إشراقات (9)
خواطر نقدية من أجل توهيج الإيمان
محمد التهامي الحراق
-1-
بمحبة و مسؤولية إيمانيين، وطلبا لتوهيج هذا الإيمان ينطلق منا اللسان بالاعتراف الناقد: لم يستوعب بعض من “علمائنا” و”خطبائنا” التحولات التي مست الواقع في مختلف أبعاده، لذا تجدهم مُصِرِّين على “الخطابة” و “التفاصح” و “الإطالة” في نوع من التماهي الدونكيشوتي مع أسماء و نماذج قادمة من أزمنة وأمكنة مغايرة سكنت مخيلتهم، وتقمصوا أدوارها واستعاروا “خطابها” أو “صُياحها” أو “دموعها” دونما وعي بالاختلاف الجذري للمساقِ و السياق والتاريخ و حاجيات المخاطَبين على مستويات الأسئلة والانشغالات واللغة والأداء والأسلوب والمنطق و طرائق التواصل….إلخ. وهذا واحد من الأسباب التي تنفِّرُ شبابنا من كثير من خطبائنا يوم الجمعة أو تحول هذه الخطبة إلى طقس أسبوعيّ أفرغهُ التكرارُ البئيسُ لا المُبدِعُ من قدرة الفعل والتأثير والتوجيه وإيقاظ الهمم وتوهيج الإيمان.
-2-
يُصِرُّ البعضُ، عن جهل أو تجاهل، على إنكارِ اختلاف مُخَاطَب اليوم عن مخاطَبِ الأمس، وعلى التعامي عن كون مجتمع اليوم هو مجتمع معرفة بامتياز، تنهال فيه المعطيات والمعارف والأفكار على المتلقي من كل جانب و من مصادر متنوعة ومتعددة؛ ومن ثم لم يعدِ العالمُ أو الفقيه في المسجد هو المصدر الوحيد لـ”التفقه في الدين” بالنسبة لعامة الناس كما كان الشأن من قبلُ؛ كما يُصرُّ هذا البعضُ أن يُخاطِبَ مخاطبَ اليومِ فيما لا يعنيهِ أو وبما قد يسيء إلى وعيهِ الإيماني، كأن يُتحدثَ إليهِ عن أحكامِ الرقِّ و ملكِ اليمينِ والسبايا و الرجمِ …أو عن صورٍ ميثيةٍ ترتبط بوحدات قياس منقرضة و بتصورات البشاعةِ في القرون الخوالي ببيئة الجزيرة العربية تحت اسم “أشراط الساعة”؛ دون تمييز علمي و ديني بين “الأسطورة” و “الغيب”، ولا فحص في طرائق العرضِ حتى لا تُتلقى تلك “الأشراط” كما تُتلقى الرسوم المتحركةُ بغراباتها اللامتناهية و رحابة الخيال فيها…
-3-
لم يتأهل كثيرٌ من الناطقين باسم الخطاب الديني اليوم علميا لذاك “التمييز”؛ إذ يغلبُ على بعضهم الحفظُ غير الواعي، وتستأثرُ بمعرفتهمُ الذاكرةُ الموروثة عبر المتون والأراجيز التعليمية والمختصراتِ، و يغلبُ على آخرين النقلُ عن بعض المعاصرينَ من علماء الفضائيات أو أعلام بعض التيارات المدعوة حركيةً أو سلفيةً في بعض البلدان الإسلامية. وكلا الفريقين غريب عن الأصول محجوب عنها، إما بـ “تمجيد” الحواشي والمختصرات، أو بـ “تقديس” أعلام “علماء” هذه التيارات والفضائيات. غيابُ القدرة العلميةِ على الذهاب المباشر إلى الأصول و و غياب القدرة على استيعاب التحولات العميقة في الواقع، تلك واحدة من مآسي جم من أصوات خطابنا الديني الراهن. مأساةٌ تنعكس في ضمور الحس التاريخي والبعد النقدي في هذا الخطاب، وهو ما يجعله في غربة مزدوجة.
-4-
نعني بالغربة المزدوجةِ أمرين: غربةً عن الأصول سواء تعلق الأمر بالنصين الإسلاميين التأسيسيين أو المصادر التأسيسية للعلوم الإسلامية المختلفة؛ و غربةً عن المعارف الإنسانية والعلمية الحديثة المُسعِفة في فهم خصائص المجتمعات الراهنة في مختلف أبعادها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية والنفسية والحضارية والتقنية، وهي معارفُ طورت كثيرا من المنهجيات المعرفية والعلمية التي من شأنها أن تضيء وتستضيء بمُنجَزِ تراثنا الإسلامي على مختلف الأصعدة. وما أمس حاجتنا اليوم لتجاوز الغُربتين من أجل نفخ الحياة الإيمانية والعقلانية على السواء في خطابنا الديني الراهن. دون ذلك سيبقى المؤمن مُمَزَّقا بين وعيهِ الإيماني و وعيه المعيشي، تعبُّدهُ مجرد طقوس بلا معنى، وإيمانهُ مجرد عقائد جامدة لا تجعل منه فاعلا تاريخيا وحضاريا هنا و الآن.
-5-
نحتاجُ اليوم إلى الإصغاء إلى القرآن الكريم والتعامل مع السنة النبوية بأشكال إبداعية خَلَّاقة، تستمطرُ معانٍ جديدة تُروي عطش المؤمنين للمعنى هنا والآن. فثمة أسئلة تنطرحُ علينا لم يسبق أن فَكَّر فيها أجدادُنا على فضلهم وجلالهم، لا لنقص فيهم بل لكونهم بشرٌ ممن خلق، ومن ثم ظلت أجوبتُهم محصورة في المسائل التي اقتضاها معيشُهُم بحدوده وإمكاناته وشروطه، أما وقد حدث انقلابٌ أنطولوجي مس الحياة في مختلف أبعادها ومناحيها، فإن ذلك أفرز أسئلةً جديدة في الاقتصاد والاجتماع والإعلام والعلم والفنون تقتضي منا أن نطرحها على قرآننا و نبينا صلى الله عليه وسلم من خلال تجديد في النظر وأدواته في آن، فمن خلال هذا الأفق سنغرفُ من نورِ الوحي للعقل والروح ما يضيء عتماتهما، كما سنعيد اكتشاف كثير من فتوحات أجدادنا التي ربما همشها عصرها لهذا الاعتبار أو ذاك، وهو ما يمكن أن يجعل من ديننا وتراثنا مصدرا لتنوير فكري و روحي ذي أبعاد إنسانية كونية . أبعاد تشكل جوهر الدين وروحه حين يُحسِنُ المؤمن الاقتراب والفهم.