حدّثني قلبي
تأملاتٌ إنسانيّة
بقلم: خالد محمّد عبده
1-الحمد لله ما زال في الحياة حياة تستحق أن تعاش.. ما زال بالقلب شغف ومحبة وإحساس.. أعجبتني بعض المواد المرئية التي أظهرت صاحبها على طبيعته بعد غيبة، ووصفه الناس بالجنون والخلل والمرض لأنّه تحدّث كما يشعر! رددت بعد رؤيتها: أنا على ثقة أننا نعيش شيئا من الصدق والصراحة، وما يزال هناك أمل في هذا الوقت القصير المتبقي.. لو رأى الناس الشمس ساطعة وأخبروك أن هذه الشمس ستطلع عليك في كهفك لا تصدّقهم! أغلب العيون عليلة لا تبصر ولا ترى شيئا صحيحا.. لو أخبروك أنّ لعلّتك دواء لا تصدّق. عش مرضك! صدقني سيسعدك البكاء ويورثك الضحك. لا يزال في الحياة حياة لكنك لن تبلغها وسط هذه الحشود الغائبة! الحمد لله على كلّ صبح تنفس لأجلنا وعلى كلّ ليل ستر ضعفنا وعلى كلّ إنسان كان معنا في هذه الرحلة بكلمة أو بفعل أو دعاء.. الحمد لله على أننا ما نزال مستمرين في الرحلة!
2-ليس في شبه الجزيرة العربية أحدٌ مثل محمّد.. يقول المشاهدون لحالها: كيف خرج هذا الرجل الحكيم من هذه البقعة؟! يتعجّب الناس ويسألون عن ذلك ليل نهار. ويحلو لسادة الأرواح الصوفية أن يرددوا “إنّ هذا الكون خُلق من أجل محمّد” فهو الحقّ وبه الحقيقة وهو النور الذي أضاء سراجه من معدن الكرامة.. قد يبدو لك هذا عجيبًا وغريبًا فما عرف أحد العرب إلا وكفر بالحكمة وفارق الوجود واقترب من العدم.. ورحل من آفاقهم إلى ما دون الآفاق حتى لا يُمتحن في إنسانيته ويخسر ما يربطه بالجوهر الصفوي الباقي.. حسبك من ذلك ما وصلت إليه بذاتك فإن عرفتْ سريرتك ما يجلو الصدأ حافظ عليه.. وكلّ ما يحول بينك وبين الحبيب أزله! كأس خمرك هي أجمل خمر.. ما دخل في جوفك منها يثمر ريًّا حقيقيا وانتعاشا لا شبيه له.. طعامك ليس ثمّة ما هو أجمل منه.. زرعك الذي تسقيه كلّ يوم لا يعطش لريّه غيرك! يمرح بك وتفرح به ِ. لن يرى أحد ثمره أو يشم رائحته غيرك!
3- أحبُّ القهوة والسجائر وأرى فيهما نعمة من نعم الحياة.. أحبّ البحث في بطون الكتب.. أحبّ أن أحكي مع إنسان حيّ وطبيعي لا يتخلى عن حياته لأجل ما يريده غيره… أحبّ الضحك واللهو وإن كنت لم أعد كسيرتي الأولى أضحك وألهو.. أحبّ مساعدة الناس…أحبّ تمارين اليوغا.. أحبّ أن أستمع إلى كلّ ألوان الموسيقى.. أحبّ رؤية الزرع ولونه الأخضر… أحبّ أن أشهد المواقف الإنسانية لحظة رؤيتها فتلك اللحظة لا تعوّض.. ينتفض الجسد من سلاسله ويترك المجال للروح كي تتنفس.. أن يكون المرء رهينا للأعمال التي لا يحبّها يدمّر ما تبقى من حياته.. لأكن عاقلا وأفعل ما أحبّ ما دام في استطاعتي أن أفعل.. أما العيش في الأماني والبكاء على ما ضاع بسبب الأغيار لا معنى له.. لتكن تسبيحتي: كلّ ما يحول بينك وبين المحبوب أزله حتى تحيا!
