المنهج الصوفيّ.. منهج الكشف والتجربة الأنطولوجيّة
في الخطاب الصوفيّ
تتحدد الأداة المعرفية للتجربة الصوفية، بكونها كشفاً صوفيًّا. والواقع أن كلمة «الكشف» ذاتها قد تكتنف عدة معانٍ بالنظر إلى نظرية المعرفة أو الخطاب الفلسفي عامة وحتى في المتن الصوفي، قد تحيلنا تارة إلى المعرفة النفسية «الحدسية بالمعنى الفلسفي» والسلوك الأخلاقي تارة أخرى، كما أنها توازي في كثير من الأحيان مصطلحات «كالمشاهدة» أو«التجلي» أو«البصيرة»… لذلك كان من الفائدة بمكان نحدد هذا المصطلح في حدود ما توفر لدينا قبل أن نخوض في الإشكالية المعرفية والنظرية لمدلوله من خلال الخطاب الفلسفي.
يتحدد المعنى القاموسي المقابل لكلمة «الكشف» إما بمصطلح «الاستبطان» «introspection» أو بمصطلح «حدس» «intuition» فلننظر إلى هذين المصطلحين:
1- يحدد لالاند مصطلح «introsp» بكونه تلك الملاحظة التي تقوم بها الذات لذاتها إما لغرض معرفة ذاتها كفردية متميزة أو كفردية يمكن ملاحظتها ملاحظة مباشرة. (ونلاحظ هنا أن كلمة الاستبطان لا تمثل إلا الحركة الداخلية، أي معرفة ما ينعكس في داخل الذات)، أما الصوفي في مقابل هذا الفهم فيحافظ على نوع من البسط الخارجي داخل علاقته مع الكائنات الوجودية.
2- أما إذا أخذنا مفهوم الحدس، فنجده عند لالاند على عدة معانٍ رغم أنه يحافظ في آخر المطاف على المعنى الذي يراه أصيلاً، وهو الملاحظة المباشرة والآنية التي تقدم نفس خصائص المعرفة الحسية، وهذا الفهم قد يقدم لنا جانباً من خصائص الكشف الصوفي، ونعني بها علاقة الذات الصوفية بما تتطلع إليه في العالم الحسي، ولكن السؤال الذي يطرح هو: هل الصوفي وهو «يحدس» –بهذا المعنى- أشياء العالم يتعامل معها كمعطيات حسية يتلقاها تلقياً «مباشراً»؟
إن الصوفي لا يهمه المظهر الحسي «للتجلي» لأنه يتعامل في مستوى إلهي، وهذا من شأنه أن يدعونا إلى الحديث عن أشكال وصور تخفي معاني وأسراراً إلهية، إن العلاقة مع المظهر الحسي لا تعطي إلا انطباعات أولية في حين أن الصوفي يمزج الحس «بحساسية باطنة نفاذة تسمى «البصير»، تمكنه من استحضار تلك المعاني الإلهية التي تطبع كل الكائنات الوجودية في الفضاء الصوفي، لذلك نجد «جميل صليبا» مثلاً يحاول أن يقدم تعريفاً للحدس يضعه في صلب الإشكالية المعرفية لدى المتصوفة: «الحدس -عند بعض الإشراقيين- هو ارتقاء النفس الإنسانية إلى المبادئ العالية حتى تصبح مرآة مجلوة تحاذي فيه انحلالاً تماماً»، ونلاحظ الطابع العرفاني الذي يقدمه صليبا للحدس خاصة عندما يضيف: «ويسمى هذا الامتلاء من النور الإلهي كشفاً روحيًّا أو إلهاماً».
