من أجل أفق تحريري للخطاب الصوفي..
محمد التهامي الحراق
سبق لعلي بن عثمان الهُجويري أن ميز في كتابه “كشف المحجوب“، ومنذ القرن الخامس للهجرةِ، بين “المتصوف” و”الصوفي” و “المستصوف”([1])، و هو ما يفيدُ أن الادعاء لم ينفك يشاغب على الممارسة الصوفية السليمة منذ عصرها التأصيلي، مثلما لم ينفك عن التلبس بسائر الأديان والعلوم والفنون والصناعات متى ما و حيثما انتعشت. غيرَ أن العقل النقَّاد في كلّ دين وعلم و فن و صناعةٍ كان دوما يشحذ أدواتِه التحليلية ويطور فعاليته التنخيلية ليضطلع بالترشيد والتسديد؛ وهو ما كان المسلمون قد أطلقوا عليه اصطلاح “الحسبة”، والتي لم تقتصر دلالتُها الاصطلاحية على مراقبة ومحاسبة “المطففين في الاكتيال”، أو المتحايلين من أهل الغش في المعاملات الاقتصادية والتجارية، وإنما انتقل إلى مجالات المعنى ونطاقاته، هكذا نُعِتَ مثلا أحمد زروق الفاسي (تـ 899هـ)، لقوة وفعالية عقله الشرعي النقاد داخل الحقل الصوفي، بـ”محتسب الصوفية”؛ و ذلك لكونه نذر كثيرا من تآليفه مثل “قواعد التصوف” أو “عدة المريد الصادق” من أجل تقعيد الممارسة الصوفية، وتزويد المريد بالعدّة الشرعية و العرفانية اللازمة، كيما لا يحيد عن “سوّي الشرع” في تحققه بمقام الإحسان، وفي طلبه لمعرفة ربّه بالرياضات والمجاهدات والنوافل ابتغاء الترقي في منازل القرب من الله سبحانه ومحبته.
لقد دأب الصوفية على ملازمة “المراقبة”؛ لأن التصوف، ليس شيئا آخر، غير العمل على “مراقبة” النفس ومحاسبتها لكي تتحرر من قبيح عوائدها وتتحقق بخالص عبوديتها فعبادتها ثم عبودتها؛ و هما “المراقبة” و”المحاسبة” اللتان تتمان بعيني “الشريعة” “الحقيقة”؛ أي بعيني النصوص الدينية الكبرى الموجِّهة للمؤمن عقديا وفقهيا وسلوكيا، وكذا بعين الفهم الذوقي لهذه النصوص والمُستمَد من صدق التجربة وسفر التدبر ومجاهدات التقرب ومذاقات الإخلاص في المحبة.
ليست هذه “التعبيرات” مجردُ أوصاف إنشائية كما قد يذهب إلى ذلك البعض ممّن لم “يتعرف و يعترف” لكونه “لم يذق ويغترف”، مثلما أن الممارسة الصوفيةَ ليست مجرد موروث طقوسي في اللباس والمعاملة واللغة والاجتماع و الذكر و الإنشاد كما قد يظهر ممن علِق بالرسوم وانحجبت عنه لوامع الفهوم؛ إذ كلا الفريقين ظلّ أسيرَ المعجم والأشكال فوقف عندهما، ولم يتمثل بخالص تجربته الفرديةِ الذاتية ما تُشير إليه وتستثيره في البواطنِ تلك الكلمات التي ليست كالكلمات؛ فكلاهما لم يستبطن ما لتلك الكلمات و الأحوال من أثر وصدى غير مرئيين، بهما تلتهب الدخيلة، وبجمرة سرهما يكتوي الجسد على قدر حيرةِ الروح في الشغف بالمعنى المطلق بما هو أعز ما يَطلبُه الصوفي السالك.
