تحقيقُ المُراسلة بين ابن سينا وشيبان الرّاعي

تحقيقُ المُراسلة بين ابن سينا وشيبان الرّاعي

في تحقيق المراسلة

بين ابن سينا وشيبان الراعي

د. عبدالسلام حيدر*

 

في بداية الجزء الخامس من الخطط التوفيقية يتحدث علي باشا مبارك عن مراسلة بين ابن سينا وشيبان الراعي؛ ففي سياق حديثه عن “شيبان الراعى” قال أنه كان من رؤساء الزهاد وأكابر العارفين، وأن الإمام الغزالي قال فى “أحياء علوم الدين” إن الشافعي كان يجلس بين يدي شيبان الراعي كما يقعد الصبى فى المكتب، وأن الشافعي كان يسأله كيف يفعل فى كذا وكذا، وحين سُئل الشافعي: مثلك يسأل هذا البدوى؟! قال الشافعي: “إنه وفق لما علمنا، وله أحوال ساميات”. وبعد هذه المقدمة عن مكانة شيبان الراعي يأتي نص المراسلة بينه وابن سينا:

 وكتب له أبو على بن سينا: “الحكمة صناعة نظرية يستفيد منها الانسان تحصيل ما عليه الوجود باسره فى نفسه، وما عليه الواجب فيما ينبغى أن يكتسبه بعلمه وتشرف بذلك نفسه، ويستكمل، ويصير عالماً معقولاً مضاهياً للعالم الموجود، ويستعد للسعادة القصوى فى الآخرة، وذلك بحسب الطاقة الانسانية”.. “والعقل له مراتب، وأسماء بحسب تلك المراتب، فالأول هو الذى استعد به الإنسان لقبول العلوم النظرية والصنائع الفكرية، وحَدّه غريزة يتهيأ بها إدراك للعلوم النظرية، ثم يترقى فى معرفة المستحيل والممكن والواجب، ثم ينتهى إلى حد يقمع الشهوات البهيمية واللذات الحسية، فتتجلى له صور الملائكة إذا تحلى بحليتها، فيعاين الحقائق الدائمة، ويعلم بذاته وموضوعه ولماذا خلق”.

فأجابه – شيبان الراعي – بما نصه: “من الأبله الأمّيّ، إلى الحبر أبي علي بن سينا، وصل كتابك مشتملا على ما فيه العقل وحقيقته، وقد ألفيته وافياً بمقصودك لا بمقصودى، ولست ممن قنع عن الدر بالصدف، واقتنى علوماً لم يؤمر بها، فاستغرقت فيها همته، حتى زلت به قدم الغرور فى مهواة من التلف، وكل ما تذروه رياح الموت فالهمة تقتضى تركه والسلام”([1]).

بالطبع من يقرأ هذا النص سيتبين له أن علي باشا مبارك قد أخطأ وزلت به القدم لأسباب عدة، أولها: أن هذه المراسلة من الناحية التاريخية منتحلة ولا ريب! لأن ابن سينا لم يدرك شيبان الراعي، بل بينهما زمن طويل، فشيبان الراعي إما أنه توفي سنة 158هـ كما ذكر ابن تغرى بردى في “النجوم الزاهرة” أو كانت وفاته سنة 170هـ كما ذكر خليل بن أيبك الصفدي في “الوافي بالوفيات”. أما ابن سينا فكانت ولادته في سنة 370هـ أي أن بينهما قرنين من الزمان على الأقل، ومن ثم فلا إمكانية للمكاتبة بينهما.

ورغم ذلك فإن الفقرة الأولى من الرسالة المنسوبة لابن سينا هي من كلامه، فهي منتزعة من أحد مؤلفاته التي تعود في الغالب إلى المرحلة الأولى من تطوره الفلسفي، أي المرحلة الأرسطية أو المشائية.

