التصوف الإسلامي والفلسفة الوجودية.. أية علاقة؟
كريم الصياد
من المعروف أمر تلك المحاولات لعقد صلة، مذهبية أو منهجية، بين الفلسفة الوجودية والتصوف الإسلامي. وقد تنوعت هذه المحاولات منهجًا وتطبيقًا، وإن كان يمكن رصد تاريخ هذه العلاقة على هيئة مرحلتين محددتين: مرحلة عبد الرحمن بدوي (1917-2002) ومرحلة حسن حنفي (1935-؟).
بعد أن فاز بدوي بمنحة لدراسة الألمانية والإيطالية في أوروبا عام 1937، اهتم بالفلسفة الوجودية الألمانية تحديدًا، وأقام علاقة بينها وبين نهضة ألمانيا بين الحربية العالميتين، فقد رأى بدوي أن العنصر الأخلاقي-الأيديولوجي الأساسي في الوجودية الهيدجرية (الضمير Gewissen) سبب من أسباب يقظة الشعب الألماني، وتمرده على الهزيمة الساحقة في الحرب العالمية الأولى. ويعني الضمير عند هيدجر التحرر من التصورات المسبقة التي تشكل تصور الإنسان عن ماهيته، والتي تسبب ضياعه في الآخر Das Man، حيث يتمتع هذا الضمير بنداء Aufruf لانتشال الفرد من السقوط Verfallen أو الضياع في الآخر، ولدفعه لإيجاد كينونته الأصلية أو أصالته Eigentlichkeit، وبهذا الشكل يتحرر الفرد من تلك التصورات المسبقة التي قد تكون انهزامية بائسة لائمة للذات خاصة بعد الهزائم العسكرية، وينفتح على ممكنات الكينونة Seinskönnen المتاحة، أو بلغة غير اصطلاحية: يتحرر الفرد بهذا الشكل من الانهزامية نحو تصور مختلف لدوره الاجتماعي، ودور شعبه في العالَم، ويكون أكثر استعدادًا وقدره للانطلاق نحو مشروع اجتماعي جديد في حركة تنوير اجتماعية.
وتقوم الفلسفة الوجودية على خاصّتين أساسيتين: أسبقية الوجود على الماهية كمعتقَد، وفلسفة الوجود الإنساني المتعيّن كموضوع. وتعني الخاصة الأولى أن الإنسان يوجد أولاً في العالم ثم يختار أسلوب وجوده، دون ماهية (فطرة) سابقة، ومن خلال هذا يتحرر الإنسان من التصورات الاجتماعية-التاريخية المسبقة عن ذاته. بينما تعني الخاصة الثانية أن الوجود الإنساني المتعين في حدود موقف وبيئة معينين محددين هو موضوع البحث الفلسفي في الوجودية، فقد درج قبل الوجودية على أن الوجود الإنساني العام المجرد هو موضوع البحث في الوجود الإنساني، وجاءت الوجودية-خاصة مع هيدجر-لتعيد تأسيس الميتافيزيقا الغربية على أساس البحث في الوجود المتعين للإنسان.
وكان بدوي في تلك المرحلة-بين الحربين العالميتين حتى بعد ثورة يوليو في مصر وتأميم ممتلكاته وإلغاء دستور 1954 الذي شارك في لجنة إعداده-مفكرًا عربيًا معاصرًا، أي يتمتع بصفة عامة أساسية في المفكرين العرب المعاصرين، ألا وهي تأسيس مشروع فلسفي أو فكري لخدمة أغراض اجتماعية. وفي سياق هذه الغاية العامة للمشروعات الفلسفية العربية المعاصرة تتم غالبًا محاولة تأسيس الأفكار الأجنبية الواردة على بعد عميق في المصادر الرافدة. وبالتالي حاول بدوي بدوره أن يؤسس للوجودية في الوعي الإسلامي العام، فعقد تلك الصلة الشهيرة بين الفلسفة الوجودية والتصوف الإسلامي، من أجل تأسيس وعي وجودي ينهض بحال مصر والدول العربية.
