التصوف كما عرفوه

التصوف كما عرفوه

 

التصوف كما عرفوه

بقلم: زينب محمد عبد الحميد

كاتبة وباحثة مصرية

 

 

 

 

في باديء الأمر وَضعتْ كلمة التصوف كثير من الفلاسفة في مأذق لتعريفها فيصرح ولتر ستيس أن: (….كلمة التصوف نفسها كلمة سيئة الطالع، فهي تكسوها غشاوة. وتوحي من ثمَّ بالتفكير الغامض الضبابي المضطرب. كما أنها ترتبط بالدين الذي يعارضه عدد كبير من الفلاسفة الأكاديميين، وقد يدهش بعض هؤلاء الفلاسفة إذا علموا أنه على الرغم من أن عددًا كبيرًا من المتصوفة كانوا من المؤلهة، وأن عددًا آخرًا كانوا من أصحاب وحدة الوجود، فإن هناك أيضـًا متصوفة ملاحدة. وربما كان من الافضل لو استطعنا استخدام كلمات مثل “الاستنارة” و”الإشراق” الشائعة الاستخدام في الهند لنصف الظاهرة نفسها. لكن يبدو أنه لابد لنا في الغرب، ولأسباب تاريخية، أن نظل محافظين على كلمة “التصوف”، وكل ما نستطيع عمله أن نحاول بالتدريج أن نتغلب على الأحكام المبتسرة التي تميل إلى الظهور.)([1])

ومفهوم التصوف من المفاهيم التي لاقت كثيرًا من التعريفات والتوجهات التفسيرية له كحالة جديرة بالملاحظة والتعريف، وبنظرة مجملة لتعريفات التصوف نجد أن لها خمسة توجهات واضحة:

  • تعريفات تعتمد على الأصل اللغوي والاشتقاقي للتصوف.
  • تعريفات للتصوف كحالة سلوكية وأخلاقية.
  • تعريفات للتصوف كحالة من خلال المتصوفة أنفسهم.
  • تعريفات للتصوف ترتكز على المرجع التاريخي والديني.
  • تعريفات ترتكز على تحديد التصوف كفلسفة.

 

أولا: تعريفات تعتمد على الأصل اللغوي:

إن التصوف مأخوذ من صفاء الأسرار ونقاء الآثار. إنه نسبه إلى الصوف؛ يقول الطوسي: “نسبوا إلى ظاهر اللبس، ولم ينسبوا إلى نوع من أنواع العلوم والأحوال التي هم بها مترسمون، لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام، والصديقين، وشعار المساكين المتنسكين”([2])

إنه نسبة إلى الصف الأول فى الصلاة.

إنه نسبة إلى عمل أهل الصفة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي: “التصوف مأخوذ من أهل الصفة”([3]).

إن التصوف نسبة إلى صوفة القفا.

إنه منسوب إلى رجل كان يجاور بمكة قبل الإسلام يسمى صوفة بن بشر، وقال ابن الجوزي: “كانت النسبة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والإسلام، فيقال: مؤمن مسلم. ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد، فتخلوا عن الدنيا، وانقطعوا إلى العبادة، واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها، وأخلاقا تخلقوا بها، ورأوا أن أول من انفرد به بخدمة الله سبحانه وتعالى عند بيته الحرام، رجل يقال له: صوفة. واسمه الغوث بن مر، فانتسبوا إليه، لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، فسموا بالصوفية”([4]).

(والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف)([5])

(الصوفية: حركة غيبية في الإسلام. واسم هذه الحركة مشتق من كلمة صوف العربية. وكان المتصوفون – أي لابسي الصوف الخشن – في البداية يروجون لفكرة الإنكار الكامل لإرادة الفرد)([6]).

ومثل هذه التعريفات لاقت ردًا بعدم ملائمة اشتقاقها اللغوي أحيانًا كما فعل القشيري في رسالته برد بعض تلك التعريفات وتضعيف دلالات اشتقاقها، أو لاقت استحسان بعضها كمرجع للاشتقاق اللفظي للكلمة دون دلالته.

