مولوي في عُمان
ناصر بن أبي نبهان الخروصي
(1147-1237هـ)
بقلم: خالد محمد عبده
وجّهتُ نحو رسول الله نازلتي..وقلت يا نفسُ عمّ النصر فانتظري
أمنية الفوز منه غير خائبة.. ومطمع النجح منه غير منحسر. [أبو مسلم البهلاني][1].
ولو قال قائل:إن شرح كل بيتٍ من نظمِ ابن الفارض يحتمل أن يكون كتابًا واسعًا، لكان صادقًا.[ناصر الخروصي][2].
من السهل جداً أن يتوارى الصغار أمام عظمة الأب الكبير، وبخاصة حين يكون هذا الأب بمثل حجم جاعد بن خميس الخروصي الذي يصفه البعض بأنه إمام الدين ومحيي تراث المسلمين وباعث أمجاد الأولياء الصالحين، إن الأقزام يكفيهم التسلق على أكتاف مثل هذا العملاق ليراهم الناس نقاطاً صغيرة أو ربما لا يرونها بسبب ظله الهائل، أما شأن العظماء والمجددين النجباء فهم وإن ظهرت صورتهم في قعر مياه الأب العملاق المنسابة أنهار كارزميته، إلا أن تلك الصورة ليست سوى انعكاس لتألقهم كالنجوم في السماء وكالشموس في الفضاء. وهذا هو شأن ناصر بن جاعد الذي حلق بفكره عاليا حتى صعب على أصحاب الأعين الكليلة رؤيته، وأنى لهم، وقد عُدم ذاك الزمان وسائل إبصار النجوم والأفلاك العظيمة خارج دائرة المألوف[3].
بهذه الصورة البليغة يلخّص زكريا المحرمي صورة الابن والأب، ويحفّزنا على التعرّف على هؤلاء الكبار المجهولين عند كثيرين من دارسي الإسلاميات اليوم، وسنقتصر في هذا المقال على التعريف بالابن، كما سنركز على كتاب له من جملة كتبه.
الشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي
ناصر بن جاعد بن خميس بن مبارك بن يحيى بن عبد الله بن ناصر بن محمد بن حيان بن زيد بن منصور بن ورد بن الإمام الخليل بن شاذان بن الإمام الصلت بن مالك الخروصي الأزدي القحطاني[4] ويشير محقق “إيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك” إلى أن نسب الشيخ ناصر يعود إلى اثنين من الأئمة الذين بويعوا بالإمامة في أوقات مختلفة.
نشأ ناصر في بيت علم وحركة[5]، إذ كان والده يتمتع بدراية واطلاع واسعين لا سيما على الصعيد السياسي، مما جعل الابن له دور بارز وفاعل في المسرح السياسي والاجتماعي على حدّ سواء، عُرف والده بلقب يُذكّرنا بابن سينا هو لقب (الشيخ الرئيس) ورغم تكرار اللقب في السيرة الذاتية مرارًا لا يفسّر لنا الشيخ بدر الخروصي لماذا أُطلق عليه هذا اللقب، ربما من خلال حصر الشيخ مهنا بن خلفان لمؤلفات الشيخ التي تزيد عن العشرين كتابًا نلاحظ اهتمامه الكبير بالفقه، وكما يشير مبارك بن عبد الله الراشدي[6] في بحثه عن فقه النوازل عند الشيخ أبي نبهان، رجوع الناس إليه واعتباره المرجع الأول في الفقه ما يبرر هذه التسمية.
تلقّى ناصر السلوك/ التصوف عن أبيه ذوقًا ورياضة، ونماه بجهده الشخصي قراءة وفهمًا، وتميّز سلوكه هو وأبيه بعمق التأمل في الوجود والتعمّق في علم الكلام والفلسفة والمنطق والخلوة وكثرة الأوراد، كما يقول أحمد بن سعود السيابي. لكننا نتوقف قليلاً عند هذا الوصف الجامع للمتناقضات بشكل ظاهري، فكيف للسالك أن يتعمّق في الفلسفة أو علم الكلام، والموقف الصوفي من الفلسفة قديمًا وحديثًا على غير هذه الصورة، فمن يُراجع كتابات السُهروردي عن كشف الفضائح اليونانية، وكتبت الشيخ عبد الحليم محمود عن التفكير الفلسفي يتأنى قليلاً في قبول مثل هذه الأوصاف، فالمتعمق في السلوك لا يتعمّق في الفلسفة والمنطق وإن مرّ عليها وتخطّاها إلى غيرها.
نلاحظ أيضًا في وصف المدرسة السلوكية للشيخ ناصر وأبيه إصرار على تسمية التصوف بـ(السلوك) وهو أمر نقبله كمحاولة لوصل الطريق المتخذ بما يتسق مع الشريعة، ولا يستدعي في ذهن المتلقي والطالب مشاكل التصوف القديمة، وما يُقال عنه حديثًا، لكن أن تعقد مقارنة بين المدرسة السلوكية والمدرسة الصوفية مع التركيز على مدرسة الإمام جاعد، ولا يعطينا المحقق[7] لهذا العمل سوى تكرار أحكام الإدانة للتصوف أمر لا أرى له مسوغًا، وفيه قدر من التحامل يجعل نمط الخصومة هو الغالب في التناول، ولا يقترب أكثر من فكر المدرسة العُمانية التي دوّنت في هذا الباب، ومحاولة قراءة إنتاجها في سياق حركة التأليف الإسلامية في ذلك الوقت بشكل عام.
