جدلية الشكل والمضمون
في التجربة الصوفية
د. وفاء أحمد السوافطة
التجربةُ الصوفيّةُ تلتقي، في بعض جوانبها، بالتجربة الشعرية أو الفنيّة بالمعنى الواسع؛ فعلى الرغم من أن التجربةَ الصوفية تجربةٌ عقائديّة، فإن كلتا التجربتين تشتركان في كونهما تتعلقان بالتجربة الإنسانية، وتصاعداتها المختلفة نحو الكمال، بغضّ النظر عن الخلفية التاريخية أو الحضارية التي نبعت منها، وبغضّ النظر عن النظريات الفلسفية التي تتمحورُ حولها. كما تشتركُ التجربتان في كونهما حقلاً خصباً للإبداع البشري (الشعري والموسيقي)، فقد كان التصوّف مُلهِماً حقيقياً لكثيرٍ من الفنون، التي من ضمنها الشعر والموسيقى. ومثلما هي التجارب الإنسانية جميعاً، فإن التجربة الصوفيّة عُرضةٌ للتطوّر الاجتماعي الجدَلي([1]) والحركة صعوداً وهبوطاً.
وإن خير ما يعبّر عن الجدل والحركة، في التراث الصوفي، تراتبية المقامات والأحوال الصوفية([2]). فالباحث، في أقوال الصوفية، يجد مزجاً، يصعب فهمه، بين ما تنزع إليه النفس البشرية من جهة، وما تكرهه أو تحجم عنه هذه النفس من جهة ثانية. ومن هذه المفارقات قول أبي يزيد البسطامي (ت 261هـ/875م) ” أريد أن لا أريد”([3])، تعبيراً عن رفض المتصوف للركون إلى إرادته البشرية، وتفعيلاً لهذه الإرادة، حتى تعمل باتجاهٍ معاكس لميولها البشرية([4]). كذلك، تتغيّر أحوال الصوفي من الهيبة إلى الأنس إلى الهيبة مرة أخرى. وضمن هذا الصعود والهبوط، يمكن لنا أن نفهم حالة الفناء عن الذات الإنسانية والبقاء عليها، التي تُصيب كثيرين من المتصوّفة. وكذا نفهم تعريف بعضهم الاتصال بالانفصال([5])، وتعريف المعرفة بالجهل([6]). وكذا نفهم كيف تكون الحرّية لدى المتصوّف هي العبوديّة الكاملة لله([7]).
لكنني سأتجاوز هذا الطرح الشائع لدى بعض الدارسين، لأركّز على قانون خفيّ يتحكّم في جدليّة الحركة داخل التصوف مما ينفي سكونيّته، أو إستاتيكيته Static. فالقوانين، التي تتوالد داخل منظومة التصوّف، هي قوانين حركية أو تحريكية kinetic/Dynamic ، تتفاعل مع المُعطيات وتولّد متغيّرات (طُرُوحات)Thesis ، كما نستشف من مقولة الكلاباذي (ت 380هـ/990م) ” ومادة التصوف، سواء كانت أخلاقاً، أو معرفة، أو سلوكاً، أو تعبيراً عن مشاهدة، أو تصويراً لمناجاة، أو تذوقاً لتجلّيات، أو تحليقاً حول إشراقات، فهي مادة موصولةٌ بالله، قائمةٌ به ولـه” ([8]). فقيّومية صفات الله عز وجل في الأشياء، وخاصّة في منظور التصوّف الذي يتمحور حول مفهوم الألوهية، تشكّل معنىً مناقضاً لمفهوم السكون والجمود.
إن ما ينفي السُكونية عن هذا الموضوع، هو ما يُقصَد بـ “القانون ” داخل التصوف([9])، وهو يتمظهر في التطوّر المضموني، الذي تفاعل داخل الإناء الزماني للتصوف الإسلامي، إذ انتقل التصوف من مضامين زهدية – أخلاقية وعظية، إلى مضامين فلسفية – عرفانية؛ ثم إلى مضامين طُرُقية – اجتماعية.
