الحارث بن أسد المحاسبي وخصائص مدرسته في التصوف
بقلم: بلحوت نور الدين
أستاذ بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس
مقدمة:
إن التصوف شكل من الأشكال الثقافية المكونة للفكر الإسلامي بصفة عامة، ذلك أن التراث الفكري للحضارة الإسلامية يضم علوما ومعارف كثيرة (الفقه وأصوله، والتفسير والمنطق والعلوم الطبيعية …) يحتل فيها التصوف مكانا بارزا. فالمتصوفة اجتهدوا في مجال أعمال القلوب وأمراض النفوس وأدوائها، كما اجتهد غيرهم في أبواب الفقه أو الحديث أو الكلام والعقائد، من كل طائفة مجتهد ومصيب. ولقد افترق المسلمون في موقفهم إزاء التصوف، إلى ثلاث فرق رئيسية: الفرقة الأولى مالت إلى القبول التام والانتصار للتصوف والفرقة الثانية حملت شعار الرفض المطلق للفكر الصوفي، أما الفرقة الأخيرة والتي يمثلها أصحاب تيار الوسط، فإنها لم ترفض هذا الفكر بكليته ولم تقبله بجملته، وإنما احتفظت منه بما لا يتعارض مع قواعد الشرع، ولا يتنافى مع أصول العقيدة.
ولا ريب أن الباحث الحصيف لا يصعب عليه فهم العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية التي تكمن وراء انتشار موقف الفرقتين الأولين وأن عامل رد الفعل -إلى حد ما- يلعب دورا أساسيا في نشأة الموقفين: موقف الانتصار وموقف الرفض، باعتبار أن التصوف في الإسلام كان- من حيث النشأة والانتشار- رد الفعل تجاه الصراعات السياسية، وحياة البذخ والترف التي انتشرت في منتصف القرن الثاني للهجرة، خاصة حين صعود نجم الدولة العباسية . ومن هنا فإن الميل إلى التصوف والدفاع عنه قد يكون بسبب ذلك.
كما أن موقف الرفض يعتبر رد فعل تجاه المتصوفة وانزلاقاتهم، من قبل جمهور المسلمين وخاصة بعض الفقهاء، ذلك أن الطريقة التي أخذ بها عموم الصوفية، في فهم الدين، أثارت عليهم حفيظة الفقهاء الذين بذلوا كل ما في وسعهم للرد عليهم والتصدي لهم. ومع أن هؤلاء الفقهاء كانوا يهدفون بحملتهم هذه إلى غاية حميدة تتجلى في الذب عن الشريعة الإسلامية، والحفاظ على نقائها وصفائها، والحيلولة دون تسرب الأفكار الغالية، فإن موقفهم كان كثيرا ما يتسم بنوع من الشدة والقسوة، مما جعل شقة الخلاف تتسع بين الفريقين يوما بعد يوم.
ولعل موقف الفرقة الثالثة باعتداله ووسطيته أقرب إلى الصحة. ويمثل هذا الموقف كثير من علماء الإسلام، على رأسهم الشيخ العلامة أحمد بن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية والإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي وغيرهم.
يقول الشيخ ابن تيمية في هذا الصدد: “وكان المشايخ المصنفون في السنة، يذكرون في عقائدهم (أي المتصوفة) مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية، لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة، وما وقع فيه هؤلاء من فساد الاعتقاد والأعمال، أوجب إنكار طوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية، حتى صار المنحرفون صنفين: صنف يقر بحقها وباطلها، وصنف ينكر حقها وباطلها كما عليه طوائف من أهل الكلام والفقه. والصواب هو الإقرار بما فيها وفي غيرها من موافقة الكتاب والسنة “(1).
ويقول أبو إسحاق الشاطبي: “ولفظ التصوف لا بد من شرحه أولا حتى يقع الحاكم على أمر مفهوم … فلنرجع إلى ما قال فيه المتقدمون، وحاصل ما يرجع فيه لفظ التصوف عندهم معنيان: أحدهما التخلق بكل خلق سني والتجرد عن كل خلق دني، والآخر الفناء عن نفسه والبقاء لريه. وهما في التحقيق إلى معنى واحد… فيكون الأول عملا تكلفيا والثاني نتيجته … ومجموعهما هو التصوف.
وإذا ثبت هذا فالتصوف بالمعنى الأول لا بدعة في الكلام فيه، لأنه إنما يرجع إلى تفقه ينبني عليه العمل وتفصيل آفاته وعوارضه ، وهو فقه صحيح وأصوله في الكتاب والسنة ظاهرة ، فلا يقال في مثله بدعة “(2).
ثم يضيف قائلا: “وفي غرضي إن فسح الله في المدة أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل على صحتها، وأنه إنما دخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي … حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى”.(3)
وصدق الإمام الشاطبي فإنه إن كان من المتصوفة منحرفون، فقد كان منهم أئمة محققون ، للشرع حافظون وعلى حدوده وقافون، وكانت اهتماماتهم في مجال الأخلاق والسلوك متنوعة تنوع شخصياتهم ومشاربهم ، وكان من هؤلاء الحارث بن أسد المحاسبي – رحمه الله- ، وهو على عظيم قدره غير معروف كما عرف غيره ، وله منهج وأسلوب في التربية النفسية والخلقية فريد، وهدفنا في بحثنا القصير هذا أن نعرف المحاسبي أولا ، كان لا بد أن نعرض لما قيل عنه ونتتبع مصادره حتى نكشف خطأه من صوابه، وهذا أمر في غاية الأهمية ، إذ يتوقف عليه أساسا موقف كل مسلم من هذا التراث الذي تركه ومن هذا النهج الذي سلكه؛ أنمسكه ونتمسك به إذا كان الرجل موثوقا صدوقا، أم ندسه في التراب إن كان صاحب بدعة وانحراف عن النهج السليم ، وكان هدفنا الثالث التعرض بإيجاز إلى أسلوب المحاسبي في إصلاح النفوس ، ومحاولة تحديد خصائصه ، ومميزات مدرسته وأثره في التراث الإسلامي عموما.
حياة المحاسبي:
- من هو المحاسبي:
أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي ، البصري المولد، البغدادي المنزل والوفاة ، لم يحدد تاريخ ميلاده بالضبط، حيث ذكر الدكتور أحمد الطيب (4) أنه ولد عام 165 ه تقريبا (781). كانت أسرته ميسورة الحال وكان أبوه ذا علم، فيوم كان عامة الناس على مذهب أهل السنة، وقف أبوه في معسكر المعتزلة.
وكان عابدا، ناسكا صوفيا، فقيها متكلما، واعظا مبكيا. سمي بالمحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه كثيرا حتى أطلقوا على أتباعه “الطريقة المحاسبية ” وهو أستاذ أكثر البغداديين، لذلك كان يلقب ب “الصوفي الأستاذ”.
2– ورعه وزهده:
تواترت الأخبار في أنه ورث عن أبيه سبعين ألف درهم ، فلم يأخذ منها شيئا، أي لأن أباه كان قدريا ، فتركه ورعا، قال الخطيب في تاريخ بغداد: “أنبأنا أبو نعيم أخبرني جعفر الخلدي في كتابه قال سمعت الجنيد يقول مات أبو حارث المحاسبي يوم مات وإن الحارث لمحتاج إلى دانق فضة وخلف مالا كثيرا وما أخذ منه حبة واحدة وقال أهل ملتين لا يتوارثان (وقال : صحت الرواية أنه لا يتوارث أهل ملتين شيئا”) وكان أبوه واقفا”. وقال أيضا: أنبأنا أبو نعيم قال سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا علي بن خيران الفقيه يقول: “رأيت أبا عبد الله الحارث بن أسد بباب الطاق في وسط الطريق متعلقا بأبيه والناس قد اجتمعوا عليه يقول له طلق أمي فإنك على دين وهي على غيره”.
وقد عاش المحاسبي غريبا وسط مغريات بيته، ومغريات عصره، لا تستهويه نزوة ولا تقهره شهوة، يحكي الجنيد- رحمه الله- (تلميذه الأشهر) أنه كان (أي الجنيد) يؤثر العزلة مخافة رؤية الشهوات ومخالطة الشبهات، فكان لا يحب أن يجيب أستاذه المحاسبي – رحمه الله – في دعوته إلى الخروج من بيته قائلا: “عزلتي أنسي”، فكان المحاسبي – رحمه الله- يرد عليه بقولة – لله دره فيها- : “كم تقول لي: عزلتي أنسي ، والله لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنسا، ولو أن النصف الآخر نأى عني ما استوحشت لبعدهم “.
وروي أنه كان إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك من إصبعه عرق ، فكان يمتنع منه. قال الجنيد: “مر بي يوما ، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت : “يا عم، ندخل الدار وتتناول شيئا” ، فقال: “نعم”. فدخلت الدار، وحملت إليه طعاما، من عرس قوم؛ فأخذ لقمة وأدارها في فيه مرارا، ثم قام وألقاها في الدهليز وفر، فلما رأيته بعد أيام، قلت له في ذلك ، فقال : “إني كنت جائعا ، وأردت أن أسرك بأكلي وأحفظ قلبك، ولكن بيني وبين الله علامة: ألا يسوغني طعاما فيه، شبهة ، فلم يمكنني ابتلاعه، وفي رواية: إذا لم يكن عند الله مرضيا ارتفع إلى أنفي منه فورة فلم تقبله نفسي “فمن أين لك ذاك الطعام؟” فقلت: ” إنه حمل من دار قريب لي من العرس “، ثم قلت له: ” تدخل اليوم ” فقال : “نعم” فقدمت إليه كسرا كانت لنا فأكل ، وقال : ” إذا قدمت إلى فقير شيئا فقدم له مثل هذا “.
يتبين من هذه الحوادث أن المحاسبي – رحمه الله- كان قوي الشخصية وكان ورعا شديد الورع صريحا بالغ الصراحة ومخلصا عميق الإخلاص. وكان كما لو أنه يتمثل قول إبراهيم بن أدهم: “عليك بعمل الأبطال: الأكل من الحلال والنفقة على العيال “.
3- عصره والبيئة التي نشأ فيها:
ولد المحاسبي – رحمه الله – في زمن خلافة المهدي العباسي، ولما استخلف هارون الرشيد كان له من السنوات خمس، عاش عصر الأمين ثم المأمون ثم المتوكل فالواثق، وكان هذا زمن العلوم والمعارف وزمن الأئمة العظام والمفكرين الكبار. وحتى نقدم بيئة ذلك العصر يكفي أن نذكر بعضهم أمثال مالك بن أنس (ت 179هـ) وأبي يوسف (ت182 هـ) وأبي الحسن (ت204 هـ) في علوم الشريعة، وفي التصوف: الحافي (ت 227هـ) والكرخي (ت200هـ/ 81م) وذي النون المصري (ت 245هـ/859م)، وفي الإلهيات والأدب العلاف (ت 235هـ) والنظام (ت 231هـ) وأبي نواس (ت 199 هـ/813 م) في الشعر. وقد عاصر المحاسبي الإمام أحمد ابن حنبل ولقيه مرات ودارت بينهما حوارات في مناسبات عديدة.
لكن زمن المدينة والحضارة هذه رافقه انحلال أخلاقي، مثلته الجواري الغلاميات، ابتكار الفرس الذين ساعدوا العباسيين، وكان عصر الهجوم على عقائد الإسلام كالقول بخلق القرآن التي تصدى لها أهل السنة كأمثال ابن حنبل ومن معه ومن بعده.
وقدم المحاسبي -رحمه الله – بغداد من البصرة، وكانت سنة إذ ذاك مبكرة ، وجدها تموج بتيارات فكرية مختلفة يصفها الشيخ عبد الحليم محمود قائلا(5): “ثقافة يونانية وافدة تريد أن تأخذ حق الإقامة متغلبة، وثقافة فارسية يحاول أصحابها فرضها بما لهم من تأثير ونفوذ في مراكز الحكم، وبالمال والثراء والترف الفكري، تنفيسا عن الكبت الحاصل من سقوط ملكهم (6) ومنافسة للثقافة الإسلامية البحتة. وثقافة عربية مشوبة بثقافات أخرى كأنما تريد أن تجد حلا للتعارض بين مختلف الألوان والأجواء الثقافية. وأخيرا ثقافة إسلامية تجاهد في أن تفوز بقيادة المجتمع إلى الهداية الربانية والرشاد الإلهي. إلى هذا قدم المحاسبي مستزيدا من العلم والثقافة، فدرس بجد واجتهاد لكن هل من اليسير اختيار الطريق في وسط تتجاذبه الثقافات وتغريه المذاهب ولكل منها منطق.
4. المحاسبي يصف أزمته وحيرته:
كان المحاسبي ذا حس نقدي فائق، لا يرضى عن مناهج التعليم في عصره، ولا يسلم بمقولة أو معقولة ما لم يزنها بميزان الحق، فهو لا يحب أن يذهب مذاهب الناس مغمض العينين.
بهذه الشخصية وفي تلك البيئة إذن، مرت على المحاسبي – رحمه الله- فترة من عمره عصيبة، وهي تلك التجربة القاسية بحثا عن السبيل القويم في بحر أمواجه الطوائف والفرق؛ الغرقى فيه كثيرون، ومن نجا منه قليلون، وكل حزب بما لديهم فرحون. هناك وقف الرجل مترويا متأملا ناقدا، ودارسا متفحصا، لكننا لا ندري: أطال به الوقوف متى استقر الرأي عنده على الطائفة التي اختار؟
أقبل المحاسبي ينظر في هذه المذاهب والتيارات ، وينظر فيما لكل منها وما عليه في حالة حيرة وعزلة في البداية ، بما يشبه أزمة نفسية ، لكن هذه الحالة العسيرة تمخضت عنها شخصية جديدة .
وصف المحاسبي تلك الأزمة في مقدمة كتابه “النصائح” ، في نص ننقله كاملا لأهميته البالغة، ثم نعود لاحقا إلى التعليق عليه واستخلاص مدلولاته العميقة. تحدث في مقدمته عن تلك الحيرة التي انتابته أثناء بحثه عن السبيل الحق، يقول المحاسبي – رحمه الله- : “فقد انتهى البيان إلى أن هذه الأمة تفترق على بضع وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية ، والله أعلم بسائرها فلم أزل برهة من عمري أنظر اختلاف الأمة، وألتمس المنهاج الواضح، والسبيل القاصد، وأطلب من العلم والعمل، وأستدل على طريق الآخرة بإرشاد العلماء، وعلقت كثيرا من كلام الله عز وجل بتأويل الفقهاء، وتدبرت أحوال الأمة ، ونظرت في مذاهبها وأقاويلها ، فعلقت (كذا) من ذلك ما قدر لي ، ورأيت اختلافهم بحرا عميقا غرق فيه ناس كثير، وسلم منه عصابة قليلة.
