قراءة في كتاب كنت نيئا فنضجت (الحلقة الأولى)

قراءة في كتاب كنت نيئا فنضجت (الحلقة الأولى)

قراءة في كتاب كنت نيئا فنضجت  

الحلقة الأولى

بقلم: د. قول معمر -الجزائر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من قيل له [وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى] الضحى/5،فتميّز بهذا المقام عمّن قال:[ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] طه/84 ،ورضي الله عن آله الأطهار وبعد:

إن قراءة تجارب الآخرين والاطلاع على سيرهم مشاهدة للزمن في تدفقه والأحوال في تغيرها وتبدّلها ومعاينة للأسباب التي تظهر من ورائها حكمة الحقّ متوهجة ،ومن الفرص النادرة جدا أن يشاركك بعض من تحبّ آلامه وآماله ،وليس هذا إلا تجلي من تجليات الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم «الأرواح جنود مجندّة » (مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ )،ولو لم يكن هذا التآلف حقيقة لما عرف العالم مولانا جلال الدين الرومي وشيخه شمس تبريز  ،ولما كان الصدّيق لقبا لأبي بكر .

بداية أشكر فضيلة الأستاذ المحترم مولانا خالد محمد عبده على عظيم كرمه في إهدائي نسخة من كتابه [كنت نيئا فنضجت فاحترقت ]طالبا مني قراءته مع تسجيل ما يُمكن أن يُسجل من ملاحظات نقدية قد يستفيد منها الباحث .

وقبل الحديث عن الكتاب نتحدث عن صاحبه الذي استوقفني بعالمه الجميل الذي أراد أن يرسمه لنفسه كما يُريد ،عالم ليس فيه سلطة إلا لكلام القلب والروح ،عالم كان مولانا الرومي شمسه ونوره ،عالم رسمه صاحبه فيما كتب وأبدع من مؤلفات وفيما فتح وأنشأ من مواقع إلكترونية (طواسين للتصوف+ دروس حضرت مولانا +منشوراته على صفحته الخاصة)،كانت هذه العوالم جميعا مرايا عاكسة لشيء واحد تقريب عالم مولانا الرومي إلى الأرواح العاشقة المُحبة ومحاولة منه لاستثارة ما كمن في النفوس من بقايا الإنسانية التي غلفتها الحجُب الكثيفة والآلهة المتعددة ،فكانت كلماته قبضة من أثر الرسول أراد من خلالها إحياء هذا الموات المتصارع على الكلأ والماء والمنصب والشهرة وكل زائف ،وهو ما عبّر عنه في أكثر من موضع تعبيرا دقيقا وعميقا [ العبث]،ولا عبث يفوق إعدام الإنسانية بداخلنا وهدم ذواتنا ،هكذا كان الأستاذ خالد ، أو هكذا عرفته من حرفه وعبارته التي كانت مُترعَة بالإشارة وهي نزعة أملاها الهروب من صنمية الشكل والحرف ،أو هو تمرّد على ما ألفته الطباع والعقول فلم يُثمر نتاجها إلا نفوسا يائسة وقلوبا يابسة وعقولا مُتحجرة وأفقا ضيقا بالآخر في كل التجليات والتمثّلات المليّة والمذهبية، من هذا المُنطلق كان الأستاذ خالد دلاّلا جميلا على عالم مولانا الرومي الآسر بفضائه الرحب وأفقه الاستيعابي الذي تجاوز كل الأطر والحواجز المليّة والمذهبية والعرقية واللسانية والجنسية فكان تجسيدا فعليا لعالم الطهر والأزل والميثاق الأول[ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ]الأعراف/172.ليس ثمّة إلا الربوبية التي تعني المخلوق الواحد والرحم الواحدة والمآل والمرجع الواحد ،إنها على قول صاحب الحكم العطائية [نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد]،لهذه المعاني السامية كان مولانا خالد عبده يستخرج تلك الجواهر واللالىء من بحر العرفان ويستخلص من تجارب العارفين والقديسين والأولياء تجاربهم الإنسانية وميراثهم الروحي لأنه كان يؤمن بشيء واحد وهو تذكير الناس برب واحد والتأكيد على أن هذه الحقيقة هي الشمس الخالدة وما عداها فهو ظلال متحولة وعارية .

 سأسجل هنا بعض ما انقدح في فكري وانطبع في ذاتي بعد سياحتي الروحية في كتابه.

