بذل المجهود في إفحام اليهود

بذل المجهود في إفحام اليهود

 

دراسة عن كتاب “بذل المجهود في إفحام اليهود”

للسموءل بن يحيى بن عباس المغربي

(تقديم لكتاب) 

nm

 

 

 

 

 

 

 

 

محمد المدلاوي المنبهي

المملكة المغربية

____________________________________________________________________________________

ملاحظة: هذه صيغة مراجعة ومحيّنة المراجع لنص كان قد نشر اول ما نشر في المجلة الإليكترونية “الكلمة” قبل أن ينشر في مجلة “الملتقى” المغربية (المـــــلتـــقى. ع:22-23؛ صيف 2010. ص: 164-185.) منقوصا من جزء كبير من لائحة مراجعه. [1]

____________________________________________________________________________________

مقدمة:

ليسمح لي القارئ الكريم بأن أستهل هذا التقديم المتواضع لكتاب بذل المجهود في إفحام اليهود للعالم الجليل، السموءل بن يحيى بن عباس المغربي، بالتعبير عن بعض الذاتيات المتعلقة بتجربتي مع الكتاب، ومع موضوعه، وأن أجعل صلب هذا التقديم يتداخل، في النهاية، مع ثنايا تلك التجربة. لقد سررت كثيرا – بالرغم من تراكم المهام – لما طلب مني زميلي، الأستاذ عبد الصمد بلكبير، التقديم لطبعة مغربية أولى لهذا الكتاب. ذلك لأنني أيقنت حينها، على التوّ، أنه، ومهما يتراءى ممّا يشكك في الأمر، قد أصبحت تقوم بالمغرب اليوم حركيّة ناهضة على مستوى العلم، والفكر، والأدب، والفنون، يسترد عبرها هذه البلد الأمين ذاته العالمة، فيعود إليها وتعود إليه، في مصالحة وثقة مع ذاكرته ومقومات كيانه.

 

 

241-267 403041166 images page1-543px-بذل_المجهود_في_إفحام_اليهود.pdf

 

 

فقصتي مع هذا الكتاب في حد ذاته، الذي أتوفر له على أربع طبعات (الفقي 1934، الشرقاوي 1986، طويلة 1989، السقا 2005)، وقصتي مع موضوعه بصفة عامة، ليستا وليدتي اليوم؛ إذ تعودان إلى 1972 حين شرعت، وأنا حينئذ طالب جامعي، في اقتحام عوالم الكتب المقدسة. ولقد كنت أربط ذلك الكتاب، أول ما اطلعت عليه من خلال طبعة تعود إلى الثلاثينات من القرن الماضي (الفقي 1936)، بهمّ فكري لازمني منذ أن بدأتُ أطلع على أوجه الفكر الكتابيّ من خلال نصوصه المتواترة، وعبر لغتها الأولى، اللغة العبرانية. فلقد وجدت في ذلك الكتاب بصيص أمل لمَن كان يتأسف، مثلي، على الخلاء شبه التام لخزانة محيطه اللغوي من مراجع جدّية في علم الأديان ومقارنتها تساير ما وصلت إليه هذه العلوم في فضاءاتٍ لغوية أخرى من تطوير لآلتها، وعلى غياب مواد هذه العلوم من رقعة برامج التكوينات الجامعية المعنية في ذلك المحيط، وغيابها من فضاء رواج السوق الفكرية لذلك المحيط، حيث ما يزال يُـكتفى في هذا الباب بوصفات اختزالية مكرورة لا تختلف تمثيلاتها وتصوراتها لدى النخبة العالمة عما يروج عند عامة الجمهور. وتتلخص مضامين تلك التصورات في أن الإسلام خاتمُ الديانات، وأن النصوص المؤسسة لليهودية وللمسيحية نصوصٌ محرَّفة، وانتهى الأمر. أما تفصيل القول في أوجه ما يُـعتبر “تحريفا”، والقول في التوثيق التاريخي الملموس لنصوص الأصول التي يكون قد تم “التحريف” بالقياس إليها، وغير ذلك من مهام التحقيق، الذي يقتضى التمكّن من اللغات، ومن تاريخ الأديان، ومن العلوم المساعدة على تحقيق النصوص (philologie)، كاللسانيات، وعلم المخطوطات (codicologie)، وعلوم الآثار (archéologie) وفن النقوش الصخرية (art rupestre)، زيادة على علوم الاجتماع، والانثروبولوجيا، والمقارنة العلمية للعقائد والملل والنحل (religion comparée)،[2] فأمور يتم القفز عليها عبر خطاب من العموميات مبنيّ أساسا على نظريةٍ للمؤامرة كثابت من الثوابت الفكرية لذلك التصور الاختزالي لا يتغير منه عَبرَ ظرفيات التاريخ، إلا عينيةُ الطرف الذي يُحمَل عليه التآمر.

ولقد شذّ السموءل بن يحيى بن عباس المغربي، الفاسي المولد، والمزدوج الثقافة ما بين اليهودية والإسلام، عن تلك الخطاطة التبسيطية في تناول علاقة الديانات الابراهيمية بالإسلام، وذلك بالضبط من حيث تمكنه من اللغات، وفي مقدمتها في هذا الباب كل من العبرانية والعربية، ومن حيث تمكنه من حكمة وعرفان وعلوم عصره (توفي المغربي السموءل عام 1174 م) الرياضية والطبيعية والانسانية، من رياضيات عددية وهندسية، ومن هيئة، وطب، وأخبار، ونظم سلطانية، وتاريخ، وملل ونحل، قبل أن يشرع، معتمدا على نصوص ملموسة من التوراة والأنجيل والقرآن، في القول في العلاقة بين ملتين لم يعرف الكون والتاريخ قرابة أكثر من تلك التي تجمع بينهما، ألا وهما اليهودية والإسلام.

 

تنبيه لمن نسي التاريخَ أو أُنسي ذكرَه

          بهذه الطبعة المغربية من كتاب بذل المجهود في إفحام اليهود، يكون هذا البلد قد تصالح مع بعض ماضيه العلمي المشرق؛ وذلك من خلال إنصاف عِـلـم عَـلـَـمٍ من أعلامه وإنصافه واستعادة ذكراه الضائعة، ألا وهو السموءل المغربي. فالسموءل المغربي (وبهذه الصفة كان يعرف)، وإن كان قد ترعرع  وربا في بغداد، ثم تنقل بين غيرها من حواضر الشرق القصيّ، كأذريبيجان حيث توفي، فإن تربيته وعلمه كانا قد قاما على أساس معارف جامعة القرويين بفاس، مسقط رأسه، أي على أساس ما كان قد لقنه إياه أبوه، الرياضي الحكيم، يهودا بن أبون (יהודה בן אבון) الفاسي النشأة، الذي يقول عنه ابنه بالضبط في هذا الباب “وكان قد أحسن تربيتي، إذ شغلني منذ أول حداثتي بالعلوم البرهانية، وزين ذهني وخاطري في الحساب والهندسة المُـعلِّـمَـين”.

أقول المصالحة واستعادة الذكر الضائع، وأنا أحيل نفسي على عمل سابق لي باللغة الفرنسية كنت قد خصصته سنة 1999 لعلمين من أعلام الفكر المغاربي، ألا وهما السموءل المغربي بالضبط، ويهودا بن قريش التاهرتي المغربي، وذلك تحت عنوان معناه “المغربيان، ابن قريش والسموءل: ذكرى طمستها ذاكرةٌ انتقائية” ولم يكتب له النشر إلا بعد عشر سنين من ذلك (Elmedlaoui 2008). أنهما علمان من أعلام الفكر الكوني، لـفّـتهما مع ذلك إقصائيات الذاكرات الانتقائية في غياهيب النسيان، وقطعت السنَد بين الأجيال وبين أفياض علم كل منهما.

