بقلم: خالد محمد عبده[1]
فطرة بيدل إن هي إلاّ مرآة عاكسة الإعجاز، كلُّ قولٍ يتقاطر من قلمه إلهام!
تتقاسم العبارة الشعرية مع التصوف الجوهر الأوحد العصيّ عن الوصف، والالتجاء ذاته إلى الرمز وإلى الغموض الكامن في الخطاب، فالعقل الاستدلالي كما يصفه الرومي قدمه خشبية، فالنثر وهو محمله الطبيعي لا يمكن أن يعبّر عن الحالة الداخلية، بينما يستطيعُ الشعر تضمين الحقائق الروحانية التي لا نتمكّن أو لا نريد التصريح بها بشكل جلي، أو يستطيع الشعر وحده التعبير عنها في أسمى وأقدس عبارة[2].
ولم يكن الأدب الفارسي بقادر على بلوغ الدرجة التي عرفها من الرّقة والجمال والنفاذ إلى قلب الإنسان لو لم يخالط لحمه ودمه النفس الصوفي، عرفنا ذلك بشكل واضح في منظومات فريد الدين العطار وسنائي والرومي وسعدي وغيرهم من الصوفية الشعراء، وتاثر بهم غير واحد من ناظمي الأشعار العرفانية، ومن يوجّه شطره ناحية الشعر الحديث يجد حضورًا لمضامين التصوف واستفادة من تجارب هؤلاء الشعراء العرفانيين، وربما أوقفتنا معرفتنا بمحمد إقبال وأشعاره على ذلك بوضوح بيّن.
شاعرنا الهندي الذي نتحدث عنه اليوم، هو من جملة الشعراء الذي تردد ذكره أكثر من مرة في كتابات إقبال واستفاد منه في صياغة بعض الأفكار، ودان له بالفضل، ومن هنا أتى اهتمامنا به وأردنا أن نتعرف عليه.
هو أبو المعاني عبد القادر (بيدل) اختار الشاعر الهندي أن يتخلّص باسم (بيدل) أي أن يتخذ لنفسه لقبًا يذكره في أشعاره ونهاية قصائده، والكلمة تعني : الواله والعاشق، وقد اختارها بعد أن قرأ أشعار سعدي الشيرازي وفُتن بها.
يعتبر بعض الدارسين بيدلَ كشاعر عرفاني استمرارًا لتفكّر مولانا جلال الدين الرومي وبخاصة في غزلياته المسماة باسم (شمس تبريزي) فغزليات بيدل تعتمد فلسفة وحدة الوجود، والعرفان الشهودي، وإن اتسمت بالغموض والتعقيد إلا أن فك دقائقها ومعرفة رموزها لم يكن بعصي على القارئ الحصيف الذي اعتاد على قراءة هذا اللون من الأشعار[3].
وُلِد بيدل في بلاد الهند في مدينة عظيم آباد عام 1054هـ. أما وفاته فكانت يوم الخميس الرابع عشر من شهر صفر عام 1133هـ، ودُفن في منزله عن عمر يناهز الثمانين عامًا. ومما قيل بعد انتقاله إلى رحاب ربّه: (لقد رحل رأس وسيد أرباب الكلام.. من موطن حزن الدنيا سعيدًا)[4].
يظل الموت حقيقة لا يمكن إنكار أثرها في حياة الفرد! مات والد بيدل، مات وهو في سن الخامسة، مات الرجل الصوفي الذي أراد أن يجعل من ابنه جيلاني مغولي يقتدي بعبد القادر الجيلاني ويصبح يومًا مثله، مات بعدما غرس في قلب الصبي بذرة محبة الأولياء والخلوة والاعتكاف التي كان يمارسها، ورثاه الصبي فيما بعد: كُنت وحيدًا لأن الله قد اختار عبد الخالق وهو في سن السادسة والستين.
وبعد عام من وفاة والده تنتقل أمه إلى الرفيق الأعلى، بعد أن أرسلته إلى المدرسة ليتعلم، ورغم أنها لم تصاحبه في هذه المرحلة الصعبة إلا أن حرصها على أن يتعلم ولدها كانت تلك السيدة لبيدل في ترقّيه كمريم لعيسى. والمشهور في سيرة بيدل أنه أنجب ابنًا وسماه عبد الخالق تخليدًا لذكرى والده، لكن إرادة المولى تأبى أن يستمر ذِكر عبد الخالق، فيموت صغيرًا ويرثيه بيدل في مرثية طويلة، جاء فيها:
إن كان ثمة مقدرة أو قوة فقد ولّت
طفلي قد غادر هذه الدنيا البالية
صعد إلى السماء لعبة لعبة كأنه يلهو
كيف أفلت يده من يدي؟!
كيف مضى إلى طريق العدم بدوني؟!
وُلد شاعرنا في عصر مليء بالرفاهية وتطور في العلوم والآداب، أوجد العديد من الشخصيات العلمية والشعراء والكتاب، وكما يظهر من سيرته أنه عانى في طفولته حياة اليتم والبؤس وشظف العيش ومع ذلك ظهرت عبقريته ونبوغه مبكرًا جدًا على خلاف أقرانه وأترابه.