1-ماءٌ غير آسن:

اختار الباحث لعنوان كتابه عبارة شهيرة لمولانا الرومي لخّصت ولادته الروحية [كنت نيئا فنضجت فاحترقت]،فكان لقاء شمس نضجا لروح مولانا وكان فراقه احتراقا ،وما المثنوي والرباعيات والديوان الكبير إلا دخان لنار الاحتراق ،وقد لخَص الرومي لنا حقيقة هذه المحبة في بيت من المثنوي [وماذا أقول وليس فيّ عِرق واع، ليشرح حال ذلك الرفيق الذي لا ندّ له] المثنوي،ج1،بيت 130.ولا عجب أن يكون شمس بتعبير مولانا [سلطان دولة العشق وأمير قافلة الحبِّ الإلهي ].

يكتب مولانا خالد عن عالم مولانا الرومي موظفا روح كلماته دون أن ينسى مقامه ،فهو بكل تواضع يرى أنه (مجرّد بذرة تُحاول أن تُسقى من ماء غير آسن من طعام المُخلصين الذي لا يتغيّر مذاقه بتغيّر الظروف والأحوال)،وهو توظيف صادق فعالم مولانا الرومي كان نهرا دافقا متجددا بذاته مُجدد لغيره ،وفي مقدمة المثنوي هذه الحقيقة […وهو كنيل مصر شراب للصابرين]،الماء الدافق طاهر مُطهر ،والماء الآسن عُرضة لكل آفة ،وما أشدّ انطباق هذا على العلوم والمعارف التي أضحت راكدة يقع عليها التراب والذباب ،تُراب القرون وذُباب العقول والفهوم المُتحجرة التي أولتها تأويلا ركيكا أشبه بزيف التأويل الركيك الذي قالت به الذبابة التي وقعت على قشة في بول حمار فتوهمت أن قشتها سفينة وهذا المقدار الضئيل من بول الحمار بحرا .وهذه الحقيقة التي كان يؤكد عليها الباحث مولانا خالد عبده في مؤلفاته ومنشوراته عموما وفي [كتابه كنت نيئا فنضجت فاحترقت ] خصوصا، والذي قدّم من خلاله دعوة ضمنية إلى القراءة المتجددة للحرف والعبارة والكون بأسره في كل تجلياته وتمظهراته الداخليّة والخارجية تجاوزا للعبث الذي طال أمده .ولم يستحوذ الكاتب على هذا النهر ويدّعي ملكيته كما تفعل النفوس العليلة اليوم بل دعا الناس دعوة كريمة صادقة إلى الاغتسال من هذا النهر تطهيرا للأدران وتعميدا للذات المُثقلة بالتراب والطين :[…يستطيع الحيّ الذي يؤمن بحي قيوم أن يخلق لنفسه مساحة لا يُشاركه فيها غيره، يستطيع أن يَبسْبَح أو يُسبّح  في عالم من صُنعه وحده، يستطيع أن يتنفّس دون أن يُوقفه أحد]،(يستطيع )إيحاء وإحالة ضمنية إلى مسلك الحريّة في الاختيار ،هي دعوة لبني البشر أن يَتركوا البشر لاختياراتهم لا ربوبية ولا كهنوت ولا سلطة ،وقوله (لا يُشاركه فيها أحد) رفض للنمذجة والقولبة والإملاءات المختلفة ،إنه تمرّد على كل جاهز ومكرر ،تكرار التعاويذ والطقوس والأحلام ورفض لكل تبعية وتقليد زائف ،إنها دعوة لتسوية بَنان النفس والروح ،ورحم الله شيخ المعرة [توحّد فإن ربّك واحد]،قد يكون كلام المعري دعوة للعزلة ولا عجب ففرار الجسد إنقاذ للروح من التكرار والتولّد . وفي كتابه يُصارح مولانا الأرواح العاشقة بمبحث [أحاديث ليست عنّا] ويكتب بعبارة صادقة عن الحبر المُسال والدمع المسكوب على الدنيا وما فيها بشرائعها وعقائدها وشرقها وغربها ،وليس فيها حرف واحد عن ذواتنا،[تحدثنا عن كل هذا ونسينا أن نتحدّث عن أنفسنا]،لفتة منهجية في غاية الأهمية ومطرقة من حديد يُغلفها مولانا خالد بالحرير حين يُنقذنا من هذا العبث واليأس [الإنسان الحقّ هو من يتغذّى من كلّ شيء يمرّ به ]،وهذا المعنى اقتباس من عالم مولانا الرومي الذي يرى أن كل ما يمر بنا رسائل من الله إلينا هكذا تكلم مولانا مُعتبرا أن كل ما يُصيب الإنسان من حُرق وآلام وآهات وخيالات مُزعجة وأوجاع إنما هو (من ضيوف الغيب ) ،وهذا هو التحقق بقول الحقّ سبحانه ) قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا( النساء/78.

