التربية بالطرب في الطريقة الصوفية

التربية بالطرب في الطريقة الصوفية

 

إشراقات (11)

معالم أولية من التربية بالطرب في الطريقة الصوفية الحراقية

 

محمد التهامي الحراق

 

ليس غريبا أن تتعدد أساليب التربية الروحية وتتمايز بين الطرق التربوية الصوفية، ذلك أن اختلاف الزمان والمكان والحقب التاريخية والبيئات التي أطرت هذه الطرق وكذا خصوصيات أربابها وو مسارات شيوخها الذوقية والعلمية؛ كل ذلك جعلها تتغاير وتختلف في أساليب التربية، وإن كانت تتكامل وتتلاقح على هذا المستوى مثلما تتبادل التأثير والتأثر على مختلف المستويات الأخرى، إذ هي جميعها محكومة بالنسق الإحسانيوالعرفاني الذي يشكل نسيجها، فيما تعتبر تنوعات الأساليب التربوية التي لا تخرج عن المحبة والمعرفة والذكر، علامات ثراء وغنى للموروث الروحي التربوي الإسلامي.

من هذا المنظور الواسع، سنقارب ها هنا نموذجا من أساليب التربية الروحية تُستعمل فيه أدوات جمالية للتأثير في الفطرة، ويتعلق الأمر بالشعر والنغم والصوت الحسن، وأحيانا آلات الطرب، ضمن ما يعرف لدى القوم بالسماع، وهو الأسلوب الذي نسميه بـ “التربية بالطرب”. سيكون علينا بداية تقديم إضاءة وجيزة عن الطريقة الحراقية وعن علمها  ومؤسسها، قبل أن نتناول هذا المظهر الرئيس من أساليب التربية بها، أعني “التربية بالطرب”.

 

1– الطريقة الحراقية: العَلَم والمنهاج

في الزاوية الحراقية عند باب المقابر بتطوان؛ وفي قلب ثراها المعطر بعرف الذكر والمذاكرة؛ في تلك البقعة البائحة جدرانها بهمس الواجدين في حلق العمارة… هناك يثوي علم من أعلام التصوف في المغرب، إنه العالم الكبير، والصوفي المغربي الشهير؛ الفارضي العشق والعطائي الذوق، الشريف العلمي الحسني إمام الأذواق سيدي محمد الحراق.

ولد الشيخ الحراق هنا بشفشاون، حاضرتكم المباركة، عام 1188هـ/1776م، وعاش بها مدة ثم انتقل إلى فاس قصد طلب العلم. وهناك بلغ مبلغا من العلم أثار عليه حسد الحاسدين، فأشار منافسوه على السلطان المولى سليمان أن ينصبه، بعيدا عنهم، على المسجد الأعظم بتطوان يتولى عمارته والتدريس فيه. وكان الحراق آنئذ فقيها عالما يتقن العلوم الشرعية، متضلعا في فنونها من تفسير وحديث وفقه. ولم يكن في هذه الفترة متصوفا، إلا أن المكيدة التي ستدبر له من لدن خصومه بتطوان، وعلى رأسهم قاضي المدينة عبد الرحمن الحايك، والذي رأي أن الحراق جاء لينازعه في المسجد الأعظم، هذه المكيدة ستجعله يغير وجهته واتجاهه.

تحين خصوم الشيخ فرصة يوم الجمعة، وكان الحراق يخطب بمسجد حي العيون، فدسوا له وقت الخطبة بمقصورة المسجد امرأة من الفاجرات مجملة ومزينة، وجمعوا الناس من أبواب المسجد ليشهدوا خروج المرأة متسللة كأنها لا تعلم بمن وراء الباب، فتغامز الناس وتهامسوا، وشاعت القضية/الفضيحة. فعزل الشيخ الحراق من الإمامة والعدالة.

سقط سيدي محمد الحراق إثر ذلك مريضا عليلا، يتحسر من هول ما ألم به من ظلم وجور صادر عن رجال علماء، وأضحت حالة الشيخ كلها انذهال وخبل وحيرة، وهو يتساءل: “سبحان الله، فما فائدة هذا العلم وهذا الجاه الذي لا يوصل صاحبه إلى الله، ولا يعرفه بمولاه. والله لئن عافاني الله لأدخلن في طريق القوم ولألجأن إلى باب الكريم آناء الليل وأطراف اليوم عسى الله أن يمنحني بالعلم النافع والفتح الواسع”.

