لماذا يُغيَّب أصل داء الإرهاب؟

لماذا يُغيَّب أصل داء الإرهاب؟

لماذا يُغيَّب أصل داء الإرهاب؟

عبد المجيد الشرفي

majid

جاء في سفر هوشع من العهد القديم : «إنهم يزرعون الريح وسيحصدون الزوبعة»، وقال الشاعر الفارسي نظامي في القرن الثالث عشر م : «من يزرع الريح يجني العاصفة»، ويقول

شاعرنا أبو القاسم الشابي: «فمن يزرع الشوك يجني الجراح». إنها حكمة خالدة يجدر بأصحاب القرار السياسي المحلّي والعالمي، وبالذين يكتبون ويتحدثون هذه الأيام عن جرائم داعش البشعة في تونس ولبنان وليبيا وباريس وغيرها، أن يتدبّروها، حتى لا تَطغَى التحاليل الانطباعية على الحقائق الدامغة، ولا تُخفي الأسبابُ المباشرة الأسبابَ العميقة التي ينبغي أن تعالَج بصفة جذرية. وفي هذا النطاق نذكّر بثلاثة عناصر رئيسية مترابطة هي التي تضافرت لإنتاج الوضع الكارثي الراهن.

أول هذه العناصر ذاتيّ في كل العالم الإسلامي، ويتمثل في تخلّفه التاريخي الذي جعله لقمة سائغة للاستعمار والاستغلال وعاجزا عن تحقيق مقوّمات الكرامة، بفعل بناه الاجتماعية والإنتاجية البالية، وبفعل الثقافة السائدة في إعلامه وتعليمه، وبالخصوص منها ما يتعلق بالخطاب الديني الذي يغلب عليه الاستعلاء المرادف للشعور بالنقص، والتعصّب والانغلاق، والذي لا يربّي على الحرية والإبداع واستقلال الشخصية والحسّ النقدي وكرامة الذات البشرية أيّا كانت. ومن المؤكّد أننا لم نهتد بعدُ إلى إشاعة خطاب بديل ينشر الإيمان بالعقل وبالعلم، ويغذّي النزعة الإنسوية، ويطلّق ما شاع في الماضي وفي عصور الانحطاط والركود الحضاري من فكر أسطوري وسلوك تمييزي. ولا يسمح المجال بتفصيل القول في هذا العنصر، ولكننا وضعناه في المرتبة الأولى كي لا نتوهّم أن العيب في غيرنا فقط، إذ هو أساسا فينا نحن.

العنصر الثاني يتمثل في ضعف الأنظمة الاستبدادية والعشائرية التي حكمت الدول والدويلات التي قامت في المشرق العربي على أنقاض الخلافة العثمانية، والعديد منها ليس له أدنى مقوّمات الدولة لا تاريخيا ولا بشريا ولا جغرافيا، بل نشأت بإرادة بريطانية وفرنسية قصد إحكام السيطرة على المنطقة العربية بأكملها. وككل الكيانات الاصطناعية الهشّة فإنها استغلت الدين لشرعنة وجودها وغذّت عن جهل وغباء الثقافة التي كانت سببا في الاستعمار، ولم تُنَمّ بالطبع روح المواطنة التي تشمل المطالبة بالحقوق إلى جانب القيام بالواجبات. وزادت مداخيل الريع البترولي في التغطية على التبعيّة من جهة وعلى الظلم من جهة ثانية، وعلى استئثار فئة قليلة بالثروة والجاه دون سائر أفراد الشعب.

أما العنصر الثالث فليس سوى المُخطّط الإسرائيلي الذي تطبّقه الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الغرب كلّه، بعد أن نجح اللوبي الصهيوني – مستخلصا العبرة من إجبار أمريكا إسرائيلَ على الانسحاب المخزي من سيناء بعد الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956 – في التحكّم في مراكز القرار في البيت الأبيض وفي الكونغرس وفي الرأي العام الغربي عموما عن طريق المؤسسات الإعلامية. إن إسرائيل تعلم علم اليقين أنه لا مستقبل لها إلا إذا تمزّقت المنطقة العربية إلى كيانات قائمة مثلها على أساس ديني أو طائفي أو إثني، حتى لا تكون شذوذا منبوذا من المجموعة الدولية. ولكنّ تلك الكيانات يجب أن تكون تحت رحمتها، ضعيفة متناحرة فيما بينها. ولذا فهي تعمل جاهدة على أن يعتبر الحكّام العرب إيران مصدر الخطر عليهم وأنها هي حليفتهم وحاميتهم.