ويبدو، من خلال هذه الدراسة، أن هذه المجالي الثلاثة ترتبط فيما بينها، ارتباطاً عضويّاً، بمعنى أن كل واحدٍ منها له تأثيرٌ خفيٌ أو جليٌّ في الأُخريين. فتطوّر الطُرقية، ذات الأبعاد الاجتماعية جاء تبعَاً لتطوّر المضامين الزهدية الأخلاقية أولاً، وتطوّر الفلسفة العرفانية التي وصل إليها التصوف ثانياً.
فقد بدأ التصوف زُهدياً أخلاقياً، عندما كان المجتمع الإسلامي، في المدينة المنورة في القرن الثاني الهجري، يتجه نحو الترف والبُعد عن قيم الإسلام الأساسية؛ ثم صار فقهاً، عندما اتجه فقهاء البصرة والكوفة نحو الفقه والكلام والتفسير([10])؛ ثم تطور وصار فلسفةً، عندما احتكّ المجتمع الإسلامي بالمؤثّرات الخارجية؛ وبعد ذلك، أصبح طريقةً، عندما بدأ التفكك والتفسّخ يصيب المجتمعات ويوهن الأُسرة والجماعة الإسلامية، وخاصة بعد اصطدام المجتمع الإسلامي بالغزوات الصليبية والاستعمارية الحديثة. وتظلّ عملية التطوّر الجدلي آخذةً في الصعود والهبوط، إلى ما لانهاية، حسب طبيعة التفاعلات الحاصلة في المجتمع.
وقد التفت الكلاباذي صاحب التـعـرّف إلى هذا البُعد الاجتماعي لهذه الظاهرة، فقال إن تسمية “الصوفية” جاءت تعبيراً عن ظاهر أحوالهم وتركهم الدنيا، في زمانٍ ومكانٍ ما، وجاءت تسميتهم “الشكفتيّة” تعبيراً عن سياحتهم في البراري وإيوائهم إلى الكهوف، إذ إن ” الشَكفَتْ ” بلغة بعض البلدان التي انتشر فيها التصوف تعني الغار والكهف. أما أهل الشام فسمّوهم “جوعيّة” لأنهم “إنما ينالون من الطعام قَدْرَ ما يقيم الصُلب للضرورة”([11]). فالتسميات التي حملها الصوفية كانت تختلف من مكانٍ إلى مكان، وحسب طبيعة النعت الذي يحملونه.
إن التطوّر الاجتماعي واضحٌ للعيان، من خلال مجموع الأسماء التي حملها الصوفية في كل عصر. فقد تطورت تلك الجماعات من كونها مجرد مجموعة من “الزهّادِ” إزاء طغيان المادة والترف، في فترةٍ من فترات الخلافتين الأموية والعباسية، فقد كانوا يلبسون الصوف كنقيضٍ للرفاهية التي تتمتّع بها بعض فئات المجتمع؛ ثم أصبحوا مجموعة من ” الغرباءِ ” عندما يقف العرفان بينهم وبين عامة المسلمين؛ وهم ذاتهم سيكونون “مرابطين”، عندما تعصف بالأمّة رياح الاجتياح الصليبي والاستعماري في ما يأتي([12]). لذلك، يقول كامل الشيبـي إن لبس الصوف أخذ هذا البعد، عندما اشتهر بعض الخلفاء الأمويين وبطانتهم بلبس الخزّ والوشي([13]). وكذلك، كان ظهور الشكفتية احتجاجاً على سُكنى القصور الوارفة والجنان الغنّاء. وكان ظهور الجوعية نقيضاً جدلياً لإقبال الناس على ولائم السياسيين والخلفاء، وأكل المال الحرام([14]).