4- أضغاث أحلام!
بعد سنوات عدة تكتشف أنك لم تعش حياتك بعد. تمضي قدمًا لتحيا من جديد.. بشكرٍ وامتنان لكلّ ما مضى وكلّ من مرّ في حياتك.. الجيد والسيء! الكلّ كان مفيدا لك في هذه الرحلة القصيرة.. تركتَ شيئا منك فيهم، وجزءٌ منك تكوّن بفضلهم.. يمكنك الآن أن تسخط كما تشاء.. تغضب.. تسبّ وتشتم.. قلْ ما شئت.. لكنّ الرحلة القصيرة تقتضي منك ألا تلتفت إلى خطى مشيتها.. ما تزال الطريق ممتدة لتكمل المسير وتحيا من جديد!
يمكنك أن تسرد حكايات الماضي كما تشاء.. لن تصبح أقوالك جزءا من سفر التثنية ولن تشغل أحلامك البشر كرؤيا دانيال ولن تصبح قصتك عبرة كقصة أصحاب الكهف أو الأخدود.. كلّ ما مضى لن يكون أسطورة.. تستطيع أن تؤمن به وحدك في صمت وهدوء.. ما عاد الناس يصبرون على عظة الأحد وقد زهد أصحاب الجباه الساجدة في الخطب العصماء.. فلمن تروي حكاياتك أيها المسكين!
بعد هذه الرحلة القصيرة من الجيد أن تسقط الأحكام من حسابك.. أن تخفف الثياب والألوان.. أن تغتسل كلّ يوم لتحافظ على نضارة قلبك.. أن تترك نفسك كريشة تحرّكها الرياح كما تشاء.. لا تؤمن بالواجب والضرورة واللازم وتحمد لقلبك عدم إيمانه بالشائع.. أن تبتسم كثيرا لكلّ شيء تمرّ به ويعبر سريعا. عام جديد سعيد لك ولكلّ المحبّين للحياة!
5- على الإناء أن يكون فارغًا قبل أن يرتّل: أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا.
يفرح القارئ حينما يجد في نصّ من النصوص ما يلبّي رغائبه أو يوافق فكرته عن شيء ما.. وهذا جميل ومريح بالفعل.. لكنه لا يعني بأيّ حال من الأحوال أن يكون ما في ذهن القارئ نفس ما دار في ذهن الكاتب.. إلى هنا تبدو الأمور طبيعية.. لكنّ أنانية القارئ تفرض نفسها عليه فيسير مع ذاته وخياله ليفرض على النصّ ما لم يقله أبدا.. خذ مثالًا على ذلك ما قاله الروميّ عن كون العشق أخذ منه التسبيح والصلاة وأعطاه الشعر والرقص والغناء. الاقتصار على صورة النصّ يجعلنا أمام شخص لا علاقة له بالدين والإرشاد والتعليم.. وكأنّه يقول حينما عشقت زهدت في كلّ صور العبادة واستراحت نفسي للرقص وسماع الموسيقى فحسب.
كذلك الأمر حينما تكلّم عن القرآن وعدم استحسانه لاهتمام العالم بعلوم ترتيله وحفظه وبُعده عن فهمه وتمثّله والوعي بحالات الإنسان الذي تنزّل عليه القرآن وكيف للقرآن أن يخاطب أناسًا أتوا بعد نزوله بقرون عديدة.
أغلبنا يحبّ نفسه أكثر ويحب أن ينتصر لهواه دون أن يسافر ويبحر مع ما أحبه ويتخلّى عن رغائبه قليلا.. ظنا منه أنّه وصل إلى سدرة المنتهى، وما بلغه هو القول الفصل الذي يجب عليه أن يبلّغه للعالمين ويجب على العالمين أن ينصاعوا له ويستمعوا إلى قوله المبين!
6- تمنّيت ألا أولد مسلمًا.. يُقال إنّ المسلمين العرب من أسوأ البشر! هل هناك مسلمون حقًا؟! يسلّمون لربهم حقًّا ويستسلمون؟! لا تتلوّن رؤيتهم لربّهم بنفوسهم وبأمراضهم ومشاكلهم!