ورأيت كل صنف منهم يزعم أن النجاة لمن تبعهم، وأن المهالك لمن خالفهم. ثم رأيت الناس أصنافا. فمنهم العالم بأمر الآخرة، لقاؤه عسير، ووجوده عزيز ومنهم الجاهل، فالبعد منه غنيمة . ومنهم المتشبه بالعلماء، مشغوف بدنياه ، مؤثر لها. ومنهم حامل علم منسوب إلى الدين، ملتمس بعلمه التعظيم والعلو، ينال بالدين من عرض الدنيا. ومنهم حامل علم لا يعلم تأويل ما حمل. ومنهم متشبه بالنساك، متحرك للخير، لا غناء عنه عنده، ولا نفاذ لعلمه، ولا معتمد على رأيه. ومنهم منسوب إلى العقل والدهاء، مفقود الورع والتقى. ومنهم متوادون، على الهواء واقفون، وللدنيا يذلون، ورئاستها يطلبون. ومنهم شياطين الإنس، عن الآخرة يصدون ، وعلى الدنيا يتكالبون ، وإلى جمعها يهرعون ، وفي الاستكثار منها يرغبون ، فهم في الدنيا أحياء، وفي الغرف موتى ، بل العرف عندهم منكر، والاستواء (بين الحي والميت) معروف .
فتفقدت في الأصناف نفسي، وضقت بذلك ذرعا، فقصدت إلى هدى المهتدين بطلب السداد والهدى، واسترشدت العلم ، وأعملت الفكر، وأطلت النظر، فتبين لي من كتاب الله وسنة نبيه ، وإجماع الأمة ، أن اتباع الهوى يعمي عن الرشد، ويضل عن الحق ، ويطيل المكث في العمى.
فبدأت بإسقاط الهوى عن قلبي، ووقفت عند اختلاف الأمة مرتادا لطلب الفرقة الناجية ، حذرا من الأهواء المردية ، والفرقة الهالكة، متحرزا من الاقتحام قبل البيان ، وألتمس سبيل النجاة لمهجة نفسي. ثم وجدت باجتماع الأمة في كتاب الله المنزل أن سبيل النجاح في التمسك بتقوى الله، وأداء فرائضه والورع في حلاله وحرامه وجميع حدوده ، والإخلاص لله تعالى بطاعته، والتأسي برسوله صلى الله عليه وسلم فطلبت معرفة الفرائض والسنن عند العلماء في الآثار، فرأيت اجتماعا واختلافا، ووجدت جميعهم مجتمعين على أن علم الفرائض والسنن عند العلماء بالله وأمره، الفقهاء عن الله ، العاملين برضوانه، الورعين عن محارمه، المتأسين برسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤثرين الآخرة عن الدنيا، أولئك المتمسكون بأمر الله وسنن المرسلين.
فالتمست من بين الأمة هذا الصنف المجتمع عليهم، والموصوفين بآثارهم. واقتبست من علمهم، فرأيتهم أقل من القليل، ورأيت علمهم مندرسا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء”. وهم المتفردون بدينهم. فعظمت مصيبتي لفقد الأولياء الأتقياء، وخشيت بغتة الموت أن يفاجئني على اضطراب من عمري -لاختلاف الأمة – فانكمشت في طلب عالم لم أجد لي من معرفته بدا، ولم أقصر في الاحتياط، ولا النصح، فقيض لي الرؤوف بعباده قوما وجدت فيهم دلائل التقوى، وأعلام الورع وإيثار الآخرة على الدنيا.
ووجدت إرشادهم ووصاياهم موافقة لأفاعيل أئمة الهدى، (ووجدتهم) مجتمعين على نصح الأمة، لا يرجون أبدا في معصيته ، ولا يقنطون أبدا من رحمته، يرضون أبدا بالصبر على البأساء والضراء ، والرضا بالقضاء ، والشكر على النعماء، يحببون الله تعالى إلى العبيد بذكرهم أياديه وإحسانه، ويحثون على الإنابة إلى الله تعالى ، علماء بعظمة الله ، علماء بعظيم قدرته، وعلماء بكتابه وسنته ، فقهاء في دينه ، علماء بما يحب ويكره ، ورعين على البدع والأهواء، تاركين للتعمق والإغلاء، مبغضين للجدل والمراء، متورعين عن الاغتياب والظلم، مختلفين لأهوائهم ، محاسبين لأنفسهم ، مالكين لجوارحهم ، ورعين في مطاعمهم وملابسهم وجميع أحوالهم ، مجانبين للشبهات ، تاركين للشهوات ، مجتزئين بالبلغة من الأقوات، متقللين من المباح ، زاهدين في الحلال ، مشفقين من الحساب ، وجلين من المعاد ، مشغولين بينهم ، مزرين على أنفسهم من دون غيرهم ، لكل امرئ منهم شأن يغنيه ، علماء بأمر الآخرة وأقاويل القيامة، وجزيل الثواب وأليم العقاب ، وذلك أورثهم الحزن الدائم والهم المقيم ، فشغلوا عن سرور الدنيا ونعيمها.
ولقد وصفوا من آداب الدين صفات، وحدوا الورع حدودا ضاق لها صدري، وعلمت أن آداب الدين وصدق الورع بحر لا ينجو من الغرق فيه شبهي، ولا يقوم بحدوده مثلي ، فتبين لي فضلهم ، واتضح لي نصحهم ، وأيقنت أنهم العاملون بطريق الآخرة، والمتأسون بالمرسلين ، والمصابيح لمن استضاء بهم ، والهادون لمن استرشد.
فأصبحت راغبا في مذهبهم، مقتبسا من فوائدهم، قابلا لآوابهم (كذا)، محبا لطاعتهم، لا أعدل بهم سببا ولا أوثر عليهم أحدا، ففتح الله لي علما اتضح لي برهانه، وأنار لي فضله، ورحوت النحاة لمن اقتربه (كذا) (ولعل أقر به) أو انتحله، وأيقنت بالغوث لمن عمل به، ورأيت الاعوجاج فيمن خالفه. ورأيت الرين متراكما على قلب من جهله وجحده. ورأيت الحجة العظمى لمن فهمه. ورأيت انتحاله والعمل بحدوده واجبا عليه، فاعتقدته في سريرتي، وانطويت عليه بضميري ، وجعلته أساس ديني ، وبنيت عليه أعمالي ، وتقلبت فيه أحوالي.
وسألت الله عز وجل أن يوزعني شكر ما أنعم به علي، وأن يقويني على القيام بحدود ما عرفني به، مع معرفتي بتقصيري في ذلك ، وأني لا أدرك شكره أبدا(7)أ.ه
وهكذا وجد المحاسبي – رحمه الله- نفسه في معسكر أهل السنة عموما، وفي تيار الصوفية منهم خاصة، فالصوفية أصلا من أهل السنة؛ ذلك لما اشتهر من كل طائفة زهاد وعباد- حقا أو باطلا-، اشتهر الزهاد من أهل السنة باسم الصوفية (8) ومعروف أن عموم المتصوفة من أهل السنة ، وقد حدث أن القشيري ذكر في رسالته أن الصوفية أشاعرة – لأنه كان كذلك – ، فرد عليه ابن تيمية مبطلا زعمه ومبررا نسبتهم إلى أهل السنة – وهذا حال عموم المتصوفة – عدا الغلاة منهم من خرج عن ذلك.
إن هذا النص يصف الأثر النفسي العميق لهذه البيئة على المحاسبي أثر مزدوج ، كقدوة دخل هذه المعركة القاسية ، وكعالم باحث. وفي هذا النص نلاحظ قوة الشبه بما حكاه الغزالي عن حيرته المشابهة بين الفرق والطوائف والعلوم والمعارف حتى إن اللفظ لينسجم ويتفق، فالمحاسبي – رحمه الله- يصف نهاية الأزمة بقوله : “ففتح الله لي علما اتضح لي برهانه، وأنار لي فضله، ورجوت النجاة لمن أقر به أو انتحله، وأيقنت بالغوث لمن عمل به، ورأيت الاعوجاج فيمن خالفه”. والغزالي يصف خروجه من الأزمة قائلا في المنقذ من الضلال (9) بقوله: ” ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر”، وقد وقعت في المنقذ من الضلال على جملة هامة يصف فيها الغزالي حيرته: ” ولا أبعد أن يكون قد حصل ذلك لغيري ! بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة ولكن حصولا مشوبا بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات”، وأغلب الظن عندي أنه ممن قصد في كلامه المحاسبي والشعري (الذي مر بأزمة مماثلة تمخض عنه فكره الجديد بعد أن كان معتزليا) اللذين اقتبس منهما ما اقتبس. ولعل ذلك الذي جعل الشيخ عبد الحليم محمود يعتبر ما وقع للمحاسبي ” أساسا” لما كتب المنقذ من الضلال للغزالي.
5 . أصحابه:
كان الحارث معلما قدوة، وكان ممن صاحبه وأخذ عنه – أو سمع منه- من الأعلام ذوي اليد الطولى في العلم:
– ابن مسروق – الجنيد البغدادي – أبو علي بن خيران الفقيه وغيرهم …
– أحمد بن الحسن الصوفي- إسماعيل بن إسحاق السراج- أحمد بن القاسم
مؤلفاته وباعه ق العلوم والخطابة:
في تلك البيئة الطيبة، وفي ذك العهد الزاهر أخذ المحاسبي – رحمه الله- بحظ وافر من هذه العلوم ، فكان رحمه الله عالما بالأصول والمعاملات ، واعظا مبكيا في وعظه ويكفيه شهادة تأثر ابن حنبل الشديد من وعظه وبكاؤه حتى غشي عليه أو كاد- وهو ما أدراك من هو: صاحب كتاب الزهد والزاهد الذي ذهب صيته في الآفاق – ، وللمحاسبي كتب كثيرة في الزهد وفي أصول الديانات والعقائد والرد على المعتزلة والرافضة وغيرهما، وكتبه ليست بالهشة الخفيفة بل كلها أصول ومراجع معتمدة لمن بعده .
وإن لم يثبت أخذه عن الإمام الشافعي – (ذكره أبو منصور البغدادي في أصول الدين) فقد كان من كبار الشافعية كما أورد السبكي في طبقاته.
أما الحديث فقد كان المحاسبي له دارسا وبه محيطا، كما شهد له بذلك الأئمة الأعلام، ونكتفي بحديثين يرويهما بسنده دليلا على ذلك:
- ” أنبأنا أبو نعيم الحافظ حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي حدثنا الحارث أسد حدثنا محمد بن كثير الصوفي عن ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمان بن الأسود عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: “شغل النبي صلى الله عليه وسلم من أمر المشركين فلم يصل الظهر والعصر والمغرب والعشاء فلما فرغ صلاهن الأول فالأول وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف”.
- “حدثني الحسن بن محمد الخلال حدثنا عمر بن أحمد الواعظ حدثنا أحمد بن القاسم نصر بن زيد الشاعر أنبأنا محمد بن علي بن مخلد الوراق أنبأنا أحمد بن محمد بن عمران حدثنا أحمد بن القاسم بن نصر أخو أبي الليث حدثنا الحارث بن أسد المحاسبي حدثنا يزيد بن هارون حدثنا شعبة وقال الخلال عن شعبة عن القاسم عن عطاء الكيخاراني عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أفضل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حسن الخلق “، فلا غرابة إذن في أن المحاسبي جعل هذا الحديث رأس الأمر في حياته.
وقد ذكر غير واحد من العلماء أنه حدث المحاسبي عن يزيد بن هارون وطبقته، وروى عنه أبو العباس بن مسرور وطبقته.
- بعض أقواله:
- من أراد أن يذوق لذة طعم معاشرة أهل الجنة فليصحب الفقراء الصادقين.
- من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص، زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة.
- جوهر الإنسان الفضل، وجوهر العقل التوفيق.
- ترك الدنيا مع ذكرها صفة الزاهدين، وتركها مع نسيانها صفة العارفين.
- خيار هذه الأمة الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم، ولا دنياهم عن آخرتهم.
- من طبع على البدعة متى يشيع فيه الحق؟
- المحبة ميلك إلى المحبوب كليتك، ثم إيثاره على نفسك وزوجك ومالك، ثم موافقتك له سرا وجهرا، ثم عملك بتقصيرك في حبه.
- مؤلفاته:
وكتبه من الكثرة أن قدرت بمائتي مصنف حسب ما رواه السبكي في “طبقات الشافعية (10)”، وشيخ الإسلام المناوي في “الكواكب الدرية”، وكان أغلبها في ترقيق القلوب وهداية النفوس أي أن أغلبها في الزهد والسلوك والتصوف، ولكن له أيضا كتب كثيرة في أصول الديانات والعقائد والرد على المعتزلة والرافضة وغيرهما، لكن الظاهر أن كتبه الكلامية أهملت نظرا لحملة الإمام أحمد بن حنبل عليها إذ كان يكره الناس في ذلك ويصد عنه، وقد وصلنا قطعة جيدة من كتابه فهم القران . وكانت كتبه كما أسلفنا أصولا لمن ألف بعده . ونذكر من كتبه:
-
المخطوطات:
- آداب النفوس
- أحكام التوبة
- رسالة التصوف – التنبيه على أعمال القلوب والجوارح
- الخصال العشرة التي جربها أهل المحاسبة
- الرد على بعض العلماء من الأغنياء حيث احتجوا بأغنياء الصحابة
- شرح المعرفة وبذل النصيحة
- فصل من كتاب العظمة
- محاسبة النفوس
- مختصر المعاني
- المراقبة والمحاسبة
- النصيحة للطالبين
- فهم الصلاة
- المـخطوطات المـفقودة:
- رسالة الأخلاق
- أخلاق الحكيم
- التفكر والاعتبار
- كتاب الدماء
- كتاب الغيبة
- فهم السنن
- الرضا
-
المطبوعات:
ا- كتاب الرعاية لحقوق الله : ويعد أهم مؤلفات الإمام المحاسبي الذي عرفنا به بصيرته الملاحة ومدى معرفته بخبايا النفس.