وبعبارة حانية وخبرة متراكمة يهمس مولانا خالد في أذن الأرواح العاشقة [كن أنت: كن حاضرا مع نفسك اكتب لها وعنها ،ولا تتذمر من عدم امتلاكك للسان آخر غير لسانك]،فانظر معي كيف جعل صاحب الكتاب النفس معشوقة ومحبوبة (اكتب لها) ،هذه صورة مخالفة تماما لما هو مكرّس [أعوذ بالله من كلمة أنا]،مفارقة جيدة بين فهوم تكرّس الدونية وكاتب يُلفت الإنسان إلى الجمال الذي بداخله ،ليس هناك مسيح مُخلّص لنا من هذا العبث والشقاء ،إن هذا المعنى هو جوهر الوحي الذي استنكفنا عن تدبّر معانيه )وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ الذاريات(/20،(أفلا) استفهام استنكاري ،كيف يُعقل أن نرضى بالدونية لأنفسنا ولذواتنا ،وفي قول الكاتب[ولا تتذمر من عدم امتلاكك للسان آخر غير لسانك] مسحة جمالية أخرى ،والمعنى كن كما أنت وهذا تحقق بمعاني الوحي الشريف أيضا )وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ( الروم/22  ،فانظر كيف جعل الحق هذا الاختلاف آية ،وفي قوله للعالمين إشارة خفية أخرى للبعد الكوني والعالمي واستحضار لمختلف التباينات التي تستظل جميعا تحت بوتقة الرحم الإنسانية الواحدة ،وهذا المعنى يؤكد عليه مولانا خالد في كتابه الجميل [معنى أن تكون صوفيا] مُقتبسا عبارة المسيح u[فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ] إنجيل مرقس.

يهمس مولانا خالد عبده في أذن الأرواح العاشقة بصدق لينقل لها الحقيقة التي أولتها فهوم البشر  موحية لنا أن المُلهيات كل ما ألهانا عن ذكر الله:[المُلهيات هنا ليس كما تعلمنا من أهل الأصنام والصور كل ما يُلهي عن ذكر الله تعالى، بل هو كل ما ألهاك عن إنسانك فالفنان الذي يجعل العين تقطر والقلب يخفق ويُبدع في الحياة هو رجل تخلّق بأخلاق الله ]

