الطاغية: تحوّلات صورة الديكتاتور
تقديم: بثينة الزغلامي
في تفكيكه لمفهوم السلطة أكد ميشال فوكو على أنّ فكرة السجن عقاب للروح بالأساس عبر رمزية الجدار العالي والباب المغلق، وهي فكرة لا تختلف عن معاناة المعزولين أو المحجوزين،فكل إقصاء إفراغ للكائن المهمش أو المغضوب عليه من جانبه الاجتماعي وكسر لانتمائه لجملة من القوانين والنظم التي تربيها عليها السلطة عادة /انظر كتاب المجتمع والعقاب لفوكو .الصادر سنة 1975/
ثمة كتاب يحاول أن يترصد كيف يولد الطاغية رأس “العقاب ” المفوض بقوانين سماوية وارضية على مقاسه وكيف يقع البطش بكل من يتمرد على صورة الجموع المذعنة هو “صورة الطاغية ” للدكتور إمام عبد الفتاح إمام يعالج صورًا من الاستبداد السياسي من منظور فلسفي كما يفكك مفهوم الطغيان وعلاقته بالقوانين المتعلقة بالديمقراطية والحرية والعدالة كما يتناول الكتاب التصورات الفكرية والفلسفية لشخصية الطاغية من خلال آراء فلاسفة ومفكرين شرقا وغربا. والدكتور إمام عبد الفتاح إمام متخصص في الفلسفة والعلوم الانسانية وعمل في جامعات مصريّة وعربية وله مؤلفات عديدة منها «الأخلاق والسلطة» و«مدخل الى الفلسفة مدخل الى المناهج الجديدة عند هيغل» وقدم ضمن سلسلة ترجمات أرسطو وكانط وفوكو وغيرهم. ونشير في هذا السياق الى مؤلفات عالجت موضوع الطغيان منها «من يصنع الطغاة؟ لمجدي كامل و«الكتاب الأسود لستيفان كورتوا».
يتألف كتاب «الطاغية» من أربعة أبواب وتسعة فصول ويتوزع على 363 صفحة ويتناول الجانب الفكري الفلسفي في طرحه لمفهوم الطغيان شرقا وغربا أيضا وذلك بأسباب تعود الى طبيعة الشعوب نفسها كما هو الحال بالنسبة لأهل الشرق حيث فكّك المؤلف مفهوم الطغيان العادل والمستبد العادل مستندا الى مؤلفات وآراء تصب في رؤية عقدية لعلاقة الرّاعي بالرعيّة حيث يقول جهاد الدين الافغاني في مؤلفه «الخاطرات».. «لا تحيا مصر ولا يحيا الشرق بدوله واماراته إلا إذا أتاح اللّه لكلّ واحد منهم رجلا قويّا عادلا يحكمه بأهله على غير التفرّد بالقوة والسلطان….» وان كان هذا الحكم غريبا نظرا لتناقضه مبدئيا اذ يجمع بين العدل والاستبداد فان الكثير من المؤلفين العرب مفكرين وفلاسفة ومصلحين الذين حثوا خاصة على عدم الخروج عن السلطان وذلك بوضع جملة من الأسس المستندة الى شرعية الوالي ومفهوم الولاية كما وردت في تفسيراتهم لمفهوم السلطة حسب تأويلهم للدين وتحليلهم لمفهوم الشورى وأهل الحلّ والعقد.