فأما الأول، يهودا بن قريش التاهرتي المغربي (القرن العاشر الميلادي)، فهو مؤسّـسَ علم اللغة المقارن، بدون مبالغة وبدون تأويلات إسقاطية، كما بينتُ ذلك في ديباجة “أعمال ملتقى فاس الدولي الأول للدراسات الحامية السامية” (المدلاوي، كفايتي، ساعة 1998) وفي أماكن أخرى (المدلاوي 1997). لقد أسس ابن قريش ذلك العلم من خلال رسالته الشهيرة (אגרת) المؤلفة باللغة العربية، والمدونة بالخط العبراني، والتي نشرها العالم بركَــاش (Barges) سنة 1875 بباريس تحت عنوان “رسالة يهودا بن قريش إلى جماعة يهود فاس في الحض على تعليم الترجوم والترغيب في فيه والتغبيط بفوائده وذم الرافض فيه“، ثم أعاد نشرها العلامة أهارون دوتان (انظر Becker 1984) بتل أبيب سنة 1984 بتحقيق دان بيكر (Becker 1984) تحت عنوان הרסאלה  “الرسالة“. لقد أنجز ابن قريش من خلال تلك الرسالة أول مقارنة لسانية بين ثلاث لغات من المجموعة السامية هنّ العربية والعبرانية والآرامية التي كان يسميها “الكلدانية”، فأقام قوانين التقابلات الصوتية بين هذه اللغات،[3] تماما كما فعل Jacob Grim بعد ذلك بثمانية قرون بالنسبة للغات الجرمانية، فاعتبره مؤرخو الفكر اللساني، عن جهل بالتاريخ الكوني لظهور وتطور العلوم، أبَ اللسانيات المقارنة؛ وقد بينت هذا بدوره في كثير من المواطن.

أما الثاني، السموءل المغربي، الذي هو موضوع هذا التقديم، فإنه، في حدود علمنا، أول من أسّس المناظرة في الملل والنحل على الاستشهاد والتوثيق القائمين على المعرفة بلغات المصادر وليس على مجرد المرويات الشفهية الرائجة، وذلك طبعا، في حدود ما تسمح به إمكانيات عصره في ميدان التحقيق من حيث تطور أدواته وتقنياته، وفي ميدان التحليل والتفسير من حيث تطوّر نظريات علوم الانسان والاجتماع، وذلك تمهيدا لتطوير فن المناظرة في الملل (التي إنما غايتها إقناعُ الآخر، إن لم نقل إسكاته وإفحامه) لكي تفضي إلى علم العقائد والأديان ومقارناتها، الذي يُطلب لذاته باعتبار قيمته المعرفية، كما ظهرت بوادر ذلك من خلال إعمال ابن كمونة (توفي سنة 1284م). [4]

فما كان لا الشهرستاني، ولا ابن حزم، ممن كتبوا في الملل والنحل، ولا ابن القيم الذي اعتمد كثيرا في كتابه “هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى” على مكتوبات السموءل المغربي دون أن يعترف بذلك كما بين ذلك عبد الله الشرقاوي في تحقيقه لطبعة 1986 (ص: 113) لكتاب “بذل المجهود”، ولا سائر من اشتهر معهم في الميدان، ما كان أي من هؤلاء يكلف نفسه عناء الإحالة على الإصحاح، ولا على الفصل، ولا على السِفر، بالنسبة للكتب المقدسة، ولا على الباب بالنسبة للتلموذ، وذلك حينما يُسند الواحد منهم فكرة معينة إلى اليهود أو إلى النصارى. ذلك أن وصفة “التحريف” و”تسرّب الإسرائيليات“، كوصفة تآمرية سهلة جاهزة ويستوى في الاقتدار على “الإفحام” بها الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وصفةٌ قد ترسخت في نمطية التفكير الإسلامي كرُقية تكفي من يخوض في الباب مؤونةَ الإتيان بالبرهان، وبالشاهد ذي السند الموثق والمرجع الموصوف.

صحيح أن كثيرا من أهل الكتاب قد دخلوا الإسلام في وقت مبكر حاملين معهم زادَهم المعرفي والثقافي، الغني والقوي بالقياس إلى زاد من دخل الإسلام من وثـنـيـي الجزيرة، وصحيح كذلك أن دخولهم الإسلامَ، إذا كان من شأنه أن يغير سلوكاتهم فيما يتعلق بفقه العبادات والمعاملات، وفيما يتعلق بأسس تصور العقيدة الجديدة من أركان كانت في طور التأسيس الكلامي، فإنه ما كان من الممكن أن يتخلصوا من ثقافة المتخيل والتمثيلات المرتبطة بالثقافة العامة السالفة لديهم والتي كانت في طريق نسخها في قرار قرائحهم، والتي كانت تتداخل حينئذ في أعماق تلك القرائح مع الثقافة الناسخة الناشئة مع الأسلام. إلا أن علوم العقيدة، وعلوم الصحف الأولى، وعلوم الملل والنحل، مما ظهر في ساحة الثقافة الإسلامية فيما بعد، لم تفرز في النهاية نظريةً معينة متماسكة حول طبيعة ومعالم ذلك التداخل وذلك التناص، نظرية يتضافر في إقامتها علم التاريخ، وعلوم الناسخ والمسنوخ (كنَسخ التشريع ما بين رسالة نوح ورسالة موسى مما هو قائم في كتب التوراة نفسها)، وعلوم تحقيق الكتب المقدسة وخطوات تقنين وتوقيف نصوصها (canonisation) والتمييز بين المقـنَّـن المُخْرج (canonisé) منها وبين المجرَّح أو المستدرك (apocryphe)، على غرار أسس نظرية تحقيق الحديث مثلا، متنا وسندا (أسس ترجيحات أو تجريحات المتن و/أو السند). كل ما تم إفرازه هو موقف قناعي مطلق، يصدر عن حُكم أولي يُحمل على البداهة، وهو في طبيعته من قبيل أحكام علم التحقيق، لكن مع الجهل بمراجع ومصادر ذلك التحقيق التي هي الصحف الأولى؛ ذلك الموقف هو الحكم “بالتحريف” – بمفهومه الحرفي- على كل ما كان متداولا منذ ظهور الإسلام من مصاحف التوراة والإناجيل، مع إضافةِ نظريةٍ للمؤامرة يجملها مفهومٌ فضفاض هو “الإسرائيليات المدسوسة” يجرَّح به جُـلّ مما “لا يروق” من الأحاديث، أو الآثار، أو التفاسير في إطار فترة معينة، وفرقة معينة. وبذلك بقي متوسط علوم عامة المحققين من الأولين والآخرين في هذا الباب لا يتعدى ما لخصه مثلا الشيخ محمد بن أحمد بن أياس الحنفي المصري (القرن العاشر الهجري) في ميثولوجيا كتابه المسمى “بدائع الزهور في غرائب الدهور”، الذي ما يزال يعاد طبعه بآلاف النسخ إلى اليوم، كأهم مصدر من مصادر تحقيق الخبر في الملل والنحل.[5]  ولقد بـيـنتُ كل هذا بالتفصيل في عرض تحت عنوان” المعرفة بالكتب والصحف الأولى، ما بين الرأي والبيّـنة”، وذلك بملتقى ‘اللغات والحضارات الشرقية’ الذي نظمته كلية الآداب-الرباط بمراكش (22-25 ماي 1997). وفي هذا الباب بالضبط يقول السموءل المغربي، في مقدمة كتابه الذي نقدم اليوم للقارئ طبعة أخرى له:

“والغرض الأقصى من إنشاء هذه الكلمة: الردّ على أهل اللجاج والعناد، وأن يَظهَر ما يعتور كلمتهم من الفساد. على أن الأئمة – ضوعف ثوابهم – قد انتُدبوا لذلك، وسلكوا في مناظرتهم اليهودَ أنواع المسالك. إلا أن أكثر ما نوظروا به لا يكادون يفهمونه، أو لا يلتزمونه. وقد جعل الله إلى إفحامهم [أي اليهود] طريقا مما يتداولونه في أيديهم، من نصّ تنزيلهم وإعمالهم كتاب الله عند تبديلهم، ليكون حجة عليهم موجودة في أيديهم”.