- كتاب بدء من أناب إلى الله تعالى
- كتاب التوهم
- كتاب الوصايا
- كتاب العلم
- كتاب المكاسب
- المسائل في أعمال القلوب والجوارح
- كتاب المسائل في الزهد
- كتاب البعث والنشور
- كتب فهم القران (في علم الكلام)
- رسالة المسترشدين (كيف يقترب العبد إلى ربه)
- كتاب آداب النفوس
- كتاب مائية العقل وحقيقة معناه واختلاف الناس فيه
- معاتبة النفوس
- كتاب القصد والرجوع إلى الله
- الخلوة والتنقل في العبادة ودرجات العابدين وغيرها…..
وفاته – رحمه الله :-
ذكر الحافظ ابن كثير وابن خلكان (11) أنه مات ببغداد سنة 243 هـ. قال الحافظ (12):” قلت : وفيها توفي أحمد بن سعيد الرباطي . والحارث بن أسد المحاسبي أحد أئمة الصوفية “.
ذكر الخطيب في تاريخ بغداد وفاته، فقال (13):” حدثت عن دعلج بن أحمد قال سمعت القاضي الحسين بن إسماعيل المحاملي يقول قال لي أبو بكر بن هارون بن المجدر سمعت جعفر بن أخي أبي ثور يقول حضرت وفاة الحارث يعني المحاسبي فقال إن رأيت ما أحب تبسمت إليكم وإن رأيت غير ذلك تبينتم في وجهي، قال فتبسم ثم مات. وقال ومات سنة ثلاث وأربعين ومائتين “.
أقوال العلماء في المحاسبي:
تحريت أقوال العلماء في المحاسبي – رحمه الله – ، فوجدت أكثرهم له على المدح والثناء والتزكية ، لكن عرض لي في مواضع كثيرة أقوال يتناقلها البعض في كتب أو كتبيات أو في مواقع على الشبكة، كلها ذم له وصد عنه، وتنكير عليه وتبديع، فرأيت من الواجب أن أتحقق منها ومن مصادرها، فكانت الخلاصة التالية، ولا أزعم أني قد جمعت كل تلك الأقوال بل لعلها تكون جفها وأهمها:
-1 المادحون:
– قال الإمام الغزالي: “المحاسبي خير الأمة في علم المعاملة، وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأعوار العباد ، وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه”، وهذا تقدير كبير من عالم كالغزالي (14) ، بل لا شك أنه اطلع على أغلب كتبه حتى يقول كلاما كهذا.
– قال الشيخ زاهد الكوثري: “لقد تبطن الغزالي كتاب الرعاية في كتابه الإحياء”.(15)
– قال ابن تيمية عن الإحياء:(16) ” وفيه مع ذلك من كلام المشايخة الصوفية المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، وأما ما فيه من الكلام في (المهلكات) مثل الكلام على الكبر والعجب والحسد فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية “.
– قال السبكي: “عالم العارفين في زمنه وأستاذ السائرين الجامع بين علمي الظاهر والباطن “.
–وقال(17): كان إمام المسلمين في الفقه والتصوف والحديث والكلام، وكتبه في هذه العلوم أصول من يصنف فيها “.
– قال الشعراني: “هو أستاذ أكثر البغداديين”.
– قال التميمي: “هو إمام المسلمين في الفقه والتصوف والحديث والكلام “.
– وقال شيخ الإسلام المـنـاوي في “الكواكب الدرية“(48): ” المحاسبي البصري “عالم العارفين في زمانه وأستاذ السائرين في أوانه، عالم سار بن فضله وصوفي طار نبله، برع في عدة علوم، وتكلم على الناس فأراهم الجوهر المكنون وأحيا القلوب بوعظه، وشئف الأسماع بدرر لفظه ، تصانيفه مدونة مسطورة، وأحواله مصححة مذكورة ، وكان في علوم الأصول راسخا راجحا، وعن الخوض في الفضول جانحا، وللمخالفين الزائفين قامعا وناطحا ، وللمريدين مربيا وناصحا “.
– ذكره أبو منصور البـغـدادي في الطبقة الأولى من أصحاب الشافعي قال: “كان إماما في الفقه والتصوف والحديث والكلام وكتبه في هذه العلوم أصول من يصنف فيها وإليه ينسب أكثر متملكي الصفاتية ثم قال لو لم يكن في أصحاب الشافعي في العلوم إلا الحارث لكان مغبرا في وجوه مخالفيه “. أما مصاحبته للشافعي التي ذكرها، فقد علق عليها بن الصلاح قال: “صحبته للشافعي لم أر من صرح بها غيره وليس هو من أهل الفن فيعتمد عليه في ذلك “.
– ويقول ابن خلكان مترجما للمحاسبي: ” أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري الأصل الزاهد المشهور، أحد رجال الحقيقة وهو ممن اجتمع له علم الباطن والظاهر، وله كتب في الزهد والأصول، وكتاب الرعاية له 0″(19)
– ولما ذكره الـخطيب في تاريخ بـغـداد مـعـرفـا له قال: ” الحارث بن أسد أبو عبد الله المحاسبي أحد من اجتمع له الزهد والمعرفة بعلم الظاهر والباطن وحدث عن يزيد بن هارون وطبقته روى عنه أبو العباس بن مسروق الطوسي وغيره وللحارث كتب كثيرة في الزهد وفي أصول الديانات والرد على المخالفين من المعتزلة والرافضة وغيرهما وكتبه كثيرة الفوائد جمة المنافع .”(20)
– وقال عنه الخطيب أيضا: “كان عالما فهما وله مصنفات في أصول الديانات وكتب في الزهد. روى عن يزيد بن هارون وغيره وعنه أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي وأحمد بن القاسم بن نصر الفرائضي وأبو القاسم الجنيد بن محمد الصوفي وأبو العباس بن مسروق وإسماعيل بن إسحاق الثقفي السراج وأبو علي بن خيران الفقيه ، وذكر أبو علي بن شاذان يوما كتاب الحارث في الدماء فقال على هذا الكتاب عول أصحابنا في أمر الدماء التي جرت بين الصحابة.
وكان قد ورث من أبيه سبعين ألف درهم، فلم يأخذ منها شيئا، قيل لأن أباه كان يقول بالقدر فرأى من الورع أن لا يأخذ ميراثه … سئل عن العقل ما هو فقال: نور الغريزة مع التجارب، يزيد ويقوى بالعلم والحلم “(21)
– قال ابن الأعرابي: تفقه الحارث وكتب الحديث وعرف مذاهب النساك وكان من العلم بموضع إلا أنه تكلم في مسألة اللفظ ومسألة الإيمان وقيل هجره أحمد فاختفى مدة ومات سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
– قال الإمام الذهبي رحمه الله: ” والمحاسبي العارف صاحب التواليف: صدوق نفسه، وقد نقموا عليه بعض تصوفه وتصانيفه .” (22)
– قال الزركلي في الأعلام (23): “من أكابر الصوفية. كان عالما بالأصول والمعاملات، واعظا مبكيا، وله تصانيف في الزهد والرد على المعتزلة وغيرهم. ولد ونشأ بالبصرة، ومات ببغداد. وهو أستاذ أكثر البغداديين في عصره “.
– قال أبو نـعـيم في الحلية: ” المشاهد المراقبي، والمساعد المصاحبي، أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي، كان لألوان الحقائق شاهدا ومراقبا، ولآثار الرسول – صلى الله عليه وسلم – متقفيا “.
قال عنه لويس ماسينيون في كتاب “مصطلحات التصوف“: ” إن المحاسبي سما فيه (في كتابه الرعاية بالتحليل النفسي إلى مرتبة لا نجد لها مثيلا في الآداب العالمية إلا نادرا “.
– ويقول عنه الأستاذ ريتز (24): ” إن المحاسبي في الواقع هو منشئ مبادئ التحكم الأخلاقي المنظم في الذات في إطار التقوى الإسلامية “.
2- القادحون:
رأينا أن المحاسبي – رحمه الله- من العباد الزاهدين، ومن الذين تكلموا في الرقائق والمواعظ فأبكى، وشهد له كثير من معاصريه بالصلاح والتقوى ، لكن في مقابل هذا تتردد انتقادات وشبه حول شخصه وعمله، كان لزاما علينا هاهنا أن نتبين غثها من سمينها وخطأها من صوابها، وقد جمعت مجمل ما انتقد عليه فكان :
الاول: اشتغاله بعلم الكلام وتصنيفه فيه والرد على المعتزلة وغيرهم، وأخذه برأي جهم في الصفات.
الثاني: إيراده الأحاديث الضعيفة والموضوعات في كتبه وتصانيفه، والاستشهاد بها.
الثالث: اتهامه بالابتداع فيما كتبه وجاء به في حديثه عن الخطرات والرياء وغيره، مما لا عهد به من قبل عند الصحابة والتابعين والأئمة.
الرابع: صد أحمد وكثيرون بعده عنه، وعن كتبه. وهذه الانتقادات هي ملخص ما جاء في الأقوال التالية مفصلة: 3-
ذكر شواهد الانتقادات ونصوص ومصادرها:
أ– قصة الإمام أحمد بن حـنـبل مع الحارث المحاسبي: وقد ذكرت القصة من طرق متشابهة، ولما رأيت رمي المحاسبي بالبدعة والذم إنما كثر الاستشهاد فيه بها ، تفحصت روايتها ، فتراءت قريبة متشابهة، غير أني وجدت فيها ألفاظا وعبارات دقيقة لا يجوز إهمالها فاستحسنت أن يطلع عليها كما هي قبل أن نعود لاحقا لمناقشتها:
– روى تاج الدين السبكي عن الحافظ الكبير أبي عبد الله الحاكم بسنده المتصل إلى إسماعيل بن إسحاق السراج، قال إسماعيل: “قال لي أحمد بن حنبل: بلغني أن الحارث هذا يكثر الكون عندك (يكثر من الحضور في بيتك) فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأستمع كلامه. فقصدت الحارث وسألته أن يحضر تلك الليلة وأن يحضر أصحابه. فقال: فيهم كثرة، فلا تزدهم على الكسب (الخبز) والتمر، فأتيت أبا عبد الله (ابن حنبل) فأعلمته فحضر إلى غرفة واجتهد في ورده. وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا. ثم صلوا العتمة (العشاء) ولم يصلوا بعدها. وقعدوا بين يدي الحارث لا ينطقون إلى قريب نصف الليل. ثم ابتدأ رجل منهم فسأل مسألة ، فأخذ الحارث في الكلام ، وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطير فمنهم من يبكي، ومنهم من يحن ومنهم من يزعق وهو في كلامه . فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي عبد الله فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم ، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل. ومع هذا فلا أرى لك صحبتهم . ثم قام فخرج “. وفي رواية أخرى أن أحمد قال: لا أنكر من هذا شيئا “.
كذلك “روى الخطيب البغدادي بسند صحيح أن الإمام أحمد سمع كلام المحاسبي فقال لبعض أصحابه: ما سمعت في الحقائق مثل كلام هذا الرجل ولا أرى لك صحبته “.
– وروى الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، قال :
“وقال إسماعيل بن إسحاق السراج قال لي أحمد بن حنبل: هل تستطيع أن تريني الحارث المحاسبي إذا جاء منزلك ؟ فقلت: نعم. وفرحت بذلك، ثم ذهبت إلى الحارث فقلت له: إني أحب أن تحضر الليلة عندي، أنت وأصحابك. فقال: إنهم كثير فأحضر لهم التمر والكسب. فلما كان بين العشاءين جاؤوا وكان الإمام أحمد قد سبقهم فجلس في غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئا بل جاؤوا بين الحارث سكوتا مطرقي الرؤوس كأنما على رؤوسهم الطير حتى إذا كان قريبا من نصف الليل سأله رجل مسألة فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ فجعل هذا يبكي وهذا يئن وهذا يزعق. قال : فصعدت إلى الإمام أحمد إلى الغرفة فإذا هو يبكي حتى كاد يغشى عليه ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح فلما أرادوا الانصراف قلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله؟ فقال : ما رأيت أحدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل وما رأيت مثل هؤلاء، ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم “.
– روى الخطيب البـغـدادي في تاريخ بـغـداد، قال:
” أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب أنبأنا محمد بن نعيم الضبي قال سمعت الإمام أبا بكر أحمد بن إسحاق يعني الصبغي يقول سمعت إسماعيل بن إسحاق السراج يقول قال لي أحمد بن حنبل يوما: يبلغني أن الحارث هذا يعني المحاسبي يكثر الكون عندك فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأسمع كلامه. فقلت السمع والطاعة لك يا أبا عبد الله وسرني هذا الابتداء من أبي عبد الله فقصدت الحارث وسألته أن يحضرنا تلك الليلة فقلت وتسل أصحابك أن يحضروا معك فقال يا إسماعيل فيهم كثرة فلا تزدهم على الكسب والتمر وأكثر منهما ما استطعت ففعلت ما أمرني به وانصرفت إلى أبي عبد الله فأخبرته فحضر بعد المغرب وصعد غرفة في الدار فاجتهد في ورده إلى أن فرغ وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا ثم قاموا لصلاة العتمة ولم يصلوا بعدها وقعدوا بين أيدي الحارث وهم سكوت لا ينطق واحد منهم إلى قريب من نصف الليل فابتدأ واحد منهم وسأل الحارث عن مسألة فأخذ في الكلام وأصحابه يستمعون وكأن على رؤوسهم الطير، منهم من يبكي ومنهم من يزعق وهو في كلامه فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي عبد الله فوجدته قد بكى حتى غشى عليه فانصرفت إليهم ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا فقاموا وتفرقوا فصعدت إلى أبي عبد الله وهو متغير الحال فقلت كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله؟ فقال ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل وعلى ما وصفت من أحوالهم فإني لا أرى لك صحبتهم ثم قام فخرج “.
– وروي ابن الجوزي (25) أن الإمام أحمد بن حنبل قال عن الحارث المحاسبي ((جالسه المغازلي ويعقوب وفلان فأخرجهم إلى رأي جهم هلكوا بسببه. فقيل له: يا أبا عبد الله يروي الحديث وهو ساكن خاشع من قصته، فغضب الإمام أحمد وجعل يحكي ولا يعدل خشوعه ولينه ويقول: لا تغتروا بنكس رأسه فإنه رجل سوء، لا يعرفه إلا من قد خبره ، لا تكلمه ولا كرامة له))(26) .
