الأسرة الدندراوية وإنسانية الإسلام
بقلم: خالد محمد عبده
في عام 2003 التقيتُ بخلفاء الشيخ محمد الكسنزان شيخ الطريقة الكسنزانية بالعراق، جاء بعض المريدين الصادقين إلى مصر وقد أرادوا وقت إقامتهم في مصر نشر طريقتهم بكافة الوسائل المتاحة لديهم رغم ضيق حالهم.. رأيت في سلوكهم إخلاصًا نادرا ومحبة حقيقية للشيخ ومتابعة له، لم أجدها في البلاد العربية وإن وجدت شبيها لها وقت صحبتي لأتباع الشيخ ناظم الحقاني القبرصي.. لامني البعض وقت اقترابي من الطريقة الكسنزانية فأتباعها في نظر البعض يهتمون بالخوارق فحسب وهم نموذج لا يعبّر عن التصوف .. لكنني لم أستمع إلى ما يشاع عن أحد وأكوّن معارفي عبر المخالطة بالبشر ومتابعة إنتاجهم، وللشيخ الكسنزان جهد مشكور بخلاف التربية في تبسيط المعارف الصوفية تجسد ذلك موسوعته الصوفية الكبرى وما نشر عن الطريقة من دراسات علمية طبعت في الطليعة ببيروت يعد مدخلا جيدا للتعرّف عليهم.
بدأت الحديث بشيء من دفتر الذكريات لرسوخه في ذهني تعبيرا عن إيجابيات الفكر الصوفي في البلاد العربية .. لكنني الآن في حضرة إنسانية وتجمّع إسلامي أوسع من اقتصاره على التصوف والروحانية، هو جمع قبائل وعائلات الأسرة الدندراوية الذي بدأ من صعيد مصر وانتشر في الأقطار الإسلامية والعربية في افريقيا وأسيا .. ينعقد في هذه الأيام منتداهم الاقتصادي السنوي .. وفي الآن نفسه يحتفلون ويفرحون بالمصطفى فرحًا يعبّر عن “اجتهاد في العلم.. وجهد في العمل” فرحًا يتمثّل بالنبي القائل: “إن الله جميل يحب الجمال” و”إن الله نظيف يحب النظافة”، فرحا تتجسد إنسانيا فيه المتابعة لأخلاق نبي الرحمة الجامع للخلائق، الذي لا يفرّق بين أحدٍ من رسله أو أتباع رسله.
حضور هذا الجمع على مدار ثلاثة أيام متتالية يبلغ الالاف من الرجال والنساء والأطفال لكنهم على قلب رجل واحد، الكل يرتدي لباسًا أبيض يذكرك بموسم الحج، الوافدون من ماليزيا والسودان ولبنان وسوريا واليمن والزائرون من محافظات مصر المحروسة الكل يلبي نداء الجمع ليفرح بالنبي ويصلي على النبي ويعرض ثمرة إنتاجه وتعبه على مدار العام ..
تصدّر الجمع في يومه الأول في الصف الأول مجموعة من رجال الدين المسيحي ومشايخ أزاهرة والصلاة على النبي سارية ومستمرة؛ فليس غريبا هنا أن يذكر أكثر من قسّ حديثا للمصطفى عن العمل وإتقانه ويقوم بشرحه فترد الجموع عقب كلامه: “اللهم صلّ عليه”.
خطبة الجمعة في دندرة جعلتني أتذكر بيت شعر ليونس إمره
كل نحلة تدخل الخلية تصلّي على النبي!
فللمرة الأولى في مصر منذ فترة أستمع إلى خطبة الجمعة وتبدو لي كقصيدة حب لا تنتهي في مدح المصطفى والفرح به .. حشودٌ تصلي بفرح وتشتاق بصدق .. وأقول لا بد من قُبلة على جبين هذا الخطيب الذي جعل الناس تهتف بالصلاة على الحبيب.. الكلّ ينسى نفسه في حضرة الخطيب، هذا شعور جديد عليّ، فخطبة الجمعة دوما مدعاة للنقد والتساؤل .. أين هي من تجديد الخطاب الديني.. لكنك تنسى هنا جميع الأسئلة والانتقادات ولا تتمالك نفسك فتغسل تراب سفرك دموع عينيك.