نعم، اللغة هنا قدرُها المجاز والإشارة، خصوصا وهي تحاول في اللحظات العرفانية العليا قول ما لا ينقال و وصف ما لا يفصح عنه حرف ولا يحتويه وصف. لذا، كم يبدو التصوف اليوم مظلوما من لدن بعض منتحلي نسبته ممن لم يخبروا سر الإشارةِ، ويخلطون في كلامهم وسلوكهم بين أفق إنساني روحي عميق ومتعال غايتُه تحرير الإنسان من أسر الأشياء والكلمات، ومساعدته على الغوص في تلك في البحار اللانهائية من طاقات التعالي التي تكتنزها ذاتيته بما هو نفحة إلهية؛ وبين مظاهر تنظيمية وطقوسية تاريخية هي استجابة لمقتضيات اجتماعية وجغرافية وسياسية ما تفتأ تتحول و تتغير وتصير. وهذا الخلط يجد ظلاله، على مستوى الفهم، في مظاهر شتى أبرزها التخليط بين الخرافةِ والكشف، بين الوهم والسر، بين أضغاث الأحلام والمبشراتِ أو المَرائي.
و لعل من العلامات المُبَدِّدَة لهذا التخليط، والمثبتة لصدق السالك والمريد والشيخ اليوم، أن يأتي الصوفي بـ “كرامات” من جنس حاجيات وقته، بحيث تتحدى مقتضيات معقولية هذا الوقت من داخلها على غرار “معجزات” الأنبياء التي كانت معجزاتٍ لأنها تحدت أهل زمانها في ما يتفوقون فيه، كالسحر مع موسى والطب مع عيسى عليهما السلام، ورشد العقل والبيان مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ المعجزة المحمدية الكبرى هي قرآنُه، بما هو معرفة تستوفز على “التفكر” و”التدبر” و”التذكر” و”التعقل”، وتمجد “أولي الألباب” و”أهل النهى” و”أهل الذكر” و”نفر العلماء”؛ معجزة تحاجج وتحاور وتضرب الأمثال وتطالب بالبرهان وتتحدى العقول، كتاب معجزتُه “معرفية” “عقلية” أكثر من أي شيء آخر؛ مع التنصيص على أن هاته “المعرفة” تتأسس على “عقلانية إيمانية” منفتحةٍ تشج، بعمقٍ لا يتناهى وألق لا يُضاهى، بين الشهادة والغيب، بين العقل والروح، بين الحس والمعنى، بين البرهان والوجدان. لذا، فإننا حين نُطالبُ بأن تكون كراماتُ اليوم قرآنيةً، فمعنى ذلك أن تكون عقلانية إيمانية، تفجِّر المعنى الديني والإيماني المتعالي، و تستولده من داخل المعقولية الحديثة، حتى تستجيب للأسئلة الفكرية و الاحتياجات الروحية التي تشغل الإنسان المعاصر هنا والآن.
لو استطاع الخطاب الصوفي اليوم أن ينظر في كتاب الله تعالى ليستأنفَ، بوعي تاريخي يقظ، ما فتحهُ أسلافهُ في فهم الوحيِ من نوافذَ ومساراتٍ لإدراك أغوار النفس البشرية، لقدّم للإنسان اليوم بعض الرواء لعطشه الملتهب للمعنى؛ إذ يحتاج الإنسان المعاصرُ إلى الإصغاء لـ “جوهر” إنسانيته الهارب و المتشظي، مثلما يحتاج إلى ما يُسَكِّنُ من تيهانه الأنطولوجي حين يجد أن كثيراً من المعارفِ العالقةِ بخطابِ التعالي، معارفُ تجاوزها عقلُه ولَفَظها في متحف الخرافات و الحكايا التاريخية البائدة. ليس مطلوبا من الخطاب الصوفي أن يَخْضَع لمُقتضيات ولوازمِ ما يُعْتبَر اليومَ منظوماتٍ عقليةً حديثة، بقدر ما يُطلَبُ منه أن لا يعيد إنتاجَ “اللاعقل” الذي لم يعد يُغري العقلَ بتحدّيه واكتشافِه، لكون هذا “اللاعقل” قد فقدَ تلك القدرة “الإدهاشية” للعقل ذاته؛ أي فقدَ جذوةَ تحدي العقلِ حين فقد القدرةَ على تقديم ذاته كأفق يفضح حدودَ العقل في اللحظة المعاصرَةِ، ويلبِّي بطرقِه المخصوصة ما لا تستبطنُه أدواتُ العقل السائرة والشغالة. بعبارة أخرى، على الخطاب الصوفي أن يعي، بأدواته المخصوصة، جدليةَ العقل واللاعقل في صيرورتها التاريخية. وهو ما يعني، من جهة أخرى، أن عليه أن ينأى عن تكرار جمٍّ من مقترحات الأجداد لمعالجة الأرواح الحائرة والنفوس المضطربة، لأن تلك المقترحات لا توائم ضرورةً أحوال النفوسِ و أدواءها في حضارةٍ مادية تكتسحُ باستهلاكيتها أدقَّ تفاصيل الحياة الشخصية وحميميتها.