ولم يجد الشيخ وهو يكابد معاناته ويجرع سكرات آلامه أفضل من أن يلجأ ويلوذ بجده المصطفى صلى الله عليه وسلم، ينادي ويعوذ ويستشفي بجاههصلى الله عليه وسلم. وهو ما بثه في قصيدة رائقة بهية، تعد أول ما وصلنا من شعره الصوفي، مطلعها:

أمحمد إنـي بجـاهك عائـذ

                 مما عرى جسمي من الضراء

ولقد دعوتك حين جلت كربي

                 ولم ألف غيرك كاشفا لبـلاء

استجاب الحق سبحانه لتذلل الشيخ ومناجاته، وشافاه وعافاه، فوفى الشيخ بوعده وأقبل على كلام القوم يدرسه ويدرسه، ثم أكرمه الله بشيخ الشيوخ مولاي العربي الدرقاوي الذي اصطفى سيدي محمد الحراق ليكون له تلميذا ومريدا، بل واحدا من أبرز الوارثين لسره، وأهله وأخرجه ليكون إماما من أئمة وشيوخ المشرب الصوفي الشاذلي.

راح الشيخ الحراق، بهدي من شيخه الدرقاوي، يؤسس طريقته على التزام “الشكر” بدل “التجرد” الذي سارت عليه الدرقاوية في نسختها العجيبية (أي مع العارف سيدي أحمد ابن عجيبة)، ومعنى ذلك أنه أسس طريقته على نبذ الزهد من حيث هو تقشف وتخشن وبذاذة وتزي بالمرقعات، والتزام “الشكر” من حيث هو تمتع بالطيبات وتنعم بالنعم وتحدث بها. وهو ما يعبر عنه الشيخ الحراق بقوله: “دخلت من باب الفضل فلا أدل إلا عليه”. هكذا شيد طريقته الجمالية على قواعد أربع: ذكر ومذاكرة وعلم ومحبة، وانبرى لتلقين مريديهوتربيتهم تربية روحية قوامها إخلاص النية وصفاء الطوية وصدق التوجه إلى الله تعالى، مع اقتفاء العلم النافع الموافق للكتاب والسنة.

توفي سيدي محمد الحراق عام1261هـ/1845م، وخلف لنا ذخيرة نفيسة من المريدين والأصحاب، وكذا تركة علمية جليلة، من شروح وتقاييد وتآليف ورسائل، مثل شروحه على الصلاة المشيشية والحزب الكبير للإمام الشاذلي والحكم العطائية وبعض مقطعات الإمام الششتري ناهيك عن رسائله وفتاويه وتقاييده على بعض آي الذكر الحكيم وأحاديث المصطفىصلى الله عليه وسلم. وهي تشهد جميعها على عمق تبحر الشيخ الحراق في الفقه والتصوف الأدب. وقد جمع أغلبها تلميذه الولي الصالح البركة محمد بن العربي الدلائي الرباطي في كتابه “النور البراق في ترجمة الشيخ سيدي محمد الحراق”([1]). ولعل أبرز ما اشتهر به سيدي محمد الحراق ديوانه الذي أطبقت شهرة قصائده آفاق المشرق والمغرب، وهي القصائد التي حظيت بعناية أدبية خاصة إن شرحا أو معارضة أو تخميسا، بل صارت بمنظومها وملحونها، المادة الأساس للتغني الصوفي في مختلف الزوايا، أثناء مجالس الذكر وحلق السماع.

ومن عيون قصائده الفصيحة تائيته التي وضعت عليها الكثير من الشروح وحازت منزلة رائقة في محافل السماع، والتي مطلعها:

أتطلب ليلى وهي فيك تجلت      وتحسبها غيرا وغيرك ليست

أما ملحوناته فقد حازت من البها ما يتلف النهى؛ ونمثل لها ببرولةسنأتي على تحليلها لاحقا، والتي مطلعها:

صاف الحبيب تظفر بيديع انوارا

                            وتحـوز من ابهـاه إيمـارا

بها تنال من بين الخلق اسـرارا

                            وتعـود النفــوس طهـارا

 

 هذه المعاني نثرها أيضا في تقاييده وحِكمه، والتي نستحضر منها قوله رضي الله عنه:

– “الحقيقة والشريعة شمسان مطلعهما واحد فمن ترك إحداهما ترك الأخرى”.