وفي كتابي بدوي الأساسيين اللذين تعرض فيهما لهذه الصلة: (الوجودية والإنسانية في الفكر العربي) و(شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية) حاول بدوي تأويل مراحل التحول الحياتي Lebenswandlung في سير المتصوفة باعتبارها لحظات صحوة وجودية، واستجابة للضمير بالمعنى الهيدجري لانتشال الذات من الآخر الشائع والسائد. وبالفعل فقد نشأ التصوف في الإسلام كاتجاه نظري معارِض، يختلف في المنهج والأهداف عن نشأة العلم النظري السائد الآخَر ألا وهو علم الكلام. فبينما حاول مؤسسو علم الكلام الإسلامي النظريون (المعتزلة) تأويل النصوص بهدف تنزيه الذات الإلهية، حاول المتصوفة تأويلها من أجل نوع من أنواع أنسنة الإله، أو تحقيق صلة بين الإله والإنسان، تلك الصلة التي تمثلت مثلاً في المسيحية في أقنوم (الابن)، وغابت عن الإسلام في إطار معركته ضد الوثنية والشرك وشتى مظاهر تعدد الألوهية. ولذلك بدا التصوف في الإسلام اتجاهًا معارضًا بالنسبة لعلم الكلام الإسلامي، عكس التصوف المسيحي الذي اتسق مع اللاهوت المسيحي باعتبار المسيحية دينًا صوفيًا بشكل تلقائي. ثم أنتج التصوف الإسلامي أصولاً دينية وفقهية مختلفة، وصارت له أصول فقه مستقل مثلما هو الحال في (إثبات العلل) للحكيم الترمذي مثلاً (ت 295-320 هـ).
مثلَ التصوف حركة أصيلة لتحقيق الذات الإنسانية بشكل أصيل بما هو مختلف ومعارِض، ومن هنا جاءت محاولة عبد الرحمن بدوي لتأسيس وتأصيل هذه الصلة بين الوجودية وبين التصوف الإسلامي، حيث أكد على أن التصوف الإسلامي يشتمل على مبدأ أسبقية الوجود على الماهية.
وإذا كان مشروع بدوي الفلسفي-الاجتماعي قد انتهى تقريبًا بحلول عام 1954، وهجرته إلى الخليج وليبيا ورحلاته إلى أوروبا، ففي نفس العام سافر حسن حنفي إلى فرنسا ليحصل على منحة من السربون لدراسة مناهج التفسير من منظور الفلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجيا). وقد ترجم حنفي رسالتيه للدكتوراه اللتين أعدهما في فرنسا تحت عنواني (تأويل الظاهريات) و(ظاهريات التأويل)، وفيهما تعرض إلى الصلة المنهجية بين الفينومينولوجيا ومنهج الصوفية في المعرفة والتفسير في الإسلام. فإذا كانت محاولة بدوي محاولة لتأصيل معتقَدٍ (أسبقية الوجود على الماهية) أو حركةٍ فكريةٍ (الوجودية عمومًا) عميقًا في الوعي الإسلامي، فقد جاءت محاولة حنفي لتأصيل منهج استعمله الفلاسفة الوجوديون وطوروه هو المنهج الفينومينولوجي.
حاول حنفي في رسالتيه للدكتوراه المذكورتين، وفي مؤلفه الأساسي في علم أصول الفقه (من النص إلى الواقع: تكوين النص، بنية النص) دراسة الوعي الإسلامي باعتباره وعيًا ثلاثيًا (الوعي التاريخي، الوعي النظري، الوعي العملي)، وذلك بمنهج فينومينولوجي، رأى أنه منهج أصيل غير وافد تمامًا (وهي نقطة أساسية عند حسن حنفي صاحب مشروع التراث والتجديد) ورأى أن له أصولاً في منهج الصوفية في تحليل الخبرات الشعورية في المقامات والأحوال.
ولكن الصلة بين الوجودية وبين التصوف الإسلامي لم تكتمل بعد في الفكر العربي المعاصر بعد بدوي وحنفي؛ فقد أحدث الوجوديوين، وخاصة هيدجر، نقلة هامة في نظرية التأويل أو الهرمنيوطيقا، حين اعتبر هيدجر المعرفة الإنسانية أصلاً تأويل، وليست تلقيًا، وتعتمد على خبرة معيشة حية من أجل التوصل إلى وعي، ومن جانب ثان ألقى هيدجر الضوء على العلاقة بين الفهم الإنساني باعتباره تأويلاً وبين أسلوب الوجود الإنساني، فكيفما يفهم الإنسان يكن، ومن جانب ثالث ألقى الضوء على علاقة هي معكوس العلاقة الأخيرة: أن أسلوب الوجود الإنساني المستهدَف من قِبَل الفرد يحدد منهجه في التأويل. هذه الهرمنيوطيقاالفينومينولوجية التي طورها الوجوديون يمكن الاستفادة بها في إعادة دراسة التفاسير الصوفية للقرآن باعتبارها أساليبَ للوجود الإنساني، أو مشروعات له، كما يمكن الاستفادة بها في إنتاج تفاسير جديدة ظاهراتية كاملة للقرآن لإعادة تأسيس الوعي الإسلامي، وفتح ممكنات جديدة للوجود، أو تحرير هذا الوعي من المسلمات التفسيرية والعقَدية السابقة والمسبقة.
كريم الصياد
(مدرس مساعد بقسم الفلسفة بكلية الآداب-جامعة القاهرة-مصر، ويدرس حاليًا للدكتوراه في علوم التأويل في ألمانيا الاتحادية)
Köln