وكما نعرف فإن نتاج ابن سينا عادة ما يقسم لمرحلتين: مشائية وإشراقية. المشائية: نسبة إلى مدرسة أرسطو التي أنشأها بعد عودته لأثينا، وكانت تسمى “اللوسيون” وكانت تتميز بأن الدروس تلقى على تلاميذها أثناء “المشي”، لذا سُمي تلاميذها بالمشائين، وقد انسحب المصطلح على من تبعهم من فلاسفة المسلمين، وأبرزهم ابن سينا في مرحلته الأولى، ففي هذه المرحلة كان يحذو حذو أرسطو وتلاميذه وينتهج طريقة أهل النظر والبرهان، كما بسطها في كتابه “الشفاء” (418هـ)، الذي لخصه في كتابه المعروف “النجاة”.

 أما المرحلة الإشراقية فقدّم فيها فلسفة تمتاز بنزعة صوفية إشراقية، وانتهج فيها – أو حاول – طريقة أصحاب الذوق والحال. وأبرز كتبه في هذه المرحلة كتابه “الإشارات والتنبيهات”، وكتاب آخر وعد بتأليفه ولكن يبدو أنه لم يؤلفه بعنوان “الفلسفة المشرقية”. هذا إلى جانب القصص الفلسفية الرمزية مثل “حي بن يقظان” و”رسالة الطير” وغيرهما.

وبمراجعة نصوص ابن سينا في المرحلة المشائية سنجد أن الفقرة الأولى من الرسالة التي يزعم على باشا مبارك نسبتها إلى ابن سينا منتزعة بالفعل من رسالة (مقالة) لابن سينا عنوانها “فى أقسام العلوم العقلية”، ضمن كتاب “تسع رسايل فى الحكمة والطبيعة”([2]).

أما الرد على رسالة ابن سينا المزعومة فليس لشيبان الراعي، ولكنه مقتطف من رد المتصوف التونسي المعروف أبو علي الحسن بن محمد بن عمران النفطي (ت. 621هــ) على رسالة طويلة لمعاصره المتفلسف أبي يعقوب الطُري. وقد ورد نص الرسالتين – رسالتا الطُري والنفطي – في كتاب “سبك المقال لفك العقال“، للمؤرخ التونسي عبد الواحد بن الطواح وهو من مؤرخي القرن الثامن الهجري. وفي رسالة الطٌري نجد أيضاً أصل ما ينسبه علي باشا مبارك لابن سينا، فالطُري فيما يبدو مشائي متأخر يقتفي أثر ابن سينا، فهو يقتبس فقرة ابن سينا – بنصها – ويدمجها في أول رسالته إلى أبو علي النفطي. أما الفقرة الثانية في الرسالة التي ينسبها علي باشا مبارك إلى ابن سينا فهي اختصار لبقية رسالة الطُري! مما يجعلنا نؤكد أن “سبك المقال” هو مصدر المراسلة المزعومة بين ابن سينا وشيبان الراعي. والدليل على ذلك أيضاً أن رد النفطي على الطُري هو أيضا أصل ما ينسبه علي باشا مبارك لشيبان الراعي، ويمكن تبين ذلك في أول فقرتين في رد النفطي ونصهما كما يلي:

“من شيبان الأبله الأمي إلى الحبر أبي يعقوب: “ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق”.

أمـا آن مـن صبح الرشاد تنفسُ // وحـتى متى ليل الظلام معسعسُ

تراني أرى فجرى الهدى متعرضا // فـيـنزع للترحال صبٌّ معرّس

ومـا حـذري إلا شُعوبُ مغيرة // [مـا لاح إصباح] وأشمط حندس

أما بعد: فإن كتابك ورد مشتملا على ماهية العقل وحقيقته. وقد الفيتُه وافياً بمقصودك غير واف بمقصودي. ولست ممن قنع عن الدر بالصدف، واقتنى علوماً لم يؤمر بها شرعاً، فاستغرقت فيها همته حتى زلت به قدم الغرور في مهواة من التلف، وكل ما تذروه رياح الموت فالهمة تقتضي تركه”([3]).