– “إذا أردت النزاع بينك وبين نفسك، فاهرب إلى الله سبحانه”.

– “الذنب إذا فتح لك باب التوبة النصوح، استحالت ظلمته نورا، وحزنه سرورا”.

هذه قطرات من يم المعاني السامية والدلالات الربانية التي عملت الطريقة الدرقاويةالحراقية على زرعها في القلوب وتلقينها لأتباعها في مختلف المناطق والبقاع؛ والتي انتشرت فيها بفضل تلاميذ الشيخ ومريدي طريقته؛ هذه الطريقة التي تسلسلت عنها فروع نورانية في فاس والرباط وغيرهما، فيما ظلت زاويته بتطوان مركزا شامخا لأصول الطريقة تضطلع  بالتربية والتلقين والتأهيل ونشر القيم الروحانية الجمالية من خلال الالتزام بالقواعد الأربع التي أرسى أسسها الشيخ سيدي محمد الحراق. وقد استمر هذه السر مشعا في تطوان عبر سلالة الشيخ حيث انتقل شأن التربية وسرها إلى ابنه سيدي الحسين ومنه إلى سيدي إدريس ثم سيدي عرفة فالشيخ الحالي مولاي الغالي الحراق؛ والذي انتعشت في عهده الطريقة وواصلت وهجها التربوي والعلمي والإصلاحي والروحي داخل المغرب وخارجه. هذا التوهج الذي يظهر بشكل ساطع في حلقات الذكر والسماع التي ترعاها الزاوية، والتي تؤشر على عناية خاصة بالسماع في الزاوية  باعتباره وجها من أوجه الذكر، وأداة من أدوات التربية بالطرب، فما هي مقاصد وأبعاد استثمار الطريقة الحراقيةلهذا الأسلوب في نسقها التربوي الروحي؟

2– التربية بالطرب في الطريقة الحراقية: المقاصد والأبعاد

إن الرحلة الروحية في الطريقة الحراقية، تفتتح بالذكر وتقود إلى المحبة فالمشاهدة والفناء ثم فناء الفناء. وإذا كان التواجد، من حيث هو تعبير عن الفرح بالله، ينتعش أساسا في مقام الفناء حيث الوقوع تحت قهر التجلي والاستغراق في بهاء الشهود، فإن الشيخ الحراق ما فتئ يعتني بالسماع، من حيث هو ذكر وموسيقى، في سائر لحظات السفر الروحي، وذلك من أجل مساعدة المريدين على عبور أطوار الطريق والترقي في معارج التجربة الصوفية.إنه يتخذ السماع وسيلة في التربية والتأهيل، لاسيما وأن السماع يفصح، بما هو طرب وفرح، عن الوجه الجمالي للطريقة الحراقية باعتبارها طريقة شكر وتنعم وبسط لا طريقة تقشف وتخريب وتجرد.

لقد دخل الشيخ الحراق طريق القوم من باب الفضل، ومن ثم التزم أن لا يدل إلا عليه، من هنا كان السماع وسيلة من وسائل ولوج الطريق من باب الفضل([2])، مما جعل الطريقة الحراقية تعتمده كأداة من أدواتها في الدعوة إلى الله والتحفيز على التوبة والأوبة إليه والتحبيب في ذكره ومحبته. هكذا راح الشيخ الحراق يعتني بالسماع أدبا وطربا، فانطلق ينظم في القصيد والتوشيح والبروال، مضمنا أشعاره مختلف المعاني والقيم الصوفية التي قامت عليها طريقته. كما انطلق يعارض كثيرا من نصوص طرب الآلة بغية تصويف تلاحينها واستثمار أدوارها في نشر طريقته وتوظيفها في التربية والتأهيل الصوفيين داخل الزاوية.