 

فبالرغم من أن النص المؤسس للإسلام، أي القرآن الكريم، يؤكد في مسالك عدة (البقرة 97؛ آل عمران 3، 50؛ المائدة 46، 48؛ فاطر 31؛ الأحقاف 30؛ الصف 6) أن الكتب المنزلة حقّ، يأتى اللاحق منها مصدّقا لما بين يديه مما سبق، وناسخا لبعض شريعته، وأن الصحف الأولى، صحفَ إبراهيم وموسى، نصوص مرجعية إلى جانب القرآن المؤكد لروح مبادئها ومقاصدها والناسخ لبعض شرائعها {إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى} (سورة الأعلى 18))، فإن منظومة الفكر الإسلامي لم تأؤسس لأي من نصَّي العهد القديم (“التاناخ”: التوراة  والكتب والأنبياء) والعهد الجديد (أي الروايات الأربع لبشارة الإنجيل) أيّ وضعية اعتبارية (statut) ضمن سُـلّـمية مصادره المرجعية؛ وذلك على خلاف الفكر المسيحي مثلا الذي يحتوي الكتاب المقدس (La Bible) في تصوّره، وحتى في طبعاته المادية العادية، على قسمين مرتبين ترتيبا كرونولوجيا: القسم الأول المنسوخ، ألا وهو التاناخ، إي العهد القديم الموروث عن اليهودية، والقسم الثاني الناسخ، ألا وهو العهد الجديد (أي الأناجيل)؛ تماما على غرار تواجد وتعايش الناسخ والمنسوخ في العهد القديم نفسه، ما بين شريعة نوح (Loi noachite، أي الوصايا السبع لنوح) وشريعة موسى (Loi mosaïque، أي الوصايا العشر لموسى)، مما أشار إليه السموءل نفسه في كتابه؛ وكذلك مثل اعتماد لجنة جمع القرآن الكريم للناسخ والمنسوخ في توقيف متن المصحف العثماني بدل الاقتصار على مجرد الناسخ دون المنسوخ.

وقد ترتب عن هذه المفارقة بين التصديق بالصحف الأولى من جهة، وبين إهمال العناية بها والاستخلاف على رعايتها والاشتغال بعلومها التحقيقية والتأويلية من جهة ثانية، أنه حتى في فترات الفكر الإسلامي التي ازدهر فيها فن المناظرة الدينية والحديث عن الملل والنحَل، لم يكن قط واضحا ما إذا كان المناظر أو المتحدث المسلم في الملل والنحل على بينة ودراية بالنصوص الكتابية في مصادرها، وليس كما تروي عنها الروايات و ما يسمى بالاسرائيليات، اللهم إلا ما كان من حالتي المناظر الفذ، السموءل المغربي بالضبط، و مقارن الأديان المتمكن، ابن كمونة الذي جاء من بعده بقرن من الزمن (توفي سنة 1284م)، وذلك قبل أن ينقطع سند العلم بعد ذلك وتضمحل تقاليد الاجتهاد.  فابن حزم مثلا، الذي خاض كثيرا في الملل والنحل، قد ردّ من خلال رسائله بعنف غريبٍ عن آداب المناظرة على الحكيم اليهودي، والشاعر واللغوي، ورجل الحرب والدولة، الأندلسي الغرناطي، السموءل بن ناغريلا، المعروف بـ”الناجيد” (انظر Badillos & Borras 1988)، مع أن ابن حزم لم يقرأ ما كتبه ابن ناغريلا بالعبرانية عن الإسلام، وإنما بنى رده على أساس ما ورد منسوبا إلى ابن ناغريلا في ردّ سابق لطرف ثالث من المسلمين على هذا الربي اليهودي المتعدد ميادين الحضور، كما اعترف ابن حزم نفسه بذلك في مقدمة رسالته.[6]

 

استطراد في رسالة الاستخلاف، والتصديق بالصحف الأولى

ولما كانت مفاهيم التصديق بالصحف الأولى، ومفاهيم الاستخلاف في الأرض، والوسطية، وختم الرسالات، من بين أهم بنود رسالة الإسلام حسب ما استقر عليه مجمل الفكر الإسلامي، فإن ما أشرنا إلى نماذج منه مما طبع ثقافة أغلب مفكري المسلمين من استخفاف متعجرف بمهمة التفقه في الكتب المقدسة من خلال مصادرها باعتبار ذلك فرضَ كفاية، لهو استخفاف لا يمكن مقارنته إلا بما كان يهودا بن قريش قد أخذه على بني ملته من أهل فاس لما اطرحوا، في اعتدادهم وعجرفتهم، العنايةَ بالسريانية والعربية في تعاملهم مع كتابهم. وفي ذلك الاستخفاف، بناء على ذلك، إخلال غريب برسالة الاستخلاف يقزّم الأبعاد الكونية للثقافة الأسلامية ويحصرها واقعيا وعمليا في نطاق إثنو-جهوي. ومن أبر أبرز وأصرخ مظاهر ذلك الإخلال وتلك الاستقالة للفكر الاسلامي من مهامه الكونية في محافل العلم موقفُ وموقع ذلك الفكر، الغيّابي، لمّا لمع ذلك الفكر من خلال غيابه وتقاعسه عن انتداب الخبراء المحققين (الذين لم يكن يتوفر عليهم في واقع الإمر) للمشاركة في الأوديسا العلمية الكبرى لتحقيق ودراسة مخطوطات لـفائـف البحر الميت؛ تلك الأوديسا التي انطلقت في الأربعينات من القرن العشرين التي ما تزال قائمة. إنها لفائف تطرح اشكالات جوهرية بالنسبة لمدى تاريخية الناسخ والمنسوخ بين المسيحية واليهودية باعتبار التاريخ الكرونولوجي، والتي لم تساهم فيها أمة ختم الرسالات إلا من خلال ما قام به بعض الرعاة الذين عثروا صدفة على جرّات اللـفـائـف الأولى أثناء بحثهم عن شياههم الضالة في بعض المغارات بأرض فلسطين، أو من خلال قيام شبكة من مافيا المهربين، الذين اتجروا بعد ذلك في تهريب سلسلة ما يعثر عليه من تلك اللفاثف يشترون بها ثمنا قليلا خلال الاربعينات من القرن العشرين لدى علماء الغرب من ألمان، وفرنسيين، وانجليز، وأمريكان، ورواد الاستيطان الصهيوني (انظر Baingent & Leigh 1992 و Eisennam & Wise 1995).

وتحضرني بهذا الصدد قصة طريفة وذات دلالة مؤسفة، قصة حسن ظاظا مع اللغة العبرية في بداية الاربعينات من القرن العشرين، كما رواها بنفسه في العدد 244 (فبراير مارس 1997) من مجلة الفيصل السعودية؛ وهي قصة انطلقت من رسالة الماجستير التي ناقشها في الجامعة العبرية بالقدس بتقدير “ممتاز” كما يقول، وكانت حول “أثر الفكر الإسلامي في الفكر العبري في إسبانيا الإسلامية“. ومما جاء في القصة ما يلي :

“(…) وكان من المفترض أن أكمل دراستي في الجامعة العبرية؛ ولكن حدث أن عدتُ إلى مصر في إجازة بعد حصولي على الماجستير وبعد أن سجلت موضوع رسالة الدكتوراه، فأخبرني وزير المعارف، الاستاذ عبد الرزاق السنهوري باشا، وكان مستشار الصياغة لميثاق جامعة الدول العربية، أن استمراري في الجامعة العبرية قد يمثل اعترافا بوجود علمي وأكاديمي لإسرائيل في فلسطين، وهو ما يتعارض مع توصيات جامعة الدول العربية، التي لم يكن قد صيغ ميثاقها بعد، وخيرني بين إكمال دراستي في مصر أو الانتظار حتى تنتهي الحرب لأسافر في بعثة إلى الخارج، ففضلت الانتظار حتى جاء التحاقي بالسوربون…”.

 

إن مختبرات الفيلولوجيا والتحقيق بالجامعة العبرية (التي تم تأسيسها لعشرين سنة قبل إعلان قيام دولة إسرائيل) هي التي كونت في النهاية – بعد ذلك الموقف النضالي المشهود للجامعة العربية – أطرَ الخبراء الذين مكنوا إسرائيل فيما بعد من المساهمة في فريق التحقيق الدولي، ومن توجيه مسار ما آلت إليه معالجة لـفـائـف البحر الميت بعد ذلك، في إطار صراع علمي-ثقافي ما يزال قائما بين خبراء ومحققي أطراف لاهوتية متعددة، أبرزُها الفاتيكان (عبر فريق من الفرنسيين والألمان والأنجليز والأمريكان)، والمؤسسات الربية الإسرائيلية، وفي غياب كل الاطراف القطرية أو القومية الأخرى التي كان يجري ذلك في صميم فضاءائها الإقليمية والثقافية، والتي لم تنتدب عنها خبراء، إما لعدم تتوفرها عليهم بسبب انشغال مؤسساتها ‘العلمية’ بإصدار الأحكام وبتعقب أوجه المآمرات عن الاشتغال بتطوير العلم بالواقع، وإما لأنها على مستوى الوعي غير معنية بمهمة الاستخلاف أو غير مدركة لمفهومه وكـنهه عمليا من حيث أنه يعني، من بين ما يعني، المشاركةَ الفعالة في توجيه مواضيع البحث العالمي، وإما بسبب اجتماع هذه النقائص كلها.

