هذا نص التقديم الذي صدرت به هذا الكتاب، يعرف بالكاتب وبفكره:نبذة يسيرة عن غينون و مؤلفاته
رينيه غينون، أو الشيخ عبد الواحد يحيى، هو أحد أعلام الفكر و الفلسفة و التصوف المعاصرين؛ ولد سنة 1886 بمدينة بلوا الفرنسية، و نشأ فيها في أسرة مسيحية كاثوليكية. قصد مصر (القاهرة) سنة 1930 و أقام فيها حتى وفاته رحمه الله مسلما على الطريقة الشاذلية سنة 1951، عن سن نيفت على الأربعة و الستين عاما. و قد كانت معرفته بالتصوف الإسلامي و بالشاذلية التى ٱنتهجها بعد ذلك، قبل ٱستقراره بالقاهرة بسنوات، و ذلك من جهة رسام سويدي يدعى إيفان أنجلي (الشيخ عبد الهادي، ت1917) الذي درس العقائد الشرقية و أقام سنين بمصر حيث ٱلتقى بالشيخ الأزهري عبد الرحمان عليش الذي ٱلتزم على يديه هذه الطريقة. ترك غينون زهاء خمسة و عشرين مصنفا، غير مقالات و رسائل عديدة منشورة في مجلات مختلفة، و بعضها نشر بعد مماته. و قد شملت مباحثه و مؤلفاته مواضيع شتى، ففيها عن اللاهوت المسيحي، و عن عقائد الشرق القديمة (الهندوسية و الطاوية خصوصا)، و عن الوجود و موقع الإنسان و الموجودات منه، و عن التصوف الإسلامي و غير ذلك، و قد ترجمت بعض كتبه إلى أكثر من عشرين لغة .فكر غينون
إن كثيرا ممن ترجموا لغينون و كتبوا عنه يأبون إلا أن يصنفوه، فمنهم من وسمه بالمستشرق، و بالمفكر ” الكلاسيكي “، و بالفيلسوف الميتافيزيقي، و منهم من نسبه إلى الإشراق أو إلى الإفلاطونية المحدثة و غير ذلك؛ و هنالك، على العكس، من يراه ” وجها خارج التصنيف في تاريخ الفكر ” . و الحق أن التصنيف ليصعب في حقه كما في حق آخرين كثيرين؛ فقد تكلم في آراء و عقائد و فلسفات شتى فنقد و نقض و برهن و أسس، فهو بلا شك فيلسوف بهذا الاعتبار؛ و تنتفي عنه هذه الصفة لنقده و إنكاره نظرية المعرفة، بمعناها عند الفلاسفة المحدثين، و نفي إمكان قيام المعرفة الحق بالملكات الإنسانية، بالعقل كما بالحدس (الحسي)، و إقراره إمكان قيامها بملكات فوق- عقلية، فيكون بهذا الاعتبار متصوفا أو إشراقيا أو على أحد مذاهب الشرق… و ذهب بعضهم إلى وسمه بالفيلسوف النسقي، ربما لِما يُلحظ جليا في مؤلفاته من وحدة و نفَس لا يتحول، رغم تعددها و تنوع مضامينها؛ و الحق، إن هذا النعت لا يصدق في حقه بالمرة، لأن الأنساق الفكرية ليست سوى حدود شيدها العقل، فهي قاصرة بالضرورة عن المعرفة الحكمية، المجاوزة للعقل على قول غينون، و مطلقة وراء كل الحدود. و لقد كان غينون نفسه ينتقد بشدة هذه النسقية، التي تدخل كل شيئ تحت حكمها و تنفي كل معرفة وراءها، فيقول في أحد مصنفاته : (… إن عقلية النفي تلك ليست هي سوى الروح النسقية؛ لأن النسق إنما هو تصور مغلق بالأساس؛ و لقد تناهى الحال لتصير النسقية و الفكر الفلسفي بمعنى واحد، و خصوصا من لدن كانط، الذي ٱجترأ فقال بصراحة، و قصد حصر المعرفة كلها في النسبي: “… ليست الفلسفة أداة لتوسيع المعرفة، و إنما هي مادة لحدها …” ).
هذا الكتاب
هذا الكتاب هو في الأصل محاضرة ألقاها رينيه غينون بجامعة السربون سنة 1925م، في سياق تاريخي حضاري مخصوص (السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى) سعت فيه نخبة من المفكرين إلى فحص إمكان التقريب بين الحضارتين الشرقية و الغربية؛ و لم ينشر نص هذه المحاضرة كتابا إلا سنة 1939، و قد ترجم إلى تسعة لغات أو أكثر، ما عدا العربية على حد علمنا، غير هذا العمل المتواضع الذي نقدمه. و الذي جاء في هذا الكتاب إنما هو خلاصة لما جاء في مصنفات أخرى لغينون عن معنى الحكمة و المعرفة الحكمية، و الذي يتصل أساسا بنظريته حول الإنسان و موقعه من الوجود، ما فصله خصوصا في كتابه الذي عربه بعضهم بمسمى ” الأحوال المتعددة للإنسان ” . في هذه المحاضرة يرفع غينون اللبس عن معنى ” الميتافيزيقا ” لدى المفكرين و الفلاسفة المحدثين و تمييزها من سائر العلوم الإنسانية، التي هي علوم دنيوية صرفة، ” سفلى “، لا تتعدى الظاهر على حد تعبيره؛ أما عالم الميتافيزيقا، عالم الحكمة، فإنما هو فوق كل ذلك، فوق الطبيعة بكل ٱمتدادها، فوق كل جزئي متعين، محسوس كان أو غير محسوس، إنه عالم المبادئ و الكليات. و ينتقد غينون أنطولوجيا أرسطو نفسها، الباحثة في الوجود المحض، الوجود بما هو؛ فيسمها بنصف الحكمة لٱقتصارها على ذلك و عدم الذهاب إلى ما وراءها ، لأن الوجود المحض نفسه ليس هو إلا تعين و ليس هو مبدأ المبادئ كما هو مقرر عند حكماء الشرق، على حد قوله. أما عن تحقيق المعرفة الحكمية، فيبين غينون سبلها و مراحل بلوغها مؤكدا أن ذلك لا يتأتى إلا بجهد ذاتي صرف، ٱبتداء من عالم الرسوم و الأعراض، ثم تدرجا من مرتبة فما فوقها حتى بلوغ المقامات الفوق- بشرية، و لا وضيفة في كل ذلك للمعلم الشيخ إلا الإرشاد و التهيئة؛ و ليست تحصل هذه المعرفة بشيئ من جهد عقلي تجريدي، و إنما هي كشفية، آنية بلا واسطة، يصير بها العارف و المعروف واحدا، ذلك هو الاتصال بالمبدأ الأعلى المطلق، أو الفناء بٱصطلاح المتصوفة الإسلاميين.