وللاقتراب من نموذج ساطع لهذا التصويف، نفتح كتاب “الزاوية”، وفيه نقرأ: «وسمع سيدي محمد الحراق  المطربين يغنون بقصيدة “الصُّبْحْ كَشْرِيفْ ارْخَى ذِيلْ إِزَارُو…”، فطرب لها طربا عظيما وتواجد إلى أن كانت العمامة ترتفع عن رأسه مقدار ذراع، ثم خلع على المطربين وأحسن إليهم. فلما كان بعد ثلاث بعث وراءهم وعرض عليهم قصيدته التي هي على وزن “الصُّبْحْ كَشْرِيفْ ارْخَى ذِيلْ إِزَارُو”، والتي في أولها:

صَافِ الحْبِِيبْ تْظْفَرْ بْبْدِيعْ انْوَارُ    X     وْتْحُوزْ مْنْ بْهَاهْ إِيمَارَا

فقرؤوها عدة مرات وأداروها على أوزان القصيدة السابقة، فإذا بمعانيها أجل وألطف من معاني سابقتها. فأمر بإحضار آلات الطرب، فأحضرت وطفق المنشدون يرددون هذه القصيدة في ألحان شتى، وقد أعجب بها العلماء والأدباء والصوفية على حد سواء. فأمر الشيخ أن يقام إكرام للفقراء دام ثلاثة أيام شكرا لله الذي ألهمه إلى هذه القصيدة»([3]).

بتدبر هذا النص نجد أن أول ما يلفت الانتباه هو طبيعة “تلقي” الشيخ الحراق لبرولة ” الصُّبْحْ كَشْرِيفْ ارْخَى ذِيلْ إِزَارُو”، فكيف “تلقاها” الشيخ إذن؟ وما دلالة لفظ “سمعها” في هذا السياق؟

إن الشيخ الحراق، على منوال أرباب الأحوال المتمسكين برسوم الشريعة([4]) والمتمكنين من أذواق الحقيقة، ما كان ليطرب للمعاني الغزلية الحسية المبثوثة في برولة ” الصُّبْحْ كَشْرِيفْ ارْخَى ذِيلْ إِزَارُو”، ثم ما كان أيضا لتنقدح حاله وتهتاج مواجيده، فقط بسبب طرب الأصوات ونغمات المعازف والآلات. إن الحال الذي اهتاج في باطن الشيخ كان ثمرة فهمه الإشاري لما انطوت عليه البرولة من دلالات، فأصبحت بذلك الأنغام حاملا لطيفا لنفحات إشارية حركت سواكنه وقدحت أسراره الكامنة، وهذا هو “التلقي” الذي حكم الشيخ في “سمعه” لبرولة “الصُّبْحْ كَشْرِيفْ ارْخَى ذِيلْ إِزَارُو”. إنه “التلقي” الصوفي من حيث هو «أخذك ما يرد من الحق عليك»([5])، كما أنه “سماع إلهي” انبجست من خلاله، وعلى مرآة البرولة الغزلية، دلالات رائقة وحقائق فائقة نابعة من صلب تجربة الشيخ المتوهجة في الحب الإلهي. وقد علمنا الصوفية([6]) أن هذا السماع لا يلزم فيه موافقة مقصود الناظم، ويجوز فيه تنزيل المسموع على مراد ما يتجلى للسامِع من فهم عن الله بحسب وجده ووقته؛ حتى قال أحد الصوفية لبعض المغنين: «أنتم غنوا كما تحبون ونحن نسمع كما نحب»([7]).

هكذا نفهم أن تواجد الشيخ الحراق عند سماعه المطربين يتغنون ببرولة “الصُّبْحْ كَشْرِيفْ ارْخَى ذِيلْ إِزَارُو”، كان ثمرة تلقيه الصوفي وسماعه الإلهي لها، ومن ثم فهمه الإشاري لمدلولاتها ومعانيها. وهذا هو ما حذا به إلى معارضتها ببرولة “صَافِ الحْبِيبْ تَظْفَرْ بَبْدِيعْ انْوَارُ” والتي أودع فيها بعض فتوحاته الإشارية التي فهمها ذوقا من البرولة الغزلية. وإن من شأن تأمل مقتضب في البرولتين أن يعضد ويدعم ما نقول.