– قال سـعـيد بن عمرو البرغي: شهدت أبا زرعة الرازي وسئل عن المحاسبي وكتبه فقال إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات عليك بالأثر تجد غنية هل بلغكم أن مالكا والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ما أسرع الناس إلى البدع “.
– في رواية الخطيب: “أنبأنا البرقاني حدثنا يعقوب بن موسى الأردبيلي حدثنا أحمد بن طاهر بن النجم الميانجي حدثنا سعيد بن عمرو البرذعي قال شهدت أبا زرعة وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه فقال للسائل إياك وهذه كتب بدع وضلالات عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب قيل له في هذه الكتب عبرة قال من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث بالمحاسبي ومرة بعبد الرحيم الديبلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق ثم قال ما أسرع الناس إلى البدع “.
– قال الأعرابي: تفقه الحارث وكتب الحديث وعرف مذاهب النساك وكان من العلم بموضع إلا أنه تكلم في مسألة اللفظ ومسألة الإيمان وقيل هجره أحمد فاختفى مدة ومات سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
– قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: “وقال أبو القاسم النصر اباذي: “بلغني أن الحارث تكلم في شيء من الكلام، فهجره أحمد فاختفى، فلما مات لم يصل عليه الا أربعة نفر ..” (27).
– قال الخطيب في تاريخ بـغـداد: ” وكان الإمام أحمد بن حنبل يكره للحارث نظره في الكلام، وتصانيف الكتب فيه، ويصد الناس عنه” ، وقال : ” أنبأنا إسماعيل بن أحمد الحيري أنبأنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي قال سمعت أبا القاسم النصر اباذي يقول بلغني أن الحارث المحاسبي تكلم في شيء من الكلام فهجره أحمد بن حنبل فاختفى في دار ببغداد ومات فيها ولم يصل عليه إلا أربعة نفر ومات سنة ثلاث وأربعين ومائتين “(28).
– قال بن الجوزي : “كان الإمام أحمد بن حنبل ينكر على الحارث المحاسبي خوضه في الكلام ويصد الناس عنه فهجره أحمد فاختفى في داره ببغداد ومات فيها ولم يصل عليه إلا أربعة نفر” (29).
– أورد د. عبد القادر عطا(30) في مقدمة كتاب الوصايا: “قال الحسين بن عبد الله الخرقي: سأل المروذي عما أنكر أبو عبد الله “ابن حنبل” على المحاسبي فقال أنا أتوب مما أنكر علي أبو عبد الله. فقال (أي ابن حنبل): “ليس لحارث توبة، يشهدون عليه بالشيء ويجحد، إنما التوبة لمن اعترف، ثم قال احذروا عن حارث “.
– وقال أبو بكر بن حماد(31): إن الحارث مر به ومعه أبو حفص الخصاف، قال فقلت له: يا أبا عبد الله تقول إن الله يتكلم بصوت؟ فقال لأبي حفص أجبه. فقال أبو حفص: متى قلت : بصوت ، احتجت أن تقول بكذا ، وكذا. فقال للحارث: فماذا تقول أنت؟ قال: قد أجابك أبو حفص. قال أبو عبد الله بن حنبل: أنا من ذلك اليوم أحذر عن حارث “.
– موقف العز بن عبد السلام منه: يستشهد بموقفه بأنه تكلم في نعت المحاسبي-رحمه الله-بالبدعة وإثباته ذلك في كتابه: “مقاصد الرعاية لحقوق الله عز وجل ” أو “مختصر رعاية المحاسبي “
– ورأيت كثيرا من المسلمين يتناقلون أن ابن تيمية أيضا انتقد اعتقاد المحاسبي بما يفيد أنه على ضلال في عقيدته.
التعليق على الانتقادات ومناقشاتها:
التاريخ عموما والتاريخ الإسلامي منه، يروي لنا داء في الإنسان قديما جديدا، أن يستظهر الرجل رأي أحد العلماء الكبار ليهدم عالما آخر، لكن لله الحمد والمنة فقد اختص المسلمون عن أهل الأرض قاطبة بمنهج في علوم الرواية وإسناد الأقوال إلى أهلها لم يعرفه قوم ولا حضارة أخرى، لذلك فإنني لن أدافع عن المحاسبي بل أترك الأمر لعلماء الرجال والجرح والتعديل:
– قال الذهبي في تذكرته بعد رواية القصة: “وهذه القصة صحيحة السند لا تقع على قلبي “. فما كل ما صح سنده صح متنه ، وإنما نفر قلب الذهبي مما فيها من تناقض لا يليق بعقل كبير مثل عقل الإمام أحمد. وأدخل في إنكار الذهبي تناقض أشد في رواية المروزي التي تقدمت عن أحمد أنه قال: “ليس لحارث توبة … إنما التوبة لمن اعترف ” ففيها خلل لا يصح وتناقضات مريبة:
أ- فالمروزي نفسه هو الذي روى في مسائله عن أحمد أنه لورعه كان يتوقف طويلا في تجريح راو من الرواة ، طولا قد يبلغ العام والعامين، لا بل يسارع في إغلاق باب التوبة على مسلم قبل أن يغرغر، وهذه مخالفة صريحة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، لا تصح بل مستحيلة في عرف أحمد، بل يكاد المرء يجزم على أنها مكذوبة عليه.
ب- أما قوله إن “التوبة لمن اعترف”، فقول غريب عن مسلك أحمد أيضا: فالتوبة بين العبد وربه ولم يشترط أحد- فضلا عن أن يكون الإمام أحمد- في صحتها الاعتراف العلني للناس، لا بل ذاك هو الفضيحة وهتك الستر الذي نهى عنه الإسلام أشد النهي، ومن هنا يتأكد الشك في أن هذه الرواية إنما هي بطلان وتزييف على الإمام أحمد.
– قال البيهقي (32) معلقا على الحكاية: يحتمل أنه كره صحبتهم لأن الحارث بن أسد وإن كان زاهدا فقد كان عنده شيء من علم الكلام ، وكان أحمد يكره ذلك. أو كره له صحبتهم من أجل أنه لا يطيق له طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع ” اهـ.
– وزاد الحافظ ابن كثير– رحمه الله – معقبا على تعقيب البيهقي الذي ساقه ومعللا قول الإمام أحمد: “قلت: بل إنما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي لم يرد بها الشرع (،) و(من) (33) التدقيق والمحاسبة الدقيقة ما لم يأت بها أمر، ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث المسمى بالرعاية قال: “هذه بدعة”. ثم قال للرجل الذي جاء بالكتاب: عليك بما كان عليه مالك والثوري والأوزاعي والليث، ودع عنك هذا فإنه بدعة “.
– قال ابن حجر معلقا على القصة بعدما رواها في تهذيب التهذيب: “قلت إنما نهاه عن صحبتهم لعلمه بقصوره عن مقامهم فإنه في مقام ضيق لا يسلكه أن لا يوفيه حقه “.
– ذكر الشيخ عبد الحليم محمود أن أبا حامد الغزالي– رحمه الله – ذكر هذه المسألة في المنقذ من الضلال وحسم الخلاف فيها فقال: “لقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي – رحمهما الله – تصنيفه في الرد على المعتزلة.
فقال الحارث :” الرد على البدعة فرض”. فقال أحمد: “نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولا ثم أجبت عنها ، فبم تأمن أن يطالع الشبهة من تعلق فهمه بفهمه ولم يلتفت إلى الجوانب ، أو ينظر إلى الجوانب ولا يفهم كنهه ؟”
وما ذكره أحمد، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب ، ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية، ولقد أصاب الإمام (يقصد المحاسبي) التوفيق في رأيه. ولا شك في أن المعتزلة إذ ذاك كانوا يعملون جاهدين على نشر بدعتهم ، وأن بدعتهم كانت معروفة مشهورة .
– والطاعنون بعد لا يوردون ما قاله ابن السبكي في طبقات الشافعية، حيث قال- رحمه الله – معلقا: “قلت: تأمل هذه الحكاية بعين البصيرة واعلم أن الإمام أحمد بن حنبل إنما لم ير لهذا الرجل صحبتهم لقصورهم عن مقامه. فإنهم في مقام ضيق لا يسلكه كل أحد، فيخاف على سالكه. وإلا فأحمد قد بكى وشكر الحارث هذا الشكر ولكل رأي واجتهاد ، حشرنا الله معهم أجمعين في زمرة سيد المرسلين – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم “(34).
وهذا الكلام أورده ابن كثير بعد ذكر القصة، لكن خصوم المحاسبي لا تكاد تجد فيهم له ذاكرا، لما فيه من حسن التعليق والإنصاف للمحاسبي.
وإن شئت بسطا في كلام ابن السبكي، فهو يتساءل هل أطلق أحمد – رحمه الله- كلامه على نحو ” ولا أرى لأحد أن يصاحبه” أم تراه متعلقا بشخص سائله فقط؟ فإن كان الأول؛ فهل عجز أحمد-رحمه الله- أن يدخل على أصحاب الحارث فيعظهم ويصدهم عما هم فيه ويحذرهم من المحاسبي وأمامه، وقد كان معهم في بيت واحد لا يفصلهم إلا أمتار؟ أم أنه كان لا يرى الشدة في الزهد تصلح لابن السراج نفسه (محدثه) لأنه كان أعرف به وبحاله، ففقه أنه لا يطيق ذلك، ولكن لم ينف أن غيره لا يطيقه وقد كان رسول الله ص يأذن للكهل في التقبيل والضم وهو صائم، ولا يأذن فيه للشاب الذي علم أنه لا يتمالك نفسه، وكذلك كان ص يجيب سؤالا واحدا بإجابات مختلفة حسب معرفته بالسائلين وأحوالهم ونفسياتهم واستعداداتهم، وهذا معنى كلامه: “فإنهم في مقام ضيق لا يسلكه كل أحد ، فيخاف على سالكه “، وكذلك رأى البيهقي في قوله: “أو كره له صحبتهم من أنه لا يطيق له طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع “.
– يفصل ابن حجر في تعليقه على القصة في تهذيب التهذيب بما لا يدع مجالا لشك: “قلت إنما نهاه عن صحبتهم لعلمه بقصوره عن مقامهم فإنه في مقام ضيق لا يسلكه كل واحد ويخاف على من يسلكه أن لا يوفيه حقه “.
– اللافت للنظر أن الذين أوردوا هذا وتكلموا عنه لا يذكرون شيئا من هذا كله، بل أقل مثال في الحيف عند الطاعنين في المحاسبي أنهم لا يذكرون تماما أن الإمام أحمد أثنى على حال الحارث كما حذر محدثه منه على وجه آخر، وإن كان ولا بد من الإنصاف، وجب أن نعتبر مدحه ونفصل فيه ونذكر علله كما اعتبرنا ذمه وفصلنا فيه وذكرنا علله.
فتأمل معي- يرحمك الله- هذا النص تفهم ما فهمه ابن السبكي والبيهقي وحافظ الدنيا ابن حجر، هم بعد من ابن حنبل والمحاسبي أقرب وهم لهم منا أفهم وبهم منا أعلم.
أما وقد عاينا ورأينا طرق الخصوم في تشويش الفهوم، وكشفنا تلبيس بعض المتأخرين وتدليسهم لنصر آرائهم ومذاهبهم، فلنتق في أبواب العلم مثل هذه المزالق، حتى ينجلي لنا الفهم اللائق ، فننصف ونعدل ولا ننعق مع كل ناعق.
فالخلاصة:
- أنه لم يثبت أبدا أن أحمد جرح المحاسبي صراحة، ولا أن المحاسبي رد عليه ولا على من زعم أن أحمد جرحه.
- وأن الإمامان أحمد والحارث كانا متعاصرين، وخلافهما لم يفسد للود قضية وإنما كان أحمد حمل على كتب الحارث الكلامية بسبب موقفه المشهور من الكلام عامة وكرهه له فقل تداوله – فيما يبدو- واختفت شيئا فشيئا.
- وحملة أحمد لم تكن على رأي المحاسبي – رحمه الله- وعقيدته ولو كان ذاك ما كان ابن حنبل يفوته ويسكت عنه، ونعلم أن أحمد كانا شديدا في الحق لا يتزحزح ، ورأي المحاسبي – رحمه الله – في المسائل الكلامية معروف، وهو الرأي السلفي- وهذا أمر يتفق فيه الإمامان – بل إن المحاسبي كان شديد الإنكار على المعتزلة حيث ألف في الرد عليهم ما لم يؤلف أحمد وكذلك على الصوفية ، ورأيه هذا ذكره غير ما واحد ممن ألفوا في الفرق والملل كالشهر ستاني مثلا وابن تيمية – الذي سنورد له نصين في إثبات ذلك- ، أما إنكار أحمد فكان على الأسلوب والطريقة التي كان ينصرا المحاسبي بها الدين ولا ريب أن ما قام به المحاسبي في نفس الوقت هو انتصار لأحمد- رضي الله عنهما- وتقوية له وعون على بلوغ غايته ، وانتصار للمدرسة السنية وللإسلام في عصر اشتد فيه الهجوم عليه من عقر داره .
-
شبهة رميه باتباع رأي جهم في العقيدة:
عرض لي في أثناء البحث في اعتقاد المحاسبي -رحمه الله – وإيراد قول أحمد الذي يصفه فيه باتباع رأي جهم، واتضح لي بعد استبيان الأمور أن ذلك لم يثبت ، والشواهد فيه كثيرة أكتفي منها بثلاث يغنين عما سواهن:
- كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية عنه(35):
ها هو ابن تيمية – رحمه الله- ينفي عنه أن يكون جهميا أو معتزليا، وينسبه إلى أهل السنة.
سئل ابن تيمية – رحمه الله- : “ما تقول السادة العلماء أئمة الدين – رضي الله عنهم أجمعين – في الحديث الذي ذكره البخاري مستشهدا به في صحيحه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ” إن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من فزفي : أنا الملك أنا الديان ” ، وفي قوله عليه السلام : “يقول عز وجل : يا آدم ، قم فابعث نغث النار الحديث المشهور، فإن بعض الناس قال : لا يثبت لله صفة بحديث واحد.
فما الجواب عن هذه المسألة من الكتاب والسنة، والآثار، والنظائر، وابسطوا القول في ذلك، أفتونا مأجورين؟ فكان من جوابه هذا النص الذي ننقله كاملا: “…وأن ذم السلف والأئمة لأهل الكلام والجهمية، وأهل الخوض في الأعراض والأجسام أعظم ما قصدوا به ذم مثل هذا، كما قد بسط الكلام على ذلك في موضعه.