تعلّم بيدل العربية والفارسية وحفظ القرآن الكريم صغيرًا وتلقّى المعارف الفلسفية وكان يفكر على أساس من فلسفة أفلاطون والحكمة الإشراقية في المرحلة الأولى من حياته. ومن والد صوفيّ إلى عمٍّ صوفيّ ساعده في تحصيل العلوم العربية، وصحبة الفقراء ومطالعة أشعار أرباب الحال لتصبح له قدم راسخة في التصوف والعرفان.
وفي سنّ العشرين، وبناءً على رغبة البعض اهتم بتدوين أشعاره، وبمرور الزّمن هيّأ نسخًا عديدة. وكانت لبيدل مطالعات للآثار الصوفية، كتابات ابن عربي، وأبي حامد الغزالي، وجلال الدين الرومي، مما جعله يُقدم على البحث والاهتمام بالتصوف والحكمة، أشعار كثيرة من أشعاره يمكن لمس النفس المولوي فيها، لكننا نذكر نموذجًا واضحًا من ديوانه (المحيط الأعظم)، وهي حكاية الناي:
لا تئنَّ بهذه المرارة أكثر من هذا، أعِضِ السُّكَّر بالنغمة العذبة
مرحى أن تعبر شفتُك على شفة الناي، مرحى أن تمتطي بوص السكر حين يصنع نايًا
ألا فأقبل حتى أطرح بساط الفرح، وأعزف بأناملي على الناي حزن الدهر
لو كانت نغمة أو شرابًا فقد تهيأت في هذا المحفل بكيفية خاصة
موج الراحِ مفتاحُ باب النشوة، صوت الناي نسيم ورد النغمات
قفزت من الناي كل نغمة آسرة، ناثرةً مائة موج صهباء صاعقة.
استفاد بيدل من صُحبة المشايخ والعلماء ومتصوفة عصره، بل وانجذب في فترة من حياته لصحبة المجاذيب، واهتم بهم وبأخبارهم وسرد حكاياتهم ومعاناتهم في الحياة، ولعل رحلاته وسياحته داخل بلاد الهند مكنته من لقاء الكثيرين مما جعله يستغرق في حياة التصوف وقتًا طويلا. إلى أن أصبح بعد ذلك وحيدًا كالدمعة لا يرى مرشدًا له إلاّ الله.
هناك لمحة في حياته وقت اختيار المجاذيب يذكّرنا بما حدث مع الرومي وشمس تبريزي، إذ التقى في هذه الفترة بالشيخ (شاه كايلى) الذي ظهر في حياته في لحظة خاطفة وسرعان ما غاب عنه، فأصيب بيدل بالاضطراب ووقع في الجذب، وقال شعرًا عن ذلك:
بحكم الغياب عن النفس، فأنا كالدمعة لم أكن أعرف رأسي من قدمي، ومثل الآنة عدوت خارجًا من وهق الاضطراب، ولم يكن هناك عار لي من كوني عريانًا كالدمعة، ولم يكن هناك غبار من اضطرابي مثل الأنين.
وبسبب ما عمّ بلاد الهند في ذلك الوقت من قحط، اختار بيدل العزلة، واهتم بسير الأنفس والآفاق، مثلما فعل الغزال في أثناء الحروب الصليبية، وسعدي مع القتل العام في بغداد، ومولانا جلال الدين الرومي في حملة جنكيز خان، وخواجه حافظ في فجائع شيراز.
في مرحلة أخرى انتقل إلى دهلي وهناك تعرّف إلى أسرة الحاكم نواب شكر الله خان التي أكرمته وقدرته حق قدره.
وفي الفترة الأخيرة من حياته يخبرنا الأستاذ محمد يونس أنه تحوّل إلى الواقعية المادية وإن لم يتخلص تمامًا من التصوف، إلاّ أنه اتجه إلى الفلسفة.
(المصدر: ذوات، يناير 2016)
[1] : باحث في الإسلاميات والتصوف.
[2] : راجع الفصل الخاص بالشعر الصوفي عند إيريك جوفروا (التصوف طريق الإسلام الجوّانية)، ترجمة عبد الحق الزموري،منشورات كلمة، الإمارات، ص88 وما بعدها.
[3] : راجع في ذلك (بيدل في خضم الغزليات الصوفية- رؤية نقدية)، مجلة إضاءات نقدية، السنة الأولى، العدد الأول، آذار 2011م.
[4] : نعتمد في التأريخ للشاعر الهندي على ثلاثة مصادر أساسية هي أعمال الدكتور محمد محمد يونس أستاذ اللغات الشرقية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، ألا وهي: أبو المعاني ميزرا عبد القادر بيدل. مدخل إلى دراسته، والكتاب الثاني: حكاية الملك والساحر لميرزا عبد القادر بيدل. أما الكتاب الثالث: من كليات ميرزا بيدل (المحيط الأعظم) الصادر في المركز القومي للترجمة، القاهرة 2015.