ومصطلح التصوف، كذلك، تطوّر جدلياً Dialectic، منتقلاً من الدعوى إلى نقيضها، لتحقيق التآلف بين النقيضين. فمبتكرو الاشتقاق اللغوي لكلمة ” تصوُف” كانوا يدافعون عن أصالته. فتطوّر الاشتقاق، معهم، من مدلولٍ “حسّيٍ” يُشير إلى لباس الصوف، إلى مدلولٍ “مضموني ” يتحدث عن محمولاتٍ جديدة، كالرمز إلى الصفاء، أو إلى خصوصية أصحاب الصُفّة. وهذا سَيُـنـتـِجُ طرحاً جديداً في الطور القادم، الذي سيبدأ فيه الحديث عن محمولات فلسفية، كالفناء، والوحدة، ونظرية القطبية، ووحدة الأديان… ألخ.
وقد مرّ التصوف، في كل طورٍ من أطواره الثلاثة (الزهد، والفلسفة، والطُرقية)، بمتغيرات وإرهاصاتٍ حاسمةٍ.
- بدايات زهدية ـ أخلاقية:
ففي الطور الأول، الذي أرّخ له الطوسي (ت 378 هـ/988م) والكلاباذي (ت 380هـ/ 990م)، لم تكن معركة المتصوفة تقتصر على مجرد نوعٍ معين من اللباس، بل كانت معركتهم لإثبات وجودهم على الساحة، بإقرار الجميع بأن هذا اللباس كان لباساً للأنبياء والصحابة والتابعين([15]). وفي هذا الطور، أيضاً، خاض المتصوفةُ معركة الدفاع عن إسلاميتهم. فالذين لا يرون التصوف إسلامياً خالصاً كانوا يردّونه إلى “سوفيا” اليونانية، أو يربطون طقوسه بالزهد الهندي أو الفارسي، أو حتى محاولة ربطه بالتشيّع.
ومن البديهي أن يُجمع الباحثون، على أن بدايات التصوف كانت زُهدية، سواءً أكان هذا الزهد اقتداءً بسيرة الرسولﷺ، في بدايات تحنّثه بغار حراء، أم احتجاجاً على الأوضاع السياسية، وزيادة تأثير المُغريات المادية على الناس في عهودٍ لاحقة. فهذا ابن خلدون (ت 808 هـ/ 1406م) يقول: ” لما نشأ الميل عن الجادّة، والخروج عن الاستقامة، ونسي الناسُ أعمال القلوب … فاختصّ أربابُ القلوب باسم الزُهّاد والعُبّاد”([16]). وكذلك عمر فرّوخ يعتبر أن الصوفية حركةٌ بدأت زُهداً وورعاً، ثم تطورت فأصبحت نظاماً شديداً في العبادة([17]). أما (جولدتسيهر)([18])، بدوره فيفرّق بين تيارين مختلفين، في التصوف، الأول: تيار الزهد، وهو قريب من روح الإسلام. والثاني: التصوف بمعناه الدقيق، وما يتصل به من كلامٍ في المعرفة والأحوال والمواجيد والأذواق([19]). ويظهر أن فرّوخ وجولدتسيهر وغيرهما، تأثروا، في تقسيماتهم تلك، برأي ابـن خلدون، في مقدمته، إما بالنقل المباشر عنه، أو بالنقل عمّن اقتبسوا منه. فقد قسّم ابن خلدون أهلَ الشريعة وعلماءها إلى صنفين: أولاً ـ الفقهاءُ وأهلُ الفتيا والأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات. وثانياً ـ أهلُ المجاهدات ومحاسبة النفس والكلام في الأذواق والمواجد العارضة([20]).