فبرولة “الصُّبْحْ كَشْرِيفْ ارْخَى ذِيلْ إِزَارُو” برولة غزلية تصور، بتشخيص أدبي جميل رونق الصبح وهو ينبلج من رحم الليل، بينما تنقل برولة الشيخ الحراق موضوع الغزل من التغني بضوء الصباح كأثر كثيف لزمن حسي فيزيقي إلى التغني بأنوار المحبوب بماهي أنوار بديعة لطيفة لمحبوب مطلق البهاء. إننا ننتقل مما هو حسي وشبحي وكثيف ونسبي، إلى ما هو معنوي وروحي ولطيف ومطلق، وبين ثنايا و”خيوط” برولة الشيخ الحراق يسري التصويف من خلال تحويل موضوع الغزل من الطبيعة إلى خالقها، ومن جمالها الحسي الظاهر إلى جمال مبدعها المتجلي فيها. إنه تحويل يرد الفرع إلى الأصل النوراني، ويرسم طريق تأهيل المريد للانتقال من رؤية الظل إلى مشاهدة النور، من خلال حضِّه على الذكر والصدق في المحبة، وهو ما يكشف بجلاء عن البعد التربوي الصوفي والتأهيلي الروحي الذي تضطلع به هنا هذه المعارضة الشعرية والموسيقية. من هنا نفهم “الفرح” العارم الذي استولى على الشيخ وهو يرى كيف أن نصه الصوفي الفائض بالدلالات الروحية “ينسخ”([8]) برولة غزلية ويحل محل نص حسي تشبيبي يتغنى بالجمال الحسي لذاته. على أن الشيخ بهذا النهج “التصويفي”([9]) كان ينشر طريقته الصوفية، ويبثُّ في الناس، عبر السماع بماهو مصيدة للنفوس([10])، التغني بالذكر حتى يتعلقوا به فيتخلقوا بمحبة المذكور ليتحققوا بشهوده. ولا ضير في هذا النهج التطهيري التأهيلي أن يتغنى المطربون، في البدء، بالأذكار ومعانيها دون أن يفقهوها، إذ لا يوجب الذكر المصحوب بالغفلة الابتعاد أو التخلي عنه؛ لأن هذا الذكر أول خطو على طريق السلوك، كما تبينا ذلك سابقا.

إن اتخاذ السماع أداة في التربية، واعتماد هذا الأسلوب في الدعوة إلى الله، ينبع من إدراك الشيخ الحراق العميق لأحوال النفس ولتقلباتها حسب أطوار الذكر، وهذا الإدراك هو الذي حكم نهجه في معارضته التصويفيةلبرولة “الصُّبْحْ كَشْرِيفْ ارْخَى ذِيلْ إِزَارُو”، بل وفي كل المعارضات التصويفية الأخرى([11]). لذلك لم يعبأ الشيخ بذاك الذي أراد أن ينكت عليه حين بادره قائلا: «يا سيدي محمد الحراق لقد قيل لنا إن كلامك ابتُذل حتى أصبح يقال في أوكار الفجور والفساد»، إذ أجابه الشيخ جواب المتيقن من نهجه والعارف لمقصده: «ليس بابتذال، ولكنه كلام أرضى الجميع، وإنني أحمد الله على أن صلح لهم كلامي حتى صاروا يتغزلون به لجلب السرور»([12]). وجلب السرور، هنا، ليس سوى لحظة من لحظات الإيقاع بالنفس بغية تطهيرها وترقيتها.

على سبيل الختم

إن هذا النموذج يقدم لنا بجلاء بعضا من خلفيات ومقاصد عناية الطريقة الحراقية، وبل وسائر فروع الشاذلية، بالسماع؛ إذ الشأنُ ليس لهويا ولا لغويا، بل هو أسلوب في تلطيف النفس وترقيقها والتسرب إليها عبر ميلها لرقيق النغم وشجي الأصوات من أجل إحداث الإصلاح اللازم، ونقلهاعبر المراقي من طور النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة فالمطمئنة فالراضية المرضية.