المسلمون كغيرهم من أهل الإيمان القشريّ.. تماثيلٌ يمتلئ باطنها بالضجر والقلق والحيرة.. وفي الظلام تخرج من أفواهها رموزٌ وعبارات تحتاج لعلماء يفقهون العديد من اللغات حتى يعلّمونا كيف تجتمع هذه الأشكال في قلب واحد؟! عبارات الإيمان كثيرة في مساجدهم وعلامات التقوى سرعان ما يغسلها اجتماع على هيئة الجنة المتخيلة في أذهانهم! ينكر عليهم غيرهم اهتمامهم بالحسّيات وهم يصمون غيرهم بالماديات.. لو لم يخلق الله كلّ هذا الضجر لاستراح المولود الذي أخبر عنه رسوله مرة أنّه يولد على الفطرة.. لكن الطفل المسكين يريد أن يلوّث هذه الفطرة بما حفظه ولم يؤمن به ولو لمرة ويدّعي أنّه الإسلام!
7- في ذكرى المحبّ العاشق مولانا جلال الدين الرومي
إن استطعت أن تهضم القرآن والكلام المقدّس عند أهل الديانات ولا تتحدث بعدها إلا عن حياتك وحبّك وعشقك وألمك ورجائك وتبني عالمك الخاص بعيدا عن تقليد السابقين والمعاصرين ستكون قد وعيت رسالة المثنوي المعنوي الذي أملاه الروميّ على جنيد زمانه حسام الدين!
إن قرأت الديوان الكبير ولمست تفاصيل تجربة العشق النادرة التي خلّد الروميّ فيها ذكر شمس الدين معشوقه ومعبوده وحياته وألمه ورضاه وبكيت من قلبك وأدهشتك الرحلة العجيبة وفارقتها لتخوض رحلتك مكتفيًا بك وحدك ستكون قد أفدت من دروس هذا العاشق النبيل. لا يعرف الروميّ ولا تتوطد صلته بهذا العالَم العجيب من ظل أسيرا لعالَم الصور الغريب.. من قلّد ودبّر وأشاد وندد وشجب وأنذر ورسم صراطا للعالمين لا يعرف العشق والجنون فضلا عن أن يخبر عنه.
رحمة الله على كل حيّ في الصين أو بغداد أو في مصر أو اليونان قرأ القرآن أو الإنجيل أو لم يسمع بهما من قبل وعاش حياة صادقة، باطنه كظاهره وأحيا بمثاله الطيب الآخرين!
8- زُرع الخوف في قلوبنا فأنبت نباتًا غضًّا ينمو وتحته أصلٌ خبيث.. الخوف أساس حياتنا.. تعاليمنا قامت عليه، هذا حرام وهذا عيب باسم الخوف، هذا لا يليق! نم وأنت قلقٌ أو متوتر.. سِرْ في الطرقات وأنت خائف.. هذا حسنٌ لك! تناول طعامك وأنت خائف فغيرك لا يستطيع أن يأكل! هذه نعمة تستحق الشكر! إذا تعدّى أحد على حرّيتك اصمت وخف حتى لا تتعرّض للمتاعب! إذا أردت أن تكون مسلمًا مصيرك الجنة خف من ربّك، هذا ضمان للحياة السعيدة! إذا أردت أن تكون بارًّا بوالديك خف منهم خوفًا شديدًا.. ارتعب من صوت أبيك.. لا ترفع صوتك فوق صوته أبدًا.. الخوف علامة الاحترام الأكبر. بالخوف تموت ولا تحيا!
10- يختصّ برحمته من يشاء!