أما اللفائـف، وما تبقى منها بعد التهريب الذي لحقها تحت وصاية السلطات الأردنية، فقد كانت من بين أولى الغنائم التي بادر الضابط العسكري، والخبير المحقق في نفس الوقت (!)، المسمى يـكَائيل يادين (Egal Yadin)، إلى اختطافها بمجرد أن دخلت وحدات اسحاق رابيـن إلى القدس سنة 1967، وهي الآن ترقد في قبة “ضريح الكتاب” بالمتحف الوطني الإسرائيلي، ذلك الضريح ذي التصميم المعماري الموضوع وفق استراتيجية تحصينية مستلهمة رمزيا من روح حصن “الماصاداه” (מסדה).[7]

 

موسوعات الأعلام ومصفاة الذاكرات الانتقائية

وبالعودة إلى قصة  الملقبين بـ”المغربي“، ابن قريش، والسموءل، ممن شذّا، كل من موقعه، عن مثل هذا الانغلاق المُخلّ، نقول بأنه قد أدت غلبة الإقصاءات الملية والمذهبية والإثينة في نهاية الأمر إلى أن يلف النسيانُ كلا منهما.

فأما الأول، أي ابن قريش، فإن مذهبه القرائي، باعتباره من فرقة القرائين،[8]  شبهِ المغضوب عليها من طرف فقهاء السُنـّـية اليهودية (l’orthodoxie rabbinique)، إضافة إلى انتمائه إلى الغرب الإسلامي، المستخَفّ بعلمه وبأدبه في عين مركزية اليهودية المشرقية البابلية، وإضافة إلى انتمائه إلى الإثنية اليهودية السيفارادية، المستخَف بها وبآدابها في عين المركزية الأشكينازية، وزيادة على انتمائه الشمال-إفريقي وإلى الضفة الجنوبية للفضاء السيفارادي نفسه، المستخَفّ بآدابها في عين المركزية الأندلسية نفسها،[9] كل هذا قد جعله في النهاية، وبسبب تضافر محاور وأبعاد الإقصاء المذكورة،  هدفا للتناسي وللتجاهل، ثم للنسيان والجهل التام من طرف بني ملته من اليهود أنفسهم؛ إلى درجة إن المعجم الموسوعي لليهودية (Wigoder 1996) لم يفرد له أي مدخل، في حين أن ذلك المعجم قد خصص مثلا مدخلا من صفحة ونصف للهولندي سبينوزا، باعتباره إياه من أعلام العالم اليهودي بالرغم من تقويض فلسفة سبينوزا للفكر اليهودي تقويضا؛ وفي حين  أن ذلك المعجم قد خصص مدخلا آخر مثلا حتى للمتنبئ المشرقي، ساباطاي تصيفي (Sabatai Tsvi)، باعتباره إياه كذلك من أعلام العالم اليهودي، بالرغم من أن ‘ساباطاي تصيفي’ (1626-1676م) كان أكبر متنبئي البهتان (נביאי שקר) في القرون الأخيرة، وأنه جر بتنبئه الفاشل ذاك كثيرا من الويلات على يهود عصره (انظر الهامش-10 أسفله).

أما الطرف المسلم، الذي كَتب مع ذلك ابنُ قريش جلَّ ما كتب بلغته الأساسية، ألا وهي العربية، فلم يكن جهله بهذا العالم إلى اليوم إلا أفظع؛ وذلك بسبب تقاليد إهمال كل ما كُـتب مدونا بالخط العبراني ولو كانت لغته عربية، وهو مع ذلك رصيد ضخم وغني (انظر المدلاوي 1997). وبذلك وجد ابن قريش نفسه، في تاريخ الفكر، “بين كرسيين” كما يقال وذلك إلى وإلى حدود القرن حيث بدأ نفض الغبار عن ذكراه في بعض الجامعات الغربية. ففي الوقت الذي طبعت في “الرسالة” مرتين بعد عودة الوعي الحضاري لبعض بني ملته بقيمة علمه، خصوصا في إسرائيل، لم تقم بعد أي مؤسسة من المؤسسات العربية بتحقيق الرسالة وقلب حرفها إلى الحرف العربي، وهو عمل في المتناول كان قد قام به جزئيا، في إطار مجرد بحث الإجازة، أحدُ طلبتي الجامعيين في مادة اللغة العبرية بكلية الآداب بوجدة، الطالب محمد الطاهري.

 

 أما الحكيم والرياضي والطبيب والمناظر، السموءل المغربي، فقد أدت به نفس روح الإقصاءات الملية، والمذهبية، والإثنو-جهوية، في حظيرة الفضاء الحضاري المتوسطي، إلى أن يجد نفسه “بين كرسيين” بدوره في فضاء تاريخ العلم والفكر.[10]  فالمعجم الموسوعي لليهودية المذكور آنفا، لا يُقر له ذكرا، في نفس الوقت الذي يورد فيه، كما رأينا، ذكر أمثال الهولندي سبينوزا، المقوضةِ فلسفتُه للفكر اليهودي، أو ساباطاي تصيفي، متنبئ الامبراطورية العثمانية، الفاشل في النهاية، والذي أدّى، مع ذلك، بسبب ادعاءات شخصيته غير السوية لا سيكولوجيا ولا اجتماعيا بالرغم من ذكائه الأدبي، وبسبب شطحاته القبالية وتقلباته الملية المتخاذلة، إلى زعزعة الاستقرارَ العقدي لكثير من الجماعات اليهودية التي تأثرت بمزاعمه لمّا حدد لها سنة الأرقام السداسية، 1666م، كسنة القومة التي سينتهي فيها التاريخ، وتقوم مملكة الأزمنة المهدوية (temps messianiques) التي ينتصب فيها هو كـ”شفيع” (גואל) ومسيح منتظر (משיח) يجمع ويلمّ شمل ما تشتت من أسباط إسرائيل الأزمنه السلفية.[11]

ولا يصح عزو هذا الإقصاء الذي طال السموءل المغربي في ذاكرة المعجم الموسوعي لليهودية إلى مجرد كون هذا الحبر العالم قد اعتنق الإسلام في نهاية مطاف تجربته التأملية والروحية عن قناعة وراحة روحية. فالمتنبئ المشرقي المذكور، ساباطاي تصيفي، انتهي، بعد فشل قومته التنبئية، إلى الاحتماء وراء اعتناق الإسلام “مُكرها لا بطل”؛ ومع كل ذلك فقد حفظت الذاكرة الإثنية اليهودية الارثودوكسية ذكراه باعتباره من أعلام اليهودية.

أما الفضاء المسلم، فإنه لم يتعلم شيئا من أفكار السموءل فيما يخص علاقة النقليات بالعقليات وبالإشراقيات في تهذيب الخاطر وبناء أداة التفكير، ولا من تجربة مساره الفكري التي هي أبرز إسهامات كتابه، واكتفي هذا الفضاء بالاستغلال الانتهازي الفج لكتابه “بذل المجهود في إفحام اليهود” في الاستعمالات السجالية من باب “وشهد شاهد من أهلها”؛ وذلك كما فعل ابن القيّم مثلا في كتابه “هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى” كما أشرنا إلى ذلك. فهذا الطرف لم يستفد لا من التجربة الفكرية لهذا العالم، تلك التجربة التي ساقها في مقدمة كتابه لمّا بيّن كيف تدرج، في  تهذيب خاطره، من البرهانيات، فالطبيعيات، فالانسانيات، قبل أن يخوض في الإلاهيات والإشراقيات. ولم يستفد ذلك الفضاء الفكري من حكم السموءل على المناظرين المسلمين وعن الخائضين منهم في الملل والنحل حيث قال: “على أن الأئمة – ضوعف ثوابهم – قد انتُدبوا لذلك، وسلكوا في مناظرتهم اليهودَ أنواع المسالك. إلا أن أكثر ما نوظروا به لا يكادون يفهمونه“.