لم ترد كلمة التصوف في أيّ من كلمات أمير الأسرة الدندراوية أو المجموعين تحت رعايته من أبناء الأسرة، فبناء الإنسان الفاعل في مجتمعه هدف الأسرة وأميرها.. يحاولون ما استطاعوا تثوير قيم الإسلام الحضارية عبر العمل، ويجتهدون في تكوين وتحقيق الإنسان، لذا لا وقت لديهم للوقوف طويلا أمام الألفاظ والشعارات والصور كما هو حادث عند بعض الطرق الصوفية المنتشرة اليوم .. لبُّ المعنى هنا عند الدندراوية هو العمل .. والصور عرضٌ لا جوهر.. يكفي أن يبدأ أمير الجموع والقبائل ليلة الوقفة مع النفس باعتذار يقدّمه على المنصة لسيّدة اتصلت به ولا يعرفها .. ثم ينزل من على المنصة ويطلب من الحضور أبناء الأسرة الدندراوية أن يسائلوه. يصعد الواحد تلو الآخر فيعرض رأيه عن فكرة .. أو حول مشكلة .. أو مطلب .. فيجيب الأمير بالعربية وبالإنكليزية على أسئلة الجميع .. ولا يترك سؤالا مذاعا ألا ويتحقق ويحاول أن يساهم في علاج المشكلة عبر إشراكه للآخرين صغارا وكبارا؛ لا فرق هنا بين شيخ مسنّ أو شابٍّ في مقتبل العمر، الكلّ ينادي غيره ب”أخينا” والأخوة هنا محبة ومشاركة بالفعل.
هنا أكبر تجمّع صوفيّ لم أر مثله إلا في زيارتي للسنغال وقت مشاركتي في مؤتمر الطريقة المريدية في العاصمة الصوفية ‘طُوبى’ لكن الفارق هنا عدم الاقتصار على مشرب أو طريقة .. يمكنك أن تكون فردا في الأسرة وتسمع وتستفيد من أي شيخ صوفي يساعدك على تكوين وبناء ذاتك .. أو تطلب العلم الديني على يد شيخ في أي مكان تريد .. لا ينهى أمير الجموع عن ذلك .. يذكّرنا هذا برسالة الشيخ ماء العينين عن المؤاخاة بين أتباع المشارب الروحية المتنوعة .. ربّما لم تفعّل رسالة شيخ الصحراء في بلاد المغرب وموريتانيا .. لكن كل شيء يقال هنا متجسد في أفعال الجموع حقيقة وواقعا.
تقتضي هذه الوقفة أن أركّز على كلمة “المنتدى الاقتصادي” فذكر كلمات الاقتصاد والاجتماع والنشاط مقرونا بجموع صوفية أضحى حلمًا عند كثيرين من محبي التصوف .. لأن ربط التصوف بالعزلة والهروب من مشكلات المجتمع مسلّمة ثابتة في أذهان البعض، وهو أمر غير صحيح بطبيعة الحال؛ ويؤيد عدم صحته التاريخ والتراث الإسلامي ، لكن الناس قد ملّت من استدعاء التراث والتغنّي بمآثر الماضي .. لذا نقول لمن يبحث عن مشاركة فاعلة في الاقتصاد والمجتمع عند صوفية متحققين فليتابع نشاط الأسرة الدندراوية في تشغيل المئات والالاف من الشباب، ورعاية مشاريعهم زراعة وصناعة .. على من يبحث عن نموذج حي للحوار والتعايش بين الإسلام والمسيحية بالتعرف على تفاعل الكنيسة ورجالها مع الأسرة الدندراوية فالمحبة الجامعة بينهما تصل إلى حد استضافة الكنيسة لضيوف الأسرة ويقيمون فيها كأنهم في بيوتهم .. لا فرق بين بيت لمسلم دندراوي أو بيت عبادة مسيحي .. هنا الإنسان يتحقق بالمحبة وبالصدق والخدمة.