إذن فالمراسلة المزعومة بين ابن سينا وشيبان الراعي كانت نتيجة للعبث بنص المراسلة الحقيقية بين الطُري المتفلسف والنفطي المتصوف كما وردت في كتاب “سبك المقال”.

وبالطبع ليست لدينا معلومات دقيقة عن منتحل الرسالتين، فإما أن يكون علي باشا مبارك هو الذي يقف خلف عملية القص واللصق والتزوير، وإما أنه كان يحشو كتابه بكل ما يقع عليه أو يؤتى له به دون تحقيق علمي! وكلا الأمرين يتركان الباحث في حيرة أمام نتاجه الذي يوصف عادة بالتنويري! والحقيقة قد نجد له مندوحة في أن الرسالتين خادعتين، لأنهما من عمل مطلع على تاريخ الفلسفة الإسلامية وصراعاتها مع التصوف!

 فالمراسلة بين الطُري والنفطي معبرة وبصدق عن صراع حقيقي في نطاق الفكر الإسلامي بين اتجاه الفلسفة المشائية كما مثله ابن سينا في مرحلته الأولى واتجاه التصوف الفلسفي. وهذا يعود على الأرجح لاختلاف طبيعة هذين الاتجاهين منهجاً وموضوعاً؛ فالفلسفة تعتمد على النظر العقلي والاستدلال والبراهين المنطقية، بينما التصوف يسلك طريق المجاهدة والمشاهدة، ويتكلم بلسان الذوق والإلهام والمواجيد، ويهدف الوصول إلى المراتب العليا أو مراتب أولى الصدق كما يقول ابن طفيل! أما من حيث الموضوع فالفلسفة تسعى إلى معرفة الأشياء عامة فتنظر في الإنسان وسلوكه الأخلاقي والسياسي كما تنظر في الكون وحقائقه (طبيعية كانت أو ما وراء طبيعية)، وهنا قد تبحث في موضوع معرفة الله وهو الموضوع الرئيسي للتصوف، أو بمعنى أدق مجال الاصطدام بين الفلسفة والتصوف.

كان ابن طفيل رغم اقتفائه أثر ابن سينا يرى أنه وقف عند مرحلة أهل النظر، وهي رتبة يُنتهى إليها بطرق العلم النظري والبحث الفكري، أما المتصوف فمقصوده أن يصل إلى مرحلة أهل الولاية، ومراتب أولى الصدق وهي مرحلة لم يصل إليها ابن سينا وإن تنسمها في مرحلته الإشراقية، أما من حققها – في رأي ابن طفيل أيضاً – فهو الإمام الغزالي. ومنذ عصر الغزالي ورد ابن رشد عليه ونحن نقف وبوضوح أمام لونين من المعرفة في نطاق الفكر الإسلامي: معرفة نظرية يمثلها ابن سينا وعمادها المنطق وتستخدم التحليل والتركيب والنظر العقلي لتصل إلى نتائج معرفية ونظرية تفيد في الواقع. ومعرفة صوفية حدسية تقوم على الكشف والإلهام والتذوق وهي مقصود المتصوفة منذ شيبان الراعي وحتى النفطي مرورا بالغزالي في مرحلته الأخيرة، وهي في رأيهم كفيلة ببلوغ الحق اليقين بعكس ما ينصح به ابن سينا والمشائين.