هذا، وإنّ أجلى أوجه استمرار انعدام تلك الاستفادة إلى يومنا هذا، وبشكل أكثر كارثية، هو تلك الطريقة الكارثية التي تُـنسخ بها إلى اليوم المسالكُ العبرية المدونة بالحرف العربي في كتاب السموأل نفسه عبر مختلف الطبعات. إنه نسخ يتعامل مع تلك النصوص العبرانية، المعروفة لأهل العلم، بنفس الروح الغرائبية التي يتعامل بها ناشرو أدبيات السحر والعرافة مع نصوص من صنف رُقى الشيخ الدمياطي المعروفة بـ”الدعوة السريانية” ، أو مع جداول “البرهتية“، أو الجلجلوتية.[12]  فكلمة ‘برى’  مثلا (ברא = خَلقَ)، قد تجدها في تلك الطبعات “المحققة” لكتاب “بذل المجهود في إفحام اليهود” منسوخة، حسب الأماكن، بصورة [برى] أو [نرى] أو [بزي] أو [ندى] أو [بذي]، أو [يرى]، أو [يدي]، الخ. على حسب تخمينات نُسّاخٍ جاهلين بما ينسخون، نساخ ذوي ثقافة متعجرفة وتصوّرٍ غرائبي إزاء كل ما ليس بحرف عربي؛ فلا يلزمون أنفسهم تحقيق رسمه، خصوصا ما دام المؤلف يورد بعد النص العبراني ترجمته العربية المنقولة عن ترجمة من لغة أخرى (كالإنجليزية)، التي على أساسها يـُبنَى الاستغلالُ السجالي (وليس المعرفي والتحقيقي)، ذلك الاستغلال الذي يشكل لحد الآن الغاية من نشر الكتاب، وذلك من باب “وشهد شاهد من أهلها”، كما يتجلى ذلك صراحة من مقدمات “المحقّقين” ومن الهوامش التوجيهية التي يخرجونها.

 

الغاية من الطبعة الحالية لكتاب السموءل

الغاية إذن في رأيي، والحالة هذه، من الطبعة الحالية لكتاب “بذل المجهود في إفحام اليهود” في المغرب بالضبط (بالرغم من عدم التيقن من العنوان الأصلي للكتاب)، وفي هذه المرحلة من مراحل تطور وتطوير الفكر المغربي في هذا الباب (ولا أعتقد بأن الأستاذ بلكبير سيخالفني في رأيي هذا) لا تعدو أن تكون العملَ على إعادة تعريف الجمهور تعريفا أوليا ومعمما بهذا القبيل من تقاليد الفكر المجتهد، وذلك عن طريق إعادة وصل الجيل بما انقطع من سند تلك التقاليد وبما طواه النسيان من متونها؛ وذلك في انتظار نهوض همم النخبة والخاصة لتحقيق تلك المتون في التدوين، وتخريج شواهدها من مصادرها بالإحالة المرقمة (الإصحاح، الفصل، السفر)، وبالمرجع الموثق (المخطوط الفلاني، أو الطبعة الفلانية)، تمهيدا لإعادة تأسيس علم أديان حديث، يستفيد من إنجازات العلوم المساعدة الحديثة، كعلوم اللسانيات، وعلم الفيلولوجيا وتحقيق النصوص، وعلم المخطوطات، وعلوم الآثار والنقوش، زيادة على علوم الاجتماع والانثروبولوجيا. معنى هذا أن عدم سماح الوقت، في الأمد المباشر، بتحقيق رسم ما دُوّن من نصوص عبرانية بالحرف العربي في هذه الطبعة لكتاب السموءل ليس من باب تبنى الاستخفاف التقليدي بتلك النصوص، والتعجرف إزاء كل ما هو عجمي، واستغباء القراء قاطبة بافتراض أن لا أحد يرقى إلى أن يطالب بالجودة في مثل هذه الأمور؛ وإنما بُني ذلك الإرجاء على سُـلّـمية الأولويات، على أساس أن مهمة ذلك التحقيق قائمة في الذهن، ويتعين إنجازها بعد التعريف الأولي بالمعالم الأولى لذلك الفكر على نطاق واسع يتعدى المتخصصين ليمسّ جمهور طالبي وطالبات توسيع الثقافة العامة وتحيينها.

 

دور علم الأديان ومقارنة الأديان في تهذيب الخواطر وجبلها على تنسيب القناعات

الحقيقة في ديانات الوحي (religions révélées) حقيقة مطلقة بحكم تصور المفهوم نفسه، وبحكم حدّ تعريفه. من هنا تأتي صعوبة تعامل تلك الحقيقة مع حركية التاريخ والواقع، ومع انعكاس تلك الحركية على التصور والتمثل في دوائر أخرى من دوائر الوعي الانساني، كالفلسفة والعلم والسياسة. وتزداد هذه الصعوبة حدة كلما كانت الديانة من ذوات شقّ الشريعة، هذه الشريعة التي لا تلبث أن تصطدم بتناقضات التدافع والتدبير الواقعي للمصالح المستجدة، وذلك كما في اليهودية والإسلام المتوفرين على فقه الشريعة، بخلاف المسيحية أو البوذية مثلا. وعملية التنسيب المستمر لتلك الحقيقة، من أجل أن يقوم حدٌّ أدنى من تلاؤم التعايش ما بين إطلاقيتها وبين حركية التاريخ، تتخذ شكلَ تفعيل وتطوير مستمر لوظيفة الاجتهاد. فبفضل تلك الوظيفة ظهرت علوم التأويل، وعلوم المقاصد، وعلم الكلام، وهي القنوات التي تسمح للفكر الديني بالاحتكاك بالعقل، وبالطبيعة، وبالانسان، من خلال العلوم، والفلسفة، وعلم الأخلاق (انظر المدلاوي 2015 الصدد). إن انفتاح الفكر الديني العامّ المعيّن على المنظومات الفكرية الأخرى، كعلم الكلام، والفلسفة، وأدبيات الملل والنحل من خلال مقارنة الأديان، بالإضافة – وعلى وجه الخصوص – إلى إنجازات العلوم الانسانية الحديثة في ميدان المعرفة بطبيعة الانسان وبآليات المجتمع، لهو الضمانة التي تحصّن الفكر الديني ضد “شعبأته” من طرف الجمهور، أي ضد مصادرته السهلة من طرف الذهنية الشعبوية العامّية، الفوضوية بطبعها والجانحة بطبعها إلى الفتنة. ويصدق هذا بوجه أخص على الإسلام لسببين: أولهما  كونُ الشريعة، المتعلقة بتقنين أشكال وصور العبادة وأطر التعامل والعادة، تشكل مكونا هاما من مكونات تصور الجماعة للإسلام كملـّـة؛ وثانيهما انعدامُ وجود تقاليد هيكلة هرمية ممأسسة لهيئات الفضاء الديني (hiérarchie ecclésiastique institutionnelle) كما هو عليه حالُ اليهودية الارثودوكسية، والمسيحية الكاثوليكية. أن هذا الوجه الأخير، الذي يمثل بساطةً في الإسلام، مقرونا إلى واقع وجود الشريعة في هذا الدين، بما يعني ذلك من تدخل في الشأن اليومي من حياة الفرد والجماعة باسم حقائق الدين، لهو ما يجعل الدين عُرضة باستمرار للمد الشعبوي العامي، على شكل مد ‘خوارجي‘، أو ‘قرامطي‘ أو ‘حشّاشي‘ أو ‘جهادي‘ أو ‘إرهابي‘، إلى آخر ما هناك من التسميات حسب الفترات والظرفيات. فبمجرد ما ينفصل الفكر الإسلامي عن المعرفة العالمة التي تربطه معنويا بالنخبة وبنخبة النخبة، أي بمجرد أن ينفصل عن معارف العلوم الاجتهادية (أصول الأحكام وعلم كلام) والفلسفية والانسانية، وعلوم الملل والنحل، يصبح ذلك الفكر في متناول العوامّ الذين يقومون حينئذ بــ”تأميمه” ويحتكرون، بمقتضى القوّة العددية للفرق ونوعية أساليبها في العمل الميداني، أهليةَ الإفتاء باسم حقيقته المطلقة في شؤون العادة والعبادة للناس، متخذين من بعض مفاهيمه، المجردة عن مقاصدها وعن أطرها وحيثياتها التاريخية –  مثل مفهوم “الجهاد”، و”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، و”محاربة أعداء الله”، و”تملك الفيء”، وغير ذلك من المصطلحات المفرغة –  أُطرا مرجعية لتبرير كل جنوحات الفوضى السائبية المدعمة بقوة نوازع العدوان والعنف الخام الملازم لفكر وسلوك العامة غير المؤطرين، خصوصا في فترات المصاعب الاجتماعية والاقتصادية.[13] وقديما قال الأفوه  الأودي في هذا الصدد:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم  *    ولا سراة إذا جهالهم سادوا