لكننا عندما نطرح السؤال: فِيْمَ يتميز حدس الصوفية أو الحدس الكشفي عن الحدس الباطن العامل عند الفلاسفة عامة؟ يجيبنا بشكل لا يمكننا معه أن نحدد أين نبدأ الأول وأين ينتهي الثاني، يقول محدداً أنواع الحدس: «… حدس كشفي، حدس فلسفي، أو صوفي، أعني حدس الإشراقيين…»، هاهنا يضيع التمييز بين الكشف الصوفي و«الإشراقي» والحدس الفلسفي؛ وربما كان هذا الخلط، فيما نعتقد، يرجع أساساً عند صليبا إلى الجمع بين الحدس «الكشفي» كما ظهر عند الصوفية والإشراقيين عامة، وذلك الحدس الذي يشير إليه بعض الفلاسفة من أمثال «باسكال» أو «برغسون»، وهما متمايزان بالرغم مما يظهر للوهلة الأولى من تقاطعهما حول مفهوم الباطن والمعرفة الباطنية، تمايزاً يرجع أساساً إلى الفضاء الذي يخاطب منه كل طرف».
-1-
الكشف: الإشكال المعرفي في الخطاب الفلسفي
يرى «باسكال» أنه يجب رؤية الشيء دفعة واحدة بنظرة واحدة وليس بتقدم وتتابع عقليان، وهو يقابل بهذه الطريقة منهج الهندسة «géométrie» التي تريد -حسب رأيه- أن تعالج الأشياء ذات الطابع «الحساس» «les choses fines»، فهو يكتب ضد هؤلاء الذين يذهبون في العلوم مذهباً أبعد، «écrire conter ceux qui approfondissent trop les sciences»، ولكن كيف تتحدد هذه النظرة التي يحيل إليها باسكال والتي تقابل العقل الهندسي «l’esprit géomètre»؟ إنها التفكير انطلاقاً من الذات، يقول: «إن نظام الفكر هو أن يبدأ من ذاته»، غير أن هذه البداية اعتقادية إيمانية وليست عقلية، إن باسكال يقيم تعارضاً بين المجالين؛ ذلك أنه كان مهتماً بالجدال (إلحاد/ إيمان)، لكنه لا يقدم هذه البصيرة l esprit de fi nesse إلا كشعور عميق بوجود الذات الإلهية، وبالتالي فهي ليست أداة للمعرفة بالمعنى الذي نتحدث عنه وليست كشفاً، إنما الكشف يعتمد عليها.
يتحدث برغسون عن الحدس ويضعه في مقابل الفهم (l’entendement=)، ويعتبره الملكة الحقيقية التي تضعنا في صلب التطور الخلَّاق للعالم، إننا نحدس الديمومة ولا نقيس الزمن، لكن يعترف برغسون بواقعين متمايزين: واقع العالم الخارجي(=الطبيعي/ الاجتماعي) الذي لا يتطلب منا جهداً لتمثله؛ «… لذلك فإن حياتنا النفسية السطحية مرتبطة ببيئة متجانسة «homogène» من دون أن يبذل جهداً كبيراً لهذا العالم من التمثلات»، لكن الطابع الرمزي لهذه التمثلات سيصبح أكثر تميزاً كلما نزلنا تدريجيًّا إلى أعماق الشعور، والحال أن هذا العمق لا تستطيع «اللغة» الإمساك به من دون أن تسقطه في المعنى الشائع والمشترك (=تفقده حيويته)، لكننا نسأل: ماذا يعني هذا العمق ؟ إنه يعني ببساطة الانتباه لاكتشاف الديمومة الداخلية، ولكنه ليس انتباه الفهم وإنما انتباه الفطرة والغريزة فينا لواقع هذا التغيير والديمومة.
إن برغسون يقدم الحدس كأداة معرفية لكن هذه المعرفة يبدو أنها ذات طابع نفسي(=intuition psychologique).
كل فردية إذن تتمكن بوعيها الخاص والعميق النفاذ إلى اكتشاف الطابع الحيوي لعالم النفس، وتكون هذه هي حدود الحدس البرغسوني.