والملاحظ أن هذا الصراع كان يزداد حدة نتيجة للتطور في نطاق التصوف لا الفلسفة. فالمتصوفة حتى القرن الثالث الهجري كانوا يسمون بالعباد والزهاد والنساك أو الفقراء! وكان التصوف في بدايته يدور حول التخلق بالأخلاق الدينية، وكان يقال في تعريف التصوف أنه “الدخول في كل خُلق سني والخروج من كل خلق دني”([4]). وبعد ذلك انتقل البحث في التصوف من كونه نسكاً وعبادة وزهادة وفقراً إلى كونه تدرجاً في أحوال معينة ومقامات محددة، حتى تتجرد نفس الصوفي من العوارض الشهوانية ويبلغ مراتب أولى الصدق أو يبلغ الحال التي يكون فيها مع الحق سبحانه! وهنا قد ينطق الصوفي بكلمات أشبه بالشطحات حيث تمحى الرسوم الفردية ولا يشعر بوجوده، وإنما بوجود الله فقط. ومن ثم تجد المتصوفة يتحدثون عن الإلهام والتجليات والمشاهدات والمعاينات. وهذا ما لم يعجب الفلاسفة أصحاب المنطق والنظر العقلي. أما من دافع عن المتصوفة مثل شيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ت. 926هـ) فكان يرى أنه لا يجوز لمن لا يعرف مصطلح المتصوفة أن يتكلم فى حقهم بشر، “لأن دائرة الولاية تبدأ من وراء طور العقل لقيامها على الكشف”.

وإذا عدنا إلى نص علي باشا مبارك مرة أخرى سنلاحظ أن الرد المنسوب لشيبان الراعي يُعلي منهج المتصوفة وطريقهم على حساب منهج المتفلسفة وطريقهم، لذا فالأرجح بالنسبة لي أن على باشا مبارك وقع ضحية للسماع من شخص ينتمي إلى بعض الطوائف الصوفية التي اعتادت الدعوة إلى مذهبها بوضع قصص منتحلة على لسان شيبان الراعي وغيره من قدامى المتصوفة كي تشرح من خلالها الفرق بين منهجهم ومنهج غيرهم من أهل الفلسفة أو أهل الشريعة. ولكن التحقق من هذا الأمر يحتاج إلى دراسة أخرى لبنية كتاب “الخطط التوفيقية” وبيان موارده!

د. عبدالسلام حيدر

(كلية العلوم الإسلامية ببروكسل)

ahedar@hotmail.com

 

هوامش:

*د. عبد السلام حيدر (Dr. Abdelsalam Heder) كاتب ومترجم مصري من مواليد الجيزة سنة 1965. حصل على دكتوراه الفلسفة في الآداب من جامعة بامبرج/ ألمانيا سنة 2002. يقيم ويعمل في بروكسل ببلجيكا منذ 2007. من مؤلفاته: “الأصولي في الرواية”، المشروع القومي للترجمة القاهرة 2003. “الاستشراق الألماني وتاريخ الأدب العربي”. “فكر وفن” (81، 2005). “الفلسفة الإسلامية وتراث اليونان” (بروكسل 2011). ومن ترجماته: أنّا مارى شيمل: “الشرق والغرب”، المشروع القومى للترجمة (2004). ينس زونتجن: “فكر بنفسك! عشرون تطبيقًا للفلسفة”، (المحروسة 2006). هرفريد مونكلر: “إمبراطوريات. منطـق السـيادة الكـونية”، مشروع ليتركس (Litrix.de) (ميونخ 2008). فرانك آدلوف: “المجتمع المدني، النظرية والتطبيق السياسي”، (المحروسة 2009). ومن تحقيقاته: الأعمال الكاملة لإبراهيم عبدالقادر المازني التي ينشرها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة.

 

([1]) علي باشا مبارك: الخطط التوفيقية، المطابع الأميرية ببولاق 1305هـ/ 1888م (5/29).

([2]) ابن سينا: “تسع رسايل فى الحكمة والطبيعة”، دار العرب بالفجالة سنة 1926، (ص 105-106).

([3]) عبد الواحد بن الطواح: سبك المقال لفك العقال، طرابلس الغرب 2007، (ص 79-82).

([4]) أحمد فؤاد الأهواني: الفلسفة الإسلامية، القاهرة 1985، (ص 26).

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!