الصورة الاكثر قتامة هي “الطاغية الذئب ” ذلك انه سليل جملة من العوامل النفسية والاجتماعية التي عقدت نزعة الاستبداد داخله كما صوّرها أفلاطون وأرسطو. حيث ذكر أفلاطون كيفية تحكم الطاغية فيمن حوله وكيف تتحكم فيه بدوره صورة القوّة المطلقة حيث يتحول الى إنسان الى ذئب لا يتورع عن سفك الدماء وازهاق الارواح حتى يتسنى له الحكم مستندا في ذلك الى طغمة عسكرية متكونة من المرتزقة والنفعيين الذين لا همّ لهم سوى المزيد من المكاسب من عملهم في خدمة الطغيان وان كانت قضية الحرب والسلم عند الطاغية الذئب حسب نظرية أفلاطون مرتبطة بحاجة الطاغية الى الاستمرار في السلطة واخراس صوت الشعب بتكبيله بمشاكل تبدو في ظاهرها دفاعا عن الوطن فان باطنها يبدو عكس ذلك فان هي الا حيلة لصرف نظره عن المشاكل الداخلية للبلاد وان كان الطاغية في الأثناء يحاول تمرير جملة من القوانين فإن الوجه المشرق للطاغية القريب من الناس سرعان ما يتحول في هذه المرحلة الى إقصاء كلّ رأي مخالفا له وينكلّ بكل من يناهضه في استبداده مستعملا في الأثناء سلطة الفكر والعقل حيث يدجن الفلاسفة والمثقفين الذين يمجّدون مآثره في دحض العدوّ والحفاظ على أمن البلاد في الداخل والخارج والحفاظ على الاستقرار. ورغم اتساع الهوة بين الطاغية والشعب إلاّ أن الأول يتحول الى آلة لانتاج الرعب وتفريخه عبر بث صورة الحامي الذي لابد من وجوده حتى يضمن استمرار ثبوت الوطن ومن هنا فإن المفارقة في تصوّر الطاغية من ناحية وتوهّم القوة عبر المزيد من التملّك والقتل والتكفير لكلّ رأي مخالف من طرف الحاكم الذي تطول مدّة ولايته، الى ان يطيح به شخص أقوى منه او يموت ذلك انه يتحول الى حيوان سلطويّ متسلّط.
ماهية الطاغية كما رسمها افلاطون وارسطو رغم اختلافهما ظاهريا الا انهما يتفقان في مسألة الحكم العادل وصفاته كما يفككان مفهوم القوة التي يغذيها الشعب عبر استكانته لرمز سرعان ما يتحول الى آلة تتجاوز سيطرة الجموع رغم كثرتها لتصبح مقصلة ذكية لقوانين ودساتير تواضع عليها الحاكم والشعب.
كما يتناول الدكتور امام عبد الفتاح ارتباط الحكم بالدين في المسيحية مفكّكا آليات الحكم الديمقراطي المستند على مرجعية عقدية مفادها ان الطاغية يستمد حكمه من مصدر مقدّس ومن هنا فإن مفهوم الحكم الفردي يتحول الى معطى سياسيّ وفكريّ لا جدال فيه.
كما أن أوروبا التي ثارت على هذا النوع من الحكم الفردي الملجم لكل صوت أويد أخرى وفتحت المجال أمام الدساتير والتشريعات المقلصة لسلطة الحاكم والمنادية بالديمقراطية كانت مسرحا دمويّا لتضارب مصالح الطاغية بشعبه كما كانت مسرحا ملهما وفاتحة لأصوات منادية بحقوق الانسان اوكرّست المطالب التي فككت سلطة الحكم الفردي المطلق ولجمته بقوانين عالميّة مصادق عليها دوليّا ذلك ان الدساتير كانت مخاض ثورات ولعلنا نتذكّر في هذا السياق الثورة الفرنسية سنة 1789 والثورة الروسية التي أطاحت برمز السلطة وتحولت الى حلم شعبي في ضرورة نشر قيم المساواة والعدالة الاجتماعية ولعلّ هذه الثورات هي التي نجد صداها في العالم اليوم ابتداء من امريكا الجنوبية وصولا الى البلدان العربية ولعلنا نتذكر مقولة جون لوك في كتابه الحكم المدني «يبدأ الطغيان عندما تنتهي سلطة القانون اي عند انتهاء القانون وإلحاق الأذى بالآخرين» كما يقول «كلّ من يتجاوز حدود السلطة المشروعة يتحول الى لصّ او قاطع طريق بل ان الجرم يكون أعظم اذا صدر عمّن عظمت الأمانة التي عهد بها إليه».
في فصلٍ آخر يسلط الكتاب الضوء على الطغيان الشرقي أو الحكم ” المركّب “وهو سلسل معطيات تاريخية وارث جغرافي شديد الخصوصية وان كانت الصورة يقع تجميلها عبر تمرير مشهد وكاريزما عادة ما تفشل اوتتفتت امام الممارسات الواقعية وهي عادة تتمحور حول اعلاء رمزية الحاكم الحاني والرئيس المخلّص والزعيم الملهم وحامي الشريعة والوطن فإن صورة الشعب تبدو كأنّها صورة طفل أزليّ لم يبلغ سنّ الرشد منذ آلاف السنين لذا وجبت رعايته وتطويعه تارة باسم المصلحة العليا وطورا باسم المحافظة على القيم والمكتسبات التي تراهن عليها الجموع لاستقرارها واستمراريتها.