 

 

*****************************

 

 

المراجع المحال عليها

 

طويلة، عبد الوهاب ( قدم له، وخرج نصوصه، وعلق عليه — 1989) بذل المجهود في إفحام اليهود (للحكيم السموءل بن يحيى بن عباس المغربي). دار القلم- دمشق؛ الدار الشامية – بيروت

المدلاوي، محمد (1997)  “عن الثراث المتداخل اللغات في الغرب الإسلامي: نماذج للتداخل بين العربية والعبرانية والأمازيغية”؛ أعمال ندوة تحقيق التراث المغربي الأندلسي: حصيلة و آفاق. منشورات كلية الآداب – وجدة رقم 16 ؛ سلسلة ندوات و مناظرات، رقم 4 ؛  ص:313-328.

المدلاوي، محمد، وسعيد كفايتي، وفؤاد ساعة (إعداد—  1998) أعمال ملتقى فاس الدولي الأول للدراسات الحامية السامية. منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية، سايس-فاس.

المدلاوي، محمد (2004) ” اسم الجلال في’ترجمة معاني القرآن إلى اللغة الأمازيغية”؛ ص 100-112 من: الترجمة بين الهواية والمهنية؛ وقائع ندوة؛ إعداد عز الدين الكتاني الإدريسي و ابراهيم الخطابي وعبد اللطيف زكي. جامعة محمد الخامس – السويسي و المعهد الجامعي للبحث العلمي- الرباط. أعيد نشر موسّعا بعنوان “ترجمة معاني القرآن إلى الأمازيغية، ما بين وظيفة النقل وهموم النقاء المعجمي”. في كتاب: المدلاوي محمد (2012)؛ ص: 173-223.

المدلاوي، محمد (2006) “من عناصر الثقافة اليهودية في التمازج الثقافي المغربي، محاكاةً وحكيا”. الحكاية الشعبية في التراث المغربي. موضوع ندوة لجنة التراث. بالمشاركة مع الجمعية المغربية للتراث اللغوي. مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية. سلسلة “الندوات”

المدلاوي، محمد (2012) رفع الحجاب عن مغمور الثقافة والآداب؛ مع صياغة لعروضي الأمازيغية والملحون. منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي- الرباط. (جائزة المغرب للكتاب 2012؛ صنف الدراسات اللغوية والأدبية).

المدلاوي، محمد (2015) “العلاقات بين الدولة والملة والدين والفرد المدني، ما بين التصور النظري وظرفيات وأشكال التنزيل الواقعي”. مجلة الربيع. فصلية فكرية ثقافية. العدد الأول / ربيع 2015. ملف العدد: السياسة والدين. مركز محمد بنسعيد أيت يدّر للأبحاث والدراسات / المغرب. (cermbensaid@gmail.com)

 

الفقـــي، محمد حميد (تحقيق — 1936) بذل المجهود في إفحام اليهود. للحبر العلامة، الحكيم المحقق، السموأل بن يحيى بن عباس المغربي. مطابع الشرق الإسلامية. القاهرة

السقا، أحمد حجازي أحمد (دراسة وتحقيق — 2005)  بذل المجهود في إفحام اليهود للسموءل بن يحيى المغربي؛ ويليه الرسالة السبعية الحاوية للضوابط الإرشادية، للحبر الأعظم إسرائيل بن شموئيل الأورشليمي. مكتبة النافذة – الجيزة.

الشرقاوي، عبد الله (1986) إفحام اليهود وقصة إسلام السموأل ورؤيته النبي صلى الله عليه وسلم. للإمام المهتدي، السموأل بن يحيى المغربي. دار الهداية (مصر).

هادي حسن، جعفر (1989) فرقة القرائين اليهود. دراسة في نشأة الفرقة وعقائدها وتاريخها إلى العصر الحاضر. مؤسسة الفجر؛ بيروت – لبنان

בקר , דן (1984) ה’רסאלה’  של  יהודה  בן  קריש . מהדורה ביקורתית . אומיברסטת תל-אביב. בעריכת אהרון דותן.

 

Attias, Jean-Christophe et Ester Benbassa (1997) Dictionnaire de civilisation juive. Larousse-Bordas

Saenez-Badillos, Angel & Judith Targarona Borras (1988). Semu’el Ha-Nagid. Poemas desde el campo de batailla; Granada 1038-1056. Ediciones El Almendro. Granada.

Baingent,  Michael y Richard Leigh (1992) El escandalo de los manuscritos del mar Muerto; las revelaciones que hacen temblar al Vaticano. Circulo de Lectura.

Bargès, Jean-Joseph Léandre & Dov Ben Alexander Goldberg (1857, (éds.) Rabbi Yehuda ben Koreisch, Epistola de studii Targum utilitate. Paris, B. Duprat et A. Maisonneuve.

Becker, Dan (1984, ed.) (הרסאלה) The risâla of Judah ben Quraysh, a Critical Edition. Texts and Studies in the Hebrew Language and Related Subjects, vol. vii; Series edited by Aron Dotan; the Haim Rosenberg School for Jewish Studies, Tel-Aviv University; Tel-Aviv.

van Bekkum, W. Jaques (1981) “The ‘risâla’ of Yehuda Ibn Quraysh and its Place in Hebrew Linguistics”; Historiographia Linguistica, vol. viii. No. 2/3 (1981) pp:307-327.

Eisenman, Rober et Michael Wise (1995) Les manuscrit de la mer Morte révélés. Fayard

Elmedlaoui, Mohamed. (1999) “La traduction du Coran en Hébreu par Joseph Rivelin (remarques sur la forme et le contenu)”; pp. 31-42 in Judit Targarona Boràs and Angel Sàenz-Badillos (éds.) Jewish Studies in the Turn of the Twentieth Century. Proceedings of the 6th EAJS Congress; Toledo, July 1998; vol. I: Biblical, Rabbinical, and Medieval Studies. Brill. Leiden . Boston . Köln

Elmedlaoui, Mohamed (2006). “Traduire le nom de Dieu dans le Coran : le cas du berbère”. Pp. 105-115 in Dymitr Ibriszimow / Rainer Vossen / Harry Stroomer eds. Etudes Berbères III. Le nom, le prénom et autres articles. Berber Studies. Volume 14 (2006). Rüdiger Köppe Verlag. Cöln.

Elmedlaoui, Mohamed (2008) “Les deux ‘al-Maghribi’, Ben Quraysh et as-Samaw’al (un souvenir refoulé par une mémoire sélective)”. Etudes et Documents Berbères. 27 (2008.)

Khalil, Idriss (1980) “Quelques éléments de l’oeuvre mathématique d’as-Samwal al-Maghribi, mathématicien Marocain d’origine juive du 12e siècle”; pp 83-84 in Juifs du Maroc: identité et dialogue; Actes du colloque international sur la communauté juive marocaine: vie culturelle, histoire sociale et évolution (Paris, 18-21 décembre 1978). Ed. La Pensée Sauvage, Grenoble.

Lévi, Simon (1987) “Maimonide et l’histoire du judaïsme marocain”. pp83-108 in Conseil des Communautés Israélites du Maroc (éd.) Maimonide. Colloque du 22 décembre 1986 à Casablanca. Dépôt légal à la Bibliothèque Générale de Rabat 305/1987.