 

ثانيًا: تعريفات للتصوف كحالة سلوكية وأخلاقية:

كذلك رأت كثير من التعريفات التصوف مجموعة المجاهدات السلوكية والأخلاقية التي تبدأ بالزهد والتمسك بالممارسات الشعائرية، بل ربما ساوت التصوف بالزهد والتقشف وأصبح هو غاية التصوف وتعريف مذهبه.

(التصوف: طريقة سلوكية قوامها التقشف والزهد والتخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل لتزكو النفس وتسمو الروح، وهو حالة نفسية يشعر فيها المرء بأنه على اتصال بمبدأ أعلى.

قال الجرجاني في تعريفاته: التصوف هو الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرًا، فيرى حكمها من الباطن في الظاهر، فيحصل للمتأدب بالحكمين كمال.)([7]).

وعرف ابن خلدون التصوف قائلا (علم التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: طريق الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عامًا في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.)([8])

وربما رأى البعض في تعريفاته للتصوف وإقراره للجانب السلوكي والأخلاقي فيه، الانحطاط بعد تحوله إلى العامة أو إلى مظهر شكلي شعبي قد يفتقد إلى جوهره الأخلاقي الذي يحول الطبائع إلى سلوك ومدركات نبيلة؛ فقد (بدأ التصوف دينيًا وأخلاقيًا ولا يعني ذلك خلوه من الفكر المعرفي سواء أكان ذلك في الأديان الكتابية أم غير الكتابية، وانتهى التصوف فلسفيًا في تجاربه العالية قبل أن تنصرف إلى تحويله العامة من المسلمين إلى مجرد  مشيخة طرق…)([9])

 

ثالثًا: تعريفات للتصوف كحالة من خلال تجربة المتصوفة أنفسهم:

وهنا تكثر تعريفات التصوف نقلا عن تجارب صوفية، وقد تكلم عن تلك التعريفات الدكتور عبد الرحمن بدوي؛ كقول الجنيد عن التصوف (أن تكون مع الله بلا علاقة) كذلك قوله: (التصوف ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع وعمل مع اتباع)،  وكذلك قال: (التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به).

وقال أيضًا: (التصوف هو ترك الاختيار. وقال أيضًا: الصوفية هم القائمون مع الله تعالى بحيث لا يعلم قيامهم إلا الله)([10]).

وابن عربي يقول:

فاعلم أن التصوف تشبيه بخالقنا    لأنه خلق فانظر ترى عجبا([11])

وقول الشبلي: (التصوف الجلوس مع الله بلا هم).

وكذلك هو: (الدخول في كل خلق سني والخروج من كل وصف دني).

ويعرفه السهروردي أنه: (دوام التصفية والصفاء).

وذهب معروف الكرخي إلى أن التصوف هو: (الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق).

وقال علي بن سهل الأصفهاني: (التصوف التبري عمن دونه والتخلي عمن سواه) ([12]).

وقد أورد بدوي في كتابه خمسة وعشرين تعريفًا للتصوف من أقوال الصوفية أنفسهم، وهي تعريفات يغلب عليها التعبير البلاغي ولا تشير إلى الجانب المعرفي، وهي حسب المستشرق لويس ماسينيون (لا شأن لها بتاريخ معاني اللفظ)([13])

ونلاحظ في مثل هذه التعريفات اعتماد كل متصوف على حالته الشعورية وتجربته الخاصة، في محاولة للتعبير عن حالة تواصل ميتافيزيقية، قد توحي ببعض الغموض وعدم تحديد دقيق لأبعاد التصوف وبالتالي تؤدي إلى توافق تعريفاته مع غيره أو لا، تبعًا لطبيعة التجربة التي خاضها وخصوصيتها وتغلغله هو فيها.

 

رابعًا: تعريفات للتصوف تركز على المرجع التاريخي والديني:

أخذت تلك التعريفات ـ خاصة المهتمة بالتصوف الإسلامي ـ اتجاهين؛ أولهما: اتجاه يرد التصوف الإسلامي برمته إلى أصول فارسية وفلسفات هندية أو مسيحية غنوصية، وثانيهما: أخذت على عاتقها الرد على الاتجاه الأول برد التصوف برمته إلى الإسلام والتخلق بأخلاقه، ورأت في الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) أول المتصوفين.