إن الأوصاف التي يطلقها العلامة المحقق سعيد بن خلفان الخليلي، وابن زريق على الوالد وولده تقتضي منا قراءة مدققة أكثر فكلاهما يصف الشيخ ناصر وأبيه بـ(القطب، والولي، والبحر النوراني) وغيرها من الأوصاف الجارية على لسان الصوفية والمترجمين لهم في كتب الطبقات والمناقب، وكذلك فإن نظرة إلى عنوانات كتب الشيخ ناصر تجعل من درس المنحى الصوفي في حياته أمرا ضروريًا، فمن أمثلة ذلك: (كتاب مبدأ الأسفار، وكتاب الكشف، وكتاب المعارج، وكتاب السر العلي، وكتاب سلامة الحال، وكتاب منتهى الكرامات).. عنوانات تحيلنا على المدونة الصوفية بشكل مباشر، وتذكّرنا بالقشيري وابن عربي والبسطامي، وغيرهم من الصوفية القدامى.
هل كان ناصر الخروصي مولويًّا؟
من جملة الألقاب التي أطلقها الشيخان بن خلفان الخليلي وابن زريق على ناصر وأبيه (المولوي) وهي نسبة تثير الباحث المتابع لحضور المولوية في الثقافة العربية، إذ المولوي نسبة إلى (الطريقة المولوية) التي أُسست بعد انتقال مولانا جلال الدين الرومي على يد ولده سلطان ولد، وليس كما يُقال إن الرومي مؤسسها، إذ تصوّف الرومي في طوره النضجي أحرق الوسائل والطرق ومضى يخط في دفتر الحياة تجربته غاضًّا طرفه عن كل تحديد وتقييد.
كانت المولوية منتشرة في بقاع الشام منذ لحظة تأسيسها وكذلك في مصر، وظل أمر انتشارها مستمرًا في البلدان العربية حتى وقت قريب، إلى أن هُمّشت في مصر وآل أمر مقر المولوية إلى (المُتحفية) وأمسى مكانهم مزارًا لرؤية الآثار الباقية، لكن هل كان للمولوية حضور في عُمان؟ وهل النسبة التي أكد عليها الخليلي وابن زريق حقيقية؟ أم أن الإشارة للمولوية أتت بسبب حضور نصّ سلطان العاشقين ابن الفارض هناك وشرح الشيخ ناصر له؟ وإذا سرنا مع الافتراض الثاني سيكون النص المولوي حاضرًا، فلا يدرك الصلة بين ابن الفارض وجلال الدين الرومي إلا من طالع المثنوي والديوان الكبير، فكما فرضت التائية نفسها على الشعر الصوفي في البلاد العربية وجدت ترحابًا وعناية في بلاد فارس، وربما من هناك انتقلت إلى عُمان!
نختم هذه الإشارات بكلمة للشيخ ناصر الخروصي تؤكد على اللقاء المصري العُماني التراثي، وتمحو فكرة انعزال بقعة من البقاع العربية عن سائر أخواتها كما تقول نظرية المركز والأطراف، نقتبس هذه الكلمة من مقدمته لإيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك وهو النص الصوفي الذي كتبه امتدادًا لرحلته وتجربته السلوكية:
(وأما علمُ الحقيقة وطريقة وسائل التجريد وطريق المكاشفة براية المحبّة فأقل بيانًا، وإن تكلّم فيها بعض العلماء نثرًا ونظمًا، فكلامهم أشد غموضًا من كلام العلماء في علم الشريعة الظاهرة. وأقوى وأجلّ وأشرف نظم عرفناه في هذا العلم نظم الشيخ العارف أبي حفض عمر…الحمويّ نسبًا والمصري مولدًا، وهو المعروف بابن الفارض، وأعظم ما نظمه في العلم منظومته التائية وهي التي سمّاها نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك […..] واعلم أني لما نظرت إلى منظومة هذا الشيخ واعتبرت معانيها، فكنت كلما لاح لي معنى من معاني شيء من بيوتها، وسمت تحته بأشد إيجاز تذكرة لنفسي لئلا يغيب عليّ حين أهمل أمرها، ولم يكن القصد ليكون كتابًا باقيًا بعدي، ولم أرسم غير تقدير لفظ البيت بمعناه، وهو الذي قصدت بيانه لنفسي لأشرح المعاني، فإنه لو شرح كل بيت ما يحتمله من المعاني، لأفضى إلى مجلدات كثيرة)[8].
[1] :ديوان أبي مسلم البهلاني الرواحي، نشرة صالح بن عيسى الحارثي، ص 275.
[2] : راجع مقدمة إيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك، تحقيق وليد محمود خالص، نشرة دار الكتب الوطنية، أبو ظبي 2011، ص 5.
[3] : راجع مقال زكريا المحرمي، ناصر بن جاعد، أسطورة أطلانطس، في ملحق شرفات، ومجلة الفلق، عمان، فبراير 2012.
[4] : راجع في ترجمته: الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، وزارة التراث والثقافة، عُمان، ط2، ص146،147. وتحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان، ج 2 ص 181.
[5] : ناقش بدر بن حمود الخروصي في بحثه عن الشيخ ناصر ما يُقال عن طلبه للعلم متأخرًا بعد سن الأربعين، وذكر الأشياخ الذين ساهموا في تكوينه معرفيًا، يُراجع بحثه في الكتاب التذكاري (قراءات في فكر أبي نبهان) الصادر عن المنتدى الأدبي في سلطنة عًمان، الطبعة الثانية 2007، ص ص 7-20، بعنوان: (السيرة الذاتية للشيخ أبي نبهان).
[6] : انظر بحثه: (التجديد الفقهي عند أبي نبهان الخروصي) ضمن أعمال ندوة (فقه النوازل).
[7] : أشير هنا إلى دراسة سليمان بن علي العبري، المنشورة ضمن كتاب (قراءات في فكر أبي نبهان)، مرجع سابق.
[8] : ناصر الخروصي، إيضاح نظم السلوك، ص 58، 59.
ذوات