إذن، فالتصوف الإسلامي، في بداياته، كان يتجه، في أغلبه، نحو الزهد والورع، وسيلةً لحماية الدين الإسلامي مما وصل إليه على أيدي السياسيين المتناحرين، والفقهاء المتشدّدين. ثم، اتجه أغلب أتباعه نحو تعميق فلسفةٍ عرفانية تتناول قضايا غيبية (ميتافزيقية)، كعلاقة الإنسان بالله، وموقع الإنسان في الوجود. وقد جاء التصوّف، نتاجاً طبيعياً للتطوّرات السياسية والاجتماعية والفكرية، في كل طورٍ من أطواره. فالصراع السياسي ما بين الأمويين وأعدائهم، من الشيعة والخوارج، أظهر التصوّفَ حركةً احتجاجيةً على الهبوط بالخلافة إلى هذا الدرَك. كما أن إقبال مُترَفي بغداد ودمشق على بناء القصور، والإقبال على المال واللهو، أفرز حركة ” الجوعية ” في الشام، و”الزهّاد” في بغداد. ولم يكن ممكناً أن تظهر هذه الحركة دون مقوّماتٍ فكرية تميّزها عن الفقهاء المتشدّدين حول حرفية النص الديني، وعن شطحات الفلاسفة المتأثرين بالرافد الإغريقي؛ فظهر الفكر الصوفي، بشكله الناضج، على مراحل متدرّجةٍ، كما هو شأن تدرّج أحوالهم ومقاماتهم.
يقول مصطفى عبد الرازق (ت 1366هـ/1946م) أن لفظ “صوفي” أطلق، بادئ ذي بدء، مُرادفاً للزهد والعبودية والفقر، حين لم يكن لهذه الألفاظ معنىً يزيد على شدة العناية بأمر الدين ومراعاة أحكام الشريعة. ثم، تحدّث الناس في الأمور الدينية، على نظامٍ علمي. ثم، نشأ التدوين، فكان أول ما توجهت إليه الهمم، وانصرفت إليه الأفكار، علمَ الشريعة، بمعنى الأحكام العملية. هنالك، تطوّر معنى التصوف إلى ما يناسب الكمال في الدين، وأدّى هذا إلى نشأة علم التصوف، إلى جانب العلم الفقهي([21]). وحسب هذا التحليل، فإن التصوف كان طريقاً من طرق العبادة، يتناول الأحكام الشرعية، من ناحية معانيها الروحّية وأثرها في القلوب. وبذا، فهو يقابل علم الفقه. ثم، انتقل فأصبح طريقاً للمعرفة، يقابل طريق أرباب النظر من المتكلّمين([22]).
هذه النقلةُ المعرفية، التي طرأت على مضامين التصوف، يمكن أن نستلمحها في كتب (القوم)([23])، التي انصبت على أربعة أبحاث رئيسة: المُجاهَدات، وما يحصل عنها من الأذواق ومحاسبة النفس؛ والكشف والحقيقة المُدرَكة من عالم الغيب، مثل الصفات الربانية؛ والتصرّفات في العوالم والأكوان، بأنواع الكرامات؛ وألفاظٌ موهِمةٌ في الظاهر، صدرت عن كثيرٍ من أئـمة (القوم)، وتُعرف لدى بعض الـدارسين بـ (الشطحات)([24]).
- المرحلة الفلسفية ـ العرفانية:
عند الحديث عن الطور الثاني، الذي أرخ له السُلمي (ت 412 هـ/ 1021م)، والهُجويري (ت 465 هـ/ 1073م)، والقُشيري (ت 514هـ/ 1120م)؛ نجد أن معنى التصوف، أو مصدر اصطلاح ” تصوف ” استقى من المضامين الزهدية والأخلاقية، وهذا سينعكس، بشكل مباشر، على الطور الثالث، من أطوار التصوف (طور الطُرقية)، حين خاض المتصوفة معركتهم النهضوية ضد المستعمرين، أولاً، وضد التخلف والضياع ، ثانياً.
كما يمكن رصد النقلة المعرفية بدقةٍ أكثر، عندما نتابع هذا الطَور الثاني من أطوار التصوف، الذي رافق التوسّع السياسي الإسلامي، وازدهار العلوم والترجمات، والانفتاح على الثقافات المختلفة، فجاءت مضامينه فلسفية – عرفانية. فنحن نجد، هاهنا، مؤلفاتٍ عظيمةً، ونظرياتٍ فلسفيةً ضخمةً، مثـّلها تياران:
أ) تيار تأريخي تأصيلي لعلم التصوف مثـّله: الطوسي، صاحب اللُمع؛ ومثـّل هذا التيار، أيضاً، الكلاباذي، صاحب التعرّف، والسُلمي، صاحب الطبقات، ثم الهُجويري، صاحب كشف المحجوب. وهذا بدوره أثـّر في القشيري، صاحب الرسالة.