2-صداقة أم صِدْق

مما استوقفني في كتاب [كنت نيئا فنضجت فاحترقت] حديث مولانا خالد عبده عن دَعوى عمّت بها البلوى خصوصا مع وسائل التواصل الحديثة التي تعرّت معها علاقاتنا الاجتماعية وأقصد بذلك الصداقة التي صارت كلمة مُبتذلة كالماء والخبز والطين الذي نتقاتل من أجله ،ويهمس مولانا خالد في أذن الأرواح العاشقة بصدق معتبرا الناس مجرد أشباح وما عبارات الصداقة والأخوة إلا زبد وسراب [كيف يُحبك شخص وهو لا يُدرك من ألمك شيئا ؟!] ،وتأمل في قوله (وهو لا يُدرك) ،وليس الإدراك هنا المعرفة بالآخر بالسؤال عن أحواله فقط إنه تجلي الآخر في ذواتنا ما دمنا له محبين أو مدّعين ،وفي الكتاب حكايات أهل الله مع الصداقة منها قصة شمس تبريز مع أوحد الدين الكرماني الذي طلب مُصاحبته واعتراض شمس عليه (هل تستطيع أن تأتيني بالنبيذ ؟!) ،فانظر إلى الطالب لا إلى المطلوب ،امتحان صعب  فالمطلوب (الخمر) في الحانة بكل ما توحي به الكلمة في الظاهر  من فسق ومعصية وغفلة والعجيب أن هذه المعاني تتولّد من الخوف لا من الإيمان خوف الناس ؟! ،هذا ما أراده شمس يا عابد الوثن أراد أن يطهرك من الشرك وعبادة الصورة [انصرف عن الرجال يا فتى]،ويُلفتنا مولانا خالد أيضا إلى قصة الششتري مع ابن سبعين ،وقول الأول [أنا عبد ابن سبعين ] وكيف كرر كلمة سبعين  في أشعاره مائة مرّة ،وهي مُقابلة جيدة يبين من خلالها الكاتب للأرواح العاشقة أن هناك جمالا إلى جنب العبث دوما كحال الطين والنور ،الصداقة جسد وروحها الصدق ،والصدق مقام المقربين من صدق مع نفسه وصفا صفت له الأرواح وتعلّقت بثوبه ،ومن الطريف أن يوجّه الكاتب دعوة إلى الأرواح العاشقة بالدخول إلى محل صياغة الأرواح والنفوس حيث كيمياء تمييز الذهب الزائف من الأصيل  ل[اختيار البوح عن مكنون نفسك لا يتحمله أقرب الناس إليك…جرّب أن تمرّن نفسك على الصدق مع نفسك…على الصدق مع الآخرين ،لن يُلقي أحد عليك السلام]،كانت هذه الكيمياء مفتاح دخول سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه حضرة الله وكيف كان له الصدق ركابا وتعجّب قطاع الطرق من حاله وتوبتهم على يديه، [كنت نيئا فنضجت فاحترقت] مساءلة للأرواح العاشقة وسلوان حقيقي لها واستلهام لعالم مولانا الرومي الذي أهدى ربيع عمره وخريفه لمحبوبه شمس وكتب آلاف الأشعار وأنشد الأغزال ليؤكد الحقيقة التي أراد مولانا خالد شرحها (أنت صديقي وأحبّك)،دع هذا العبث واقرأ قوله تعالى )تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى( الحشر/14 ،إن غياب الصدْق في حياتنا أحد أسباب العبث الذي نحياه اليوم في حياتنا السياسية والاجتماعية والفكرية، لذا عدّه النورسي –رحمه الله-في الخطبة الشامية أحد أهم أمراض الأمة الإسلامية ،لذا فتسليط الباحث خالد عبده الضوء على هذه العلاقة الاجتماعية نقد مُبطن للواقع بمختلف تمظهراته. مُنبها إلى ثمرة الزقوم التي يُنتجها [ما نحن إلا عرائس أو ريشات في يد الأرباب المقهورين، لذا تربّى النفاق في قلوب كثيرة وفرّخ أجيالا عاشت وتعيش ولا تدري عن أنفسها شيئا ] ،آه كم هذا مرّ حقيقة من لم يَصدق مع نفسه كان على غيره أكْذب هذه هي القاعدة المحورية في كتاب [كنت نيئا].

قد يتبادر سؤال منهجي في هذا السياق ما مصير زبد الكلمات والعبارات التي نشنّف بها أسماع بعضنا البعض كل يوم (أحبك –اشتقت لك-أنت حبيبي-صديقي-روحي……)،يهمس صاحب الكتاب في أذن الأرواح العاشقة مُقدّما لها زبدة مخيض تجربته [احترم الذين اختاروا الصمت في ظل الضجيج وأشفق على الذين اختاروا الضجيج وقنعوا به]،والحكمة في هذه القاعدة اصمت لا تتكلم ودع روحك تتكلم عنك فكلمات اللسان كتابة على صفحة الماء ورسم على الرمل أيها الرفيق ،وكلمات الروح مبللة من ماء الغيب خالية من كلّ عيب ،تأمل في أول كلمة قالها صاحب المثنوي [انصت-استمع] دع روحك ترتوي كما يرتوي الحاج من ماء الطاهرين وهو يشرب ماء لامسته يد الأنبياء وفيه بقايا القديسين والطاهرين وارتوى منه جدّ نبيك r.. لتحيي به بذرة روحك وإنسانك وتنفض عن أكفانه تراب القرون.

3-إني آنست نارا

وأنا أقرأ كتاب [كنت نيئا] تذكرت عبارة قالها المرحوم زكي نجيب محمود في كتابه المعقول واللامعقول وهو في سياق حديثه عن أبي حامد الغزالي (طالت قامتُه حتى رآه المسافر من بعيد)،إن السائح بروحه في كتاب[كنت نيئا] كحال السائح في البلدان الجميلة الساحرة تستوقفُه معالمها البارزة عارضة جمالها على بصره ،ويكون حاله كحال الكليم u حين سار بأهله ليلا وأبصر نارا )إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى( طه/10 ،لسنا الكليم لكننا في ظلمات بعضها فوق بعض ،ظلمات الفهوم والرسوم والأشباح ،وليس [كنت نيئا] وحيا ولكنه شمعة أوقدت من سراج القلب وقنديل الروح ،إن لها نسبا بتلك النار الآتية من الغيب ،وتأمل في قول الكليم (لَعَلِّي) وقفْ على عطش الروح ولا تنظر إلى الشفة ،أيها المجسّم فلم يأت الأنبياء لقطف العنب وصنع الطواحين والجوابي ،إنما جاؤوا ليصنعوا من هذه الآنية الفخارية طيرا يطير بإذن الله.