Lichtheim, Miriam (1976) Ancient Egyptian Literature. Volume II. The New Kingdom. University of California ; Los Angeles ; London 

Maghribi, al Samaw’al ibn Yahya (d. 1174 or 5) Al-Bâhir en Algèbre (al-Bâhir fi al-jabr). Edited with notes and introduction by Salah Ahmed and Roshdi Rashed. Damascus: Ministry of Higher Education of the Syrian Arab Republic (Wizarat al-Talim al-Ali), printed at the University of Damas , 1972. (263 p. (Arabic text), 84 p. (French introduction). : ill. ; 23 cm) Rev: HM 1 (1974), 346-347(E); Isis 66 (1975), 274-275(F); Centaurus 19 (1976), 314-315(E)

Sandars, N. K. (1972) The Epic of Gilgamesh. Penguin Books.

Thoorens, Léon (1966) Panorama des littératures. Mésopotamie, Egypte, Palestine, Perse, Grèce. Marabout Université.

Unterman, Alain (1997) Dictionnaire du Judaïsme; histoire, mythes et traditions. Thames & Hudson.

Wigoder, Geoffry et al. (1996) Dictionnaire encyclopédique du Judaïsme. CERF/Robert Lafont.

[1]  توثيق الصيغة الأولى للنص هذا التقديم: المدلاوي، محمد (2007) “بذل المجهود في إفحام اليهود، للسموءل المغربي” (دراسة تقديمية) المجلة الاليكترونية الكــلــمة (مجلة شهرية إليكترونية، أدبية فكرية تصدر بلندن). عدد 09 (سبتمبر 2007)، الصفحة الآتية: http://www.al-kalimah.com/Data/2007/9/1/Mohamedalmdlawyalmanbahi.xml

[2]     للمقارنة مثلا بين  عقيدة التوحيد، كما صاغتها الديانة اليهودية في العهد القديم (التوراة والأنبياء والكتب)، وبين أوجه غير يهودية سابقة تاريخيا عليها، يمكن الرجوع إلى صلوات ومزامير مصر القديمة (انظر Lichtheim 1976, Thoorens 1966)، وأهمها تسبيحة أخناتون التي تتجلى فيها عقيدة التوحيد في مصر القديمة على عهد امينحوطيب الثالث الفرعوني في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد (انظر مقتطفا منها مترجما في المدلاوي 2004، و Elmedlaoui 2006). وبالنسبة للأوجه البابلية القديمة لبعض الثـيمات الواردة في نفس العهد القديم، مثل قصة الطوفان، يمكن الرجوع إلى ملحمة كَـالكَـاميش (Sandars 1972).

[3]   كانت غاية  ابن قريش  إقناع مخاطبيه من جماعة يهود فاس بفساد ما انتهى إليه ربـّـيوهم من اطـّراح تدارس الآرامية، التي هي لغة الحواشي الترجومية  الشارحة للكتاب المقدس (التوراة والأنبياء والكتب) ومن عدم العناية بالعربية، التي من شأنها، في اعتقاده وفي الواقع، أن تساعد على فهم النصوص المقدسة نظرا لما لها من متين القرابة بالعبرية وبالآرامية؛ فدفع به ذلك إلى أن يبين أوجه تلك القرابة في رسالته. يقول في مقدمة رسالته “أما بعد فإني رأيتكم قد قطعتم عادات الترجمة بالسرياني على التوراة (يقصد ‘التعليق على التوراة’) من كنائسكم، وأطعتم على الرفض به جهالكم المدعين بأنهم عنه مستغنون، وبجميع لغة العبراني (يقصد ‘اللسان العبراني’) دونه عارفون (…). فرأيت عند ذلك أن أؤلف هذا الكتاب لأهل الفطن وذوي الألباب، فيعلموا أن جميع ‘لشون قودش’  (أي “اللسان المقدس”، يقصد ‘اللسان العبراني’) قد انتثرت فيه ألفاظ سريانية، واختلطت به لغة عربية، وتشتتت فيه حروف عجمية وبربرية” (هذا كلام مدون كله بالحرف العبراني؛. انظر المدلاوي 1997).

 

[4] هو عزّ الدولة، سعد بن منصور بن سعد بن الحسن الإسرائيلي، المعروف بـ”ابن كمونة” . مكنته ثقافته الموسوعية وتمكنه من لغات العصر، وفي مقدمتها العربية والعبرانية، بالإضافة إلى وضعية سياسية  تتميز –  على مستوى العلاقة ما بين الدين والسلطة الزمنية  –  بحكم المغول، المحايد من الناحية العقدية بالنسبة للديانات المتواجدة حينئذ. ولقد مكنه تضافر كل ذلك من إنجاز مقارنة موضوعية بين اليهودية والمسيحية والإسلام، خالية من روح السجال، وهي بعنوان تنقيحِ الأبحاث في الملل الثلاث”. ويتناول الكتاب النقاشَ الدائر بين أتباع الديانات الثلاث (اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام)؛ ويبدأ بفصل تمهيدي عن النبوَّةِ بشكل عام، ثم يُتبعه بفصول عن النبوَّة في الديانات الثلاث تتسم بالموضوعيَّة. كما يتبدَّى فى الكتاب تعَاطُف ابن كمونةَ مع الاتجاهات العقلانيَّة (مقابل الاتجاهات الصوفيَّة والإشراقيَّة)“. كما خلف ابن كمونة كتبا أخرى مثل التذكرة فى الكيمياء، و شرح كتاب الإشارات والتنبيهات لابن سينا، و شرح كتاب التلويحات العرشيَّة للسهروردي، ومقارنة أخرى ما بين اليهودية الربانية أو الحاخامية  واليهودية القرائية (انظرالموقع   >http://www.ziedan.com/Zion/7.asp< للدكتور يوسف زيدان). ولقد ثارت ضده العامة في الأخير فاضطر إلى الفرار من بغداد.

 

[5]   آخر طبعة أعرفها هي: بدائع الزهور في وقائع الدهور. تأليف العالم الشيخ أحمد بن محمد بن أياس الحنفي. دار الرشاد الحديثة. الدار البيضاء. المغرب 2003

 

[6]  وقد سجل الموقع (http://www.santamelania.it/approf/2005/saggi/iandaluso.html) هذا التهافت من طرف ابن حزم بقوله:

“In aggiunta, Ibn Hazm scrisse un trattato antiebraico, come refutazione a un pamphlet scritto presumibilmente da Samuel Ibn Nagrella, in cui l’autore attaccava l’islam. Ibn Hazm non aveva visto il trattato di Samuel, se mai esso era esistito, e quindi lo refutava sulla base di una refutazione musulmana precedente”

 

[7]   الفقرة الأخير مقتطفة من مقال بعنوان “بذل المجهود لبيان ما بين الرأي والعلم من حدود”، كنت قد نشرته بيومية الأحداث المغربية  (27 ماي 2001) على إثر الضجة التي كان قد قصيدة الشاعرة حكيمة الشاوي والتي وردت فيها قصة خلق المرأة من ضلع أعوج.

 

[8]  يرجع معظم المؤرخين فرقة القرائينن (קראים) اليهودية إلى الثورة الفكرية الاعتزالية التي تزعمها الحاخام اليهودي، عانان بن داود في القرن الثامن الميلادي على تحكّـمية فقهاء السنية اليهودية (orthodoxie rabbinique). لكن هناك من يذهب إلى أن جذور فكرهم تعود إلى بداية فترة الهيكل الثاني، من خلال فكر يهود ‘قـُمران‘ (الذين خلفوا لفائف البحر الميت) ويهود الاسكندرية. وبتمرد القرائين على كثير من أوجه الشريعة التلمـوذية، باعتبارها، في نظرهم، مجرد اجتهادات ظرفية لفقهاء السنية اليهودية، الذين يتخذون من الوصاية عليها مصدرا سلطتهم على الجماعة، يظهر القراؤون في العصور الإسلامية كأقرب الفرق والملل إلى الإسلام. أما على مستوى الفكر، فقد كانوا أميل إلى العقلانية؛ وتمت على أيدي علمائهم كثير من الإنجازات العلمية خصوصا في ميادين العلوم الرياضية واللغوية. ولا يتعدى عدد اليهود القرائين اليوم ما بين 25 و 30 ألف نسمة، جلهم في إسرائيل ما بين مدينتي الرملة وأشضود (أنظر هادي حسن 1989، ومادة  Caraïsme أو Karaïsme في معاجم كل من Wigoder 1996 و Unterman 1997 و Attias & Benbassa 1997). أما بخصوص تمذهب ابن قريش بمذهب القرائين، فيمكن الرجوع إلى  Bekkum 1981.