إننا هنا مع أسلوب يجلي لنا اختيارا جماليا رفيع المعنى في التأثير على النفس، يقوم على استثمار مختلف الطرائق الجمالية من شعر ونغم وصوت حسن للسمو بالنفس وصرفها من حال دني إلى حال سني. وهو أسلوب يدعونا إلى التأمل فيه لكونه يقدم صورة جمالية وروحية رفيعة عن ثقافتنا الإسلامية ويدفع عنها تلك الصورة العنيفة والفظة التي يقع في شراك تسويقها بعض بني جلدتنا، ويتلقفها اليمين المتطرف الغربي-وغيره- لمحاصرة المسلمين،  كما يستغلها إعلامُه في تشويه الإسلام والإساءة لنبي الرحمة العالمية. يحتاج إذن هذا الأسلوب إلى الإبراز والاستثمار في إعلامنا وفنوننا وثقافتنا الراهنة لما فيه من عظيم الدلالات الروحية والحضارية والجمالية والإنسانية. تلك واحدة من رسائل هذه المداخلة المتواضعة. فتحية خالصة لكل من قدر ودبر لنأتلف اليوم هنا، وتجلة صادقة لجمعية لسان الدين ابن الخطيب، ولسائر المتعاونين والمساعدين الذين أهدونا هذه السنحة الاستثنائية لنتبادل على أرض شفشاون الأفكار والمحبة.

 

([1])، وقد نوقشت في كلية أصول الدين بتطوان رسالة دكتوراه قام خلالها الباحث والمنتسب سيدي محمد نور الدين الحراق – ابن الشيخ الحالي للطريقة الحراقية مولاي الغالي الحراق- بتحقيق هذا الكتاب).

 

([2])إن السماع في حد ذاته ليس جماليا أو جلاليا، بل الأمر يتعلق بالوظيفة الصوفية المسندة إليه في نسق طريقة معينة. من هنا نفهم حضور السماع أيضا بقوة لدى بعض أهل التجريد وخرق العوائد من القوم، مثل أبي الحسن الششتريوالدرقاوية في صورتها العجيبية (أي مع أحمد بن عجيبة وأصحابه).

([3])الزاوية”، التهامي الوزاني، مراجعة وتقديم عبد العزيز السعود، تطوان أسمير 1999: ص. 181. 

([4])هذا التمسك ملمح من ملامح الطريقة الحراقية، وقد أقر بذلك واحد من كبار المنكرين على الطرق والسماع خلال القرن الثالث عشر للهجرة، ويتعلق الأمر بالفقيه محمد بن المدني كنون صاحب كتاب “الزجر والإقماع”. فمما جاء في كتاب الزاوية، أن أحد فقراء سيدي محمد الحراق، كان يشتغل بناء بدار الفقيه كنون بفاس «ولم يكن أحد يجرؤ أن ينطق بشيء من الغناء أو من كلام القوم بمسمع من الفقيه كنون، وفي ذات يوم ظن البناء أن الدار فارغة، فأخذ يذكر الهيللة، ويخللها بأبيات من تائية الحراق، واستمر فيها إلى أن أتى على آخرها وسكت، قال فلم أشعر إلا والفقيه قد وقف على رأسي وهو هادئ تام الهدوء، فلما وجدته أمامي وأيقنت أنه كان يسمع نشيدي، اعتراني من الدهش والحيرة ما لا يعلمه إلا الله، ولم أشك في أنه سيفعل بي سوءا من ضرب أو نحوه، ولكنه
 سألني في لطف عن القصيدة التي كنت أقولها لمن هي، فترددت في الجواب خشية أن يسمعني في شيخي مالا أحب سماعه، ولكنه ألح علي، فقلت له من كلام الشيخ الحراق، فاستنشدني إياها ثانيا فلما وصلت إلى قوله فيها:

ومكن بكف الشرع أمرك كله    X     فدونك إن لم تفعل الباب سدت

  استعاده عدة مرات كأنه يحفظه، فلما فرغت من إنشادي قال لي: هكذا يكون المشايخ لا هؤلاء المدعين، أما أني لو أدركت الشيخ سيدي محمد الحراق لأخذت عنه»: ص. 183-184.

([5])”رشح الزلال في شرح الألفاظ المتداولة بين أرباب الأذواق والأحوال”، عبد الرزاق الكاشاني، تحقيق: سعيد عبد الفتاح، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة 1995: ص. 133.  