هكذا أراد صاحب كتاب [كنت نيئا] أن يوقِد لنا من تلك النار شُعلة لهذه الأرواح التائهة في ظلمات الوهم والزيف و(العبث) ولا تحسبن ظلام الليل  غياب شمس الظهيرة أيها الخائف  إن ظلام الليل هنا تلك العتمة التي غشيت القلوب والأرواح حتى إذا أخرجت يدك لم تكد تراها ،واقرأ في الكتاب قصة الطور لتُدرك سرّ هذا المنشور .

من المعاني النورانية التي آنستها وآنستني في كتاب [كنت نيئا] المضامين الإنسانية والكونية التي جمّل بها الكاتب كتابه وكأني به اقتبس هذا النور من معلمه العظيم وملهمه الروحي مولانا جلال الدين الرومي [انشد الإنسانية والباقي إسهاب فعندما يُزخرف الكلام كثيرا ما يُنسى المقصود)،هذا ما دعا إليه الكاتب الأرواح العاشقة إيقاظ المسيح من رقدته [ان استيقظت إنسانيتنا لا فرق بين مُعطي ومُعطى له تتبدّل الأيام في لحظة وتتبادل الأدوار ،فالانشغال بالأغيار أهدر الكثير منا وضيّع أوقاتنا وأزعجنا وآلامنا ولم يبق لنا إلا القليل]،أليس هذا هو النور الذي رآه الكليم ؟أوليس الانشغال بالأغيار هو على وجه الحقيقة هو ذلك الليل ،مما لفت انتباهي أن الليل لم يُذكر في قصة الكليم ولك أن تضرب كفا بكف وتفتح نافذة نفسك لتبدد ظلمات الوهم والتجسيم الذي يعلو مفرقك؟!.

من النور الذي آنسته في كتاب [كنت نيئا] لمولانا خالد عبده حديثه الرمزي عن الحانة والخمر والسكر ،توجّهت أبصارنا إلى الزجاجة والكأس والألوان ،وهناك حيث ذهبت خيالاتنا يجلس الجميع حيث تذوب كل الفوارق ،لا فرق بين غني وفقير وحقير ،ليس ثمة إلا احتساء الشراب والنشوة والضحك والكتف إلى الكتف [في الحانة تذوب جميع الفوارق بين البشر أكثر من أماكن العبادة مع الاستغراق في احتساء الشراب وتكون الحواس في شعور بحقيقة ما يُطلب منها…في الحانة تكثر لحظات الصدق]،هذا حديث الروح إلى الأرواح العاشقة الملول من زيف الصور والأشباح ،إن نفوسنا أصابها الحوَل كقصة مولانا الرومي في المثنوي عن الرجل الأحول الذي طلب منه صاحبُه أن يأتيه بالزجاجة من الغرفة ورجوعه إليه قائلا :أي الزجاجتين تقصد وجوابه له (اكسر إحداهما واتني بالأخرى)؟،الأرواح العاشقة تُدرك أنه ليس ثمة حديث عن خمر وحانة إنما هو حديث عن صدّق وصديقية ،إنها دعوة لحمل الفأس الإبراهيمية لكسر زجاجات الخمر المعصورة من الشهوة والغفلة ،

آنست في[كنت نيئا] أنوار أبي سعيد المَيهني الذي كان يعقد مجالس الوعظ لمريديه ، وكان بجنبه سكارى علا صوتهم فذهب أصحابه وهدموا عليهم المنزل، وجواب أبي سعيد لهم [أنّهم انشغلوا بالباطل لدرجة أنّهم لا يشعرون بما أنتم فيه من حقٍّ وأنتم بالرّغم من رؤيتكم للحقِّ فلم تنشغلوا به حتّى لا تشعرون بباطلهم]، فكانت الثّمرة توبتهم على يديه، كما كان اليهود والمسيحيّون يسلمون على يديه ويعظّمونه.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين

يتبع في حلقة أخرى –إن شاء الله.

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!