ولما ظهرت مقالة الجهمية جاء بعد ذلك أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب يوافق السلف والأئمة على إثبات صفات الله تعالى، وعلوه على خلقه يعلم بالعقل ، واستوائه على العرش يعلم بالسمع، وكذلك جاء بعده الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وغيرهما من المتكلمين المنتسبين الي السنة والحديث.
ثم جاء أبو الحسن الأشعري فاتبع طريقة ابن كلاب وأمثاله، وذكر في كتبه جمل مقالة أهل السنة والحديث، وأن ابن كلاب يوافقهم في أكثرها، وهؤلاء يسمون الصفاتية؛ لأنهم يثبتون صفات الله تعالى خلافا للمعتزلة، لكن، ابن كلاب وأتباعه لم يثبتوا لله أفعالا تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته.
فكانت المعتزلة تقول: “لا تحله الأعراض والحوادث”. وهم لا يريدون بالأعراض الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات، ولا يريدون بالحوادث المخلوقات، ولا الأحداث المحلية للمحل، ونحو ذلك مما يريده الناس بلفظ الحوادث بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها، فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء ولا إتيان ولا مجيء، ولا تكليم ولا مناداة، ولا مناجاة ، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه.
وابن كلاب خالفهم في قولهم: لا تقوم به الأعراض، وقال تقوم به الصفات، ولكن لا تسمى أعراضا، ووافقهم على ما أرادوه بقولهم: لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته.
فصار من حين فرق هذا التفريق المنتسبون إلى السنة والجماعة، القائلون بأن القرآن غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة، وأن الله فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه على قولين ذكرهما الحارث المحاسبي وغيره.
طائفة وافقت ابن كلاب كالقلانسي، والأشعري، وأبي الحسن بن مهدي الطبري، ومن اتبعهم ، فإنه وافق هؤلاء كثير من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم: من أصحاب مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل، وأبي حنيفة وغيرهم.
وكان الحارث المحاسبي يوافقه ثم قيل: إنه رجع عن موافقته، فإن أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك، كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقي بعض كلام الحارث، فذكروا أن الحارث – رحمه الله تاب من ذلك ، وكان له من العلم والفضل والزهد، والكلام في الحقائق ما هو مشهور، وحكى عنه أبو بكر الكلاباذي صاحب مقالات الصوفية: أنه كان يقول : إن الله يتكلم بصوت، وهذا يوافق قول من يقول: إنه رجع عن قول ابن كلاب .
قال أبو بكر الكلاباذي: وقالت طائفة من الصوفية: كلام الله حرف وصوت وأنه لا يعرف كلام إلا كذلك، مع إقرارهم أنه صفة لله في ذاته، وأنه غير مخلوق، قال: وهذا قول الحارث المحاسبي ومن المتأخرين ابن سالم.
وبقى هذا الأصل يدور بين الناس حتى وقع بين أبي بكر بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة، وبعض أصحابه بسبب ذلك، فإنه بلغه أنهم وافقوا ابن كلاب فنهاهم وعابهم ، وطعن على مذهب ابن كلاب بما كان مشهورا عند أئمة الحديث والسنة”.
التعليق على كلام ابن تيمية:
حاصل كلام شيخ الإسلام هذا أمور:
- أن المحاسبي – رحمه الله- من أقطاب علماء عصره في العقائد والكلام وأصول الديانات (الملل والنحل ).
- وأنه – رحمه الله – كان من أهل السنة والحديث.
- وأنه إن وافق ابن كلاب في هذا الرأي المختلف فيه فهو لم يخرج من أهل السنة.
- وأن ما رجحه ابن تيمية – رحمه الله- أن الحارث – رحمه الله- رجع عن هذا الرأي وكان له من العلم والفضل والزهد ، والكلام في الحقائق ما هو مشهور، وأن الكلاباذي صاحب مقالات الصوفية أكد ذلك: ” أنه كان يقول: إن الله يتكلم بصوت” ، وهذا كما قال ابن تيمية: “يوافق قول من يقول: إنه رجع عن قول ابن كلاب “.
- وقد تأكد عندي ما رجحه ابن تيمية، بما رواه أبو بكر بن حماد (36): إن الحارث مر به ومعه أبو حفص الخصاف، قال فقلت له: يا أبا عبد الله تقول إن الله يتكلم بصوت؟ فقال لأبي حفص أجبه. فقال أبو حفص: متى قلت، بصوت ، احتجت أن تقول بكذا، وكذا . فقال للحارث: فماذا تقول أنت؟ قال : قد أجابك أبو حفص . قال أبو عبد الله بن حنبل : أنا من ذلك اليوم أحذر عن حارث “.
- قلت: فسبحان الله في قوم يغفلون كل هذا ويسوقون ما يشتهون قاصدين الطعن في العلماء الذين قيل فيهم: “لحوم العلماء مسمومة “.
ب- كلام ابن تيمية عن رأيه في النسخ ورده على المعطلة: أورد ابن تيمية في الفتوى الحموية كلام المحاسبي وناقشه واستشهد به في الرد على المعطلة، وفي مسألة النسخ في الآيات صفات ونحوها، وكان في كل ذلك منتصرا له مترحما عليه: “…فذهبوا إلى أن ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول: لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقل فهم عما أدركته أدنه من الصوت. وكذلك قوله (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ). (التوبة (105 لا يحدث بصرا محدثأ في ذاته، وإنما يحدث الشيء فيراه مكونا، كما لم يزل يعلمه قبل كونه. إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) الأنعام / 18 وقال أبو عبد الله (أي المحاسبي): فلن ينسخ ذلك لهذا أبدا. كذلك قوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَه) الزخرف /84، وقوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ق/ 16 ، وقوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) (الأنعام / 3) ، وقوله : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) المجادلة /7 ، فليس هذا بناسخ لهذا، ولا هذا ضد لذلك. (هذا النقل عن الحارث المحاسبي له صلة بما تقدم من النقل السابق الذي بدأه رحمه الله بقوله: وأن النسخ لا يجوز في الأخبار) وسبب سياق هذه القاعدة أن بعض المشبهين يتمسكون ببعض النصوص التي يربون بعضها ببعض، ويحتجون بها على إبطال ما أثبته الله تعالى لنفسه من الصفات. فذكر رحمه الله قوله تعالى: (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) الشعراء/15، وقوله: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) ثم ذكر آيات العلو التي يثبت بها علو الله سبحانه وتعالى، وذكر ما قد يشكل عليها من الآيات التي قد يفهم منها أن الله سبحانه وتعالى غير مستو على عرشه، كقوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) التي يستدل بها من يستدل على أنه سبحانه وتعالى بصير وأنه سميع. فإذا كانت ليست بناسخة فيجب أن تفهم على الوجه الذي وردت به، فصفة السمع والبصر صفات ذاتية له سبحانه وتعالى، فهو مازال سميعا بصيرا أزلا وأبدأ، وهو لا ينفك عن هذه الصفة “.
- نص للمحاسبي يبين بعض آرائه في الفرق:
أما عن شاهد من كلام المحاسبي نفسه، فنثبت هاهنا نصا من الرعاية يتحدث عن الخطرات ، قال- رحمه الله: “ومهما يكن من شيء فإنه إذا عرضت الخطرات عرضها (أي المؤمن) على الكتاب والسنة : فما وافق قبله وما خالف رفضه … فانه قد يقبل الخطرة يرى أنها داعية إلى سنة هي بدعة، وقد يرى أنها داعية إلى طاعة وهي معصية، وقد يرى أنها داعية إلى الخير وهي الشر. كالخطرة تدعو إلى الإخلاص بترك العمل، وإلى التنزه عن الخلق بالفكر، وإلى الرجاء على العمل بالعجب والغرة، وإلى المنافسة بالحسد، وإلى الغضب لله عز وجل بتمني البلاء في الدين والدنيا للمسلمين واعتقاد استحلال ما حرم الله منهم، ونحو ذلك من الخطرات وإلى القدر بتنزيه الله عز وجل وإلى رأي جهم بنفي التشبيه وإلى التشبيه بنفي رأي جهم، وإلى الاعتزال بتثبيت الوعيد، وإلى الخروج بالسيف بالغضب لله عز وجل، أو إلى الإرجاء بتعظيم الأقدار وتنزيه الإيمان من النقصان …
وقد تخطر الخطرة تدعو إلى بدعة في الجملة يحسبها سنة، ومما يدل على ذلك أن قلوب أهل البدع إذا خطر بها الخطرات تدعوهم إلى بدعة عدوها سنة، فكذلك أهل السنة لن يدع العدو أن يدعوهم إلى البدع عند غفلاتهم من حيث لا يشعرون .
ولو لا ذلك ما ابتدع أحد بدعة بعد اعتقاده بالسنة في عبادة ولا غيرها، لأنه قد يدعوه العدو إلى الابتداع في زهده وفي رضائه وتوكله، فيخالف زهد الأئمة المتقدمين وتوكلهم ورضاءهم ويقينهم بمخالفته السنة واعتقاده البدعة وهو يرى أنها سنة ، كما اعتقد قوم الزهد في الدنيا بتضييع العيال وبترك وجوب حق الوالدين، والتوكل بترك الاكتساب على الأهل والأولاد، والخروج في السفر بلا زاد، والرضا بالسرور بالبلاء إذا وقع بالمسلمين ، وبتحريم الدواء ، وترك التمني أن المعاصي لم تكن ، وبالاشتغال بالله عز وجل بترك الفرائض وبترك النوافل، ودعوى البصائر واستنارة القلوب بادعاء علم الغيب: من القطع على ما في ضمائر الخلق وما يسرون وما يكتمون، ويحتجون في ذلك بآثار مثل قوله ص: المؤمن ينظر بنور الله ، وكل فرقة مما ذكرنا تحتج بالآثار والكتاب والمقاييس ولكن يطول ذكرها، وإنما أردنا تحذير جملتها ليعرفها العالم المثبت بالكتاب والسنة. وكذلك الخطرات التي تدعو إلى تدين القلوب من غير عبادات بالأعمال: كالقدر ورأي جهم والرفض والاعتزال ونحوه، فلن يميز العبد بين ذلك وبين ما أحب الله إلا بشاهد العلم “.
التعليق:
إن هذا النص الذي جاء بصورة عابرة عفوية في كتاب الرعاية، يشير إلى ما كان يمكننا أن نعفه ونفصل فيه لو أننا عثرنا على كتب المحاسبي – رحمه الله- الكلامية، ولكن النص على إجماله بالغ الأهمية، إذ يبين بوضوح موقف المحاسبي من الفرق الكلامية والاتجاهات المنحرفة في التصوف .
فمن الناحية الصوفية يفيدنا النص أن المحاسبي يدعو إلى زهد يوافق السنة ولا يخالف زهد الأئمة المتقدمين من الصحابة والتابعين ، ويشنع على جهلة المتصوفة وغلاتهم ما شنع عليهم ابن الجوزي بعده بقرون ومن سبقه ومن لحق به من خلفه. ومن الناحية الكلامية، بين لنا أن المحاسبي لا ينتسب إلى المعتزلة ولا إلى الجهمية، وليس مشبها ولا معطلا، لا مرجئا ولا خارجيا ولا شيعيا كما يحلو للبعض أن يشيع دون بينة ولا دليل.
خلاصة عامة في مناقشة آراء القادحين في المحاسبي:
من خلال الدراسة يتبين:
1.أن نسبة المحاسبي – رحمه الله- إلى البدعة، جاءت من أصحاب الحديث بصفة خاصة، وكان لازما أن نتفطن إلى هذا الأمر، ذلك أن عصره – رحمه الله- اشتهر بالرواية والسند بعد أن كثر الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر خلت منه كتب المحاسبي – رحمه الله -، إذ كان همه في التعمق في المعاني ومعايشة النصوص وتفعيلها للتوصل إلى الغاية منها وهي حصول التقوى، ولم يكن ديدنه تحقيق الأسانيد وتصنيف الأحاديث صحة وضعفا…
وإن كان درس الحديث وأتقنه، ويكفي أن نذكر (37) بقول المروزي: ” قد خرج المحاسبي إلى الكوفة وكتب الحديث”، رواية في المنتظم: “يا أبا عبد الله يروي الحديث وهو ساكن خاشع من قصته ” ، حتى نفهم أن معيار ذاك العصر هو الحديث والرواية.
2. وأن ما جاء في كتبه تربة فذة مع النفس الإنسانية، من حيث اكتشاف أحوالها وسبر أغوارها، ومعرفة نزعاتها، وهو ما لم يفطن له أهل طبقته، إذ أنه أول من تكلم في ذلك على ذلك النحو المعروف عنده، فكان ذلك جديدا في بابه – بل قل فاتحة له – ،و كل جديد ينظر إليه بعين التحفظ، فإما أن يعد بدعة كما عند أبي زرعة: “هذه كتب بدع وضلالات عليك بالأثر تجد غنية هل بلغكم أن مالكا والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ما أسرع الناس إلى البدع ، ولا ضلالات في كتب المحاسبي.
3.أما خوف أن يأتي المحاسبي بالبدعة في ذلك الضرب من أحاديث النفس ومتتبعها ومراقبتها ومحاسبتها فما رأينا منه ذلك في كتبه بل كان متعقبا للبدعة مطاردا لها حتى في الخطرات وأدق الأفكار، وسنسوق نصا له يثبت ذلك بوضوح . 4. أما كره من انتقد فيه تشدده في الورع فلعل لهم فيه بعض الحق إن كان يؤدي إلى التنطع والمغالاة، وقد شهدت بنفسي من ينهى بعض الناس عن قراءة الرعاية خوفا منه أن يترك العمل والاجتهاد مخافة الرياء الذي أوغل المحاسبي- رحمه الله- في وصف ظاهره ودقيقه إلى أن كان استغرق فيه ربع الرعاية أو أزيد ، إلا أننا نرى العكس عند المحاسبي ، إذ كان هو نفسه السباق إلى النهي عن التشدد والتنطع والمغالاة في الزهد، وسنسوق مثالا من أقواله شاهدا.