([6])انظر مثلا: “حل الرموز وكشف الكنوز”، عبد السلام بن محمد بن غانم المقدسي (وليس لعز الدين بن عبد السلام كما يذهب البعض)، الزهراء للإعلان العربي، القاهرة 1995: ص.60-61.                   

([7]) “الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية”،أحمد بن عجيبة،دار الفكر للطباعة والنشر(د-ت):2/276.   

([8]) نستعمل هنا “النسخ” بدلالتي “النقل والإبقاء” و”الإبطال والإلغاء” (لسان العرب، نسخ)؛ لأن النص المعارِض “ينقل ويبقي” من النص المعارَض الوزن والقافية واللحن، و”يبطل ويلغي” مضمونه الغزلي ودلالاته الحسية ووظيفة لحنه الدنيوية.

([9]) هذا “التصويف” لا يمس الدلالة الشعرية فحسب، بل يطول التداول الموسيقي أيضا. ذلك أن إخراج الموضوع الشعري، في هذا المثال، من الدلالة على الزمن الحسي النسبي في برولة “الصبح كشريف…”، إلى الدلالة على الزمن الصوفي المطلق في برولة “صاف الحبيب…”، يعني فصل طبع العشاق –الذي تنشد فيه البرولة المعارَضة- وفك ارتباطه بالصبح كزمن للإنشاد ضمن النظرية الموسيقية الأندلسية، ووصله بوقت الصوفي بوصفه زمنا متعاليا ولا تاريخيا يتصل بالأحوال والمواجيد. وهذه العلاقة الصوفية التي تربط إنشاد الطبوع بالمواجيد لا بالزمن الفيزيقي المخصوص بطبع من الطبوع في النظرية المؤطرة لطرب الآلة، مظهر من مظاهر تصويف السماع للموسيقى الأندلسية ومغربته لها. راجع بهذا الصدد : “فن السماع الصوفي من خلال دراسة وتحقيق د. محمد التهامي الحراق لمخطوط “فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار””، كتاب حواري مشترك ساهم فيه الدكاترة: عبد العزيز بنعبد الجليل، عبد الإله بنعرفة، جمال بامي، عبد السلام الطويل، محمد التهامي الحراق؛ ملتقى الإحياء 1، منشورات الرابطة المحمدية لعلماء المغرب، دار أبي رقراق، الرباط،2012.

 

([10])روضة التعريف بالحب الشريف”، لسان الدين ابن الخطيب، تحقيق محمد الكتاني، دار الثقافة، البيضاء، 1990م:1/276.

([11])تغري هذه “المعارضات التصويفية” بمقارنتها بمفهوم “المُكَفِّر” في الموشحات؛ وهو ما نظم منها في الزهد. و«الرسم في المكفر أن لا يعمل إلا على وزن موشح معروف وقوافي أقفاله ويختم بخرجة ذلك الموشح ليدل على أنه مكفره، ومستقيل ربه عن شاعره ومستغفره»، (دار الطراز، ابن سناء الملك، تحقيق جودة الركابي: ص.51). غير أن أفق مفهوم “التصويف”، كما هو بين من التحليل أعلاه، أرحب من مجرد “التكفير” عن نظم الشاعر في التشبيب واللهو؛ إذ يرتبط بنقل بنية النص المعارَض من سياق دنيوي إلى سياق روحي مخصوص، تسند إليها فيه وظائف تربوية وروحية وعرفانية تشتمل على مستوى “التكفير” عن الذنب و”التطهير” منه، وتتجاوزه إلى مستويات أرقى في السير نحو التحقق بمعرفة الحق معرفة ذوقية وكشفية. ولا أدل على رحابة أفق مفهوم “التصويف” انفتاحه على عدة متون ذائعة الصيت في جم من العلوم مثل النحو والفقه والمنطق، واشتغاله على النصوص المنظومة والمنثورة، وكذا على المادة الموسيقية.لمزيد تفصيل راجع: “المعارضة الشعرية الصوفية في ديوان الشيخ محمد الحراق، مقاربة أولية”، محمد التهامي الحراق، مجلة “عوارف”، ع2/2007، ص.82-101.      

([12]) الزاوية: ص.182.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!