لا ننكر أن الكشف الصوفي يحمل هذا الطابع النفسي من حيث هو بصيرة فردية لليقين (=العلم)، لكن اليقين عند الصوفية يتجاوز الجانب النفسي، لأنه ليس أي فردية -كما في تصور برغسون- قادرة على الاكتشاف، «فهناك مجال «عين اليقين»، وهو ما كان من طريق الكشوف والنوال، وهناك حق اليقين ما كان بتحقيق الانفصال… علم اليقين للأولياء، وعين اليقين لخواص الأولياء». إن هذا التقسيم في الدرجات مرتبط بكون أن الكشف لا يعتمد فقط -كما عند برغسون- على قدرة النزول إلى أعماق العمق لاكتشاف الطابع الإبداعي للعالم، بل إن الصوفي في مقابل ذلك يكتشف العالم وهو مدفوع نحوه باختراق ذاته «transgression»، إنه ليس مجرد انزواء للذات وانكفائها على نفسها، إنه معاناة أمام وفي العالم، فإذا كان الصوفي يدرك الموضوعات في الزمان لا في المكان كما في ديمومة برغسون، فهذا لا يعني أن فعل الكشف هو مجرد استبطان للخارج في الداخل أو إلغاء للظاهر لحساب الباطن، ولكنها على العكس تستبطن الحكمة الإلهية التي تقتضي ارتباط الظاهر بالباطن وكأنهما يملكان وحدة كشفية (=معرفية)، يقول كوربان: «إن الظاهر هو ظهور الباطن، فهو أنهما يكونان وحدة لا تنفصم، وهذا لا يعني أنهما يكونان هوية وجودية واحدة؛ لأنه من الناحية الوجودية ليس الظاهر هو الباطن…»، ويظهر من قول كوربان أن الصوفي يحيل مواجيده وحالاته الباطنية على العالم الخارجي (=الظاهر)، إنها نوع من المشاركة الوجدانية بين الباطن والظاهر، وهذا وحده كافٍ لجعله بمنأى عن الحدس البرغسوني، لأنه وعلى مستوى آخر الكشف الصوفي إذا كان يرفض اللغة الاجتماعية فإنه ينقلها إلى المستوى الأنطولوجي (كرديف للإلهي) الأكثر انفتاحاً على الرموز الإلهية، «.. فمن التزم الصمت في جميع الأحوال كلها لم يبق له حديث إلا مع ربه، فإن الصمت على الإنسان محال في نفسه…».
-2-
الكشف الصوفي: التجربة الذاتية والتجربة الأنطولوجية
حددنا هذا الكشف على أنه يتجاوز «الحدس» كما ظهر في إطار الفلسفة البرغسونية؛ ولذلك أشرنا سابقاً أننا سنعتمد مفهوم «تجربة الكشف»، ولكن ما موقع «ذات الصوفي» في هذه التجربة، أليست تجربة ذاتها سيرة ذاتية؟
إن التفسير النفسي القائم على نظرية التحليل النفسي التي تحيل رموز العمل أو التجربة إلى الذات (أو إلى جانب من الذات = اللاوعي) تمكننا مما لا شك فيه من اعتبار «تجربة الكشف» تجربة نفسية بالأساس قائمة على تحويل الرموز الباطنة في الذات إلى العالم الخارجي والتي يشير إليها المصطلح الفرويدي بـ«عودة المكبوت»، وقد استعملها «فرويد» لأول مرة في تأويل الهذيان والحلم في قصة «جراديفا» للكاتب جنسن، يقول: «.. يجب علينا أن نعتبر تلك الصور كناتج قد حُوِّر، يقوم خلفه شيء آخر يجب البحث عنه…». إن هذا التحوير في التأويل الفرويدي هو رديف «الهذيان»، غير أن هذا الهذيان -كما يلاحظ فرويد في موضع آخر- يستند إلى شيء/ زمن الحقيقة في الذات التي تدخل فعل الهذيان، «.. شيء من الحقيقة ظل لأمد طويل مكبوت، قبل أن يطأ عتبة الوعي بشكل مُحوَّر…»، إن هذا التأويل يجد جذوره في فكرة فرويد «للأنا المثالي»، والمثال -كما نعرف- هو فكرة واضحة لا تثير نقاشاً، ولكن الخلاف النظري يقوم عندما نعلم أن هذا الأنا المتعالي إنما نتج «.. ليس فقط.. عن مجرد أثر خلفته اختيارات الموضوع المبكرة التي قام بها الهو، ولكنه يمثل أيضاً تكوّن لرد فعل قوي ضد هذه الاختيارات»، وفي الأمرين معاً فالأنا المتعالي (= النزاعات الأخلاقية/ الجمالية الدينية) إنما يتكوَّن داخل التجربة الفردية للذات، تماماً كما أن الهذيان يعود إلى آلية من آليات الذات في تجربتها الفردية للانسجام (= بشكل مُحوَّر لا واقعي..)