ب) وتيار فلسفي عرفاني بدأ مع أبي حامد الغزّالي (ت 505 هـ / 1111م)، من خلال مجموعةٍ كبيرةٍ من تآليفه، أهمها المنقذ من الضلال، وإحياء علوم الدين، وتهافت الفلاسفة. ثم ظهرت المؤلفات الفلسفية، لشهاب الدين السهروردي القتيل (ت 586 هـ /1190م) صاحب حكمة الإشراق([25])، ومحيي الدين بن عربي (ت 638هـ /1240م) صاحب الفُتوحات المكّية، وابن سبعين المُرسي (ت 669هـ /1271م) صاحب بُدّ العارف. وعند أعضاء التيار الثاني، سنجد أكثر النظريات الصوفية الفلسفية إثارةً للجدل، كنظرية الحقيقة المحمدية، ووَحدة الوجود، والكلام حول الأقطاب والأوتاد والنقباء، والشطحات، والكرامات، وأسرار الحروف، وصدور الموجودات عن العقل، وصدور العقل عن الذات… وغيرها من الآراء التي نُسبت لهذه الجماعة وفلاسفتها.
بقي لاكتمال ملاحظاتي حول تطوّر المضامين في التصوف، ركنٌ هامٌ، هو تطوّر تعريفات التصوف الذي واكب تطوّر المصطلح الصوفي، وتطوّر المضمون الصوفي. فتعريف “تصوف” الذي كان يركز على الأخلاق الإنسانية في الطورالأول، (طور الزهد والورع)، توسّع في الطور الثاني، ليشتمل على مفهوم وجودي Ontology يعبرُ عن موقفٍ من الوجود، ويصفُ، على الأخص، علاقة الإنسان بالله. فرجالات التصوف من الطبقة الأولى الممتدّة منذ القرن الثاني إلى القرن الرابع الهجري، تكثفت تعريفاتهم للتصوف حول النطاق الإنساني الأخلاقي. فهذا معروف الكَرخي (ت200 هـ/ 816م) سُئل عن التصوف فقال: “التصوف هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق “. وهذا بِشر الحافي (ت 227 هـ/ 842م) يقول: “الصوفي من صفا قلبُه لله” ([26]). وسئل أبو الحسين النوري (ت 295هـ/ 908م) عن التصوف، فقال: “تَـرْكُ كل حظٍ للنفس”. كما وصف الجنيد التصوف بأنه: “تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية…” ([27]).
أما في الطَور الثاني الذي ارتقى إليه التصوف، فقد دخل في تعريفه ما استجدّ لدى المتصوفة، من علومٍ فلسفيةٍ. فها نحن نرى الغزالي، في القرن الخامس الهجري، يعرّف التصوف بأنه ذلك الطريق الذي يتمّ بالعمل والعلم، وأن “حاصل عملهم قطعُ عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله”. فالعلم عندهم ليس التعلّم، بل الذوق والحال، وتبدّل الصفات([28]). كما عرّف ابن عربي التصوف بأنه العلمُ بذات الله، والعلمُ بمواطن الآخرة، أو الوقوف مع الآداب الشرعية، ظاهراً أو باطناً، وهي، بنظره الأخلاق الإلهية ([29]). وأبو الحسن الشاذلي (ت 656هـ / 1258م)، بدوره، عرّف التصوف بأنه تدريب النفس على العبودية، وردّها إلى أحكام الربوبية([30]). وأما ابن سبعين (ت 669هـ/ 1270م) فقد عرّف الصوفي بأنه العالِمُ بالله، العارفُ به، الواصلُ لغاية الإنسان السعيد على الإطلاق([31]).