بين البداية والنهاية:
ومما ينبغي التفطن له أن بداية المحاسبي لم تكن كنهايته، ففي مطلع شبابه كتب ” الوصايا” وكان فيه متشددا غاية الشدة، حتى كاد يكره حيازة المالك على أي صورة في احتجاجات طويلة، لا شك أن لعصره دورا في ذلك، وأفاض في ذلك حتى كان يقترب كثيرا من صورة أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه – ولا شك أن لتشابه البيئتين أثرا في سلوك هذا المنهج.
لكنه عاد يقول بعد استقرار الحال: “إن الزهد ليس بإهدار الملكية الفردية، بل عمل قلبي تصدقه اليد. فكم من فقير حريص، وكم من غني زاهد “.
كذلك الحال في باب المدح والذم، فقد كان في الوصايا يتشدد في القول حتى أنه لا يكاد يرى ناجيا من خلل قبول المدح والنفرة من الذم، ثم عاد في نهاية حياته يضع الضوابط الدقيقة، يفرق بين قلب يأنس بالمدح وينفر من الذم، وبين قلب يستوي عنده هذا وذاك، وهكذا في فروع السلوك التي عالجها، نلمح اندفاع الشباب في البداية، واتزان وحكمة الشيوخ في النهاية.
5. أما ابن الجوزي في تلبيس إبليس (38) فقد ذكر المحاسبي نحو اثنتي عشرة مرة هي تكرار للروايات التي رأيناها، لم يذكره بخير قط وكأنه الشر المحض ، بل زاد عليها قال المصنف وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال: “حذروا من الحارث أشد التحذير، الحارث أصل البلية – أو البلبلة- يعني في حوادث كلام جهم ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم مازال مأوى أصحاب الكلام حارث بمنزلة الأسد المرابط انظر أي يوم يثب على الناس “. وهذا ما لم أعثر عليه عند غيره، وعلى أية حال وجب التحقق من الرواية ثم مناقشتها وإن كان النقاد قد لاحظوا في هذا الكتاب حملة بلا هوادة على الصوفية الذين كان حظهم شطر الكتاب أو أزيد، ولا أحد يدافع عن أخطائهم وطاماتهم وشطحاتهم ولكن الإنصاف مطلوب.
6. ولقد تأملت ختاما في تدوين خبر وفاته فقلت: “سبحان الله ، حتى في ذكر وفاته تزكية له، فقد ذكره ابن خلكان في وفياته وليس ذلك إلا لأنه أحد أعيان الأمة ، أما قول ابن كثير عند ذكر وفاته: “والحارث بن أسد المحاسبي أحد أئمة الصوفية ” فالوصف بالإمامة دون التنكير تزكية، لأنه كان من عادة القوم إتباع ذكر الفساق والمبتدعة بأوصاف تدل عليهم وهذه لن نعثر عليها في حق المحاسبي – رحمه الله- ، أما ما جاء من أنه مات فلم يصل عليه إلا أربعة نفر فإنه لم يثبت فيها إلا روايات متأرجحة، لا أدل على صحتها من صيغتها، فأبو القاسم النصراباذي يتحدث عن ذلك بقوله: “بلغني” ، وابن الأعرابي بصيغة ” وقيل” ، بل سقت في ذكر وفاته رواية الخطيب في تاريخ بغداد عن أبي ثور الذي حضر وفاته وذكر حسن خاتمته.
وأما أنه أورد بعض الأحاديث الضعيفة، فيكون السؤال الذي وجب الإجابة عنه: هل أوردها مع علمه بضعفها؟ وقد رأينا أنه كان على علم بالحديث، فقد ذكر غير واحد من العلماء الثقاة أمثال الخطيب في تاريخ بغداد ، أن المحاسبي روى عن يزيد بن هارون وغيره وعنه أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي وأحمد بن القاسم بن نصر الفرائضي وأبو القاسم الجنيد بن محمد الصوفي وأبو العباس بن مسروق وإسماعيل بن إسحاق الثقفي السراج وأبو علي بن خيران الفقيه.
بل رأينا السبكي في طبقات الشافعية يفتخر بالإسناد عن جماعة من رجال المذهب عد فيهم المحاسبي (39).
وإن كان روى بعض الأحاديث الضعيفة في كتبه مما لم تتناوله أيدي المحققين من المحدثين بعد، كثيرا منها رواها بن المبارك في الزهد(40).
7. مناقشة موقف العز بن عبد السلام منه: لقد أعاد العز بن عبد السلام في كتابه “مقاصد الرعاية لحقوق الله عز وجل ” – أو مختصر رعاية المحاسبي- بناء كتاب ” الرعاية لحقوق الله” للمحاسبي ، فاختصره ورتبه وجمع فوائده وفصوله ، وهذا قبل كل شيء اعتراف بلسان الحال للمحاسبي ، ولم يكن العلماء من رتبة سلطان العلماء العز من يعيد ترتيب كتاب لا نفع فيه.
وأحب أن أشير إل أن ابن الجوزي الذي تهجم على الغزالي ولم يكد يبقى له وفيه خير، فعل الشيء نفسه مع الإحياء فاختصره في منهاج القاصدين. ثم إن العز وإن كان تكلم في نعت المحاسبي بالبدعة فإنه – وعلى العكس مما يذهب إليه الطاعنون – وقف مع المحاسبي، حينا وضده حينا آخر، وعلى كل حال، فإن جانب المحاسبي الصواب فهو بشر، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلوات ربي عليه ، لكنه يعود ليعد المحاسبي من صفوة الأمة في كتابه صفة الصفوة (41) فليرجع إلى الكلام في مصدره .
8.تعديل ابن حجر العسقلاني له:
لما ضقت ذرعا بتضارب الأقوال تلمست القول الفصل في كتب الرجال (الجرح والتعديل)، فوقعت على ذكر المحاسبي عند حافظ الدنيا ابن حجر العسقلاني وعند الإمام الذهبي أختم به:
ذكر ابن حجر في تقريب التهذيب: “الحارث ابن أسد المحاسبي الزاهد المشهور أبو عبد الله البغدادي صاحب التصانيف مقبول من الحادية عشرة مات سنة ثلاث وأربعين “.
وقال عنه في لسان الميزان (42): ” الحارث بن أسد المحاسبي أبو عبد الله البغدادي الزاهد المشهور”.
9. تعديل الإمام الذهبي له:
قال- رحمه الله- “والمحاسبي العارف صاحب التواليف، صدوق في نفسه، وقد نقموا عليه بعض تصوفه وتصانيفه “(43)
أما الذهبي فإنه لو ثبت عنده دليل أن يجرحه لعلة قادحة فيه، لما توانى.
10.إحصاء تاج الدين السبكي له في طبقات الشافعية الكبرى (44):
قال السبكي في مقدمة كتابه: “فأما ما سقناه من الأحاديث بالأسانيد فلقد أوقفني بعض فقهاء أبناء الزمان على نحو سبعة عشر حديثا وقعت له من طرق جماعة من الفقهاء الشافعيين وهو قد تبجح بها وأفردها.
فأنا ولله الحمد قد أسندت في كتابي هذا حديث المزني وأبي ثور وأبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي ومحمد بن الإمام الشافعي وأبي بكر الصيرفي وأبي عبيد بن حربويه وابن سريج والحارث المحاسبي والجنيد وأبي الحسن الأشعري والداركي وأبي الوليد النيسابوري وأبي بكر بن إسحاق الصبغي والشيخ أبي حامد الإسفرايني والأستاذ ابن أبي سهل وابنه سهل الصعلوكيين والقفال الكبير والماسرجسي وأبي بكر الدقاق والحليمي والأستاذ أبي إسحاق وأبي جعفر الترمذي وأبي زكريا السكري وابن فورك وأبي جعفر البحائي والقاضي أبي عمر البسطامي “
فالسبكي يفتخر بهذه الأسانيد وأصحابها من جهابذة المذهب وعلمائه، الذين عد فيهم الحارث المحاسبي، قلت: لعمري إن هذا غاية التعديل والثقة من تاج الدين السبكي، قطب الحديث ومرجع العلماء في الجرح والتعديل.
خصائص مدرسة المحاسبي ” مدرسة التحليل النفسي والتخيل”:
إن كل فعل مرتبط بالمقاصد التي يرمي إليها، وهذه المقاصد لا تبلغ إلا بالوسائل المناسبة المعينة على ذلك كان يعاب على من يرجو بلوغ غاية ثم لا يتخذ إليها الوسيلة الملائمة، ومنه قول الشاعر:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
وقد وضع المحاسبي نصب ناظريه غاية عظيمة، أجمع أمره على أن تكون وسيلته في مقصده ذاك الذي هو في ذلك بث العلم الصحيح متوسلا في ذلك الخطب والمواعظ والكتابة والتأليف على نحو جديد ومميز، أسلوبا ومضمونا بما يجعله أكثر تأثيرا، على أن الملاحظ أن عصره كان عصر العلماء، وأن الاهتمام بالعلم لم يكن ناقصا، فما الجديد الذي أتى به المحاسبي – رحمه الله- ؟
لمس المحاسبي – رحمه الله- في عصره القصور في جانبين هامين لعلهما:
اولا: التركيز على الرواية والسند لتنقية علم الحديث من الشوائب والموضوعات، وبالتالي الاهتمام الكبير ببعض هذه العلوم كالفقه والحديث، وبصورة أقل على ما يتعلق بالقلب والرقائق والزهد التي تعالج هذه الأمراض الجديدة التي عصفت بالمسلمين فتركتهم كأعجاز نخل خاوية.
ثانيا: حتى وإن كان الاهتمام بهذه الأخيرة، فقد وقع القصور في توصيلها على النحو الذي تحقق به ثمارها المرجوة في القلب والنفوس ، فقد رأى أن الوعاظ والقصاص بل وحتى العلماء لم يعودوا يبلغون هذه الغاية بسهولة كما كان سابقهم ، ومرد ذلك إلى عدم مواكبة أساليبهم تغير أحوال المخاطبين وظهور عوائق وصعوبات لم تكن فيمن قبلهم، من فشو الاهتمام بالدنيا وزخرفها وكثرة الملهيات، وتنوع الفرق والمذاهب.
فكان لزاما أن يكون هذا الأسلوب الجديد الذي اجتهد فيه متميزا عن غيره بما يجعله كفيلا ببلوغ الهدف المرسوم والغاية المنشودة، وفعلا فقد كان للمحاسبي طرائق وأساليب عرف بها، جعلت منه وله مدرسة قائمة بذاتها، وقد حاولنا ضبط خصائص هذه المدرسة – بما توفر من الوقت والجهد- في هذا البحث القصير:
- طريقته في التأليف والتعليم:
أما عن طريقته في التأليف فعجيبة، وحية مشوقة ، يذكر تلميذه الجنيد البغدادي أنه كان يطلب منه أن يخرج معه إلى الصحراء أين يطلب منه أن يسأله عما يدور في نفسه فلا يجد الجنيد ما سأل ، فيجبيه المحاسبي : ” أن اسألني عما يدور في نفسك ” ، فتنثال الأسئلة على الجنيد ويجيب عليها المحاسبي لوقته، ثم إن السؤال ليفضي إلى سؤال آخر يقتضي جوابا، قال : “ثم يمضي إلى بيته فيعملها كتابا”، وهذه أشد وقعا وتأثيرا في القلوب فهي تعبير عما يدور في الخواطر غالبا، وهي إجابة عن التساؤلات العميقة، ومن ثم فهي واقعية تطبيقية بعيدة عن التجريد والتنظير والترف الفكري، وهذه طريقة تذكرنا بطريقة سقراط . غير أن ما في بعض كتبه من العناية والترتيب والتناسق والتسلسل- كمل في الرعاية – ، يبعد الظن أنها مجرد استجابات وقتية لأسئلة لا شك أنه سئلها، قلت لا شك أنه بعد السؤال والإجابة يعمل الترتيب والتنسيق ليعظم النفع بتسلسل الأفكار، ويدعم ذلك قول الجنيد : “ثم يمضي إلى بيته فيعملها كتابا “.
ولا عجب فهذه ” الطريقة الحوارية” هي التي مازلنا اليوم نوقن بفعاليتها ونمدحها وهي التي مازلنا نسعى إلى التزامها في مناهجنا التعليمية في مختلف المراحل والأطوار لنتخلص من الطريقة السردية الجافة، ولله در المحاسبي- رحمه الله- كان منهجه تفطن إليه في زمنه ذاك تفرد به عن أقرانه.
- أسلوبه في الكتابة والتفكير والحكم على الاشياء:
المحاسبي – رحمه الله- في الكتابة دقيق الألفاظ، متين العبارات، ولا شك أن هذا حاصل له من كونه “رجل الأصول”، أي أصول الديانات كما وصفه البغدادي وابن خلكان، فقد اكتسب من التأليف في علم الكلام والتفكير في مسائله التي تتطلب جهدا كبيرا عقلية منظمة ضابطة، أخرجته من فوضى التفاصيل (45) المشتتة إلى الأحكام العامة الكلية، فالأحكام عنده تصدر عن تفكير مترو وإحاطة بالموضوع المدروس عميقة، لذلك كانت أحكامه أساسية، كانت كتبه أصولا لمن ألف بعده ، وكانت أقواله حكما. ويكفينا في هذا الباب مثال واحد حسم فيه المحاسبي جدلا طويلا- دار وما زال يدور- حول ما يجوز للمؤمن سماعه ، فقال : “ما لا يؤذن لك بقوله فلا يؤذن لك أيضا بسماعه”.
فقد رجع بالقضية الجزئية إلى ما هو أشمل منها، فشمل في بلاغة 46 وغير ما إسهاب ولا إطناب: الغيبة والنميمة ومحرم القول والغناء… وما نحا منحاها، وقد ذكرنا آنفا طائفة من أقواله شاهدة على هذه العبقرية الفريدة.
أ. أسلوب التحليل والتخويف النفسي (47) عند الحارث المحاسبي:
كان المحاسبي – رحمه الله- أول من أنشأ ونظم ما يمكن أن نطلق عليه ب “علاج النفس” أو “العلاج النفسي للشر” أو ما يسمى اليوم اصطلاحا “علم التحليل النفسي “، فمنهج المحاسبي الا لأنه كان يحاسب نفسه كثيرا حتى أطلقوا على أتباعه ” الطريقة المحاسبية. ولا شك أن المعرفة بخبايا النفس لا تأتي إلا من محاسبتها وتتبع خطراتها وحركاتها وسكناتها والعلم برغباتها وشهواتها ومكارهها.