، ولننظر أكثر من ذلك إلى رأيه في الأفكار الدينية (التي تشكل -كما نعلم- التجربة الروحية للصوفي): «إن هذه الأفكار التي تقدّم نفسها كأفكار وثوقية (=dogmes) ليست منتوج التجربة ولا التفكير (=Relf)، إنها أوهام تحقيق الرغبات الأكثر قدماً، الأكثر قوة، الأكثر ضغطاً بالنسبة للإنسانية..».
لا يهمنا هنا مناقشة الأساس الفرويدي عن النفس ولا عن الدين، وإنما فقط أن نتساءل إلى أي مدى يمكن تأويل الخواطر والواردات والمواجيد الصوفية تفسيراً نفسيًّا بالمعنى الذي طرحه فرويد بمفهومي التحوير (=conversion) أو التسامي (=sublimation)؟ لا شك أن الخاطر عند الصوفية يحمل معنى عامًّا، يقول ابن عربي: هو «ما يرد على القلب والضمير من الخطاب ربانيًّا كان أم ملكيًّا أو نفسيًّا أو شيطانيًّا من غير إقامة، وقد يكون لكل وارد لا عمل لك فيه»، وهذا المعنى في جانب منه (الجانب النفسي) قد يحيل إلى رغبات الفرد، لكن الصوفي لا يؤسس على هذه الخواطر تجربته، إنه يقيم نوعاً من الفحص شرطه الأساسي هو الخلوة (= عزلة العزلة)؛ لذلك يؤكد ابن عربي أنه «.. ينبغي للمعتزل أن يكون صاحب يقين (..) حتى لا يكون له خاطر متعلق خارجاً عن بيت عزلته؛ فإن حرم اليقين فليستعد لعزلته، وقوته زمان عزلته، حتى يتقوى يقينه بما يتجلى له في عزلته لا بد من ذلك، هذا شرط محكم من شروط العزلة، والعزلة تورث معرفة الدنيا»، وكأن هذا الأمر يحيلنا بشكل واضح إلى مفهوم الإيضاح في فينومينولوجيا هوسرل كما يرى بحق حسن حنفي؛ فالتوضيح يكون لتحديد درجة قرب المعطى الشعوري أو بعده عن الشعور، «.. فإذا كان قريباً يمكن إدراكه بالحدس ويكون واضحاً، وإذا كان بعيداً فإنه لا يمكن إدراكه بالحدس ويكون غامضاً..»، إن مفهوم الإيضاح يجعلنا نربط بين الخواطر والمواجيد الصوفية وبين ما يسميه ابن عربي معرفة الدنيا (العالم الخارجي)، وهذا الربط يتأسس على مفهوم القصدية، فالذات الصوفية لا تحيل إلى ذاتها فقط بل إنها دائماً تندفع اندفاعاً حيويًّا نحو الكائنات الوجودية الحاملة للأسرار الإلهية، إنها تقصد العالم الخارجي في مستواه الطبيعي والإلهي، لذلك فإن «تجربة الكشف» توحد فكر الكائن مع العالم بالمعنى الذي يشير إليه هيدجر، «كل شجاعة تملأ القلب هي إجابة للمسة الكائن الذي يجمع فكرنا ويوحده مع العالم..»، إن هذا المعنى الأنطولوجي يجعل من «رغبة» الصوفي رغبة مرتبطة بالفضاء الوجودي، وهي بكونها كذلك تتجاوز المفهوم الغريزي الذي يسجنها فيه فرويد حتى ولو كانت في جانب منها تظل مرتبطة بالأنوثة وبالطبيعة كما سنوضح في الفصل اللاحق، غير أنها تتجاوز ذاتها كرغبة غريزية عندما تندفع إلى الاتصال بالأسرار الإلهية لتتجاوز ذلك الانفصال الذي يشكل اغتراب الذات الصوفية إلى درجة أن طلب هذا الاتصال يدفع إلى إفناء الذات في مقابل بقاء الموضوع (= الذات الإلهية).