وليست هذه تهمة مجانية، بل إن المخطط الإسرائيلي القائم منذ عهد بن غوريون على الأقل، عبّر عنه صراحة منذ فيفري 1982 الصحفي والموظف في وزارة الخارجية الإسرائيلية عوداد يونين (Oded Yonin) في مقال منشور بمجلة كيفونيم (Kivounim) العبرية والناطقة باسم “المنظمة الصهيونية العالمية”، بالقدس. وقد أعادت نشر المقال في أكتوبر 1982 مجلة الدراسات الفلسطينية مع تقديم لإسرائيل شاحاك. كما أعيد نشر المقال سنة 2007 في العدد 61 من مجلة Confluences Méditerranée. ويقتضي هذا المخطط تقسيم مصر وسوريا والعراق إلى كيانات طائفية وإثنية. ويكون القضاء على القوة العسكرية العراقية الهدف الأول في هذا المخطط، باعتبار تلك القوة تمثل الخطر الجدّي على إسرائيل. وفي سنة 1996 قدّم فريق من الباحثين في “معهد الدراسات الإستراتيجية والسياسية المتقدمة” الإسرائيلي تقريرا إلى رئيس الحكومة نتانياهو يدافع عن نفس التوجه، ويوصي بالتخلي عن مسار أوسلو وبالإطاحة بصدام حسين وبشنّ حرب بالوكالة في سورية. وهذا بالضبط ما نفّذه الغرب وعلى رأسه أمريكا.

وكما هو الشأن في حالات كثيرة مشابهة فإنّ السحر ينقلب لا محالة على الساحر، طال الزمان أو قصر. فـ»المجاهدون» الذين جنّدتهم السعودية وسلحتهم أمريكا في أفغانستان هم الذين قاموا بتفجيرات 11 سبتمبر وبأعمال إرهابية عديدة في السعودية ذاتها، والإيديولوجيا الوهابية المنافية لأبسط حقوق الإنسان والتي لم تُبدِ القوى الغربية نحوها سوى تنديد شكلي محتشم ما دام النظام السعودي يضمن لها تدفّق النفط بأسعار زهيدة وبكميات ضخمة وشراء الأسلحة التي تشغّل الصناعة الغربية، هذه الإيديولوجيا التي هي أمّ الإيديولوجيا الجهادية التكفيرية وحاضنتها، والتي تشجّعها عمليّا إسرائيل والقوى الغربية، رغم تظاهرها بعكس ذلك، وتنفّذها قطر والسعودية وتركيا قصد إعادة رسم خريطة المنطقة، ببثّ «الفوضى الخلاقة» والإرهاب في سورية والعراق وليبيا واليمن، في انتظار الأقطار العربية الأخرى، هي نفسها التي تضرب العواصم الغربية وتحصد أرواح الأبرياء بالمئات.

لكنْ، إذ يبدو أن الوعي بأصل داء الإرهاب بدأ ينتشر في عديد الأوساط العربية وفي قلّة ضئيلة من الأوساط الغربية، فلا أحد من المسؤولين في الغرب مستعدّ فيما يبدو للاعتراف بهذه الحقائق والعمل على سلوك منعرج سياسي ينهي في الآن نفسه الدعم غير المشروط للكيان الصهيوني الاستيطاني العنصري، والحماية المتعددة الأوجه للنظام السعودي وإخوانه في الخليج، ويجفّف منابع تمويل الإرهاب، ويمنع تدفّق السلاح إلى الإرهابيين، ويقيم مع البلدان العربية علاقات تعاون متكافئ مقام علاقات الاستغلال والابتزاز، ويحترم إرادة شعوب المنطقة، لا مصالح حكّامها الفاسدين. وتلك هي مصيبتنا ومصيبتهم معا.

 

(المغرب).

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!