فنجد تعريفات تقوم على رد التصوف إلى فلسفات حكمية قديمة كاليونابنية والفارسية، ثم ترجع ازدهاره إلى التعاليم المسيحية والرهبنة بعد ذلك، (….ثم ظهرت فيما بعد التعاليم المتعلقة بحب الذات الإلهية، وقد استخدموا في هذا المجال رموز الشعر الفارسي. وفي مرحلة لاحقة اكتسبت الصوفية طابعًا تأمليًا ومؤمنًا بوحدة الوجود، مع المحافظة في نفس الوقت على روح الخشوع والتقوى التي تحلت بهما. وكان من ضمن العوامل التي ساهمت في تطور الصوفية تلك العناصر التي أخذتها من تعاليم غير إسلامية. فقد أثرت المسيحية ونساكها وطوائفها غير الأورثوزوكسية على الصوفية. وقد كانت للبوذية أيضًا أبلغ الأثر على الصوفية….)([14]).

وأوضح المستشرقين الذين مثلوا الاتجاه الأول (نيكلسون)؛ ففي كتابه: (الصوفية في الإسلام) قال: (وكلمة Mystic التي انحدرت من الديانة الإغريقية إلى الآداب الأوروبية، يقابلها في العربية والفارسية والتركية، لغات الإسلام الثلاث الرئيسة، كلمة (صوفي)، واللفظان على كل حال ليسا مترادفين تماما، لأن للفظة الصوفي مدلول ديني خاص، وقد قيدها بالصوفية الذين يدينون الدين الإسلامي، والكلمة العربية وإن اكتسبت على مدى الأيام مدلول الكلمة الإغريقية الواسع: شفاه مقفلة بالأسرار القدسية، وعيون مغمضة على النشوة الحالمة؛ إلا أن مدلولها كان متواضعا، يوم جرت على الألسنة لأول مرة، حوالي نهاية القرن الثاني الهجري.)([15]).

ويرى نيكلسون في دراسته الأولى للتصوف أنه على يقين من أننا إذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي أحاطت بنشأة التصوف بمعناه الدقيق، استحال علينا أن نرد أصله إلى عامل هندي، أو فارسي، ولزم أن نعتبره وليدًا لاتحاد الفكر اليوناني، والديانات الشرقية أو بعبارة أدق، وليدًا لاتحاد الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، والديانة المسيحية والمذهب الغنوصي.([16])

ثم يتحول نيكلسون عن هذا الرأي متخذا رأي آخر، حينما يكتب مادة (التصوف) في دائرة معارف الدين والأخلاق، فيقول: (وقد عولجت مسألة نشأة التصوف الإسلامي، حتى الآن معالجة خاطئة، فذهب كثير من أوائل الباحثين إلى القول بأن هذه الحركة العظيمة التي استمدت حياتها وقوتها من جميع الطبقات والشعوب التي تألفت منها الإمبراطورية الإسلامية، يمكن تفسير نشأتها تفسيرًا علميـًا دقيقـًا بارجاعها إلى أصل واحد: كالفيدانتا الهندية، أو الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، أو بوضع فروض تفسير جانبـًا من الحقيقة، لا الحقيقة كلها).

في حين تقوم عدة اتجاهات تحاول نسبة التصوف إلى الإسلام منذ النشأة إلى الممارسات، تحاول بعضها نفي أي تأثر التصوف من فلسفات قديمة ونسبتها برمتها إلى الإسلام، ومنهم من نسب النشأة إلى القرن الثاني الهجري، ولم ينف تأثره ببعض الأفكار وربما الممارسات من ديانات وعقائد أخرى.