يقول العطار: «إذا كنت أنت الكل فما هو معنى كل العالم
وإذا لم أكن أنا شيئاً فما هذا الصراخ والعويل؟».
إن «تجربة الكشف» ليست فقط، إذن، سيرة ذاتية بل كونية تحمل الطابع الأنطولوجي، لذلك كان لهذا الكشف أبعاد يمكن تمييزها فيما يلي:
-3-
الكشف: أداة معرفية
يقول ابن عربي: «.. وأعلم أن لكل صدر قلباً فما دام القلب في الصدر فهو الأعمى لأن الصدر حجاب عليه، فإذا أراد الله أن يجعله بصيراً خرج عن صدره فرأى الأسباب صدور الموجودات كالقلوب، فما دام الموجود ناظراً إلى السبب الذي صدر عنه كان أعمى عن شهود الله الذي أوجده، فإذا أراد الله أن يجعله بصيراً ترك النظر إلى السبب الذي أوجده الله عنده ونظر من الوجه الخاص الذي من ربه اليه…»، يطرح هذا النص إمكانية المعرفة ذاتها (= معرفة الحق)، وهو يفصل بين النظر والبصر، فإذا كان النظر يتعلق بالأسباب فإنه يحيل إلى العلاقة مع الإلهية أي يؤدي مباشرة إلى معرفة الحق، لكن هذا الإنجاز لا يصل إليه الصوفي كما نلاحظ في النص، إلا عندما نخرج من الذات اتجاه الأسرار الخفية للموجودات (=قلوبها)، إن البصيرة هنا إذن تظهر كشكل من أشكال الاندفاع إلى العالم؛ لذلك يقول في موضع آخر من الفصوص: «تُعرف ذاتٌ قديمة أزلية لا تُعرف أنها إله حتى يعرف المألوه فهو عين الدليل عليه».
ومن هذا الجانب فإن ابن عربي يختلف عن «الغزالي» الذي سيرى أن الذات الإلهية يمكن أن تعرف من غير نظر في العالم، ولتأكيد رأي الغزالي حول طبيعة الكشف نورد هذا النص من كيمياء السعادة (ص 87 – 88) يحدد فيه المعرفة الكشفية.. «أنها انعكاس للصور بين القلب واللوح المحفوظ، فالقلب مثل المرآة واللوح المحفوظ مثل المرآة أيضاً؛ لأن فيه صورة كل موجود، وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما في الأخرى، وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارغاُ من شهوات الدنيا…».
