَه فيه لم تزَلْ!
وهو إذا أكل أو شرب لم تفارقه منقبة الجوع؛ لأن طعامه و شرابه إنما يكون وفاءً بالحق المرسوم في ظاهر الشرع، المشارِ إليه في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:”إن لبدنك عليك حقا”.
وهو إذا نام لم يُخلَّ نومُه بفضيلة السهر؛ فإن من الإرث النبوي للأولياء يقظةَ القلب وإن نامت العين، وقد قال العارف موميا إلى هذا المعنى: “الرجل من نام الليل كله، ثم أصبح في المنزل قبل القافلة”، والله أعلم.