وهكذا، نلاحظ، في هذا الطَور، اختلاف التعريفات الصوفية لكلمة “تصوّف”، واندغامَها بالفلسفة الميتافيزيقية (الماورائية)، وذلك بتأثير العديد من فلاسفة الصوفية. ونلاحظ، كذلك، أنه، حتى المدارسُ المعتدلة في التصوف، كالشاذلية، فإن تطوراً نوعياً قد طرأ على مضامينها وتعريفاتها. وهذا ما سيظهر، بوضوح عند تلميذ أبي الحسن الشاذلي، ابن عطاء الله السكندري (ت 707هـ / 1307م ).
وعلى صعيد التطوّر الجغرافي للتصوف، نلتفت إلى ملاحظةٍ ذات أهميةٍ كبيرةٍ، إذ إن التصوف الزهدي، في الطَور الأول، قد ازداد انتشاره في مثلثٍ متقاربٍ يتمحور حول ثلاث مناطق هي: بغداد، البصرة، خُراسان. ونلاحظ، هنا أيضاً، أن البدايات الزُهدية لم تنتشر في المغرب وبلاد الشام وشمالي إفريقيا، إلا على نطاق فردي وضيق جداً. ولعل السبب، في ذلك، يعود لتمحور الخلافة حول بغداد. وهذا يؤكد ـ ولو جزئياً ـ بأن التصوف لم يتأثر بالرهبنة النصرانية، وإلا، لوجدناه في الجبال الوعرة أو الصحاري المقفرة؛ لكنه ـ أي التصوف الزُهدي ـ جاء ردة فعلٍ على الترف واللهو، في المدن المتحضّرة، كدمشق وبغداد. ولذلك، لم نجد، من المتصوفة، إلا فئةً قليلةً في مدنٍ مقدسة، كمكة أو المدينة المنوّرة، لخلوّها من الترف واللهو([32]).
لكن، في مرحلة التصوف الفلسفي، انتقل الثِـقَلُ الصوفي، بأجمعه، إلى المغرب العربي وشمالي إفريقيا والأندلس. ففي ذلك الحين، ظهر في مُرسية الأندلسية وحدها ـ على سبيل المثال ـ ثلاثةٌ من أعلام التصوف المتأخرين هم: محيي الدين بن عربي، وعبد الحق بن سبعين، وأبو العباس المُرسي(ت 686هـ/1287م). كما ظهر في الشمال الإفريقي والأندلس، من مفكري التصوف لهذه المرحلة، عددٌ من الأعلام، نذكر منهم: ابن مَسرّة الأندلسي (ت 319 هـ/ 931م)، وعمرَ بن الفارض
(ت 632 هـ/ 1235م)، وأبا الحسن الشاذلي، وابن عطاء الله السكندري، وأحمد زرّوق (ت 899 هـ/ 1493م).
([1]) إن ما يُشار إليه بالجدل Dialecticهنا هو المعنى الفلسفي الذي ورد لدى أرسطو وهيرقليطس وأفلاطون، وطوّره ماركس وهيجل، بمعنى توليد معاني متناقضةٍ ظاهراً؛ حيث يرى هيجل أن عنصر التضاد يظلّ حاضراً في صميم الحقيقة بحيث يشكّل محورها، ويكون من شأنه أن يطوّرها إلى مستوىً أعلى وأوفى. انظر: زكريا إبراهيم، هيجل، القاهرة: مك مصر، 1970، ص ص 144- 146.
([2]) هناك دراسة متخصّصة في مثل هذه المقاربات ما بين الجدل والتصوف، لأستاذي د. أديب نايف، عنوانها: جدل الأضداد في الأحوال والمقامات الصوفية، نشرتها في الجامعة الأردنية بعمّان: مجلة دراسات، ع 4، مج 13، 1986.
([3]) عبد الرؤوف المناوي، الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية (طبقات المناوي الكبرى)، القاهرة، مك الأزهرية للتراث، 1994، ج 1، ص 453.
([4]) أديب نايف، جدل الأضداد، ص 213 .