إذا كان الغزالي يعترف بدور البصيرة والذوق الصوفيان كأداة للكشف فإنه يحدد هذا الكشف كنوع من انعكاس الرموز في القلب وكصور في المخيلة، إن الذات الصوفية عند الغزالي ذات مستنبطة للتجلي، وهذا معناه إلغاء الفضاء الوجودي (فضاء الكائنات الوجودية التي تحيل بدورها على الرموز) كما عند الحلاج، البسطامي وابن عربي، حيث يتجلى الله من جانب آخر في مرآة الوجود. إن الكشف ليس باطناً ذاتيًّا يلغي العالم، بل إنه سفر مستمر داخل هذا العالم، يقول محيي الدين ابن عربي: «.. أما المسافرون فيه فطائفتان: طائفة سافرت فيه بأفكارها وعقولها فضلت عن الطريق… وطائفة سوفر بها فيه، وهم الرسل والأنبياء والمصطفون من الأولياء كالمحققين من رجال الصوفية..»، والواقع أن هذا السفر لا يكون إلا كحضور في العالم تجعل منه لحظات يعيشها الصوفي بكل جوارحه (= الحال – المقام)، «.. اعلم -أيدك الله- أن السفر حال المسافر والطريق يقطعه بالمعاملات والأحوال والمعارف… والإنسان لما كان مجموع العالم ونسخة الحضرة الإلهية… احتاج إلى مطرق يطرق له السلوك».
إن هذا الكشف ليس إدراكاً بسيطاً وليس بصيرة باطنية بسيطة تلغي العالم، بل يمكن اعتبارها بحق تجربة انطولوجية «للكائن – داخل- العالم»، ومنذ هيدجر أمكن بالفعل الحديث عن أنطولوجية للكائن في المقابل أو كإضافة لفينومينولوجية الكائن كما ظهرت عند هوسرل، إن «هيدجر» يتجاوز بذلك مفهوم الكائن عند أرسطو. ولقد كان جهد «هوسرل» يتمثل أساساً في ربط الصلة المباشرة بين الوعي والعالم غير أن كل من وجود الوعي (الإنسان) ووجود العالم لا يمكن فهمها إلا من خلال الإطار الذي يشملهما وهو «الكينونة»؛ لذلك نجد مارتن هيدجر يتحدث عن مفهومين للكائن: «verhandenheit» الكائن المحايد (neutre) و«Da-sein» الوجود هنا وهو الفرق الأساسي بين ما يمكن تسميته بـ«الأنطولوجي والتاريخي»، ويعتقد هيدجر أن الـ«دازاين» أو الكينونة الحاضرة في العالم عبر مفهوم الزمن هي مشكلة تواجهنا وتدفعنا إلى التفكير، الذي لن يكون إلا حضوراً، ففي تعليقه على مفهوم الإدراك عند بارمنيدس يصل «هيدجر» إلى الاستنتاج التالي: إن الفكر كعملية إدراك تتعلق بكينونة الموجود «L’Etre de l’étant»، والحاصل أن كينونة الموجود كما يؤولها هيدجر عند اليونان تعني حضور الحاضر (Anwesean den Anwesenden) فيكون الفكر إذن مدركاً للحضور في حضوره، «.. الفكر إذن من هذه الناحية هو عرض للحاضر الذي يقدم لنا الشيء الحاضر في حضوره فيضعه أمامنا..». إن حضور الكائن في العالم هو حضور زمني لكنه يتطلب تجاوز المفهوم التقليدي للزمن؛ «.. إن هذا الحاضر الذي يهيمن في حضوره يملك خاصية زمنية، لكن كينونته «wesen» لا يمكن تفسيرها من خلال المفهوم التقليدي للزمن».
انطلاقاً من هذا البعد الأنطولوجي إذن أصبح من الممكن أن نتحدث عن الكشف الصوفي كتجربة أنطولوجية لحضور الصوفي داخل الأشكال الوجودية والأسرار الإلهية.
يقول ابن عربي: «أنت الكون والله المكون، فتح الوجود بك وأنت مفتاح الوجود، فأنت عنده ولا يعلمك إلا الله»، ذلك أن الحركة الإلهية داخل العالم لا تتم إلا بالإنسان، وحركة الصوفي تنجز بالذات داخل هذا الفضاء الإلهي (=العالم).
-4-
الكشف والتأويل الأنطولوجي
إذا كانت تجربة الكشف الصوفي هي تجربة الانفتاح على رموز العالم، وكان النزوع الصوفي يخترق هذه المجالات ولا يستنبطها فقط، كما لاحظنا في الصفحات السابقة، فإنه سينقل التحليلي في الثقافة العربية الإسلامية من موقع التفسير البرهاني (= الأرسطي) إلى موقع التأويل، ذلك أنه ينقلها من لحظة «البداهة» إلى لحظة «الاحتمال»، مما يدفع بإمكانية الحديث، الذي حدث عنده (= السامع /المتلقى) في خياله.