          خامسًا: تعريفات ترتكز على تحديد التصوف كفلسفة:

وتأخذ تلك التعريفات الجانب الفلسفي الذي تبلور للتصوف بعد أن أصبح نتاجًا إنسانيًا بغض النظر عن مرجعياته الدينية والعقائدية؛ فنظرت إليه كنتاج فكري له أبعاده الأيديولوجية والجمالية الخاصة.

(ويطلق لفظ الصوفية في أيامنا هذه على الفلاسفة الذين يقولون بإمكان الاتحاد الباطني المباشر بين الفكر البشري ومبدأ الوجود، بحيث يؤلف هذا الاتحاد حالتي وجود ومعرفة بعيدتين عن حالتي الوجود والمعرفة الطبيعتين وأعلى منهما.

ويطلق لفظ التصوف على مجموع الاستعدادات الانفعالية والعقلية والخلقية المتصلة بهذا الاتحاد. وظاهرة التصوف الذاتية بهذا المعنى هي الوجد، extase وهو حالة تشعر فيها النفس بالاتحاد بينها وبين حقيقة داخلية هي الموجود الكامل، الموجود اللا نهائي، أي الله، لانقطاع الاتصال بينها وبين العالم الخارجي. ولكن إرجاع التصوف إلى هذه الظاهرة التي هي نهايته يجعل تصورنا له ناقصًا، لأن التصوف حياة وحركة ونمو ذو اتجاه معين (بوترو)، ومراحل هذا النمو هي التطلع إلى المطلق، ثم المجاهدة لتخلية القلب وتجلية النفس، والزهد، والإعراض عن الدنيا، ثم الوجد، ثم محاسبة المرء نفسه على ما فرطه في حياته السابقة، ثم توجيه الحكم والإرادة توجيهًا جديدًا، ثم تحقيق الحياة الكاملة فردية كانت أو اجتماعية. والتصوف بهذا المعنى هو الطريقة السلوكية الموصلة إلى الحياة الكاملة، لا بل هو مجموع النظريات الموضحة للمعارف التي هي ثمرة من ثمرات هذه الحياة.)([17]).

وإن كان في التعريف الذي أورده المعجم الفلسفي تنميطـًا لإجراءات للتصوف، إلا أننا نلاحظ تخلصه من ارتباطه بعقيدة أو مذهبًا بعينه.

 

[1])) ولتر ستيس: التصوف والفلسفة: ترجمة وتعليق وتقديم: أ. د. إمام عبد الفتاح إمام: الهيئة العامة للكتاب، 2012. الفصل الأول: صـ 27.

[2]))اللمع ص41.

[3]))تسعة كتب في أصول التصوف والزهد ص365.

[4]))تلبيس إبليس ص161.

[5]))عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المقدمة، تحقيق د. علي عبد الواحد وافي الجزء الثالث، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006.صـ 989.

[6]))سعد الفيشاوي، المعجم العلمي للمعتقدات الدينية، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2007. صـ609.

[7]))د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني. مكتبة المدرسة. بيروت. لبنان صـ282،283.

[8]))ابن خلدون، المقدمة، طبعة القاهرة ، صـ 328، د. ت.

[9]))د. ناهضة ستار، بنية السرد في القص الصوفي (المكونات والوظائف والتقنيات) دراسة من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق،2003. صـ20.

[10]))د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني. مكتبة المدرسة. بيروت. لبنان صـ282،283.

[11]))ابن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق: د. عثمان يحيى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972 السفر الثاني 2/ص266.

[12]))فيصل بديرعون، التصوف الإسلامي الطريق والرجال، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة 1983، ص 23-24-25.

[13]))د. عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى نهاية القرن الثاني، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية 1978، ص 15،16،18.

[14]))سعد الفيشاوي، المعجم العلمي للمعتقدات الدينية، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2007. صـ609.

[15]))د. ر.أ.نيكبسون، الصوفية في الإسلام، ترجمة: نور الدين شريبة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012. صـ 10-11.

[16]))انظر نيكبسون، الصوفية في الإسلام، ترجمة: نور الدين شريبة، الهيئة المصرية العامة للكتاب2012.

[17])) د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني. مكتبة المدرسة. بيروت. لبنان صـ284،283.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!