يضع في هذا القلب رحمة ويضع في غيره قسوة.. يضع في هذا الإناء ماء وفي غيره خمرا.. يرزق هذا القوّة ويرزق غيره ذكاءً وحكمة.. يهب هذا ملكًا ويهب هذه جمالا.. هذه تسعد بكشف جمالها وهذه تأنس بحجب نفسها.. يصمت هذا ولا ينطق.. ويصبح غيره بليغًا.. يطوي النسيان سيرة أعلام جديرة بالذيوع أعمالهم ويحصل غيرهم على شهرة يشفقون على أنفسهم منها.. يختصّ برحمته من يشاء.. يمنح هذا القلب عشقًا لا حدود له لكن صاحبه لا يمسي شاعرا.. يكتب غيره الغزليات الطوال.. يحلّلها أناس.. ويتمثّلها أناس.. ويطرب لها أناس.. وتبكي عيون قبل أن تتم قراءة بيتين منها.. يختصّ برحمته من يشاء.. ورحمته وسعت كلّ شيء في الآفاق.. ليس كمثله شيء وهو الفرد الصمد!
11- لم تبق في المدن سوى الأضرحة.. لا بشر في الجوار.. الرجل الذي يرتدي ثيابًا باهظة الثمن لا يخرج من فمه إلا التراب.. المرأة التي ترتدي خيمة صحراء العفة قلبها أسود من الليل.. الصبي الذي حكى لك عن أمه التي تعذّبه وتقهره تندّر بخفّة عقلك وفرح بحنكته! لا أحد في الجوار.. فتات بشرٍ.. يكفر بكلّ خلق جديد.. يعرضون هنا ذواتهم وكأنّهم بشر.. يعترضون وما هم بمعترضين.. يضحكون ولا فرح يمكنه أن يتسرب إلى قلبك من أضوائهم المصطنعة.. يخبرونك أنّهم عقلاء ومنطقيون ومقتضى الحكمة أن تفعل كذا وكذا ولا شيء في حياتهم يسير وفق الحكمة.. لا أحد في الجوار.. صورة توضع هنا.. كلمة تُكتب هناك.. ولم يعد للنمل طعام حتى يخرج من شقوقه ليطعمه!
12- سألني اليوم صوفيٌّ سالك عن الكتاب الذي أحبّه.. أو استفدت منه.. لم أتردد للحظة أن أخبره أن كلّ كلمة كتبها جلال الدين الروميّ هي الأفضل عندي.. ليس شرطًا أن نكتب عن مولانا أو نعلّق تميمة تحمل رسم رقصته لنكون على صلة به.. أن نستفيد من تلك التجربة الإنسانيّة الدينيّة في وقتنا هذا مثلما أحسن بعض البشر الاستفادة منها.. مولانا قرّبني من ذاتي وعرّفني على نفسي وجعلني كل يوم أشاهد الحياة في كل شيء من حولي.. مولانا جعل الرسم درجة من درجات البناء وعتبة نتجاوزها لنصعد دون أن نمحوها أو نرفضها. . مولانا علّمني أنّ الذكر ليس بالسُبحة أو بالقلب فحسب.. فمن يصنع رغيف الخبز يذكر ومن يضع لبنة في بناء يذكر ربّه.. ومن يخدم الخلائق يذكر.
لم يشترط مولانا على أحد شرطًا ليصحبه ولم يرفض عاملًا أو تاجرًا أو صنفًا من البشر ليحظى بصحبته.. خاطب الكلّ، العامل في المزرعة والعازف على آلته الموسيقية والحدّاد والسقّاء والواعظ والأمير: تعال لا يهم من أنت ولا من أين أتيت. لم يشترط على أحد التحدّث بلسان أو لهجة معينة أو أسلوب محدد بل قال: تكلّم من قلبك.. نفعنا الله بمولانا ودروسه التي لا تنتهي.
13- الرواية المكتوبة ليست هي الحياة بعينها!
الأدب.. الشعر.. التاريخ.. الفكر.. أغلب ما تقع عليه العين من أحبار جافة لا يعبّر بالضرورة عن سلوك الناطقين به.. الحياة التي نتشاركها مع زهرة نسقيها ونشاهد نموها لحظة بلحظة أعظم من كلّ حرف جاف.. هذه الزهرة لا تقسو على أحد.. لا تمارس عنفًا.. أو تستبد بسلطة.. تتنفس في هدوء.. تبتسم للشمس.. وعند الليل ترحل في صمت وتفنى!