وهو يقوم إذن في العلاقة ذاتها بين المتكلم والمستمع: المتكلم الذي يُنشئ العبارة والمستمع الذي يتأولها بما أحدثت في خياله من معانٍ، ذلك أن كل كلام إنما هو «.. حادث عند السامع»، إن لحظة التأويل بهذا الفهم هي لحظة إنشاء المعنى، فالتأويل، كما يرى «بول ريكور» «P.Ricoeur»، هو أن يقام المعنى واضعاً النص كمرجعية خاصة به، وهذا ما يجعل لحظة التأويل إذن تختلف عن التفسير الذي يقوم أساسا على المنطق الداخلي لبنية النص، وهو ما يكتنف التحليل البنيوي برمته، المقتصر على بنية اللغة (=الخطاب) وعلى حركتها الداخلية، وهو التحليل ذاته الذي استثمره «كلود-ليفي شتراوس» ليقيم وصفاً سيميائيًّا خالصاً لواقع الأسطورة.
إن التعامل مع النص (= السابقة.د ابن عربي) من هذا المنطلق يحيله إلى لعبة ثابتة، إنها اللحظة الديكارتية ذاتها التي أقام فيها «الكوجيتو» الديكارتي الفكر في الوعي الخالص، ذلك أن كل نص صوفي إنما يحيل إلى تجربة الصوفي ومعاناته، فيما تبقى هذه التجربة ذاتها منفتحة على عالم الكائنات الوجودية. كما لاحظنا في الصفحات السابقة.
وهذا الانفتاح يحيل دائماً إلى مرجعية تستدعي الفهم كلحظة منهجية.
يحدد «غدامير» هذا الفهم «المنهجي» بكونه «.. الاستعداد الكامل لنتركه (=النص) يقول شيئاً بنفسه»، والواقع أن لحظة التأويل، في مقابل المنهج التفسيري، هي وحدها القادرة على «امتلاك» هذا المعنى الذي يحيل إليه باستمرار، وبواسطة هذا الامتلاك يقرب التأويل، كما يرى ريكور، «ما كان شيئاً غريباً عن الذات المؤولة أو يساوي بينه وبينها أو يجعله معاصراً لها ومماثلاً»، ومعنى ذلك أن التأويل ذاته تجربة تتطلب نوعاً من الحضور الفعلي للذات المؤولة. إن هذه «الهيرمينوطيقا» التي قامت كامتداد للمنهج الفينومنولوجي واستثمرت التأويل النيتشوي والفرويدي والماركسي، تنتقد الأساس الحدسي للكوجيتو الديكارتي، الذي يتأسس على علاقة مباشرة وبديهية بين الذات العارفة وذاتها (= الوعي الخالص)؛ ذلك أنه منذ هوسرل «Husserl» أصبح من الممكن الحديث عن مجال ثالث متوسط تظهر فيه كينونة الذات (=العالم)، يقول في المباحث المنطقية الأولى: «إن الدلالة تحيل دائماً إلى شيء ما، ويتعلق في إحالتها به بشيء موضوعي»، وهو ما جعل هوسرل يرى في الوعي أكثر من كونه جمع لملكات (=الخيال…) أنه مجموع من لحظات معاشة قصدية تحيل إلى موضوع (=un ensemble de vecu (Erlebnis) intentionnel)، فتصبح تلك الملكات هي الأفعال التي يحيل بواسطتها الوعي الى موضوعات العالم الخارجي.
إن هذا البعد الفينومنولوجي هو الذي يجعل من لحظة التأويل، لحظة تضيف وتبدع ولا تترجم فقط ما حدد مسبقاً، يقول ميرلو-بونتي، M.Merleau-Ponty: «.. وهكذا فإن الكلام، عند المتكلم لا يترجم فكرة محددة سابقاً، ولكن ينجزها».