وقد ذكر د. عبد المنعم الحفي (48) أن المحاسبة التي يقول بها المحاسبي- رحمه الله- وينسب إليها هي محور تفكيره الصوفي ولب مذهبه في التصوف، وبين رأي المحاسبي الفذ الذي مفاده أن ولي الإنسان من نفسه طباعه الحسنة وعدوه طباعه السيئة وأنه بذلك محل صراع نفساني بين الاثنين، وهذه نظرية الصراع النفسي التي لم يقل بها الأوروبيون الا بعد ألف سنة. ويعرف المحاسبي الإنسان الأخلاقي المتدين بأنه هو الذي يستخدم أولياءه ضد أعدائه، فيقاتل الغضب بالحلم والغفلة بالتفكير والسهو بالتنبيه … وهذا الكلام يعده د. عبد المنعم الحفي “أفضل ما قيل في العالم قاطبة، وعند كل الفلاسفة ، في هذا الشأن “(49).
ويصف المستشرق ماسينيون أسلوبه بأنه “إعجاز نادر” . ويقول عنه الأستاذ ريتر: ” أن المحاسبي في الواقع المنظم في الذات في إطار التقوى الإسلامية “(50)
أسلوب التخيل عند الحارث المحاسبي:
ويبدو هذا في أكثر من كتاب له كالرعاية مثلا ، لكنه كان أكثر حضورا في “كتاب الوهم” الذي طبع لأول مرة في القاهرة عام 1973 م ، بإشراف المستشرق أربري، ووصفه أحمد أمين في المقدمة التي وضعها(51) له في قوله: “نحا فيه منحى طريفا يدل عليه اسمه، فلم يقتصر على ما ورد من الأخبار في الخوف والرجاء كما فعل غيره ، بل استعمل توهمه – وبعبارة أخرى خياله – في وصف شعور أهل الجنة وأهل النار وما يلقون من سعادة وشقاء ونعيم وعذاب، وأساس لخياله القيادة فتخيل ما تخيل وصور ما صور، فهي لوحة جميلة لفنان أجاد ألوانها ، أو رواية رائعة لكاتب جمل منظرها وفصل مواقفها وصقل لغتها، حتى يؤثر بالحقيقة التي تتضمنها في نفوس القارئين والسامعين أكبر الأثر وأبلغه “.
فالمحاسبي يدعو القارئ (او السمع) إلى تخيل نفسه في المشهد الموصوف بدقة تامة وبراعة فائقة مبتدئا كل فقرة أو حادثة بقوله: ” توهم أنك.”.. ، ثم يمضي في وصف المشاهد ويدقق ويفصل ويصور ويبالغ في التصوير حتى يدخل القارئ (او السامع ) في المشهد ، ويعيش فيه ويتفاعل معه ، فيكون له في النفوس أعظم الأثر.
أما في كتب الرعاية، فالأسلوب السائد فيه التحليل النفسي العميق، وإن كان التخيل حاضرا، والاثنان معا دعما أكثر بالطريقة الحوارية الحية المؤثرة، لذلك استهل نصحه بتقديم حسن الاستماع الذي شرحنا فائدته والله-سبحانه وتعالى – ورسوله ص أثنيا على من أحسن الاستماع فاستحق بذلك المدح (52) .
يقول المحاسبي – رحمه الله- بعد الحمد والثناء على الله: “فقدم حسن الاستماع منك لما أجبتك به لعل الله- عز وجل – ينفعك بفهم ما أجبتك عنه… فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا في كتابه أنه من استمع كما يحب الله ويرضى؛ كان له فيما يستمع إليه ذكرى “.
أما الطريقة الحوارية التي ذكرناها مرارا ، فنضرب عنها مثالا من كتاب ” الرعاية لحقوق الله”، “باب ما ينال به خوف وعيد الله عز وجل “:
“قلت (أي الجنيد): فبم ينال الخوف والرجاء؟
قال: تعظيم المعرفة بعظيم قدر الوعد الوعيد
قلت : فبم ينال عظيم المعرفة بعظيم قدر الوعد الوعيد؟
قال : بالتخويف لشدة العذاب والترجي لشدة العذاب والترجي لعظيم الثواب
قلت: وما ينال التخويف؟
قال: بالذكر والفكر في العاقبة، لأن الله عز وجل قد علم أن هذا العبد اذا غيب عنه ما قد خوفه ورجاه، لن يخاف ولا يرجو الا بالذكر والفكر، لأن الغيب لا يرى بالعين، وانما يرى بالقلب في حقائق اليقين، فإذا احتجب العبد بالغفلة عن الأخرة … ولم يخف ولم يرح الا رجاء الإقرار وخوفه وأما خوف ينغص عليه تعجيل لذته … انما يجتلب بالذكر والفكر والتنبيه والتذكير لشدة غضب الله وأليم عذابه وليوم المعاد.(53)
فالنص الذي بين أيدينا وصف دقيق وتحليل مركز للطريقة التي بواسطتها يستشعر العبد الخوف والرجاء، وتضل نفسه خاضعة لتجاذب قوتيهما.
ولا بد- إن صدقت النية وخلص العمل – أن يثمر التخويف الخوف ويفضي إليه ، فكم من عاص وكم من مذنب غليظ القلب، انزجرت نفسه وتابت إلى الله ، بعد أن عاهده خالقه على التوبة النصوح وتدبر آيات الوعد والوعيد، وطاف بعقله في أرجائها وذكر نفسه بمشاهد الحشر وأهوال القيامة، واستقر في مخيلته بعض ألوان عذاب جهنم وصنوف من ملذات الجنة ونعيمها. وبعد توبته أنعم الله عليه بقلب واعظ وأذاقه حلاوة التقوى.
ويرى المحاسبي أن المسلم يملك التخويف، أي باستطاعته أن يلجأ إليه ويمارسه تكلفا، غير أنه لا يملك الخوف، وإنما يقذفه الحق سبحانه وتعالى في قلبه إن كان صادقا في تخويفه لنفسه. “إن الله عز وجل إنما خوفنا بالعقاب لنخوف أنفسنا، ورجانا لنرجيها ، والتخويف تكلف من العبد بمنة الله عز وجل وبفضله عليه، والخوف هائج منه لا يملكه … وقد يخطر الله عز وجل الخوف بقلب العبد المؤمن من غير تكلف ، أراد أن يتفضل عليه بذلك ، وإن لم يخطره بباله لم يكن العبد عنده معذورا بترك تكلفه للتخويف، كما أمره أن يخوف نفسه لأن أمره بالفكرة في المعاد، وذلك هو التخويف والترجي ، وتهدده وتوعده ليتفكر في ذلك فيخافه ويرجو” (54)
ثم إن أهم ما يعين على تخويف النفس ويعجل بقطف ثمار الخوف، ولوج باب معرفة الله وصفاته، لأن من عرف الله سبحانه وتأمل بعض أسمائه الحسني: كالجبار والمتكبر والقهار والمنتقم والمذل خافه بالضرورة، قال تعالى 🙁 إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر28. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية “. (رواه البخاري).
وخوف العلماء أثبت في النفس وأشد أثرا في الجوارح، كما أنه يولد في القلب الذل والخشوع والاستكانة من علامات رسوخه به من جريان الأنفاس، لكون صاحبه يعلم أن الله مقلب القلوب وما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل.
ومن الطرق الناجعة كذلك في استشعار الخوف، الإكثار من ذكر الموت وزيارة قبور المسلمين؛ “قال العلماء: ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه ، أن يكثر من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات وموتم البنين والبنات، ويواظب على مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور المسلمين. فهذه ثلاثة أمور، ينبغي لمن قسا قلبه ولزمه دنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه، فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت، وانجلت به قسوة قلبه فذاك ، وإن عظم عليه ران قلبه، واستحكمت فيه دواعي الذنب، فإن مشاهدة المحتضرين وزيارة قبور المسلمين، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول، لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير. وفي مشاهدة من احتضر وزيارة قبر من مات من المسلمين، معاينة ومشاهدة فلذلك كان أبلغ من الأول …”.(55)
ومما يحسن الإشارة إليه أن الإفراط في التخويف قد يأتي بنتيجة غير مرضية، ومن ثم ينبغي للمسلم أن يراعي التوازن بين حالتي الخوف والرجاء، لأن الإفراط في الخوف يؤدي إلى اليأس والقنوط، كما أن الإفراط في الرجاء يوقع في التهاون والكسل. وكان فيما قاله أبو بكر الصديق – وهو يودع الدنيا- لعمر بن الخطاب : ” ألم تر يا عمر أنها نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه “.(56)
خلاصة في منج المحاسبي ومميزاته
من خلال دراسة كتب المحاسبي – رحمه الله- ، تتبين لنا شيئا فشيئا مميزات ذلك المنهج الذي سار عليه والذي عرف به، وفيما يلي ما استطعت- بجهد المقل – استخلاصه من بين هذه العناصر وما تميزت به:
- التقيد والاستشهاد بالقرآن والسنة، والمحاسبي – رحمه الله- كثير الاستشهاد بهما في كل مسألة، وفي كل خطوة أو حيثية من مسألة.
- التحليل العميق الدلالات والغوص في المعاني وعدم التوقف عند ظاهرة الآيات وسردها باسترسال، بل التقلل من ذلك ومحاولة النفاذ إلى أعمق معنى فيها.
- الواقعية والقرب من النفوس فقد أدرك المحاسبي أن الناس يريدون الأمور محدودة مرسومة، فيسألون مثلا عن الخطوة الأولى في السير إلى الله، أو في التوبة أو ترك معصية معينة . فاعتمد الطريقة الحوارية الحية ، التي تتميز كما أسلفنا بأنها واقعية تطبيقية بعيدة عن التجرد والتنظير والترف الفكري.
- سوق ما ورد من الأخبار في الخوف والرجاء وهي في أغلبها تعالج الجانب العاطفي الوجداني في الإنسان . ومذهبه جمع الاثنين معا “الترغيب” ” والترهيب”(57)، وليس الترهيب فقط كما شاع عنه ، وإن كان الترهيب يغلب أحيانا كثيرة ، لكثرة حديثه وتحذيره من أمراض القلوب وعواقبها.
- وصف دقيق ولغة مصقولة وصياغة فائقة الحبك تقع من القلب بمكان، ولا يخفى على أحد دور اللغة، ونذكر بحادثة الرجل الذي أسهب وأجاد وصف لقائه للأسد في الصحراء حتى نهاه النبي صلى الله عليه وسلم من الاسترسال لما رأى من روع الصحابة من روعة الوصف التي كادت تقطع قلوبهم لها.
- استدعاء حاسة التخيل والتصور عند السامع أو القارئ ، فيما يشبه تحضيرا نفسيا له بقطع قلبه وعقله عن العلائق والشواغل بما يعطي وقعا أعظم في النفس ، والاستدعاء هذه إنما يكون تصريحا بعبارة : “توهم أنك…” ، والتصريح ها هنا كأدوات التنبيه في اللغة.
الإطناب، وهو التكرار غير الممل، حيث يكرر المحاسبي – رحمه الله- العبارة نفسها- “توهم أنك”…- في بداية كل فقرة أو فصل ، والتكرار أثره الترسيخ كما هو معلوم وتجديد التنبيه ، فما يكاد الذهن يشرد أو يطفو الا وعاد إلى التأمل والتخيل حتى يستغرق في ذلك الوصول إلى حالة كأنه يعيش فيها المشهد الموصوف .
- أما إطراق الرأس أمام الواعظ لغير المراءاة وتكلف الخشوع ففائدته تأتي من أثره المساعد على التأمل ، وقد رأينا كثيرين وصفوا الصحابة أمام النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم “كأن على رؤوسهم الطير وهذه العبارة وصف ابن السراج أصحاب المحاسبي ، وذلك أن الإطراق يقتضي تركيز البصر على بقعة أمامنا وهي عادة معروفة لدينا ، لا نفكر فيها بقدر ما نفكر في شيء آخر، والفائدة منها قطع الشواغل والعلائق البصرية ، لذلك كرهت زخرفة المساجد ، وكان من فقه الصلاة النظر إلى موضع السجود بما يساعد على الخشوع .(58)
- ومثله تخير أوقات الهدوء والسكينة، كالليل بعد العشاء الآخرة، فهو وقت يسكن فيه الناس وتقل الجلبة والأصوات وكذلك المطالب والشواغل والملهيات (59) ، وهذا الاختيار الموفق يذكرني بما يسمى في صناعة الأفلام الحديثة ب”المؤثرات السمعية والبصرية ” المدروسة بدقة ، والتي يرمى من ورائها إلى الاستئثار بأكبر قدر من حسن المشاهد ووجدانه حتى يستغرق في الفلم فكأنه يعيش فيه وربما ذهل عما وعمن حوله.
- كان هذه شأن المستمع أما الأثر في القارئ فيبقى على قدر من القوة، وإن اختلف في القراء حسب استعدادهم وتحققهم بالعناصر المذكورة أثناء قراءتهم.
- يعتمد المحاسبي – رحمه الله- في تقوية أثر كلامه أو مكتوبه على التسلسل البديع والتناسق الفائق الحبك بينهما وإن كان يخيل لك وأنت تنظر إلى فصول الكتاب أن نصوصه وصفية إنشائية، ولكنك حين تتأملها لا تجد فيها كلاما غير ذي فائدة كما أسلفنا. فالمحاسبي إذا شئنا القول عملي جدا، فقد احتفظت بتلخيص قسم من كتاب الرعاية كنت قد أنجزته منذ سنوات فشدني ذلك المرور السلس من فكرة إلى فكرة أخرى، ومثال بسيط عنه ترابط الأبواب من الكتاب في المخطط التالي:
التوبة: لا تحصل دفعة واحدة بل هي ثمرة عمل جاد وهي آخر حلقة في الطريق التالي:
الفكر في العاقبة (قضية المصير) ¬ التخويف ¬ الخوف والرجاء ¬ حل الإصرار التوبة
ومثله فعل في مواضيع كثيرة، ولا شك أن هذا الترابط والتناسق على دقته وتكرره ليس وليد صدفة، ولاشك أن المحاسبي – رحمه الله- قصد به تعميق أثر ما يقول وما يكتب.
ولا شك أن هذه العناصر التي اصطلحنا عليها “عناصر المنهج”- مجتمعة، توصلنا إلى أن نفهم لماذا بكى أحمد بن حنبل (60) _ رحمه الله وهو صاحب الزهد- لسماع كلام المحاسبي – رحمه الله- حتى أغشى عليه – أو كاد- ، ولماذا كان بين يدي المحاسبي – رحمه الله- من المستمعين من يناله من تلك الوجدانية حتى تهتز لهل أوصاله.