 

[9]   كنموذج عن هذه الإثنو-مركزية، يـُسنـَـد إلى حجة اليهودية، الطبيب الفيلسوف الموسوعي القرطبي، باني صرح الفكر اليهودية بدون منازع، موسي بن ميمون المعروف بــ‘رامبام‘، قوله : “إن اليهود الذين يسكنون جبال البربر أكثر جهلا، في نظري، من سائر بني آدم، بالرغم من أنهم متشبثون بالإيمان بالله؛ غير أن الله يشهد بأني لا أقارنهم بالقرائين، الذين ينكرون السنة الشفهية” (انظر  Lévi 1987; p. 107, note 60)

[10]  يجب التنويه، مع ذلك، بأمثال الأستاذ ادريس خليل، وزير التعليم العالي سابقا بالمملكة المغربية، حيث كان من القلائل في هذا البلد الذين لم ينسوا ذكر السموءل، حيث إنه خصص له، من بين ما قرأت له، مقالا يعرّف خلاله ببعض إنجازاته في ميدان الرياضيات، التي هي مجال تخصص الأستاذ خليل (انظر  Khalil 1980)

 

[11]   لقد دأب متنبؤو اليهود، منذ ظهور الفكر المهدوي (pensée messianique)، على تأسيس تواريخ اليوم الموعود الذي يبشر به كل داعية المتنبئ منهم كأجل لقيام ساعة الزمن المهدوي، على أسس حسابات القبّالة اليهودية، المبنية من حيث أدواتها على الرقمولوجيا (numérologie) وعلى حساب الجُمـّل גמטריה (أي القيم العددية لأحرف الأبجدية). فالمتنبئ اليهودي الفاسي (المغرب)، يوسف الدرعي، كان قد بنى تاريخ قومته لما ادعى أنه المسيح المنتظر، على أساس حساب تنجيمي لإبراهيم بن عيزرا الأندلسي، شبيه بحساب المنجم الشهير Nostradamus. أما المتنبئ ساباطاي تصيفي المذكور أعلاه، الذي لقب نفسه بــ”نجل داود” ليستحق الخلافة بانتسابه إلى آل بيت الملك داود فيُـدعى له في البـِـيَع بالنصر على “روح الشر” بدل أن يُدعى للخليفة العثماني كما كانت العادة، فقد بني رقم سنته المصيرية على أساس الرقم 6، الذي يرمز، من بين ما يرمز إليه، إلى النجمة السداسية، التي أصبحت منذ القرن الرابع عشر الميلادي ترمز إلى مجـنّ الملك داود (מגן דוד)، والتي ربطتها الحركة الساباطائية على الخصوص، بناء على ذلك، بـبشرى “الشفــاعة” المهدويــة גאלת אחרית הימים (انظر مادة Magen David في Attias & Benbassa 1997 ). وإذ عاش ساباطاي تصيفي ما بين سنتي 1226 و 1276م، فقد حدد سنة السِــتات الثلاث من الألفية الجارية، ألا وهي سنة 1666 (أي 1000+666) كسنة للقومة المهدوية. ولكي يمعن في تدعيم تخرُّصه القبالي بأكثر ما يمكن من قيم رمزيات القبالة المُحيلة على سداسية نجمة داود، فقد حدد يوم 18 (إي 6+6+6)  يونيو (أي شهر 6) من تلك السنة كيوم لقومته الموعودة (انظر مادة Sabatai Tsevi في  Wigoder 1996). ومما زاد في تقوية رقمه القبالي الذي ركِب عليه، أن الرقم 666 قد ترسخ في مهدويات الفكر المسيحي نفسه  باعتباره “رقم الوحش”  (The Number of the Beast)، أي باعتباره تشفيرا في الفصل 13 من سفر الرؤيا (Revelation:13) لوحش الدجال (The beast of the antechrist) الذي قد يكون حسب الاعتقاد شخصا آدميا ذا سلطان مثل نيرون، حاكم روما مثلا، والذي يتعيّن على ذوي الرؤى القبالية كشف اسمه اعتمادا على تخرّصات حساب الجمّل (http://www.aloha.net/~mikesch/666.htm). ومن غرائب التداخلات الثقافية ما يروج اليوم في بعض الأوساط المغربية المسلمة من ذوات نفس التصور المهدوي للتاريخ (حركة الشيخ عبد السلام ياسين) من اتحاذ تلك الأوساط  للسنة السداسية الرقم الأولى التي توفرها لهذا الجيل الألفيةُ الميلادية الجارية، أي 200 كموعد للقومة المهدوية؛ وهي رقمولوجيا لا يوفرها لهذا الجيل التقويمُ الهجري الذي ينسجم اكثر مع مرجعيات “المنهج النبوي” لتلك الأوساط (لأنه ليس هناك في كل ألفية إلى حدود سنة 6000،إلا  ثلاثُ سنوات سداسية الرقم، هنّ: 6، 66، 666 بالنسبة للألفية لأولى؛ و 1006، 1066، 1666 بالنسبية للثانية؛ و 2006، 2066، 2666 بالنسبة للثالثة، وهكذا). ويذكّر هذا اللجوء إلى التقاويم الأجنبية عن الإطار المرجعي للمهدوي المدّعَي بما فعله قداسة البابا، Innocent III، الذي ساورته بدوره الميولات المهدوية لكنه لم تسعفه معطيات تاريخ التقويم المسيحي لأجيال عصره بما يُـقنع به الرعيّةَ من أن ظهور الدجال كان قريبا، وأنه، أي البابا، يكون بذلك خليفة المسيح الممهِّـد لعودة هذا الأخير، فاحتال في التخريج، وحدد سنة 1284 الميلادية كسنة لظهور الدجال بما أن تلك السنة توافق سنة 666 لظهور الإسلام (www.abhota.info/end1.htm). وليست أوساط الزوايا بالمغرب هي وحدها المخترقَة من طرف شطحات هذه الأبعاد الثقافية ذات الجذور الكتابية؛ إذ حتى الفرق الشبابية المتأثرة بموجة موسيقى الهارد-روك  والهيفي-ميتال (Heavy Metal) تنتظر منذ مدة طويلة، في إطار هُـلوسات عوالمها التقديرية على الشبكة، يومَ الثلاثاء المقبل (06 يونيو 2006) كيوم قدري على المستوى الكوني مهدتْ له في المغرب إشاعةُ “تسونامي” (25 ماي 2006) والأمطار الطوفانية التي تزامنت معها بالجهات الشرقية من المغرب، وكذا مطوية “إركب معنا (لتنجو من الطوفان)” التي وزعتها جماعة الشيخ عبد السلام ياسين، وكذا إعادة تأكيد مجلس إرشاد تلك الجماعة على إنذار “الإسلام أو الطوفان“؛ كل ذلك لأنه من خلال تاريخ ذلك اليوم يتحقق الرقم السداسي القبالي: 06/06/06 (انظر الموقع  Revelation13.net). ولقد بينت في عمل سابق (المدلاوي 2006) بعض مظاهر هذا التداخل في الثقافة المغربية فيما يتعلق منها ببعض الرمزيات اليهودية والعبرانية على الخصوص.

 

[12]    وذلك من قبيل ما أورده الشيخ الدمياطي في المنظومة المعروفة بــ”الدعوة السريانية” وهي على البحر الطويل، حيث يقول ما يلي:

فيا  شمخـثا  يا  شمخـثا  أنت شلـمخا         ويا عيـطلا  غوث  الريـــاح  تجلــــجلت

وقد جاء في “شرح” شارح الدمياطي بأن معنى “عيطلا غوث”  هو  “القويّ  القاهر” !

[13]  مقتطف من نص عرض كنت قد قدمته في المائدة المستديرة بعنوان “جذور العنف في الخطاب الإسلامي: من أجل رؤية نقدية” التي كان مركز طارق بن زياد قد نظمها بفندق صوفيتيل –  ديوان (الرباط 12 يوليوز 2003)

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!