([5]) الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف، بيروت: مك العلمية، 1980م، ص 127.
([6]) جاء ذلك في قول أبي يزيد البسطامي: ” المعرفة في ذات الله جهل”. انظر: أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، تحق نور الدين شريبة، القاهرة: مك الخانجي، ط 3، 1997م، ص 74.
([7]) أديب نايف، جدل الأضداد، ص 197 و210 .
([8]) مقدمة كتاب التعّرف، للكلاباذي، ص 3.
([9]) عادةً ما تخفى القوانين الداخلية المحرِّكة للأشياء عن أعين الكثيرين. لكن، هناك محاولات لبعض الباحثين لرصد بعض هذه القوانين التطوّرية وبواعثها.
([10]) ابن خلدون، المقدمة، بيروت: الهلال، 1983م، ص 296.
([11]) الكلاباذي، التعرّف، ص ص 21-22.
([12]) يذكر الكلاباذي مجموعة من الأسماء التي أطلقت على الصوفية بحسب حالهم، كالزهّاد، والصوفية، والغرباء، والشكفتية، والجوعية. انظر: م.ن، ص ص 21-22.
([13]) كامل الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيّع، ط 3، بيروت: الأندلس، 1982م، ج1، ص 286.
([14]) علي زيعور، العقلية الصوفية ونفسانية التصوف، بيروت: الطليعة، 1979م؛ وفيه بحث حول التطوّر الدلالي الاجتماعي لاصطلاح (التصوف).
([15]) الكلاباذي، التعرّف، ص 22.
([16]) ابن خلدون، شفاء السائل لتهذيب المسائل، بيروت: مط الكاثوليكية، 1959، ص ص 26-27.
([18]) جولد تسيهر (ت 1340هـ/ 1921م) مستشرق مجري موسوي، رحل إلى سوريا سنة 1873، وانتقل إلى فلسطين ومصر. عين أستاذاً في جامعة بودابست، وتوفي هناك. له تصانيف باللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية. انظر: الزركلي، الأعلام، ج 1، ص 84.
([19]) انظر رأيه، كما أورده أبو العلا عفيفي، في مقدمة كتاب نيكلسون في التصوف، ص (ز). ويعتبر أحمد صبحي، أن الكلام في الحب الإلهي كان هو المنحنى الخطير في افتراق التصوف عن الزهد. انظر: التصوف الإسلامي، ص47.
([20]) ابن خلدون، المقدمة، ص ص 295-296.
([21]) ماسينيون وعبد الرازق، التصوف، ص ص 62-63.
([23]) المقصود باصطلاح ” القوم” هم الصوفية الذين وضعوا قواعد علم التصوف.
([24]) ابن خلدون، المقدمة، ص 298.
([25]) جاء في فرائد نظمه، قوله:
أبــداً تحــن إليـــكم الأرواح | ووصالكم ريحانها والـراح |
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم | وإلى لذيذ وصالكم ترتــاح |
وارحمتا للعاشــقين تحملـوا | ستر المحبة والهوى فضاح |
انظره في: المناوي، الكواكب الدرية، ج1، ص 714.
([26]) الكلاباذي، التعرف، ص 25.
([28]) الغزّالي، المنقذ من الضلال، د.م: مك الجندي، د. ت، ص 43.
([29]) الجرجاني، التعريفات، مصر: مط الوهبية، 1283هـ، ص11؛ ويورده عبد المنعم الحفني بنصّ: هو التخلّق بالأخلاق الإلهية، بالوقوف مع الآداب الشرعية، ظاهراً، فيرى حكمها من الظاهر في الباطن؛ وباطناً، فيرى حكمها من الباطن في الظاهر. فيحصل للمتأدّب بالحكمين كمال. انظر، له: المعجم، ص 45.
([30]) أحمد عياد، التصوف الإسلامي، القاهرة: الأنجلو المصرية، 1970م، ص150.
([31]) ابن سبعين، بدّ العارف، تحق. جورج كتورة، بيروت: الأندلس، 1978م، ص124.