غير أن هذا التأويل، في نظر كل من «هيدجر» و«غدامير» و«ريكور» لا يشير إلى الإشكالية الحقيقية في كل هيرمينوطيقا، وهي إشكالية البعد الأنطولوجي للكائن الذي يتأول خطاباً داخل العالم. ففي نظر بول ريكور -كما عند هيدجر- تبقى هذه الإشكالية الأعمق وجوداً ذات طابع وجودي تتمثل أساساً في فهم «الكائن في العالم»؛ يقول «بول ريكور»: «.. إن كل عالم من العوالم، قائم على اللسان، منفتح بذاته على كل فهم ممكن، وهو قابل للاتساع اللامحدود». وهكذا يصبح كل قول يقرأ (=تأويل) من خلال التجربة اللامحدودة التي يشير إليها وليس فقط كنص من جملة وحدات مغلقة، نقول من خلال التجربة اللامحدودة ونعني بذلك تجربة القائل، المتكلم، وفي ذات تجربة المتلقي، وهذا ما جعل «غدامير» يجعل من هذا التأويل الأنطولوجي لحظة منهجية يمكن أن يقام على أساسها هيرمينوطيقا عامة، ذلك أن: «.. كل لغة لها من الإمكانية بأن تقول كل شيء، لذلك فإن كل لغة ليست الحد من تجربتنا وإنما فقط واسطة تقربنا من الأشياء»، ومن هذه الناحية فإن كل نص صوفي، بوصفه نصًّا مرتبطاً بتجربة في العالم، إنما يتطلب هذه اللحظة الأنطولوجية للتأويل، هذا الفهم الوجودي لعلاقة الصوفي بما يقوله وفي ذات لحظة تأويله رموز العالم، فحضور تلك الصور التي يتعامل معها الصوفي (أو لنقل: تلك الكتابة الوجودية) ليس حضوراً بسيطاً، بل إنه حضور كثيف لا يفتأ يغيب في ذات اللحظة التي يتجلى فيها، أو كما يقول ابن عربي: «.. الصور التي تقع عليها الأبصار والصور التي تدركها العقول والصور التي تمثلها القوة المتخيلة، كلها حجب يرى الحق من ورائها..»؛ وهذه الحجب بالذات هي التي تجعل من تجربة الكشف نزوعاً للتأويل والفهم وبالتالي الاحتمال؛ لأن كل تجلٍّ هو من جانب آخر متغير، متبدل، لا يثبت على وجهة معينة، ولا معنى معين، وهو ما يشير إليه ابن عربي بوضوح في هذا النص: «.. وصوره مختلفة في كل تجلٍّ لا تتكرر صوره، فإنه سبحانه لا يتجلى في صورة مرتين ولا في صورة واحدة لشخصين، ولما كان الأمر كذلك لم ينضبط للعقل ولا للعين ما هو الأمر عليه، ولا يمكن للعقل تقييده بصورة ما من تلك الصور؛ فإنه ينتقض له ذلك التقيد في التجلي الآخر بالصورة الأخرى»، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للكشف الصوفي فإن كل قراءة للنصوص الصوفية، محكومة، وربما مدفوعة، إلى الفهم كلحظة غير منهجية في منهج التأويل، على حد تعبير بول ريكور، لحظة تشكل نزوعاً نحو امتلاك المعنى لا كبداهة وإنما كاحتمال وترجيح، وهذا بالفعل ما جعلنا ندعو الجانب الجمالي في هذه التجربة بالنزوع الجمالي، وهو بالذات ما يدعونا إلى تحديد مفهوم الجمال، لا من خلال فكرة علم مزعوم، أو دراسة نظرية ثابتة الجمال، وإنما من خلال مفهوم التجربة الجمالية التي تفتح لنا الإمكانية للحديث عن تأويل جمالي.