يختص المحاسبي بين أقران عصره وبين العلماء جميعا أنه يكشف عن حاجات النفوس من واقع مطالبها ، فلا يفرض على المجتمع فكره هو وحاجاته، وقد تمثل ذلك في طريقة تأليف كتبه بعد الإجابة عن أسئلة تلاميذه، بل كان يجتمع بهم ولا يحدث إلا إجابة ، لذلك فقد وفى بحاجات عصره وليس كمثل فكر عصرنا المفروض من كتاب لم يتحروا فيه أن يجعلوه صورة واقعية لحيرة الناس . فالكتب اليوم تملأ الدنيا والناس حيارى تائهون .
خاتمة:
كان المحاسبي مجتهدا مطلقا في الشريعة، يكره التقليد وهو الذي خالف أباه في أول أيامه، فهو في كتاب فهم الصلاة يحدد الوضوء بطريقة مختلفة عن أصحاب المذاهب.
وقد عنى ب” فقه ما لم يدونه الفقهاء”، مثل: من أم قوما فألزم قلبه الحذر في القراءة ، وباب الشهرة والاحتساب في سرور المسلم، ومذاهب السلف عند غلبة “الحرام على المطاعم ، وأغاليط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “… وأبواب لا يدونها إلا عالم مجتهد مطلق مستقل بعلمه ومذهبه.
إن أثر المحاسبي ليتجاوز وقته، وسيظل له متلقون وإن لم يعاصروه، ولا شك أن خير من ظهر فيهم أثر الإمام أبي حامد الغزالي، فهذا الشيخ زاهد الكوثري – رحمه الله – يقول : “لقد تبطن الإمام الغزالي كتاب الرعاية في كتابه الإحياء” ، وقد ذهب الكثير من النقاد إلى ذلك. بل امتد تأثيره إلى من بعده واستمر قرنا بقرن، ومن خلال أقوال العلماء كالسبكي والشعراني، نستنتج أن المحاسبي كان له أثره أيضا فيمن قبل الغزالي، وفيمن بعده، إلى يومنا هذا. يوم كان علماء ذلك العصر قد تكالبوا على أبواب السلاطين، كان منهم قلة هم الذين ينأون عن تلك المجالس، كأمثال الإمام أحمد والمحاسبي، يكرهون الشهرة والأضواء ويعشقون العمل في الكتمان والخفاء، وكان عليهم تشخيص مرض الأمة ووصف العلاج، وكان ذلك يتطلب خبرة نفسية اجتماعية هائلة، فسمت العصر إسلامي وعمله غير إسلامي. فكان أحمد في الحديث يصفي ويغريل وكان المحاسبي يكشف عن عقد بواطن الأنفس على ضوء الكتاب والسنة وسير السلف.
كان بعيدا عن مجالس الشهرة وعن الأمراض التي أصابت العلماء في عصره، حتى إن اجتماع تلاميذه إليه كان ليلا على غير عادة مدارس العلم. وكان لا يحب الانتصار لنفسه حتى مما حاولوا النيل منه، فلم يثبت أنه رد عليهم في كتاب من كتبه، لأنه كان قوي الشخصية وهو القائل: “لو أن النصف الآخر (من الخلق) نأى عني ما استوحشت لبعدهم”.
اكتشف المحاسبي أن انفصال الدنيا عن الآخرة وتحكم الهوى سبب الداء الذي لم ينج منه العلماء فضلا عن غيرهم، هذا الذي لم تحصل معالجته مجالس الفقه ولا حلقات الحديث ومصطلحاته فكان الحل في رأيه في العودة إلى ما كان عليه الصحابة في الربط الوثيق بين الدنيا والآخرة.
وكان ينتقد نفس المدرسة التي آثر الانتماء إليها ، فرفض انطلاق الصوفية نحو الأوهام وتأليه الفرد والغلو في زهد مبتدع …، ولموقفه الوسط ذاك هجرت الصوفية تراثه – يوم كان يجب عليها الالتفاف حوله – حين عنف بشدة من ينسمون بأهل الخطوة ، والمنعزلين ، ومن يدعون رؤية الملائكة … وهذا يؤكد استقلاليته في آرائه.
لقد كان المحاسبي جريئا في نقده للمبتدعين والمنحرفين، من تيار الصوفية أو المعتزلة أو غيرهم. فكان قوة لمدرسة أهل السنة في تصديها للهجوم على مقومات الأمة، فقد خالف عادة الصوفية كالحافي والسري الذين كانوا يقتصرون على السلوك وبعض روايات السنة. ولعله نجا من محنة خلق القرآن إلا لأنه عرف عنه حب الخفاء وعدم الطهور، وأن السلطة اعتمدت على الخلاف بينه وبين أحمد فظنت أنه لا خطر منه.
بل كان على رأس المدرسة الجديدة التي تمزج بين نص السنة وروحه، مع العلماء والزهاد الأوائل، الأبرياء والبعيدين عن كل دخيل من النظريات والأقوال، فقد سبق الغزالي في مزج الفقه الإسلامي مع عنصره الروحاني والنفسي، فجاء أستاذا فريدا في بابه سابقا في منهجه، لم نعرف له نظيرا سبق إليه، ولا لحق به في مضماره كمنهج دقيق من التحليل النفسي لأول مرة في التاريخ، واستعماله كذلك لأول مرة في الفكر الديني . وكان رحمه الله لا يعتمد في أحكامه على عموميات مشهورة، فكل ما كتب في كتبه إنما نابع من تجاربه ومشاهداته، وهذا قل ما نجده.
وكان موسوعيا لا ينغلق على علم أو فن واحد، فكان حظه وافرا من مختلف العلوم ، وكان ملتزما بكل ما يكتب، فلم يقل حرفا إلا التزم به سلوكا.
رحم الله المحاسبي ونفع بعلمه، والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
– البغدادي (أبو بكر أحمد علي، الخطيب، ت 423 هـ). تاريخ بغداد. ط: دار الكتب العلمية، بيروت دون تاريخ. ”
– الشاطبي (أبو إسحاق). الاعتصام /ج 1 /ص 207 .
1. ابن خلكان () وفيات الأعيان. ط: دار الفكر 1989 ، بيروت .
2. ابن قيم الجوزية (محمد بن أبي بكر، ت) الوابل الصيب. ط: دار الكتب العلمية ، بيروت دون تاريخ..
– المحاسبي (أبو عبد الله الحارث):
3. الرعاية لحقوق الله، عبد الحليم محمود. ط 2: دار المعارف، القاهرة .1989
4. الرعاية لحقوق الله تح وتخ: عصام فارس الحرستاني ومحمد لإبراهيم الزغلي ط: دار الجيل، بيروت 1421هـ/2001 م.
5. شرف العقل وماهيته، تحقيق عبد القدر عطا، ط: دار الكتب العلمية، بيروت 1406 هـ/1986م
6. الوصايا (النصائح… التوهم)، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، ط: دار الكتب العلمية ، 1406هـ، 1986م.
7. الخضري (محمد). إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، ط: دار الإيمان بيروت. دون تاريخ.
80. ابن تيمية (عبد الحليم) مجموع الفتاوى – الجزء السادس
09 الحفي (د. عبد المنعم)، الموسوعة الصوفية ،.
10.القرطبي (محمد) الجامع لأحكام القرآن / ج10 ص 116 دار الكتب العلمية.
11. العسقلاني (ابن حجر): تهذيب التهذيب /ج 2 ص 116 دار الفكر بلد النشر: بيروت، 1984م-1404ه 12. الشارف (عبد الله) من بحث كلية أصول الدين – تطوان / المغرب ، مجلة “الفرقان” ، (المغرب ) عدد 37 ، 1417 ه ج.
13. ابن الجوزي (أبو الفرج عبد الرحمن ): تلبيس إبليس، دار الجيل بيروت (مجلد ، دون تحديد سنة)
14. ابن خلدون (عبد الرحمن، ت( 505. المقدمة. ط: دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت .1960 15.زقزوق (حمدي)، سلسلة الموسوعات الإسلامية المتخصصة، موسوعة أعلام الفكر الإسلامي، ط: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة .2007
16. الزركلي (خير الدين) الجزء الخامس دار العلم للملايين ص.ب. 1085 بيروت – لبنان، الطبعة الخامسة أيار (مايو).1980
17. السبكي (تاج الدين عبد الوهاب بن علي) ، طبقات الشافعية الكبرى. دون تاريخ.
– الطويل (توفيق). في تراثنا العربي والإسلامي، رقم الكتاب 87 من سلسلة عالم المعرفة ص 153، الكويت مارس 1985.
الهوامش:
- ابن تيمية – مجموع الفتاوى : 10/ص 82 .
- الشاطبي – الاعتصام : 207/1
- الشاطبي – الاعتصام: 90/1.
- الحفي (عبد المنعم)- الموسوعة الصوفية ، 627
- انظر الرعاية لحقوق الله” للمحاسبي، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، ص: 8 وما بعدها، بتصرف .
- أي سقوط حضارة الفرس، والشعوبية خير دليل على ذلك.
- المحاسبي – الوصايا (النصائح ، القصد والرجوع إلى الله – بدء من أناب إلى الله تعالى – فهم الصلاة – التوهم): 59-64.
- وراجع أيضا: كتاب في تراثنا – العربي والإسلامي – “: د. توفيق الطويل، ص ، رقم الكتاب 87 من سلسلة عالم المعرفة ص 153 ، الكويت والمقدمة – ابن خلدون: 863 وما بعدها.
- الغزالي ، المنقذ من الضلال، ص 9و10.
- قلت وهذه تزكية وشهادة بالتبحر في الفقه فإنه كان لا يذكر في طبقات المذهب الا من كان ذا علم وتقوى واستقامة.
- ابن خلكان وفيات الأعيان: 2/57-58
- الحافظ ابن كثير- البداية والنهاية 245/10
- الخطيب البغدادي -تاريخ بغداد :8/3
- وهذه بينة أخرى على أثر المحاسبي الكبير في الإمام الغزالي.
- المحاسبي -الرعاية :تح د. عبد الحليم محمود : 29
- ابن تيمية -مجموع الفتاوي :10/551.
- السبكي -طبقات الشافعية : 37/2
- قلت وهذه تزكية وشهادي بالتبحر في الفقه فائه كان لا يذكر في طبقات المذهب الأمن كان كذلك.
- ابن خلكان -وفيات الأعيان 2/57
- الخطيب البغدادي – تاريخ بغداد :تحت رقم 4330
- ابن خلكان – وفيات الأعيان : 2 /ص 58- 57
- الذهبي – ميزان الاعتدال .
- الزركلي – الأعلام :5
- المصدر نفسه ، ص 627
- ابن الجوزي – المنتظم11/ 309″ وما بعدها
- المقدسي، الفروع 2 ص 149 وابن الجوزي، تلبيس إبليس ص 163
- العسقلاني – تهذيب التهذيب : 116/2 .
- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، جزء 8، ص 174 ، طبعة
- ابن الجوزي ، المنتظم :11 / 309 .
- المحاسبي – الوصايا: 26.تحعبد القادر أحمد عطا. القصة عن الذهبي في الجزء الثالث من تاريخ الإسلام (مخطوطة رقم13 ، دار الكتب المصرية: 45 وما بعدها).
- نفس المصدر
- الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ، ج10 ص330.
- قلت ما بين معقوفتين سقط إما من المخطوط الأصل في الطبعة، وإنما رأيت زيادته لأن الكلام لا يستقيم بغيره على أسلوب الحافظ نفسه، يعلمه من قرأ له وخبره، ومن كان له علم باللغة عامة.
- طبقات الشافعية الكبرى ج 2 ص 39.
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – الجزء السادس .
- المحاسبي – الوصايا: 26 تح. عبد القادر أحمد عطا. القصة عن الذهبي في الجزء الثالث من تاريخ الإسلام (مخطوطة رقم 13 ، دار الكتب المصرية : 45 وما بعدها).
- تقدم ذكره ص 16.15
- ابن الجوزي – تلبيس ابليس 230- 228.
- انظر أسفله ص 24.
- يرجع إلى هوامش تخريجات كتاب الرعاية، بتحقيق وتخريج عصام فارس الحرستاني ومحمد ابراهيم الزغلي.
- ابن الجوزي – صفة الصفوة :. 262
- ابن حجر- لسان الميزان : 742/7 ، تحت رقم (2549) .
- الإمام الذهبي ، ميزان الاعتدال ، طبعة 1991 .
- السبكي (تاج الدين عبد الوهاب بن علي)، طبقات الشافعية الكبرى.
- هذه التفاصيل التي ليس لها أهمية كبرى في موضوع معين قد تظهر عرضا عند بعض الكتاب والمفكرين.
- والبلاغة كما عرفها العرب إبلاغ المعنى المراد في أوجز القول أي ما قل ودل.
- من بحث ذ/عبد الله الشارف كلية أصول الدين – تطوان / المغرب ، مجلة ” الفرقان” ، (المغرب) عدد 37 ، 1417 هج
- د. عبد المنعم الحفي، الموسوعة الصوفية، ص 627
- المصدر نفسه، ص 627
- المصدر نفسه، ص 627
- انظر مقدمة ع. محمود لكاتب الرعاية لحقوق الله لأبي عبد الله الحارث المحاسبي ص 13.ط 2. دار المعارف، القاهرة 1988
- الشواهد كثيرة منها، ” اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”، ” أو ألقى السمع “…
- المصدر نفسه ص 61.
- الرعاية لحقوق الله لأبي عبد الله الحارث المحاسبي ، دار المعارف ، القاهرة .ص 62 وما بعدها.
- الجامع لأحكام القرآن لمحمد القرطبي / ج 10 ص 116 دار الكتب العلمية.
- إتمام الوفا في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري، ص 64، دار الإيمان بيروت
- كما في كتابه التوهم.
- لابن عباس نصيحة شهيرة لقارئ القرآن ومتدبره: “طوبى لمن لم يشغله سمع ولا بصر ..” ، وقصة الصحابي الذي شغله في صلاته تعلق بصره بطائر في البستان فتصدق بذلك البستان في سبيل الله تكفيرا عن ذلك.
- لذلك كانت الأسحار والليالي أفضل أوقات القيام والتفكر والحفظ والكتابة والتدوين،
- إن صحت القصة كما أسلفنا.