ربما وجب على الخطاب الصوفي أن يعيد قراءة موروثة الروحاني الباذخ برؤى فلسفية وإنسية جديدة، من شأنها أن تُعِدَّ الصوفي المُسلمَ لتجربة عرفانية متعالية تستمد من القرآن الكريم وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم آفاقا إحسانية روحانية، من خلالها تُخاطِب الإنسان مسلما أو غير مسلم، و تفتحُ أمامَهُ آفاقا جديدة لطرح إشكالية حضور التعالي في الرهانات الحديثة، بحيث يحضر هذا التعالي متوهجا بروح إنسية كونية، تنتشل الإنسان من تدهوره نحو لا إنسانية متوحشة شاملة؛ روح تجدد في الإنسان الشغفَ في المطلق دون استلاب، و تمكنه من اقتسام الحقيقة الإلهية دون تبديد إطلاقيتها، بحيث يُعاد النظر في الرؤية المانوية التي تعتقلُ الرؤى الدينية الدوغمائية السائرة، والتي استطاع كبار العارفين المسلمين أن يرتقوا بإيمانهم ليتحرروا منها في لحظات متعالية مشهودة من أسفارهم الذوقية العليا.
في هذا الأفق الروحي الكوني المفتوح، يمكن للخطاب الصوفي أن يكون مصدراً تحريريا ليس فقط لتدين المسلمين اليوم، بل لعلاقة الإنسان المعاصر اليوم بالدين والتعالي. غير أن مثل هذا الأفق ينطلق أولا وقبل كل شيء بتحرير الخطاب الصوفي من التسييس والتطقيس، كما بسطنا ذلك في مقالة سابقة، مثلما يقتضي تحريرَه من “التلبيس”؛ أي من أدواء التجهيل والتخريف والنكوص التي تطوله من “مُستصوفةٍ” أعمتهم أنفسهم المتضخمة عن فهم وتذوق معاني التعالي التي عاش بها وأنعشها العارفون في خلواتهم وأسفارهم الروحية. الأمر الذي يقتضي أيضا تجديد وإنعاش “الحِسْبة”، أي النقد الذاتي، على المستوى الصوفي، قبل النظر التجديدي الروحي في الخطاب الصوفي، شريعةً وحقيقة، للسير به في الأفق التحريري والتنويري الكوني المنشود.
([1]) علي بن عثمان الهجويري، “ كشف المحجوب”، ترجمة وتعليق إسعاد عبد الهادي قنديل، راجع الترجمة أمين عبد المجيد بدوي، دار النهضة العربية، بيروت، 1400هـ-1980م، ص.231.
رائع جدا ..حبذا الفقرة السادسة ..ليتها تكتب فى منشور على الموقع فى الفيس
الحقيقة جزء لا يتجزء والحقائق ثابتة لا تتبدل بل الذي يتبدل هو الرداء الظاهر منها وذلك تبعا للناظر لها.وبهذا يجب الا نكون في لبس من خلق جديد.فالمطلوب هو تجديد الحامل وليس المحمول أي تجديد لغة الخطاب وايصال الحقيقة على قدر المتلقي تبعا لما جاء به القران الكريم ” واما السائل فلا تنهر” فسائل باللسان وسائل بالحال فما في الوجو د الاسائل.
مع كامل المحبة والتقدير.